ما الذي يجعل العامل الشعري ملتصقاً بالذات الانسانية في وقت تكون فيه الذاكرة محملة بأعباء مرحلة أقرب إلى الخرافة في تشكلاتها وضغوطاتها على معطيات النفس ؟ . أحسب ان القطيعة – التي يسقط الشاعر في فخاخها مرغماً – مع كل الملامح التي رسخت وقائعه الحياتية لفترة زمنية طويلة بسبب الارتحال عن المنابع الاولى لتكونه ، بدءً من مرحلة الطفولة وصولاً إلى قمة النضج والوعي قادرة على بلورة الوجود الانساني لديه بصبغة تمسكه بالذي غادره من عمره . لذا يكون الخيال المرسوم في أفق المسافات البعيدة أقرب إلى تمثيل الواقع المخزون بذاكرة متشظاة – رغم توهجها – إلى وقائع متضاربة يسعى من خلالها لسد عطش السنين الماضية . ولكن أية إرتواءات تصبّ نحو تفعيل الحقيقة ! إلا إذا كانت بسعتها وشموليتها بالمستوى الذي يضاهي توجسات الروح القلقة ان لم نقل المنهزمة وهو ما أسهم في دفع الشاعر العراقي باسم فرات للدخول إلى معترك ثنائية المجهول الموؤل والمعلوم المفسر لمرحلتين حياتيتين عاشها الشاعر ، الاولى في وطنه والثانية في الغربة بعد أن هاجر عنه ، غير ان البنية الموضوعية التي أضفت تشكلاتها على ديوانه الشعري ( خريف المآذن ) هي بنية إسترجاعية تقوم على رصف مكونات الماضي ( المعلوم ) وجعله في حركة ديناميكية لها القدرة على السيرورة في اتجاهات متعددة ناشئة ( المجهول ) تتفرق في النتائج وتلتقي في الأسباب فيقول :
أي حلم يجفف طفولتي ؟
أي حلم يشقّ صباحاتي
صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
كيف لي أن أترك نسياني
يوزع ذكرياته باتجاه الألم ؟ .... الديوان ص 9
فاذا كان موزعاً بين ذاكرتين منشطرتين إلى ماضيه وحاضره فان النصوص تغلب عليها البنى الارتدادية ( الاسترجاعية ) لكونها أشدّ حدة وتأثيراً من نقيضها ، لكنها لا تعتمد النقل الوقائعي للاحداث بكل إرهاصاتها وعرضها عرضاً ( مشاهداتياً ) كما هي في الأصل إنما تجنح إلى إقامة حوار جدلي مع تلك الوقائع ومن ثم محاولة إستخلاص مبشراتها لغرض إستنطاق خفاياها عبر صياغتها من جديد ، لتتضح معالمها ، فنقرأ :
أسكبُ الفجرَ في تلمّسِ ليلٍ غارقٍ بعماه
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثاً أمسح أكفان الأيام المنسدلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد فوق إسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب
حدادٌ يُغلّفُ حيواتنا
لا أتنفس سوى الخراب
أحاول – دون جدوى – أن أفتح كوّة فيه
لا أجدني إلاّ إنكساراً يشعّ ........ الديوان ص 16
وبهذه الأسلوبية البنائية يكون الشاعر باسم فرات قد هيأ لكشف النوايا التي تقف وراء صيرورة تلك الوقائع وأرغمتها على التشكل بالصورة التي تبدت عليها ، إلا ان التواشج بين مقومات البنية الحوارية التي طغت عليها الصيغة الاسترجاعية ، وقعت بالنصوص إلى مدارات تكونية ذات بناء يكرس الشعري بوصفه متحفزاً للذات وصولاً لتنشيطها على فك طلاسم الخراب الذي أصاب النفس البشرية في بيئة مليئة بالتكالبات والصراعات وفقدان المؤشر لتمظهراتها حيث تجعل الشاعر مرغماً على الرجوع إلى وقائعها المخزنة في وعيه ليضعها أمام واقعه الجديد أو لنقل أمام النتيجة التي آلت إليها . فهي تنسحب من الماضي لتكون حصيلة الحاضر ، فيقول :
كانت المسافات تصهل
بردها يجثو فوق أعمارنا
يفتت أيامنا
وغباري يفترش الشبابيك والارصفة
لكنه لا يدنو من قامتي
منذ نزهة الحرب الأولى
أعني حماقة الجنرال
دخلت المدينة
مثل كلب
تعوي بوجهه البيوت ...... الديوان ص 34
لذلك يحاول الشاعر توسيع المديات الخاصة بارهاصاتها ليشمل بها المناخ التكويني للذات الكلية بدلالة الذات المفردة ، بواسطة التناقل الحيثية للوجوديات ، إذ انه عمد الى الدمج بين البنية الجماعية ( الكلية ) مثل ( أعمارنا ، أيامنا ) وبين البنية الفردية مثل ( قامتي ، دخلتُ ) غير ان رسم الاطار لصورة الماضي يفرض عليه بذل كل تماديات المخيلة وتحويلها من بؤرة للتصوير إلى لائحة للبوح حيث انه تناغي مع الراسب الذاكراتي بأشكال متعددة وصور متنوعة سايرتها لغة شعرية ذات إيقاع داخلي حاد في تموجاتها الحركية مما يبرر حجم الكارثة الانسانية التي ألقت بثقلها في نفسية الشاعر لدرجة جعلته يلتفت الى آلية كتاباتية صفتها المباغتة الجارحة لمكونات النسيج اللغوي الدال على معان تحاول بشدة الافلات من دوالها إلاّ ان الشاعر ينزع نحو إبرام سيطرته عليها بغية تطويعها فتكون بالمحصلة النهائية رديفاً لواقع مؤلم ( جارح ) عاشه الشاعر في فترة انقطعت من حياته كما في :
ينزل الانتظار من عيوننا
يمضغ الشوارع
تتساقط أوراق الارصفة
وهي تفتح أزرارها
تتجمع الفصول في راحتيّ
كل طريق إليك يصير شرارة
رماد أيامي
نوافذ طويلة الامد
كسرت صمتها لتطل ملائكة تغسل الهواء من صخب المدى
بيدين منقوعتين بالنعناع
تلوح لضيائي أن يقشر بحاره من الزبد ....... الديوان ص 37
وبذلك يتنبئ الشاعر باسم فرات عن نزعة واقعية في الكتابة الشعرية بعيداً عما كرسته الرومانسية وآلياتها في اصطباغ الطابع العام عند شعراء المهجر . اذ ان المترع الواقعي يؤكد وعي الشاعر التام لحظة كتابة النص لكل ما يدفع التجربة الشعرية لديه نحو التفحص والاستقراء لاكتشاف ما في الذات العائمة فوق مضياعات متناوبة أقلقت داخل النفس في الوقت التي تحرضها على إعادة النظر في بناءاتها من أجل توكيد باسم فرات لارتباطه المشيمي بالارض ( العراق ) فالغربة بطبيعة الحال تضفي ملامحها على أية شخصية من خلال التأثر بالعادات والتقاليد والقيم السائدة في مجتمع الغربة ، لكن هذا لا يغري الشاعر بل نجده يقاوم بشكل ملفت للنظر للنفور من شباكها لان ذلك يعد خيانة لقضيته ( الانسانية ) فهو لا يريد لذاته ان تستأصل من واقعها حتى لو كان مريراً مدمراً حيث ( عراقة ) الشاعر لا يمكن إلغاؤها لتطلعات ( ايدلوجية قسرية ) ليس له دخل فيها وهذا ما يبرر له كثرة العلامات التي تربط الشاعر بواقعه ارتباطاً حميماً وقوياً ، مثل أسماء الشخصيات التي لها أثر في تاريخ العراق ، حتى غدت رموزاً ، فتجد في نصوصه ( جواد سليم ، الحر الرياحي ، الملا عثمان الموصلي ، القبانجي ) كذلك الحال ينطبق على الاماكن التي عدت شواهد حية على بلده ، إذ نرى ( ساحة الحرمين ، تل الزينبية ، باب القبلة ، شارع العباس ، نهر العلقمي ، نهر الحسينية ) أو ما يشير إلى الاماكن بوصفها علامات دالة للمكان ، فنقرأ ( كفا العباس ، الحجر الكربلائي ) لكنه مهما حاول الافلات من الضغط التي تولده الغربة على ذاته يبقى تأثيرها متصلاً اتصالاً خفياً من خلال شركتها مع الوعي الذي يحكم سيطرته على استذكارات الشاعر لكونها نتيجة حتمية لترسبات ماضٍ قاسٍ ، فنرى الغربة تتصارع للدخول ألى نفق ما تخلف من الماضي لتقيم معه وشائج التقاء أو تصالح ، وقد تتقاطع معه في أماكن أخرى لتشكل هاجساً فكرياً يتمادى مع التكوين النفسي الذي خلطت الايام المستحدثة أوراقه ، بحيث دفعت بالايام التي مرت بحياة الشاعر أن تقف بالمرصاد لتلك التي استحدثت على الرغم من شعورها بالقيد المكبل لها من قبل الوقائع التي انقضت الا ان ظلالها ما زالت تخيم على تجربة الشاعر وهو ما حداه للقول :
الذين أوقدوا شمعتك ناحل رحيلهم
وخرابهم معلق في أقاصي العمر
من لي باتونك أتون
شجر يحمر لاشراقتك
يخضّب سنواتي بذبول مسن ...... الديوان ص 30
وكمحصلة لكل التلاقحات الخارجية والذاتية ، فان لغة الشاعر باسم فرات ، راحت تؤسس لوشائج تثير من الأسئلة بالقدر الذي تحدد أرضية لثقافة السؤال واتساع معرفية الوجود الانساني على امتداد لحظات العمر الذي أرهقته الحروب ( الخاسرة ) فنطالع :
- كيف أرسلوك للحرب وانت مصفد بالحب –
امي أشعلت ثلاثة عشر قنديلاً
تؤثث لانتظاري
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أنا أشعلتُ ما تبقّى للرحيل
على كل باب راية سوداء تشقّ فحولة النهار
كفى تناسلاً أيها الخراب
صمت يطرق نعاسه ويمضي
فألمح طفولة الجمرة تلهو مع القداح ........ الديوان ص 24
وبالتالي فأن حيثيات التجربة ستندفع مرغمة نحو تأسيس وحدة كلية في بناء النص الشعري لديه ، وانطلاقاً من آلية الاتساع والاطراد البنيوي الجزئي ، بمتوالدات تؤثر إحداها للاخرى ، وكأن الشاعر يجعل من نصه ( بسترا ) ودلالياً يعتمد في فحواه على إنضاج كل فكرة على إنفراد ومن ثم تكويرها على نفسها ، وتكثيفها لدرجة تصبح فيها قابلة للانفجار والتشظي ، على مجاوراتها ، وهكذا تنساق العملية الانتاجية مع بقية الافكار المؤسسة الشعرية للنص الذي يكون في النهاية مجموعة متناوبة من الافكار ( القضايا ) المؤثرة والمكثفة في انتشارها اللغوي ( البناء الشعري ) بحثاً عن مديات أوسع للاسئلة المطروحة على مساحة الالم ، في تجربته الشعرية ، فنلاحظ :
أمام الله ، أظلّ وحيداً
أحصي أخطائي
الذي في يميني أكلته الطائرات
والذي في شمالي إبتلعته السواتر
كيف سأعانق الضوء
ظلّي يراودني على نفسي
فاختزل الجنون
أرمي لسنارتي الحماقات ، فتنهش الأسماك كلماتي
تغادرني الحروف إلى الورقة
تقترح عليّ بيتاً وامرأة وطفلين ....... الديوان ص 39
وقد لا يخلو البناء الجمالي للنص من الجنوح نحو الادائية الاحالية ، لمبنى النص ليكون رمزاً فنياً لحالة ( فكرة ) معينة يريد الشاعر محاورتها من أجل الكشف عن كوامنها وصولاً لاستنطاق الخامل و ( الصامت ) منها مثل استعماله مدينة كربلاء رمزاً شخصياً ( فنياً ) لوجوده الانساني ، حيث نقرأ :
كيف لي أن اعري أبي من الخلافة
ولا يفيض الفرات في يدي
كيف لي أن أقول أنثى
ولا أعني كربلاء
وأقول مدينةً
ولا تشرئبّ أمي متشحةً بكل
الليل بيضاء
تقطر الناي في فمي
وتعيدني إلى أول الحكاية
أول الحكاية التي فيها
أغتسل باليقين
فأرى الياسمين الهندي يطوّق منامي .... الديوان ص 45
وبذلك يكون الاتصال الترابطي بين عناصر التجربة الشعرية متحاذياً مع توجسات الذات داخل بؤرة لوقائع متداخلة .
أي حلم يجفف طفولتي ؟
أي حلم يشقّ صباحاتي
صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
كيف لي أن أترك نسياني
يوزع ذكرياته باتجاه الألم ؟ .... الديوان ص 9
فاذا كان موزعاً بين ذاكرتين منشطرتين إلى ماضيه وحاضره فان النصوص تغلب عليها البنى الارتدادية ( الاسترجاعية ) لكونها أشدّ حدة وتأثيراً من نقيضها ، لكنها لا تعتمد النقل الوقائعي للاحداث بكل إرهاصاتها وعرضها عرضاً ( مشاهداتياً ) كما هي في الأصل إنما تجنح إلى إقامة حوار جدلي مع تلك الوقائع ومن ثم محاولة إستخلاص مبشراتها لغرض إستنطاق خفاياها عبر صياغتها من جديد ، لتتضح معالمها ، فنقرأ :
أسكبُ الفجرَ في تلمّسِ ليلٍ غارقٍ بعماه
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثاً أمسح أكفان الأيام المنسدلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد فوق إسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب
حدادٌ يُغلّفُ حيواتنا
لا أتنفس سوى الخراب
أحاول – دون جدوى – أن أفتح كوّة فيه
لا أجدني إلاّ إنكساراً يشعّ ........ الديوان ص 16
وبهذه الأسلوبية البنائية يكون الشاعر باسم فرات قد هيأ لكشف النوايا التي تقف وراء صيرورة تلك الوقائع وأرغمتها على التشكل بالصورة التي تبدت عليها ، إلا ان التواشج بين مقومات البنية الحوارية التي طغت عليها الصيغة الاسترجاعية ، وقعت بالنصوص إلى مدارات تكونية ذات بناء يكرس الشعري بوصفه متحفزاً للذات وصولاً لتنشيطها على فك طلاسم الخراب الذي أصاب النفس البشرية في بيئة مليئة بالتكالبات والصراعات وفقدان المؤشر لتمظهراتها حيث تجعل الشاعر مرغماً على الرجوع إلى وقائعها المخزنة في وعيه ليضعها أمام واقعه الجديد أو لنقل أمام النتيجة التي آلت إليها . فهي تنسحب من الماضي لتكون حصيلة الحاضر ، فيقول :
كانت المسافات تصهل
بردها يجثو فوق أعمارنا
يفتت أيامنا
وغباري يفترش الشبابيك والارصفة
لكنه لا يدنو من قامتي
منذ نزهة الحرب الأولى
أعني حماقة الجنرال
دخلت المدينة
مثل كلب
تعوي بوجهه البيوت ...... الديوان ص 34
لذلك يحاول الشاعر توسيع المديات الخاصة بارهاصاتها ليشمل بها المناخ التكويني للذات الكلية بدلالة الذات المفردة ، بواسطة التناقل الحيثية للوجوديات ، إذ انه عمد الى الدمج بين البنية الجماعية ( الكلية ) مثل ( أعمارنا ، أيامنا ) وبين البنية الفردية مثل ( قامتي ، دخلتُ ) غير ان رسم الاطار لصورة الماضي يفرض عليه بذل كل تماديات المخيلة وتحويلها من بؤرة للتصوير إلى لائحة للبوح حيث انه تناغي مع الراسب الذاكراتي بأشكال متعددة وصور متنوعة سايرتها لغة شعرية ذات إيقاع داخلي حاد في تموجاتها الحركية مما يبرر حجم الكارثة الانسانية التي ألقت بثقلها في نفسية الشاعر لدرجة جعلته يلتفت الى آلية كتاباتية صفتها المباغتة الجارحة لمكونات النسيج اللغوي الدال على معان تحاول بشدة الافلات من دوالها إلاّ ان الشاعر ينزع نحو إبرام سيطرته عليها بغية تطويعها فتكون بالمحصلة النهائية رديفاً لواقع مؤلم ( جارح ) عاشه الشاعر في فترة انقطعت من حياته كما في :
ينزل الانتظار من عيوننا
يمضغ الشوارع
تتساقط أوراق الارصفة
وهي تفتح أزرارها
تتجمع الفصول في راحتيّ
كل طريق إليك يصير شرارة
رماد أيامي
نوافذ طويلة الامد
كسرت صمتها لتطل ملائكة تغسل الهواء من صخب المدى
بيدين منقوعتين بالنعناع
تلوح لضيائي أن يقشر بحاره من الزبد ....... الديوان ص 37
وبذلك يتنبئ الشاعر باسم فرات عن نزعة واقعية في الكتابة الشعرية بعيداً عما كرسته الرومانسية وآلياتها في اصطباغ الطابع العام عند شعراء المهجر . اذ ان المترع الواقعي يؤكد وعي الشاعر التام لحظة كتابة النص لكل ما يدفع التجربة الشعرية لديه نحو التفحص والاستقراء لاكتشاف ما في الذات العائمة فوق مضياعات متناوبة أقلقت داخل النفس في الوقت التي تحرضها على إعادة النظر في بناءاتها من أجل توكيد باسم فرات لارتباطه المشيمي بالارض ( العراق ) فالغربة بطبيعة الحال تضفي ملامحها على أية شخصية من خلال التأثر بالعادات والتقاليد والقيم السائدة في مجتمع الغربة ، لكن هذا لا يغري الشاعر بل نجده يقاوم بشكل ملفت للنظر للنفور من شباكها لان ذلك يعد خيانة لقضيته ( الانسانية ) فهو لا يريد لذاته ان تستأصل من واقعها حتى لو كان مريراً مدمراً حيث ( عراقة ) الشاعر لا يمكن إلغاؤها لتطلعات ( ايدلوجية قسرية ) ليس له دخل فيها وهذا ما يبرر له كثرة العلامات التي تربط الشاعر بواقعه ارتباطاً حميماً وقوياً ، مثل أسماء الشخصيات التي لها أثر في تاريخ العراق ، حتى غدت رموزاً ، فتجد في نصوصه ( جواد سليم ، الحر الرياحي ، الملا عثمان الموصلي ، القبانجي ) كذلك الحال ينطبق على الاماكن التي عدت شواهد حية على بلده ، إذ نرى ( ساحة الحرمين ، تل الزينبية ، باب القبلة ، شارع العباس ، نهر العلقمي ، نهر الحسينية ) أو ما يشير إلى الاماكن بوصفها علامات دالة للمكان ، فنقرأ ( كفا العباس ، الحجر الكربلائي ) لكنه مهما حاول الافلات من الضغط التي تولده الغربة على ذاته يبقى تأثيرها متصلاً اتصالاً خفياً من خلال شركتها مع الوعي الذي يحكم سيطرته على استذكارات الشاعر لكونها نتيجة حتمية لترسبات ماضٍ قاسٍ ، فنرى الغربة تتصارع للدخول ألى نفق ما تخلف من الماضي لتقيم معه وشائج التقاء أو تصالح ، وقد تتقاطع معه في أماكن أخرى لتشكل هاجساً فكرياً يتمادى مع التكوين النفسي الذي خلطت الايام المستحدثة أوراقه ، بحيث دفعت بالايام التي مرت بحياة الشاعر أن تقف بالمرصاد لتلك التي استحدثت على الرغم من شعورها بالقيد المكبل لها من قبل الوقائع التي انقضت الا ان ظلالها ما زالت تخيم على تجربة الشاعر وهو ما حداه للقول :
الذين أوقدوا شمعتك ناحل رحيلهم
وخرابهم معلق في أقاصي العمر
من لي باتونك أتون
شجر يحمر لاشراقتك
يخضّب سنواتي بذبول مسن ...... الديوان ص 30
وكمحصلة لكل التلاقحات الخارجية والذاتية ، فان لغة الشاعر باسم فرات ، راحت تؤسس لوشائج تثير من الأسئلة بالقدر الذي تحدد أرضية لثقافة السؤال واتساع معرفية الوجود الانساني على امتداد لحظات العمر الذي أرهقته الحروب ( الخاسرة ) فنطالع :
- كيف أرسلوك للحرب وانت مصفد بالحب –
امي أشعلت ثلاثة عشر قنديلاً
تؤثث لانتظاري
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أنا أشعلتُ ما تبقّى للرحيل
على كل باب راية سوداء تشقّ فحولة النهار
كفى تناسلاً أيها الخراب
صمت يطرق نعاسه ويمضي
فألمح طفولة الجمرة تلهو مع القداح ........ الديوان ص 24
وبالتالي فأن حيثيات التجربة ستندفع مرغمة نحو تأسيس وحدة كلية في بناء النص الشعري لديه ، وانطلاقاً من آلية الاتساع والاطراد البنيوي الجزئي ، بمتوالدات تؤثر إحداها للاخرى ، وكأن الشاعر يجعل من نصه ( بسترا ) ودلالياً يعتمد في فحواه على إنضاج كل فكرة على إنفراد ومن ثم تكويرها على نفسها ، وتكثيفها لدرجة تصبح فيها قابلة للانفجار والتشظي ، على مجاوراتها ، وهكذا تنساق العملية الانتاجية مع بقية الافكار المؤسسة الشعرية للنص الذي يكون في النهاية مجموعة متناوبة من الافكار ( القضايا ) المؤثرة والمكثفة في انتشارها اللغوي ( البناء الشعري ) بحثاً عن مديات أوسع للاسئلة المطروحة على مساحة الالم ، في تجربته الشعرية ، فنلاحظ :
أمام الله ، أظلّ وحيداً
أحصي أخطائي
الذي في يميني أكلته الطائرات
والذي في شمالي إبتلعته السواتر
كيف سأعانق الضوء
ظلّي يراودني على نفسي
فاختزل الجنون
أرمي لسنارتي الحماقات ، فتنهش الأسماك كلماتي
تغادرني الحروف إلى الورقة
تقترح عليّ بيتاً وامرأة وطفلين ....... الديوان ص 39
وقد لا يخلو البناء الجمالي للنص من الجنوح نحو الادائية الاحالية ، لمبنى النص ليكون رمزاً فنياً لحالة ( فكرة ) معينة يريد الشاعر محاورتها من أجل الكشف عن كوامنها وصولاً لاستنطاق الخامل و ( الصامت ) منها مثل استعماله مدينة كربلاء رمزاً شخصياً ( فنياً ) لوجوده الانساني ، حيث نقرأ :
كيف لي أن اعري أبي من الخلافة
ولا يفيض الفرات في يدي
كيف لي أن أقول أنثى
ولا أعني كربلاء
وأقول مدينةً
ولا تشرئبّ أمي متشحةً بكل
الليل بيضاء
تقطر الناي في فمي
وتعيدني إلى أول الحكاية
أول الحكاية التي فيها
أغتسل باليقين
فأرى الياسمين الهندي يطوّق منامي .... الديوان ص 45
وبذلك يكون الاتصال الترابطي بين عناصر التجربة الشعرية متحاذياً مع توجسات الذات داخل بؤرة لوقائع متداخلة .