باسم فرات وكفافيس.. القصيدة والرحلة
انتصار عبدالمنعم
لكل شاعر رحلة، نادرا ما تمتد خارج أسوار الذاكرة وأبواب اللغة، لكن "باسم فرات" من القلائل الذين حملوا الشعر بين أضلعهم، ورحلوا، يدقون على أبواب المدن الغريبة، يبحثون عن شيء لا يعرفون ما هو، ربما في النهاية يصلون إلى المعرفة بالذات: أنا باسم فرات.. يا الله..أتعرفني؟ المخافر موشومة على جلدي/ وأمي لم تلتفت للشظايا/ حين مشطت صباي/ فأهالت الشمع والآس فوق صباحي/ يا أمي أذكريني. أو لربما يتخلص من الحزن الملازم له منذ صغره، فبات يعرف نفسه من خلاله: أبي/ حزن عتيق/ أمي/كتاب الحزن/ حين فتحه أبي/ خرجت أنا.
يرحل الشاعر من مكان إلى آخر، ولا يكتفي، تنفرط الرحلاتُ بين يديه مثل المسبحة، حبات تقارب الأربعين عددا، وكأنما روح الشاعر السكندري "كفافيس" حلت في جسد الفتى الكربلائي "باسم فرات" بعدما خرج من وطنه العراق مُجبرا، قبل أن يقرر بعد ذلك، أن يكون خيار الترحال له وحده: قبل سنوات طويلة وبعيدة جدا/ لوحت وقلت وداعا يا وطني/ حسبت أنك بمنشار أعوامك/ ستنشر المنافي/ تخلق وطنا بحجم أحلامك/ كنت تخشى أن تمشي إلى ماضيك/ بحسرات مسموعة/ من قاع حاضرك ينبت الشوك في سبخة/ أمطارها دموع يتامى. الشاعر الرحال تلبسته روح كفافيس، وكأنما كان يخاطبه: أنت قلت سأذهب إلى بلد آخر/ إلى بحر آخر/ إلى مدينة أخرى/ أحسن من تلك التي أعيش فيها هنا.. حيثُ كل ما أفعله مصيره الفشل/ وقلبي ميت ومدفون مثل جثّه/كم ستعاني روحي هنا؟ أينما توجهت، أينما نظرت/ أرى خرائب محترقة من حياتي.
الشعراء وحدهم يتيهون في المنافي، حتى وهم قابعون في بيوتهم. لكن، "فرات" رحل، يفتش عن "إيثاكا"، لا ليصل إليها، ولكن كي تهبه متعة الكشف والاكتشاف، وتمنحه لذة المعرفة التي لا تنتهي. فبعدما احترف الترحال، لم يستطع التخلص من أماكنه الساكنة في قلبه؛ العراق, النجف، كربلاء؛ محققا نبوءة كفافيس: (أنتَ لن تجدَ أرضاً جديدة .ولا بحراً جديداً/ ستلاحقكَ هذه المدينة دوماً/ ستسكنُ في نفس الشوارع ../يشيب شعر رأسِك في نفسِ المنازل/ سوف تنتهي هنا دائماً/ إنس أيّ مكان آخر.) وهذا ما حدث مع "باسم فرات"، فهو يكتب في الخرطوم، في القاهرة، في غيرهما، ولكنه دوما هناك في العراق، يحمل روح الرحالة في قلبه، ويكتب، لا يريد الوصول، لكنه يلبي نداء كفافيس: عندما تبدأ رحلتك إلى إيثاكا/ تمن أن يكون الطريق طويلا، مليئا بالمغامرات والأشياء المثيرة/ ولتكن الرحلة فرصة لإشباع شغفك بالمعرفة..لا تتوقع أن تعطك إيثاكا أي شئ/ لقد أعطتك الرحلة/ وبدونها ما كنت بدأت/ وليس لديها شيء آخر لتعطيك/ وإذا وجدت إيثاكا فقيرة ومعوزة، فهي لم تخدعك، فمن الحكمة التي اكتسبتها، والمعرفة التي حصلتها، والخبرة التي صارت جزءا منك/ سوف تفهم معنى أي إيثاكا.) وحصل "باسم فرات" بالفعل على المعرفة، وسجلها في خمسة كتب في "أدب الرحلات" كان آخرها "لؤلؤة واحدة وألف تل..رحلات بلاد أعالي النيل" 2019، سبقته أربعة كتب: "مسافر مقيم..عامان في أعماق الإكوادور"، و"الحلم البوليفاري..رحلة كولومبيا الكبرى"، و"لا عشبة عند ماهوتا.. من منائر بابل إلى جنوب الجنوب" 2017، و"طواف بوذا..رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا" 2019، وحصل عنها على جائزة السلطان قابوس للثقافة، والفنون، والآداب مؤخرا.
ديوان "مُبكرًا في صباح بعيد"، الصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هو الديوان التاسع للشاعر والرحالة العراقي "باسم فرات" ويضمّ (34) قصيدة، ومنذ البداية، يشي الديوان بروح الشاعر الرحالة المغامر، فالإهداء يجيء شكرا على المغامرة: ( إلى جينيت..الضياء الأبهر الذي أرشدني إلى المغامرة). ويلفت انتباهنا إلى وقت ومكان كتابة القصائد: ( كتبت هذه القصائد في عام 2018 بين العراق ومصر وأغلبها في العاصمة السودانية الخرطوم).. فهو يرى أن المغامرة روح القصيدة: على مضض سقت اللحظة نحو الطبيعة/ لحظة أن فتحت قلبي عاريا أمام المجهول/ لحدسي أنصت: "ليس ثمة ضياع في المغامرة" التخلص من قضبان الأيام/ طريق إلى القصيدة.
روح المغامرة وحدها، تحرر الشاعر من القيود، فبعد عشرين عاما بعيدا عن الوطن، يعود ويسجل بروحه التغيير الذي حدث للبشر والمكان، يرى الحزن يعشش في كل مكان، الأماكن نفسها غارقة في السواد.. وتساق إليه القصائد تترى، يسترجع فيها مدن الطفولة وشوارعها، يكتب عن الأجداد والأقارب والأم التي ترملت مبكرا جدا، يكتب تاريخ الأجداد خشية أن يضيع أدراج الرياح، ويختفي مثلما اختفت الصور التي ألفها، لتحتل مكانها البنايات الشاهقة الخالية من الروح: على حافة الوادي صخرة/ أرخ عليها الأسلاف أمجادهم/ وحيدا كنت حين بكيت/ خرج الأسلاف من النقش/ يمسحون بعظمتهم دموعي.. يكتب عن طفولة الأماكن وقت أن كانت بيضاء من غير سوء قبل أن يأتي الغرباء: بعد سنوات جاء غرباء/ مدججون بعيون زرق لا ذاكرة فيها للمكان/ وأسلحة لا عهد للناس بها/ وضعوا أياديهم على المحراث/ قتلوا الثور وساقوا النهر إلى خيامهم. وإن كان الشاعر الرحالة كتب عن أسفاره خمسة كتب، ففي الشعر ملاذه، ولذلك نجده يسرد بعض رحلاته شعرا، ففي الشعر تكمن روحه: في مجمرة القصيدة أجدني/ أخلع ثياب الكلام/ وأتنفس شعرا... هكذا يكتب "فرات" ملامح من رحلاته في القصائد، يكتب عن شيكوكو في اليابان، دمياط، الإسكندرية، يكتب عن زيارته لمقبرة جنود الكومنولث في العلمين منطلقا من الاسكندرية حيث يوجد بيت الشاعر كفافي/كفافيس: الطريق إلى العلمين ليس طويلا من بيت كفافي/ ستسليك الأغاني التي تنام في أحضان الكادحين/ البحر عن يمينك والنخيل وأشجار التين عن اليسار.. وعن مقابر الجنود في العلمين، ينقش "باسم فرات" على جدران قصائده، أحزان الأمهات، المنتظرات أبدا عودة أبنائهن ساكني الصحراء الغارقين في السكون الأبدي، يرى في أحزانهن بعين قلبه، أحزان أمه الخالدة: كل شيء شاخ/ إلا نظرات الأمهات على الطريق/ حتى بعد عشرات السنين/تخرج من قبورهن/ خضراء ويانعة.
بروح الرحالة، يكتب باسم فرات القصيدة، مغامرا، لا يعرف الاستقرار الذي ينشده الجميع، فما إن يفتح بابا ليدخل منه، حتى يعد العدة للخروج، تنتظره رحلة جديدة وأرض يشتاق لاكتشافها، ولذلك تتكرر مفردات مثل "باب، بوابه، أبواب " كثيرا في قصائده، ففي ديوانه " مبكرا في صباح بعيد" تتكرر المفردة أكثر من 25 مرة، لتشي بروح غريب يصرخ: يا إله الغرباء/أنا غريب/ عدتي منفى/ وأحلامي وطن مطعون في الخريطة/ كلما فتحت بابا/ زحف السيل منه/ والريح تشهر العتمة/ في وجه الصباح.
لا يترك "باسم فرات" مشهدا من ذاكرة الطفولة إلا واسترجعه، ليسترجع معه ذاته وتاريخ أسلافه، يعود مرارا ليذكر مسقط رأسه كربلاء؛ حال اليتيم، كلما حاول الفرار من يتمه، لا يلبث إلا أن يعود إليه، يفتش عن أطلال حكاية تصله بالراحلين، يصنع له حاضرا دافئا بمثل حرارة دماء الشهداء: كنت في الرابعة من عمري/ حين استوقفني رجل أناخ على كاهله دهر/ مسد رأسي وبكى/ كان أبوك صديقي/ قضينا سنوات في سجن نجيب باشا/ وأنا على حصير الموت/ قلت له: "لا تفرط في شبابك الطويل/ كيف لم ينتبه أن الجبناء فقط/ من يطلقون النار على النساء؟
في قصائده، تتوالى الذكريات؛ يتذكر جَدا دافع عن الوطن، وأبا كان أكثر الشهداء وسامة، اشتهته رصاصة استقرت في كليته، لأنه دافع عن جارته حفظا وصونا لكرامته وشرفها، ويتذكر ابن عمه الذي علمه الشعر قبل أن يعدم في عام 1991. ودوما ما تجيء كربلاء؛ مسقط رأسه الساكنة في الحشا أبدا: كيف لي أن أطرد الأشجار/ من رأسي/ ولا تتبعني الزقزقة/ كيف لي أن أعري أبي من الخلافة/ ولا يفيض الفرات في يدي/ كيف لي أن أقول أنثى/ ولا أعني كربلاء/ وأقول مدينة/ ولا تشرئبّ أمي متّشحة بكل/ الليل بيضاءُ/ تُقطّر الناي في فمي/ وتعيدني إلى أول الحكاية/ أول الحكاية التي فيها/ أغتسل باليقين.
كربلاء باسم فرات هي إسكندرية كفافيس، نداهته، التي كلما رحل عنها، عاد مكللا بالدمع يغلبه الشوق والحنين.
****
الأربعاء 10 حزيران "يونيو" 2020 ميلادية
ميدل إيست أونلاين
https://middle-east-online.com/%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%83%D9%81%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9
انتصار عبدالمنعم
لكل شاعر رحلة، نادرا ما تمتد خارج أسوار الذاكرة وأبواب اللغة، لكن "باسم فرات" من القلائل الذين حملوا الشعر بين أضلعهم، ورحلوا، يدقون على أبواب المدن الغريبة، يبحثون عن شيء لا يعرفون ما هو، ربما في النهاية يصلون إلى المعرفة بالذات: أنا باسم فرات.. يا الله..أتعرفني؟ المخافر موشومة على جلدي/ وأمي لم تلتفت للشظايا/ حين مشطت صباي/ فأهالت الشمع والآس فوق صباحي/ يا أمي أذكريني. أو لربما يتخلص من الحزن الملازم له منذ صغره، فبات يعرف نفسه من خلاله: أبي/ حزن عتيق/ أمي/كتاب الحزن/ حين فتحه أبي/ خرجت أنا.
يرحل الشاعر من مكان إلى آخر، ولا يكتفي، تنفرط الرحلاتُ بين يديه مثل المسبحة، حبات تقارب الأربعين عددا، وكأنما روح الشاعر السكندري "كفافيس" حلت في جسد الفتى الكربلائي "باسم فرات" بعدما خرج من وطنه العراق مُجبرا، قبل أن يقرر بعد ذلك، أن يكون خيار الترحال له وحده: قبل سنوات طويلة وبعيدة جدا/ لوحت وقلت وداعا يا وطني/ حسبت أنك بمنشار أعوامك/ ستنشر المنافي/ تخلق وطنا بحجم أحلامك/ كنت تخشى أن تمشي إلى ماضيك/ بحسرات مسموعة/ من قاع حاضرك ينبت الشوك في سبخة/ أمطارها دموع يتامى. الشاعر الرحال تلبسته روح كفافيس، وكأنما كان يخاطبه: أنت قلت سأذهب إلى بلد آخر/ إلى بحر آخر/ إلى مدينة أخرى/ أحسن من تلك التي أعيش فيها هنا.. حيثُ كل ما أفعله مصيره الفشل/ وقلبي ميت ومدفون مثل جثّه/كم ستعاني روحي هنا؟ أينما توجهت، أينما نظرت/ أرى خرائب محترقة من حياتي.
الشعراء وحدهم يتيهون في المنافي، حتى وهم قابعون في بيوتهم. لكن، "فرات" رحل، يفتش عن "إيثاكا"، لا ليصل إليها، ولكن كي تهبه متعة الكشف والاكتشاف، وتمنحه لذة المعرفة التي لا تنتهي. فبعدما احترف الترحال، لم يستطع التخلص من أماكنه الساكنة في قلبه؛ العراق, النجف، كربلاء؛ محققا نبوءة كفافيس: (أنتَ لن تجدَ أرضاً جديدة .ولا بحراً جديداً/ ستلاحقكَ هذه المدينة دوماً/ ستسكنُ في نفس الشوارع ../يشيب شعر رأسِك في نفسِ المنازل/ سوف تنتهي هنا دائماً/ إنس أيّ مكان آخر.) وهذا ما حدث مع "باسم فرات"، فهو يكتب في الخرطوم، في القاهرة، في غيرهما، ولكنه دوما هناك في العراق، يحمل روح الرحالة في قلبه، ويكتب، لا يريد الوصول، لكنه يلبي نداء كفافيس: عندما تبدأ رحلتك إلى إيثاكا/ تمن أن يكون الطريق طويلا، مليئا بالمغامرات والأشياء المثيرة/ ولتكن الرحلة فرصة لإشباع شغفك بالمعرفة..لا تتوقع أن تعطك إيثاكا أي شئ/ لقد أعطتك الرحلة/ وبدونها ما كنت بدأت/ وليس لديها شيء آخر لتعطيك/ وإذا وجدت إيثاكا فقيرة ومعوزة، فهي لم تخدعك، فمن الحكمة التي اكتسبتها، والمعرفة التي حصلتها، والخبرة التي صارت جزءا منك/ سوف تفهم معنى أي إيثاكا.) وحصل "باسم فرات" بالفعل على المعرفة، وسجلها في خمسة كتب في "أدب الرحلات" كان آخرها "لؤلؤة واحدة وألف تل..رحلات بلاد أعالي النيل" 2019، سبقته أربعة كتب: "مسافر مقيم..عامان في أعماق الإكوادور"، و"الحلم البوليفاري..رحلة كولومبيا الكبرى"، و"لا عشبة عند ماهوتا.. من منائر بابل إلى جنوب الجنوب" 2017، و"طواف بوذا..رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا" 2019، وحصل عنها على جائزة السلطان قابوس للثقافة، والفنون، والآداب مؤخرا.
ديوان "مُبكرًا في صباح بعيد"، الصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، هو الديوان التاسع للشاعر والرحالة العراقي "باسم فرات" ويضمّ (34) قصيدة، ومنذ البداية، يشي الديوان بروح الشاعر الرحالة المغامر، فالإهداء يجيء شكرا على المغامرة: ( إلى جينيت..الضياء الأبهر الذي أرشدني إلى المغامرة). ويلفت انتباهنا إلى وقت ومكان كتابة القصائد: ( كتبت هذه القصائد في عام 2018 بين العراق ومصر وأغلبها في العاصمة السودانية الخرطوم).. فهو يرى أن المغامرة روح القصيدة: على مضض سقت اللحظة نحو الطبيعة/ لحظة أن فتحت قلبي عاريا أمام المجهول/ لحدسي أنصت: "ليس ثمة ضياع في المغامرة" التخلص من قضبان الأيام/ طريق إلى القصيدة.
روح المغامرة وحدها، تحرر الشاعر من القيود، فبعد عشرين عاما بعيدا عن الوطن، يعود ويسجل بروحه التغيير الذي حدث للبشر والمكان، يرى الحزن يعشش في كل مكان، الأماكن نفسها غارقة في السواد.. وتساق إليه القصائد تترى، يسترجع فيها مدن الطفولة وشوارعها، يكتب عن الأجداد والأقارب والأم التي ترملت مبكرا جدا، يكتب تاريخ الأجداد خشية أن يضيع أدراج الرياح، ويختفي مثلما اختفت الصور التي ألفها، لتحتل مكانها البنايات الشاهقة الخالية من الروح: على حافة الوادي صخرة/ أرخ عليها الأسلاف أمجادهم/ وحيدا كنت حين بكيت/ خرج الأسلاف من النقش/ يمسحون بعظمتهم دموعي.. يكتب عن طفولة الأماكن وقت أن كانت بيضاء من غير سوء قبل أن يأتي الغرباء: بعد سنوات جاء غرباء/ مدججون بعيون زرق لا ذاكرة فيها للمكان/ وأسلحة لا عهد للناس بها/ وضعوا أياديهم على المحراث/ قتلوا الثور وساقوا النهر إلى خيامهم. وإن كان الشاعر الرحالة كتب عن أسفاره خمسة كتب، ففي الشعر ملاذه، ولذلك نجده يسرد بعض رحلاته شعرا، ففي الشعر تكمن روحه: في مجمرة القصيدة أجدني/ أخلع ثياب الكلام/ وأتنفس شعرا... هكذا يكتب "فرات" ملامح من رحلاته في القصائد، يكتب عن شيكوكو في اليابان، دمياط، الإسكندرية، يكتب عن زيارته لمقبرة جنود الكومنولث في العلمين منطلقا من الاسكندرية حيث يوجد بيت الشاعر كفافي/كفافيس: الطريق إلى العلمين ليس طويلا من بيت كفافي/ ستسليك الأغاني التي تنام في أحضان الكادحين/ البحر عن يمينك والنخيل وأشجار التين عن اليسار.. وعن مقابر الجنود في العلمين، ينقش "باسم فرات" على جدران قصائده، أحزان الأمهات، المنتظرات أبدا عودة أبنائهن ساكني الصحراء الغارقين في السكون الأبدي، يرى في أحزانهن بعين قلبه، أحزان أمه الخالدة: كل شيء شاخ/ إلا نظرات الأمهات على الطريق/ حتى بعد عشرات السنين/تخرج من قبورهن/ خضراء ويانعة.
بروح الرحالة، يكتب باسم فرات القصيدة، مغامرا، لا يعرف الاستقرار الذي ينشده الجميع، فما إن يفتح بابا ليدخل منه، حتى يعد العدة للخروج، تنتظره رحلة جديدة وأرض يشتاق لاكتشافها، ولذلك تتكرر مفردات مثل "باب، بوابه، أبواب " كثيرا في قصائده، ففي ديوانه " مبكرا في صباح بعيد" تتكرر المفردة أكثر من 25 مرة، لتشي بروح غريب يصرخ: يا إله الغرباء/أنا غريب/ عدتي منفى/ وأحلامي وطن مطعون في الخريطة/ كلما فتحت بابا/ زحف السيل منه/ والريح تشهر العتمة/ في وجه الصباح.
لا يترك "باسم فرات" مشهدا من ذاكرة الطفولة إلا واسترجعه، ليسترجع معه ذاته وتاريخ أسلافه، يعود مرارا ليذكر مسقط رأسه كربلاء؛ حال اليتيم، كلما حاول الفرار من يتمه، لا يلبث إلا أن يعود إليه، يفتش عن أطلال حكاية تصله بالراحلين، يصنع له حاضرا دافئا بمثل حرارة دماء الشهداء: كنت في الرابعة من عمري/ حين استوقفني رجل أناخ على كاهله دهر/ مسد رأسي وبكى/ كان أبوك صديقي/ قضينا سنوات في سجن نجيب باشا/ وأنا على حصير الموت/ قلت له: "لا تفرط في شبابك الطويل/ كيف لم ينتبه أن الجبناء فقط/ من يطلقون النار على النساء؟
في قصائده، تتوالى الذكريات؛ يتذكر جَدا دافع عن الوطن، وأبا كان أكثر الشهداء وسامة، اشتهته رصاصة استقرت في كليته، لأنه دافع عن جارته حفظا وصونا لكرامته وشرفها، ويتذكر ابن عمه الذي علمه الشعر قبل أن يعدم في عام 1991. ودوما ما تجيء كربلاء؛ مسقط رأسه الساكنة في الحشا أبدا: كيف لي أن أطرد الأشجار/ من رأسي/ ولا تتبعني الزقزقة/ كيف لي أن أعري أبي من الخلافة/ ولا يفيض الفرات في يدي/ كيف لي أن أقول أنثى/ ولا أعني كربلاء/ وأقول مدينة/ ولا تشرئبّ أمي متّشحة بكل/ الليل بيضاءُ/ تُقطّر الناي في فمي/ وتعيدني إلى أول الحكاية/ أول الحكاية التي فيها/ أغتسل باليقين.
كربلاء باسم فرات هي إسكندرية كفافيس، نداهته، التي كلما رحل عنها، عاد مكللا بالدمع يغلبه الشوق والحنين.
****
الأربعاء 10 حزيران "يونيو" 2020 ميلادية
ميدل إيست أونلاين
https://middle-east-online.com/%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%83%D9%81%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9