صدرَ عن (دار الحضارة للنشر) في القاهرة كتاب جديد عن الشاعر العراقي باسم فرات يحمل عنوان (الرائي). وقد تضمّن الكتاب، الذي ينقسم مبدئياً الى أربعة أقسام، مقدمة دبّجها الشاعر عيسى حسن الياسري، وخمس وعشرين قصيدة كتبها الشاعر في أربعة بلدان متفرقة وهي اليابان، لاوس، كبموديا ونيوزلاند، ثم دراسة نقدية بقلم الناقد العراقي فاضل ثامر، وأخيراً الحوار المطوّل الذي أجراه الكاتب والصحفي العراقي ناظم السعود.
ركزّ الياسري في مقدمته المُقتضبة على (الأيقونات البَصَرية) التي ينحتها الشاعر نحتاً مُستقطِراً إياها من مخيّلته الشعرية المتلاقحة مع خزينه المعرفي الواسع. كما لفتَ الانتباه الى أن الشاعر لا يبتغي (انجاز نصٍ محكي) يعتمد على تقنية (السرد المباشر) الذي قد يخلو من أية بنية فنية عميقة، ولكنه يعوِّل كثيراً على فعلي ( التأمل والايحاء) وما يستدعيانه من حثٍّ وتحفيز للمعطيات الثقافية التي يتوفر عليها قارئ النص الذي يقرأ بطريقة احترافية خلاقة يشكّل فيه فعل القراءة مستوىً ثانٍ من الابداع.
لم يكن اختيار القصائد الخمس والعشرين اعتباطياً، فقد إرتأى الشاعر باسم فرات أن يقدّم لنا كشوفاته الشعرية في ثلاثة بلدان مهمة عاش فيها الشاعر، وحاول أن يتمثّل ثقافاتها عبر مجساته الشعرية القادرة على الرصد والالتقاط. فقد اختار الشاعر من بين ما كتبه في مدينة هيروشيما اليابانية عشرة نصوص، فيما وقع الاختيار على ثمانية نصوص أخرى كتبها في (فِيَنجان)، عاصمة لاوس. أما ويلينغتن، عاصمة نيوزلاند، التي عاش فيها ثماني سنوات فقد انتقى مما كتبه فيها ستة نصوص شعرية. وثمة نص وحيد كتبه الشاعر في (بنوم بنه)، العاصمة الكمبودية التي زارها زيارة خاطفة.
لابد من الاشارة الى أن باسم فرات ميّال الى الانسجام والتماهي مع الشعوب العفوية البسيطة كالشعب اللاوي، وربما يجد متعة كبيرة في تمضية جزءاً من وقته مع الباعة البسطاء في سوق (طلاتْ ساوْ) في فيَنجان أو (سوق هُندوري) في هيروشيما الذي دمرته الطائرات الأميركية في الحرب العالمية الثانية. فلا غرابة إذاً في أن تحمل القصيدة التي استهل بها هذا الكتاب عنوان (عن الغريب الذي صار واحداً منهم). فثمة احساس بالاندماج والتكافل والتكامل مع منظومة المجتمعات الشرق آسيوية التي عاش فيها باسم فرات مثل اليابان وجمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية. هذا الشعور الحميم والتماهي مع الناس يفتقره باسم فرات حينما يتحدث عن نيوزلاند أو بعض بلدان أوروبا الغربية المانحة لحق اللجوء التي تتعامل مع الوافدين الجدد كأجسام دخيلة وطارئة على السكّان الأصليين على رغمٍ من توفيرهم معظم اشتراطات العيش الكريم.
يمدّنا باسم فرات في قصائده الجديدة بعدد غير قليل من الرموز الشرق آسيوية مثل (بوذا) و (الساموراي)، و (باشو)، المعلم الأكبر لشعر الهايكو. كما ينقل لنا صوراً جميلة ومعبّرة عن الجغرافيا الشرق آسيوية، إذ يغدو نهر (مَيْكونغ) معادلاً موضوعياً لنهر دجلة، وتصبح المتاحف اليابانية أو اللاوية امتدادً لمتاحف ما بين النهرين.
يعرّفنا باسم فرات بعدد لا بأس به من الطقوس والشعائر في بعض المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية. وأكثر من ذلك فقد تسربت العديد من الكلمات اليابانية التي تشير الى أسماء بعض الأزهار مثل (الساكورا) والى الخمرة المحلية اليابانية مثل (الساكِ) أو بعض الاحتفالات الشعبية التي تُقام لمناسبة تفتّح زهرة الكرز مثل (الهَنَمي). ويتكرر الأمر نفسه في القصائد التي كتبها باسم فرات في (ويلينغتن)، حيث نتعرف غير مرة على (الماوريين) وهم السكان الأصليون لنيوزلاند. كما تصادفنا (البوهوتوكاوا) وهي شجرة نيوزلندية ذات زهر أحمر يتفتح في أعياد الميلاد. وربما تتميّز قصيدة (هنا حماقات هناك. . . هناك تبختر هنا) باحتفائها بسبع احالات مهمة وجديدة على القارئ العربي من بينها (أوتِروّا) وهو الاسم الذي يطلقه الماوريون على نيوزلاند، و (تَنغاروّا) وهو إله البحر والمياه عند الماوريين، و(تاني ماهوتا) وهو إله الغابات والطيور عند الماوريين أيضاً وما الى ذلك من اشارات واحالات كثيرة.
يلمس قارئ هذا الكتاب أن الشاعر باسم فرات يتعاطف مع ضحايا الحرب الكونية التي شُنت على هيروشيما وناغازاكي وغيرها من المدن اليابانية التي تعرضت لأفدح الخسائر البشرية. ومع ذلك فإن المواطن الياباني لا يحمل ضغينة لنظيره الأميركي كما في قصيدة (رجل من هيروشيما) الذي فقدَ أباه، وتشوّهت أمه، ولا يزال يحمل عوَقَه منذ ستين عاماً، يقدِّم ورده لقاتليه، ويحتفي بالحياة! في قصيدة (المستقبل وهو يقفل راجعاً) التي جسّدت مفهوم الحرب المدمرة التي خلّفت كوارث مؤلمة من بينها فاجعة (ياماتو) وهي أكبر سفينة صنعها اليابانيون في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولأنهم كانوا يفتقرون للغطاء الجوي فقد هاجمتها الطائرات الأميركية وجعلت منها قبراً لأكثر من مئتي مواطن ياباني. تشير هذه القصيدة الى الديانة الشنتوية، وهي الديانة القومية لليابانيين اضافة الى البوذية وبعض الديانات الأخرى. والطريف أن الديانة الشنتوية فيها مئات الآلاف من الآلهة.
ختاماً، تجدر الاشارة الى أهمية الحوار الطويل الذي أجراه الكاتب والصحافي العراقي ناظم السعود حيث سلّط الضوء عبرَ سبعين سؤالاً على التجربتين الحياتية والشعرية لباسم فرات، متتبعاً المؤثرات والمنابع الأولى التي نهل منها الشاعر أسّهُ الثقافي، والقراءات الاحترافية المتنوعة التي أمدّته بهذا الزخم العميق من الخبرة والمعرفة التي تعشّقت بتجاربه الحياتية التي عاشها تباعاً في بغداد وعمّان وويلينغتن وهيروشيما وفِيَنْجان، وخلقت منه هذا الأنموذج الشعري الذي يستحق البحث والدراسة والتحليل.
لندن
ركزّ الياسري في مقدمته المُقتضبة على (الأيقونات البَصَرية) التي ينحتها الشاعر نحتاً مُستقطِراً إياها من مخيّلته الشعرية المتلاقحة مع خزينه المعرفي الواسع. كما لفتَ الانتباه الى أن الشاعر لا يبتغي (انجاز نصٍ محكي) يعتمد على تقنية (السرد المباشر) الذي قد يخلو من أية بنية فنية عميقة، ولكنه يعوِّل كثيراً على فعلي ( التأمل والايحاء) وما يستدعيانه من حثٍّ وتحفيز للمعطيات الثقافية التي يتوفر عليها قارئ النص الذي يقرأ بطريقة احترافية خلاقة يشكّل فيه فعل القراءة مستوىً ثانٍ من الابداع.
لم يكن اختيار القصائد الخمس والعشرين اعتباطياً، فقد إرتأى الشاعر باسم فرات أن يقدّم لنا كشوفاته الشعرية في ثلاثة بلدان مهمة عاش فيها الشاعر، وحاول أن يتمثّل ثقافاتها عبر مجساته الشعرية القادرة على الرصد والالتقاط. فقد اختار الشاعر من بين ما كتبه في مدينة هيروشيما اليابانية عشرة نصوص، فيما وقع الاختيار على ثمانية نصوص أخرى كتبها في (فِيَنجان)، عاصمة لاوس. أما ويلينغتن، عاصمة نيوزلاند، التي عاش فيها ثماني سنوات فقد انتقى مما كتبه فيها ستة نصوص شعرية. وثمة نص وحيد كتبه الشاعر في (بنوم بنه)، العاصمة الكمبودية التي زارها زيارة خاطفة.
لابد من الاشارة الى أن باسم فرات ميّال الى الانسجام والتماهي مع الشعوب العفوية البسيطة كالشعب اللاوي، وربما يجد متعة كبيرة في تمضية جزءاً من وقته مع الباعة البسطاء في سوق (طلاتْ ساوْ) في فيَنجان أو (سوق هُندوري) في هيروشيما الذي دمرته الطائرات الأميركية في الحرب العالمية الثانية. فلا غرابة إذاً في أن تحمل القصيدة التي استهل بها هذا الكتاب عنوان (عن الغريب الذي صار واحداً منهم). فثمة احساس بالاندماج والتكافل والتكامل مع منظومة المجتمعات الشرق آسيوية التي عاش فيها باسم فرات مثل اليابان وجمهورية لاوس الديمقراطية الشعبية. هذا الشعور الحميم والتماهي مع الناس يفتقره باسم فرات حينما يتحدث عن نيوزلاند أو بعض بلدان أوروبا الغربية المانحة لحق اللجوء التي تتعامل مع الوافدين الجدد كأجسام دخيلة وطارئة على السكّان الأصليين على رغمٍ من توفيرهم معظم اشتراطات العيش الكريم.
يمدّنا باسم فرات في قصائده الجديدة بعدد غير قليل من الرموز الشرق آسيوية مثل (بوذا) و (الساموراي)، و (باشو)، المعلم الأكبر لشعر الهايكو. كما ينقل لنا صوراً جميلة ومعبّرة عن الجغرافيا الشرق آسيوية، إذ يغدو نهر (مَيْكونغ) معادلاً موضوعياً لنهر دجلة، وتصبح المتاحف اليابانية أو اللاوية امتدادً لمتاحف ما بين النهرين.
يعرّفنا باسم فرات بعدد لا بأس به من الطقوس والشعائر في بعض المناسبات الدينية والوطنية والاجتماعية. وأكثر من ذلك فقد تسربت العديد من الكلمات اليابانية التي تشير الى أسماء بعض الأزهار مثل (الساكورا) والى الخمرة المحلية اليابانية مثل (الساكِ) أو بعض الاحتفالات الشعبية التي تُقام لمناسبة تفتّح زهرة الكرز مثل (الهَنَمي). ويتكرر الأمر نفسه في القصائد التي كتبها باسم فرات في (ويلينغتن)، حيث نتعرف غير مرة على (الماوريين) وهم السكان الأصليون لنيوزلاند. كما تصادفنا (البوهوتوكاوا) وهي شجرة نيوزلندية ذات زهر أحمر يتفتح في أعياد الميلاد. وربما تتميّز قصيدة (هنا حماقات هناك. . . هناك تبختر هنا) باحتفائها بسبع احالات مهمة وجديدة على القارئ العربي من بينها (أوتِروّا) وهو الاسم الذي يطلقه الماوريون على نيوزلاند، و (تَنغاروّا) وهو إله البحر والمياه عند الماوريين، و(تاني ماهوتا) وهو إله الغابات والطيور عند الماوريين أيضاً وما الى ذلك من اشارات واحالات كثيرة.
يلمس قارئ هذا الكتاب أن الشاعر باسم فرات يتعاطف مع ضحايا الحرب الكونية التي شُنت على هيروشيما وناغازاكي وغيرها من المدن اليابانية التي تعرضت لأفدح الخسائر البشرية. ومع ذلك فإن المواطن الياباني لا يحمل ضغينة لنظيره الأميركي كما في قصيدة (رجل من هيروشيما) الذي فقدَ أباه، وتشوّهت أمه، ولا يزال يحمل عوَقَه منذ ستين عاماً، يقدِّم ورده لقاتليه، ويحتفي بالحياة! في قصيدة (المستقبل وهو يقفل راجعاً) التي جسّدت مفهوم الحرب المدمرة التي خلّفت كوارث مؤلمة من بينها فاجعة (ياماتو) وهي أكبر سفينة صنعها اليابانيون في أثناء الحرب العالمية الثانية، ولأنهم كانوا يفتقرون للغطاء الجوي فقد هاجمتها الطائرات الأميركية وجعلت منها قبراً لأكثر من مئتي مواطن ياباني. تشير هذه القصيدة الى الديانة الشنتوية، وهي الديانة القومية لليابانيين اضافة الى البوذية وبعض الديانات الأخرى. والطريف أن الديانة الشنتوية فيها مئات الآلاف من الآلهة.
ختاماً، تجدر الاشارة الى أهمية الحوار الطويل الذي أجراه الكاتب والصحافي العراقي ناظم السعود حيث سلّط الضوء عبرَ سبعين سؤالاً على التجربتين الحياتية والشعرية لباسم فرات، متتبعاً المؤثرات والمنابع الأولى التي نهل منها الشاعر أسّهُ الثقافي، والقراءات الاحترافية المتنوعة التي أمدّته بهذا الزخم العميق من الخبرة والمعرفة التي تعشّقت بتجاربه الحياتية التي عاشها تباعاً في بغداد وعمّان وويلينغتن وهيروشيما وفِيَنْجان، وخلقت منه هذا الأنموذج الشعري الذي يستحق البحث والدراسة والتحليل.
لندن