انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (4-6)

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (4-6) Empty الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (4-6)

    مُساهمة  Admin الخميس أكتوبر 28, 2010 11:01 pm

    س36: علي الوردي من أوائل العلماء الذين أدركوا طبيعة المجتمع العراقي المزدوجة، وأشّروا الى مظاهرها وخطوطها العامة والخاصة، وأما فيما يتعلق بإصرارك على تجهيل الآخرين بالتاريخ العراقي أراه ضرباً من البكاء على الأطلال.. لسبب وجيه: إن العراق الحديث هو فعلاً دولة من صنع إتفاقية سايكس ــ بيكو ونتائج الحرب العالمية الأولى ودور بريطانيا العظمى فيها آنذاك، وإن العودة الى تاريخ العراق القديم لا تعطي العراق الحديث غير حجج للإقليات القومية والدينية والمذهبية بالإنفصال والمطالبة بحقوقهم المهدورة في ظل الغزو العربي الإسلامي للعراق منذ دخول الإسلام للعراق وحتى بداية حركات التطرف الديني والاثني فيه، وهو ما رأينا نتائجه بعد سقوط النظام البائد؟

    الإشاعة والشفاهية لعبتا دوراً خطيراً في ما تشكل من وعينا، وما مقولة "الغزو أو الفتح العربي الإسلامي للعراق، إلا واحدة من أخطر المقولات، التي هي نتاج أنساقنا الثقافية بإرتكازها على الإشاعة والشفاهية والصدى الببغائي، أعني حفظ مقولات بدون تدقيق.
    سوف أناقش مفردة العربي، ضمن ورودها في جملة "الفتح أو الغزو العربي الإسلامي للعراق"، وإعتراضي على كلمة العربي لا غير، فحين نقول العربي، توحي لنا أن لا وجود للعرب في العراق قبل الإسلام، أو إن العرب أقلية ضئيلة غير فاعلة إطلاقاً، ولكن أصبح لهم ذكر في العراق بعد الإسلام، وهنا علينا أن نتحرى الحقيقة، والوقائع وليس كتب البلدانيين والمؤرخين فقط، بل الإكتشافات الآثارية وأساليب العمارة ونُظم العيش بكل جوانبها، وحتى كتب الأدب وغيرها تنفعنا ففيها سوف نقف على الحقيقة، وهل حقاً لاوجود للعرب في العراق قبل الإسلام؟، أو في أحسن الأحوال أنهم كانوا أقلية ضئيلة خاملة لا نشاط لها، ولهذا استحق القول إن ما جرى في النصف الأول من القرن السابع الميلادي هو عملية غزو عربي لأرض غريبة تماماً عنهم؟.
    وهل الأقليات التي أشرتَ لها، هي فعلاً كان لها تواجد أهم وأقوى من العرب في العراق قبل الإسلام، وكانت لهم مَدنيتهم (الحضارة كلمة مطاطية تشمل حتى رعي الغنم، أما المَدَنية فكما أسلفت سابقاً، تستند على ركنين أساسيين هما الكتابة والعمارة) بإستثناء السريان، لا توجد فئة أخرى لها تاريخ فاعل في العراق قبل الإسلام، والفئة الثانية هم العرب، أما بالنسبة الى بقايا الأقوام الأخرى فقد ذابت في السريان أولاً، ومن ثم ذاب السريان ومن تبقى من فئات أخرى جميعاً بالعرب، فيهود العراق كانوا يتكلمون السريانية، وهي لغة المنطقة الكبرى في حينها، والصابئة كان غالبيتهم يتكلمون المندائية، ولكن الجميع تعربوا كما تَعربَ غيرهم، وأكثر من خمس وتسعين بالمئة من سكان العراق كانوا يدينون بالمسيحية واليهودية والصابئية المندائية، وجمع غفير من العرب كان يدين بهذه الديانات الثلاث، قبل أن يأتي الإسلام ويمنعها من التبشير، إذ لا وجود لديانة غير تبشيرية، وإنما الديانات تنكمش على نفسها حين تجبرها الظروف على ذلك.
    لا أحبذ تكرار ما قلته في غير موضع من هذا الحوار، ولكني أؤكد إن مقولة الغزو العربي الإسلامي للعراق غير سليمة، ويجب حذف كلمة العربي، لأن سنطرُق (من قضاعة) ملك العرب لم يكن إلا في بيث عربايا أي الموصل اليوم، وسجاح النبية كذلك، والشاعر العربي المنخل بن حارثة اليشكري لم يكن عضواً في أي وفد من الوفود التي صاغت معاهدة سايكس بيكو، حين قال:
    إن كنت عاذلتي فسيري نحو العراق ولا تغوري
    ثم يذكر قصرين وهما من التراث المعلوم أي العمارة في وسط العراق تقريباً:
    فإذا انتشيت فإننــي ربّ الخورنقِ والسدير
    وقول الآخر:
    تغلّ لكم مالا تغل لأهلها قرى بالعراق من قفير ودرهم
    وأقدم ذكر لأسم بيث عربايا يرجع الى أواخر القرن السادس قبل الميلاد في كتابة حجر بهستون، وحسب الأصمعي: "كانت قريش تسأل في الجاهلية عن خصب باعربايا وهي الموصل لقدرها عندهم".والجدير ذكره إن الموصل كانت مملكة عربية من الممالك التي تأسست بعد سقوط الحكم البارثي، في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي، وملكها هو سابق بن مالك.
    والعرب كانت لهم أكثر من حاضرة في العراق قبل الإسلام، لدرجة أن هناك من غير العرب قد ذابوا بالمجتمع وكتبوا بالعربية، وما العُبّاد وغيرهم في الحيرة إلا دليل على قوة الحضور العربي في المنطقة، بحيث أصبحت لديهم مدينة وليس قرية كبيرة (كتابة، عمارة، مجتمع مختلط يتبنى ثقافة الكبير)، وذات الأمر في منطقة بيث عربايا وغيرها في الشمال، أما كركوك فكانت مصيف بني شيبان.
    وحسب الطبرسي في كتابه الإحتجاج، فإن شيخَ المعتزلة أبي الهذيل العلاف (ت230هـ) وهو يُعرفُ نفسه لِمُتَكَلّمٍ من أهلِ الرقة بالشام، يدعى مجنون الدير، بعد سؤال الأخير له إستعداداً لمناظرة بينهما: "ممن يكون الرجل؟ قلتُ: من أهل العراق. قال: نِعمَ أهل الظرف والأدب. قال: من أيهم أنتَ؟ قلتُ من أهل البصرة. قال: أهل التجارب والعلم. قال: فمن أيهم أنت؟ قلتُ: أبو الهذيل العلاف".وإذا كان البلداني أحمد بن رستة المتوفي سنة 289 هجرية يقول: "إن حد السواد الذي تم مسحه في صدر الإسلام هو من لدن تخوم الموصل، ماراً إلى ساحل البحر من بلاد عبادان، من شرقي دجلة طولاً، فإن المسعودي (ت346هـ) يستوقنا لنتأمل عبارته التي جاء فيها: "السواد وهو العراق، فقالوا حده مما يلي المغرب، وأعلى دجلة من ناحية آثور وهي الموصل القريتان، المعروفة أحدهما بالعلث من الجانب الشرقي من دجلة وهي من طسوج مسكن، ومن جهة المشرق الجزيرة المتصلة بالبحر الفارسي المعروفة بميان روذان من كورة بهمن أردشير وراء البصرة"، وأما الخليل فيقول: "العراق شاطئ البحر، وسمي العراق عراقا لأنه على شاطئ دجلة والفرات مدّا حتى يتصّل بالبحر على طوله"، بينما ذكر اليعقوبي في كتابه البلدان" إنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا وذكرت بغداد لأنها وسط العراق والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها سعة وكبراً وكثرة مياهٍ وصحة هواء لأنه سكنها من أصناف الناس وأهل الأمصار والكور وأنتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية وأثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم.. "وذات ما حدده المسعودي نجده عند ابن حوقل ونجده في مناقب بغداد لأبن الجوزي وعند صفي الدين عبد المؤمن بن عبد الحق البغدادي، وأما الجغرافي أبو سعيد المغربي (1286م) فيحدد حدود العراق بالزاب المجنون (الأعلى) شمالاً، وعبادان جنوباً، وعلى ذكر الزاب الأعلى يذكر الدينوري في الأخبار الطوال، عن زاب بن بودكان وهو أحد مَن حكموا العراق خلال السيطرة الساسانية إنه " كرى بالعراق أنهارا عظيمة سمّاها الزواّبي إشتق اسمها من إسمه وهي الزابي الأعلى والأوسط والأسفل "، وقبل الحرب العالمية الأولى بأكثر من قرن من الزمان، وقبل تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق بمئة وعشرة أعوام (1811م) نشر المؤرخ البريطاني كينير، كتابه "الأمبراطورية الفارسية" والذي جاء فيه مايثبت قولنا بالنص: "يمتد العراق من أدنى شط العرب جنوباً حتى مدينة ماردين شمالاً ومن زرباطية شرقاً الى الخابور غرباً ". فهل يبقى لنا شكّ بعد قول المسعودي الذي ذكر مصطلح العراق بحدوده، وتعريف الخليل لمعنى العراق مع تحديد موقعه على إمتداد دجلة والفرات، وماذكره كل هذا الحشد من المؤرخين والبلدانيين، بل إن هناك عشرات الأدلة التي تؤكد أن العراق إقليم له ثوابت جغرافية متفق عليها وإن شعبه عاش متحاباً وهو ما يؤكده المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي في كتابه"البشرية والأرض الأم" بالقول: " بالرغم من الحروب والصراعات القديمة بين الممالك العراقية عندما تنتهى واحدتها وتبدأ حياة ثانيتها فأن العراقيين كانوا يعاملون بعضهم بعضاً بمنتهى الإحترام والكياسة بإعتبارهم أصحاب وطن واحد هو موطن المدنية المشتركة"، كما أن أي مطلع حقيقي على التاريخ يعلم أن والي بغداد كان يحمل رتبة وزير، وهو الآمر الناهي على كل العراق، وقد ذكر عباس العزاوي في العراق بين احتلالين ورسول الكركوكلي في دوحة الوزراء وابراهيم صبغة الله الحيدري في كتابه عنوان المجد وعلي الوردي في اللمحات وغيرهم الكثير من الأدلة على أن والي بغداد هو الحاكم الفعلي لكل العراق، وإن العراق بكيانه الحالي كان معروفاً لدى الناس قبل معاهدة سايكس بيكو بسنوات وبعقود وبقرون.
    وإلا ما معنى أن يذكر إبراهيم صبغة الله الحيدري، عام 1869م مايلي"في بيان العلماء الذين أدركتُ عصرهم من العراقيين"ويذكر منهم البغدادي والحلي جبناً الى جنب الكردي، والكركوكلي والأربيلي والموصلي، والمزوري العمادي (نسبة الى العمادية شمال العراق) .
    أما ما ذكره قبل ذلك بما يقارب نصف قرن، صاحب كتاب دوحة الوزراء في تاريخ وقائع بغداد الزوراء، وذلك قبل مِئة عام تقريباً من تنصيب الملك فيصل الأول ملكاً على العراق، في الصفحة 275 ما نَصه "لقد أثمرت المساعي التي بذلها الأهلون والعشائر والرؤساء، ولاسيما أمراء الأكراد، الذين قدموا العرائض والالتماسات إلى المقامات العليا بيد خاصة الى الأستانة، وصدر الفرمان البادشاهي بتعيين داود أفندي والياً على بغداد والبصرة وشهرزور وعن رتبة وزير، فكان لتعيينه رنة إستحسان في سائر أنحاء العراق" أنتهى النَص والذي يثبت أن العراق بحدوده الحالية هو العراق منذ القدم وأن عَربه في بغداد والبصرة وكُرده في شهرزور بل خصوصاً كُرده توحدوا من أجل تعيين حاكم عليهم في عاصمتهم بغداد.
    أما حرفة الكَلاّك، وهي واحدة من أعرق وأقدم الحرف بالعراق، عمرها آلاف السنين وبقيت منذ العصر الآشوري وحتى منتصف القرن العشرين تقريباً، تُدلل على إرتباط الموصل وتخومها الشمالية تاريخياً ببغداد وجنوبها، مصدقة مقولة ياقوت بأن الموصل مفتاح العراق.
    هذا غيض من فيض، يدلّ على أن البريطانيين كانوا على بينة من طبيعة العراق، وتاريخية حدوده، وكم أتمنى لو أن مثقفينا يملكون نصف ثقافة المس بيل بتاريخ العراق، وأعني بالمثقفين أولئك الذين يكتبون دون دراية، وبدل أن يكونوا صمام أمان للأمة وللوطن راحوا يفتون كل حسب هواه، بل منهم من لم يسمع بجهود أولئك الصفوة من المؤرخين الذين أثبتوا أضعاف ما ذكرته هنا، يحدوهم حب الحقيقة والمعلومة العلمية الرصينة، بعيداً عن الأهواء والعقائد والنحل.
    مَن لا يحترم الكلمة وقدسيتها يُحرف كل شيء، ومما يؤسف له أن مجتمعاتنا قد هيأت الأرضية الخصبة للتقولات غير المسؤولة، والإدعاءات الفنطازية ليس لدى الأدباء والفنانين حسب بل لدى الساسة وغيرهم، فأصبح الكل يعيش في هذه الأرض منذ آلاف السنين، لاغياً الآخرين ومزوراً الحقائق، الكل عارض مشروع كتابة التاريخ الذي دعى له النظام العراقي أثناء الحرب العراقية الايرانية، ولكن هذا الكل قام بإعادة كتابة التاريخ بشكل أسوء من النظام، وإلا هل يعقل أن كل فئة تدعي وصلاً بالسومريين، بينما مَن له أدنى معلومات بالتاريخ يعلم أن هناك عشر نظريات لأصل السومريين، إضافة للنظرية الجديدة للباحث المتخصص بالعراق القديم الأستاذ نائل حنون، والتي قلبت كل إدعاءات دعاة النسب السومري بإعتبارها أن السومرية لغة اخترعها الأكديون، فلماذا كل فئة تصر على إلغاء تسعة أعشار الحقيقة على الأقل، وتعلن بلغة الواثق أن السومريين يعودون لهم وحدهم، بدل القول إن السومريين هم لكل العراق وإننا جميعاً جذورنا سومرية، نعم كان من الممكن أن يقول العربي والآشوري والكردي والتركماني والفيلي والشبكي واليزيدي إننا جميعاً سومريون، مما يكون حافزاً قوياً لتوحدنا، وإننا جميعاً ورثة هذا التاريخ وهذه الحضارة، فيصبح سرجون الأكدي وحمورابي وأحيقار الحكيم وآشور بانيبال وأبو حنيفة والحسن البصري وتراث الكلدانيين والآراميين السريان وكل ميراث العراق هو ملك العراقيين بنفس الدرجة، وهكذا مع الأدباء والفنانين وغيرهم، بل حتى الاعلام في مجالات كتابية أو غير كتابية، ممن عاشوا في العراق من فرس وترك وأفغان وشيشان وأفارقة وإلخ، لماذا لا نعتز بهم بِغَضّ النظر عن دينهم ومذهبهم، نعم نفخر بكونهم اختاروا العراق للدراسة أو العمل أو الإستقرار، لأن هذا يمنحنا شعوراً بإنسانيتنا مثلما يجعلنا نفخر بعراقيتنا وتنوعنا.
    يستطيع أي شخص في زمن ضياع الموازين والمفاهيم، والأخلاق، والإنعطافة التاريخية الحادة التي يمرّ بها الوطن، أن يكتب إن هذه الأرض أو الأقليم له منذ ألف سنة أو ستة آلاف سنة، وإن أحب فعشرة آلاف عام، ولكن في المقابل عليه أن يكف عن رمي الآخرين بشتى التهم، لا لشيء إلا لأنهم لا يتفقون معه، وحين لا أتفق معه، فأنا احترم ذاتي، والآخر يريد أن يُزيف وعيي مثلما يُزيف الحقائق.لا شكّ أن من حق أي فرد أو جماعة أن تنتقل من مكان الى آخر، بحثاً عن الرزق أو الأمان، ولكن لا يحق لها بعد جيلين أو ثلاثة، أو حتى عشرة أجيال، الأدعاء بملكيتها للأرض، وإطلاق اسمها عليها، لاغياً منجزات الآخرين، ممن يحملون تراثاً وميراثاً متواصلا على مدى عشرات القرون، ويستغل تعاطف سكان العراق الأصليين والأقدم معه، فيخلق له تاريخاً ملفقاً، مستنداً على جهل غالبية المؤيدين له بالتاريخ ودقائقه، فحين يذكر لنا المؤرخون أن الجيش الإسلامي، عندما وصل الى بغداد وسامراء وتكريت صعوداً الى أعالي الرافدين، كانوا يسمعون لغة غريبة عليهم، هذا لا يعني أن هذه اللغة كانت مجهولة بحيث تمنح الحق كلّ يدعيها، فالقراءة الواعية للتاريخ، تدلنا على أن المؤرخين ذكروا في مواقع أخرى من موسوعاتهم، مَن هم سكنة الأرض، إنهم بلا أدنى شك السريان المسيحيون نساطرة على إمتداد العراق التاريخي، ومينوفيزيين (يعاقبة) في تكريت التي رمى أميرها عبد السطيح نفسه ممتطياً فرسه من أعلى قلعتها منتحراً في دجلة على أن يستسلم للجيش الإسلامي، فأصبح بحق رمز الشموخ العراقي.
    فعلى من يدعي إنه يعيش منذ كذا فترة زمنية، وأن هذه الأرض أرضه التاريخية، لاغياً الآخرين، أن يعطينا على الأقل ربع الفترة المدّعاة، إن له فيها ميراثاً مكتوباً ومعلوماً، أي يرينا مئات الكتب التي عمرها يقارب ربع الفترة الزمنية التي يدعيها، أن يثبت بالوثائق والأدلة أن للفئة التي ينتمي لها حراكاً ثقافياً يمتد الى عشرات الأجيال، وإن ميراثه يضاهي ميراث بقية الفئات التي تعيش معه على نفس الأرض مجتمعة، وإلا فهو يمتهن إنسانيتنا، لكونه يريد لعقولنا أن تقدم الإستقالة من التفكير، ولذهنيتنا الإخصاء، وأن نلغي فئات معه تُشكل طيفنا العراقي الذي نفخر به ونتباهى، إننا جميعاً قوس قزح، والعراق بستاننا معاً وليس بستاناً لقريش.
    الحقيقة التي يجب أن تشاع كما الهواء، من وجهة نظري هي أن الناطقين بالعربية اليوم هم نتاج تزاوج جميع الأقوام التي سكنت المنطقة والعراق منها، وتكرار هذا القول، لأهميته إذ إن هذه الحقيقة سوف تلجم القوميين العرب المؤمنين بنقاوة العرق العربي، بذات الدرجة التي سوف تلجم سواهم من القوميين إن كانوا فعلا هم سكان العراق القدماء كالسريان (الكلدوآشوريين السريان) أو ممن نزحوا خلال العهد العباسي الثاني خصوصاً وما تلاه، أو الذين كانوا على حدوده الجبلية الوعرة، ولم ينزلوا للمدن إلا فرادى بسبب ثأر أو ترحيل قبلي أو غير ذلك، ولكنهم في العصر الحديث بدأوا يتكاثرون ونزولهم للمدن أصبح علامة فارقة لبعض هذه المدن نتيجة ما حصل قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الأولى، من مجازر تحدثنا عنها في موضع آخر من الحوار.
    لم تخل أربيل وكركوك وغيرهما يوماً من الأكراد والعرب، ولكن كانوا أقلية على مدى التاريخ حتى أطل علينا القرن العشرون فغير الموازين وكان السريان والتركمان الخاسرين مما حدث، مثلما لم تخل الموصل العربية يوماً من التركمان والاكراد والشبك وسواهم، وإذا كان الكثير من العرب نزحوا الى كركوك تحت مدافع السلطة التي احتلت الدولة، فإن غير التركمان والعرب في كركوك وبغالبية مطلقة فُرضوا عليها تحت مدافع الإحتلال البريطاني ما بين تأسيس الحكم الوطني وحتى قيام الجمهورية.
    العراق وطن يدل على شعبٍ، وليس على عرق أو إثنية، وطن عاش في كنفه هذا الشعب متنوعاً كتنوع أراضيه، ولكن الأكدية منذ 2300 قبل الميلاد سيطرت كلغة تفاهم وتواصل بين أبنائه، والى اليوم ما زالت من خلال بناتها، ومنذ أربعة عشر قرناً تسنمت اللغة العربية من أخواتها الأُخريات الراية، فلا يمكن أن نضعفه أو نجزئه لأسباب هي أوهى من بيت العنكبوت، ومَن يريد أن يؤسس فيدرالياته الطائفية، مذهبية كانت أو أثنية، فإنه يمنح مَن عارضهم ووقف مع الإحتلال بكل قوته لكي يبني عراقاً حراُ ولكل أهله كما يقول، صكوك غفران على ما ارتكبوا من مجازر وإساءات بحقنا وحق وطننا.
    ما ذنب الذي يعيش منذ قرون على أرض آبائه وأجداده، وفجأة يرى نفسه في إقليم تسميته الأثنية أو المذهبية تختلف عن أثنيته أو مذهبه أو دينه.
    مَن يريد تأسيس دويلته فليؤسسها على أرضه التاريخية التي تزدحم به منذ قرون وعشرات الأجيال، ولكن ليعلم إنه يغرف من ذات المستنقع الشوفيني الإلغائي الإقصائي العنصري الذي طالما تذمر منه واشتكى وعانى، علماً إن الناطقين بالعربية والسريانية فقط هم سكان العراق الأقدم، لأنهم ببساطة وكما ذكرت مراراً وأعيده هنا للتذكير أنهم خليط من جميع الأقوام التي سكنت العراق والمنطقة على مر الازمان.
    ما ذكره علي الوردي، كلام صحيح ولكن هناك مسكوت عنه في كلامه، وكلام من نحا منحاه في أن العراق ضحية الهجمات البدوية، هذا المسكوت هو مَن أوحى للجميع أن العراق استقبل هجرات من الغرب والجنوب الغربي فقط، مما مَنح الفرصة للآخرين أن يتهموا الناطقين بالعربية أنهم غزاة، وسواهم سكان الأرض الأصليين، حتى حدا بالبعض أن يطالب برميهم الى الصحراء، ومن المضحكات حقاً أن هذا البعض ينتمي لفئة لم يولد جدها الأول في العراق، وإذا تفحصنا خطابات بعض الأحزاب القومية، لغير الناطقين بالعربية، فسوف نلاحظ كيف تم إستغلال المسكوت عنه في قول العلامة علي الوردي وغيره، إستغلالاً يُعبر فعلاً عن حقيقة أن القوميين في العراق بجميع أطيافهم اللغوية تغرف من مستنقع الشوفينية والإلغاء والإقصاء للآخر، وتزوير التاريخ والحقائق.
    لا شكّ إن العلامة علي الوردي، بذل جهوداً جبارة في دراسة هذه الظاهرة، فالعقل البدويّ ما زال مسيطراً على سلوكياتنا، ولو تتبعنا ظاهرة الفرهود 1941 والسحل بالحبال بعد إنقلاب الرابع عشر من تموز 1958، ودموية الثامن من شباط 1963 الإنتقامية وعمليات العنف والعنف المضاد في آذار ونيسان 1991 وانفلات ما بعد التاسع من نيسان 2003، سوف نلاحظ بكل جلاء العقل البدوي النَهّاب والمنتقم بطريقته البدائية العدوانية، لا نستغرب حين نرى البسطاء من الناس يسرقون المال العام، لأن هذا المواطن وهو يسرق كرسياً من مبنى عام، يشعر بأنه ينتصر على الحكومة التي طالما أجبرته على الخضوع والخنوع من وجهة نظره، وها هو دوره في أخذ ثاره منها، وبكل تأكيد لو أن الحكومات شرعت برامج تربوية مَدنية لخلقت لنا أجيالاً تؤمن بالنظام وبالدولة، ولفرقت بين الدولة والسلطة، وميزت أن المال العام والبيئة والوطن بكل ما فيه لها وليس للسلطة، ولكن السلطة نفسها (أحزاباً وأفراداً كضباط الجيش) استحوذت على الدولة، أليس شعار "إذا قال صدام قال العراق" تعبيراً دقيقاً على هذه العقلية الإستحواذية، وما كان يردده الجالسون على قمة الهرم السلطوي، من انهم جاءوا بقوتهم ومَن يريد أن يستولي على السلطة فلينازلهم، لأن العقل البدوي بقي منتصراً، ولم تنتصر عليه المدارس والجامعات والإحتكاك بالعالم، بسبب التعليم التلقيني لدينا.
    المعارضة وجه آخر للنظام، وما حدث بعد التاسع من نيسان 2003 يثبت أن القادمين الجدد لم يكونوا معارضة لنسق الحكم، وسلطويته، وتحويل الدولة الى خادم للسلطة، وإنما معارضتهم كانت للانفراد بالسلطة، وها هو الوضع في العراق يقول إن العراق تحول من بلد فيه شيخ القبيلة زعيم أوحد، الى إنفصال العشائر التي تكون القبيلة، ونبذ والغاء سلطة شيخ القبيلة لتتوزع على شيوخ العشائر، والأفخاذ أحياناً، وما زالت الذاكرة مرهقة بمناظر وأخبار الأحزاب وهي تستولي على المال العام، وتدمر كل ما تعتقده يمثل رئيس القبيلة المخلوع، وإلا ما علاقة التماثيل والنصب بالنظام، وهناك الكثير من الأمثلة التي يصعب حصرها.
    العقل البدوي، في الجنوب والوسط يبيع آثار البلد وذاكرته لأنها حسب زعمه وتبريره تتناقض مع الدين الحنيف، وفي الشمال يبيع آثار البلد وذاكرته ويسرق المصارف ويحرق دوائر التسجيل المدني (الولادات، العقارات، ووثائق البلد) لأنها تمثل الدكتاتور والطاغية الذي أبادهم وأرتكب المجازر بحقهم وغيبهم وإلخ من التبريرات التي لا تقنعه هو نفسه، حتى امتلأت إيران وتركيا بالمال العام العراقي المُهرب لها من الشمال الشرقي منذ مطلع 1991 وحتى الآن، بينما الحقيقة أن كلاهما العقل البدوي السهلي والجبلي، تصرفوا بما يمليه عليهم وعيهم البدوي النهّاب، الذي كلما مَثّلَ بضحيته وزاد من انتقامه منها، ونهبها وإذلالها كلما شعرَ بقوته وجبروته، ولحظة السقوطات إن جاز التعبير، أي سقوط بغداد وسقوط السلطة وسقوط الدولة كانت الفرصة المواتية لهذا العقل كي ينهب ويستولي ويحرق ويدمر، لم يختلف في ذلك بسطاء وفقراء البلد وأحزابه ومَن يرون في أنفسهم زعماء المستقبل، والمعارضة التي ناضلت طويلاً من أجل الوطن حسب تعبيرهم.
    المَدنية والبداوة متناقضتان، ولن نتمكن من بناء دولة عصرية، إلا بالقضاء على البداوة،
    وسوف تبقى مصطلحات المناطق المتنازع عليها والفيدرالية وحق تقرير المصير وغيرها من المصطلحات والشعارات المثيرة للجدل والشفقة، بل والضحك، تدار بهذه العقلية، التي تلقفت هذه المصطلحات لتستخدمها بطريقتها البدوية الالغائية، ضاربة بعرض الحائط أن هذه مصطلحات لا تنطبق على الوضع العراقي، فمن يعارض جلب النظام السابق لفئة ما الى مناطق معينة عليه أن يقرّ بالحقيقة وهي أنه جُلبَ تحت مدافع الإحتلال البريطاني إليها قبل ذلك، والأجدى أن يفتح صفحة جديدة مضمونها المحبة والتسامح والإيمان بأن الوطن كله لكل أبنائه، وإن سريانية وتركمانية وشبكية ويزيدية وكردية بغداد لا تقل عن عروبتها، وكذا الحال مع كل مدينة عراقية، ولكن هيهات، وهذا يعني بقاء استحواذ السلطة على الدولة، وتسخير المال العام للحزب وقائده، بل أن هذه الأحزاب لها شرطتها السرية التي تلعب دوراً بارزاً في إمتهان المواطن والوطن.
    العقل البدوي أينما وضع قدمه استحل كل شيء، وأعتبر الاخرين غرباء، عكس العقل المديني المؤمن بالتنوع والاختلاط والمشاركة، وإلا ألا يخجل هؤلاء مما اقترفوه وما استولوا عليه، وما ارتكبوه بحق الاخر المختلف عنهم ديناً ومذهباً وأثنية ؟ وكيف تم ويتم الاستيلاء وهذه المرة بقوة القانون على مناطق هم نزحوا اليها قبل عقود تعدّ على أصابع اليدين.
    العراق وطوال تاريخه كان يستقبل هجرات من كل مكان، ومثلما هو معروف كبلد متعدد اللغات والديانات والمذاهب، كبقية بلدان العالم، لموقعه المميز وخيراته الوفيرة، فهو بلد معروف بثوابت جغرافيته، وما يحتاجه هو عقلية تؤمن أن كل مدنه وقصباته مشتركة.
    فحين نؤمن أن بغداد والبصرة والموصل وأربيل وكربلاء وميسان وكركوك وديالى وغيرها هي مدن مشتركة ونرفض تصنيفها لغوياً ودينياً ومذهبياً ومناطقياً، وحين نعيد النظر في أنساقنا الثقافية وخطابنا السياسي، وندين النسق الذي أنجب لنا هذا الخراب والدمار الذي نعانيه منذ نصف قرن تقريباً، وتهيئة المعلومة للجميع، فلن يتمكن أحد ما من ظلم الآخرين أو الانفراد بالسلطة، أو بث روح الانعزال والتقوقع لدى فئة ما، عندها لن يجرؤ من لم يولد جده الأول أو الخامس في أقصى الحالات، ومَن لا آثار له، أو مَن جلبه الاحتلال البريطاني أو غير البريطاني لأرضنا أو مَن جاء هارباً بدينه ومعتقده إلينا، ليدعي ما يدعي، وليشيع عنا ما نحن لسنا أهله، ويعتبرنا الغزاة والبدو الرحل الذين يجب رميهم الى الصحراء.
    العراق إقليم ثابتة معالم جغرافيته، وما يحتاجه أن يكف العقل السياسي فيه استحواذ سلطته على الدولة، وتحويل المواطنين الى رعايا السلطة وليسوا مواطني الدولة، عندها سوف لن يصبح المواطن مشكوكاً فيه، ولن نحتاج الى أقاليم شوفينية عنصرية أو طائفية، وبكل تأكيد سوف تصبح العمامة والعقال والشروال والريشة والسدارة محل فخرنا ودليل تسامحنا.

    س37: في دراسة عميقة عن الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار عن الشعر ولاسيما الشاعرين الفرنسيين لوتريامون ومالارميه كتبها الباحث المغربي سعيد بوخليط ..لاحظت أن غاستون باشلار قد صنّفَ الشعراء إلى صنفين: فئة تعيش فى زمان عمودى حميمى وباطني، بينما تتماهى فئة ثانية مع زمان حي، محول، ومتوقد مثل سهم...أين تجد نفسك ؟ وفي السياق ذاته اين أنت من مفهومي الغموض والعمق في الشعر ودور الخيال في استخدامهما لصالح بناء نص شعري محكم وكبير ؟
    أنا شاعر حياة، أهضم ما أقرأ وما أعيشه، لستُ شاعرَ كتبٍ وأبراج عاجية، رغم عدم إيماني بالتصنيف، الذي أراهُ تحجيماً للشاعر، الشعر لديّ ينبع من تجربةٍ معيشة، يُشَعرنه الخيال وتُشذبه الخبرة.
    الشعر شعرٌ، إن كان واضحاً أو كان غامضاً، وليس كل وضوحٍ مباشرة وتسطحاً مثلما ليس كل غموض يعني العمق، الشاعر الحقّ هو الذي يكتب نصه، لأن الكتابة لديه ضرورة وحاجة ملحة، وعندما يكون الغموض تلقائياً وضمن متطلبات النص، وليس مقحماً واستعراض عضلات فهو حتماً يمنح النص تأويلاً وتعدد قراءات.
    في قصيدتي "قلعة هيروشيما" استخدمت كلمة "سامورائيون" ولأنها جديدة ولم تستخدم من قبل، بل إني اجترحتها، ولكوني أنتمي لبلد لم يكتشف الكتابة فقط، بل هو أيضاً مَن علمّ الناس الكتابة بالأبجدية العربية، وهو من قَعّد العربية ووضع لها علومها من نحو وبلاغة ...الخ كما وضع المعاجم حتى أصبح للغة العربية مدرستان في النحو هما الكوفة والبصرة وكلاهما عراقيتان، وحين حاول البعض أن يدمجهما خرجت علينا مدرسة بغداد، أقول أمام كل هذا التاريخ الزاخر لما قدمه أجدادي، حرصت أن أكون دقيقاً حين اجترحت هذه الكلمة، فارسلتها لمن أثق بهم من شعراء ونقاد، فكان مع الاستحسان جملة جميلة تكررت وهي "شكرا لك لقد جعلتني أعيش في عوالم سحرية للمكان كما في الواقعية السحرية" هذه الجملة وإن كانت بصيغ مختلفة وصلتني ولكن فحواها واحد، وضربت بها المثل، لأعبر عن دور الخيال وأهميته في النص، فلولا الخيال لما وصلتنا نصوص كبار الشعراء وبلغات عديدة.
    النص المُحكم هو المبني على الخيال والتجربة ويحتمل القراءة المتعددة، ويمنح قارئه متعة حقيقية ولذة بحيث يعلق بالذاكرة على الأقل اسم الشاعر، وأقول اسم الشاعر لأنه من الصعوبة أن تقرأ عشرات النصوص لشاعر ما وكلها تبقى في الذاكرة، قد تنسى عناوين بعض القصائد ولكن الأجواء الشعرية عموماً تسحرك، فمن منا من لم تبلله أنشودة المطر وتغرق سفنه في بويب، بينما الأخضر بن يوسف يدلنا على مدينة أين، والحياة قرب الأكربول نجد فيها مهيار ينشدنا شيئاً من "لن والرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" راكباً حصان العائلة ينوي الرحيل الى الشجرة الشرقية ليقابل سيدة التفاحات الأربع ويغتبط بزيارة السيدة السومرية رغم حزنها في ضوء القمر على طائر آخر يتوارى خلف جنائن آدم بمسائه الشخصيّ وهو يتلو قصيدة صور مستمتعاً بفصول من رحلة طائر الجنوب مغرداً للغبار..لشمدين..لأدوار الفريسة وأدوار الممالك، حالماً بالزوال وأوراقه مقرظاً الطبيعة....... وغيرها من المجاميع الشعرية التي حفرت لها مكاناً مميزاً في ثقافتنا وذائقتنا.
    لا إبداع بدون خيال، وشاعر مبدع وكبير يعني شاعراً كبيراً ذا خيالٍ واسع ونص كروي وما أعنيه بالنص الكَرَوي، هو النص الذي يشبه الحقيقة كلّ يراها من منظاره، وهكذا النص الكَرَوي كل قارئ يراه ويُؤَوّله من خلال زاوية نظره، أي فهمه وخياله وأدواته النقدية والمعرفية.

    س38: هل تؤمن بدور الإشاعة في صنع شاعر؟ وهل تختزن ذاكرتك من هؤلاء الشعراء صوراً، بالإمكان استعادتها الآن لتصحيح التقويم الشعري، وهل تختزن أسماءً في الضد طمستها الإشاعة وساهمت في تهميش تجربتها الشعرية؟

    الإشاعة ظاهرة تملأ حيواتنا في كل المجالات، وليس الشعر وحده، وقد خلقت الكثير من الأسماء التي لا تستحق عُشر ما حصلت عليه، على الأقل في بداية مشوارها كما في شعراء المقاومة الفلسطينية، فشعراء السلاطين هم مَن تسيدوا المشهد وأصبحوا نجوماً، والسلاطين هنا من مفردة سلطة، فهي لا تعني الحكام فقط وإنما هناك شعراء لولا أحزابهم ومنظماتهم لما وصلوا الى ما وصلوا إليه، فالحزب سلطة بما يملكه من اعلام وإمكانيات، وهناك المراهقة السياسية وسلطتها القوية رفعت من شأنهم، مثل دعاة اليسار أو القومية، فتعاطف جمهور عقيدة ما بكل طبقاتها من القيادة الى القاعدة، تتكاتف أو تأتيها الأوامر فترفع شاعر القبيلة، وإن أصبح أبناء القبيلة الحديثة لا ينتمون الى جد أعلى، وإنما الى عقيدة وفكرة سياسية أَلّهوها.
    مما يؤسف له نجد أن الكثير من القرّاء تبهرهم الأسماء اللامعة، وينظرون بقدسية أو بإحترام كبير على الأقل لكل ما تنتجه الأسماء المشهورة التي ترسخت بفعل الإشاعة، وكم من خطبة سياسية جوفاء، لا تمتّ للشعر بصلة، راح الجمهور يتناقلها ووسائل الإعلام، وبعض النقاد يكتبون المطولات في تأويلها، بينما هي سطحية وتضرب عادة على وتر العاطفة، حتى أصبح المساس بهذه الأسماء من باب المحرمات.
    وإن كنت لا أحبذ ذكر الأسماء، ولكن ألا ترى أن جمهور محمود البريكان وأدونيس وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا وسركون بولص وعبدالرحمن طهمازي ومؤيد الراوي وأحمد الباقري وعيسى حسن الياسري والقائمة تطول، ربما لا يصل الى واحد بالمئة الى جمهور نزار قباني ومحمود درويش، ولو استثنينا أدونيس، فان الأسماء المذكورة نادراً ما حظيت بجائزة أو تكريم يليق بها.
    بعض الشعراء يجيدون الحديث عن أنفسهم لمناسبة ومن دونها، ويضخمون ما يقال عنهم ولديهم قدرة عجيبة على عرض بضاعتهم رغم أنها في كثير من الأحيان أقل من العادية، وحين يلتقون بشخصية أدبية مشهورة، فكأنما اللقاء بها تقريض على أنهم ولجوا الإبداع بأدواتٍ مكتملة، ولا أكتمك إشفاقي على هذه النماذج وهي تلهج ليل نهار بحمد نفسها وتمجيد ما تكتبه، لتصل الى درجة الوهم، وكيف أن لهم تلاميذ وأتباعاً... الخ ويحدثونك عن سرقات يتعرضون لها، بحيث أصبحوا يخشون نشر نتاجاتهم.
    هذه الفئة وللأمانة التاريخية موجودة في كل زمان ومكان، وبعض الشعراء الجيدين أصيبوا بها، ومردّ ذلك الى العقل البدوي، المؤمن بشاعر القبيلة، فكم من شاعر حداثوي، يتمنى أن يلهج بذكره الجميع، وأن تقف نسوة القبيلة صرعى حبه، ويُحتفى به كما كان يُحتفى بولادة شاعر قبل خمسة عشر قرناً، ولا أعلم كيف لا يلاحظون التناقض بين دعوتهم للحداثة التي من أبرز مميزاتها إنها لا تؤمن بالشاعر الأوحد والأعظم وأمير الشعراء، وبين سلوكياتهم.
    نعم هناك شعراء أساءت لهم الإشاعة وطمست منجزهم عن الإعلام، ولكن القارئ المحترف وهو الذي أبحث عنه وأعتبره مبدعاً آخر للنص، لا يمكن أن يلتفت لشعراء الإشاعة، مثلما وبكل محبة يحتفي بمنجز من غُبنَ وتمّ تجاهله.
    الحديث عن الإشاعة، لا يمكن إختصاره بإجابة مهما كانت طويلة.

    س39: أنت هنا تتحدث عن الإسماء المسوّقة والمعروفة ولا تذكر أسماء من الشعراء الذين همشوا ولديهم مشاريع شعرية حقيقية، لم تتطرق الى أسماء الشعراء الذي سبقوك أو جايلوك أو جاءوا بعدك .... أليس هذا إهمالاً مقصوداً ؟

    ليس إهمالاً، بل إن الاسماء من الكثرة بحيث يصعب عدها، كما أن مفهوم التهميش يختلف من شخص لآخر، لقد سمعت مَن يقول إن سليم بركات هُمّش، وعزوا الأمر الى تطرف قومي يسود الثقافة العربية، وكذا قرأت لشاعر آخر ممن يكتبون بالعربية، وكتابته تكاد تكون تقليداً لشاعر من إثنيته، ولكنه يريد أن يحتفي الإعلام العربي به، وهؤلاء يجهلون حقيقة وهي إن ما حصل عليه سليم بركات من شهرة لا يمكن مقارنتها بشعراء عرب بل ومنهم مَن يمتّ مثلا بوشائج قربى ومناطقية ومذهبية وقومية مع النظام السابق في العراق، ومع ذلك مات مجهولاً في العالم العربي، وأعني به الشاعر رعد عبدالقادر، هذا الشاعر الذي كتب عنه أحد الشعراء المجايلين له أو أكبر قليلاً، إنه لم يسمع به قبل موته، فهل هناك فاجعة أكبر من هذه، أليس جهل معظم الشعراء العرب برعد عبد القادر في حياته، تهميشاً، يكون أمامه الرأي الذي يرى أن الشعراء غير العرب ممن يكتبون بالعربية مهمشون، رأياً أبعد ما يكون عن الدقة.
    من الصعب إعطاء رأي شخصي في الشعراء، نعم هناك شعراء أحتفي بتجاربهم، ولكني أحاول أن أنأى عن ذكر الأسماء، لأن الذاكرة مهما كانت قوية فلا بد أن تغفل أسماء عدة، كما لايمكن تجاهل ظاهرة تضخم الأنا بشكلها البدويّ – السلبي، فنسيان اسم ما، يعني فقدانه، والوقوع في إشكالية إجتماعية تسقط اوارها على ما هو إبداعي، كما إني بعيد عن العراق منذ نيسان 1993 وهذا يجعل الأمر أكثر صعوبة، فحتماً هناك تجارب خلاقة ولكنها ظلمت لأسباب شتى، وذكر غيرها يعني المساهمة غير المتعمدة في تهميشها.
    إن ظاهرة تخلي أغلب الشعراء عن الشعر، أو انطفاء بريقهم بعد سنّ الأربعين أو قبله بقليل، ليجعل من غير الحكمة الإستعجال بإطلاق أحكام على مّن هم دون سن الخمسين بسنوات، أو في الغالب الأعم من لم يتجاوزوا الأربعين.
    ربما من سار في رحلة اللاعودة، ممكن الحكم عليه، ولكن البقية لَهُوَ أمر صعب فعلاً، فعشرات الشعراء الذين إستمتعنا بنصوصهم وهم في النصف الأول من الثلاثينات، قد تخلوا عن مشروعهم، بعد سن الخامسة أو الثامنة والثلاثين، وكأنهم تعبوا، أو سرقتهم الصحافة منا أو التجارة، وربما العائلة والشعور بعدم الجدوى، فمن يُصَدق أن صاحب الأب في مسائه الشخصيّ، سوف يتوقف ويعلن إن عدم الجدوى هي السبب، ومثل زاهر الجيزاني ينطبق المثل على عشرات ربما لم يحققوا عُشر ما حققه الجيزاني، أو ربما ضعف ما حققه.

    س40: يحتاج الشعر الى أكثر من عمر على حد تعبير الشاعر الراحل محمود البريكان، وهو الذي مات ولم يترك سوى مجموعة من القصائد المتناثرة في مجلات وملفات محدودة، ترى هل تصح هذه المقولة فيك وأنت الذي أنجزت ثلاث مجموعات شعرية والرابعة قيد الإنجاز؟

    وسركون بولص يؤمن أن الشعر يستحق أن نخصص له أكثر من حياة، وأتفق مع الاثنين فيما ذهبا إليه، أما بخصوص النشر، فعلينا أولاً أن نؤمن بحقيقة وهي وجود شعراء مكثرين وشعراء مقلين، وشعراء بين بين، بل وشعراء مسرفين بالكتابة، وأكرر ما أردده دائماً، وهو إني شاعر وَثَنيّ ولا أتبع سوى نفسي، وهذه ليست نرجسية وإنما هذا ما أراه لكي أتجاوز الجميع بما فيهم باسم فرات ذاته، فإن نشر البريكان مجموعة أو لم ينشر وإن نشر سركون بولص ستّ مجموعات أو ست عشرة مجموعة، وإن نشر سعدي يوسف مجموعة واحدة أو خمسين مجموعة، وإذا وصل أدونيس الى المجلد العاشر أو إنه لم ينشر سوى بضع قصائد، هذه لا تعنيني إطلاقاً، لأني بدون نموذج ولا أؤمن بمثال لي، شيخي الأكبر والأهم هو باسم فرات الذي أؤنبه دائماً وألومه وأراه مقصراً في كل الأمور.
    هذا من ناحية أما من الناحية الأخرى، فعلينا أن نميز بين مجموعة شعرية وأخرى، من الناحية الكمية، فمجموعتي "أنا ثانية " عدد صفحاتها هو 64 صفحة فقط، بينما هناك مجاميع تتجاوز المئتي صفحة، أي صفحات مجموعة واحدة يفوق مجموع صفحات مجاميعي الثلاث.
    وإذا قارنا بين السياب والبريكان وكلاهما من البصرة ومن الرواد وولادتهما متقاربة جداً ولكن الفرق أن الأخير عاش ثلث قرن على الأقل أكثر من السياب، في حين إن منجز السياب الكمي أضعاف منجز البريكان، وأهمية وتأثير السياب في الشعرية العربية أكبر بدون أدنى شك، كما أن منجز أدونيس الكمي وهو يكبر البريكان بعام واحد، لغاية وفاة الأخير هي أضعاف أضعاف ما نشره البريكان، وكذا الحال ينطبق على منجز سعدي يوسف الكمي رغم ان سعدي يصغر البريكان بثلاث سنوات، ولا يمكن لأحد أن يشكك بأهمية أدونيس وسعدي على الأقل مقارنة بالبريكان وتأثيرهما في الشعرية العربية، إذن لا علاقة بين الكم والنوع، فكم من شخص نشر بضع قصائد خلال سنوات عديدة ولكنها لا تستحق الورق الذي كتبت عليه، بينما نجد أحياناً من كتب عشرات القصائد خلال فترة قصيرة، وفيها شعرية خلاّقة، الإبداع شرطه الموهبة والإخلاص والمثابرة والشعور بالمسؤولية والإصرار على التجاوز، وهناك من هو مكثر وهناك من هو مقلّ، وطالما سمعتُ من يراني مقلاً.
    أؤمن أن الشعر يستحق أن نتفرغ له تماماً وإن ننظر إليه كمقدس يستحق أن تكرس له حياتك، وهذا قليل بحق الشعر.

    س41: أنت من المعجبين بتجربة الشاعر الراحل سركون بولص، وهو من يعتنق اصطلاح القصيدة الحرة بديلاً عن المفهوم الشائع عن قصيدة النثر، وأنت توافقه أيضاً، ولكن سركون لم يتخل تماماً عن الوزن وهو يميل إليه أحياناً في إنجاز نصوص رائعة، بوصفك شاعراً "حراً بواسطة النثر"، ما أهمية وجود أو انعدام الوزن في نصك الشعري؟
    أنا شاعرٌ وثنيّ وإعجابي بسركون لا يختلف عن إعجابي بعشرات الشعراء غيره ممن يكتبون بالعربية أو بغيرها، ولو قلتُ ان سركون هو الشاعر الوحيد، فهذا تأليه غير مبرر يناقض فهمي الوثنيّ ــ المتعدد للشعر، وفهمي للحداثة المبني على عدم التأليه والفردانية في أي مجال من مجالات الثقافة.
    أما عن مفهومي، لما نكتب من أنه قصيدة حرة وليست قصيدة نثر في معظم المنجز المكتوب بالعربية، فهو متأتٍ من المتابعة الحثيثة وغزارة قراءاتي للتراث، مما شَكّلَ أو نَمّى لدي أذناً موسيقيةً ترهف السمعَ بدقة، ولهذا أجد في ما نكتبه وزناً من نوع اخر، بل موسيقى لا تخطئها الأذن المتمرسة، وإن كان سركون بولص وعبدالقادر الجنابي وآخرون وأنا منهم نؤمن أن هذا هو الشعر الحرّ وليس قصيدة نثر، فهنا لابد من ذكر محادثات بيني وبين الشاعر وسام هاشم، الذي يطلق عليها القصيدة الصوتية، أذكرها لكي لا يضيع حقه، ومعنى الصوتية هي تلك القصيدة التي تقرأ، وليست الخطابية النبرة كما في معظم ما يسمى بشعر المقاومة، ويكون لصوت الحرف علاقة بالكلمة، والكلمة بالجملة، والجملة بالقصيدة ككل، وأرى انها فكرة تؤسس لقطيعة إيجابية مع التراث، وتعطي القصيدة الحديثة مكانة في ذائقة المستمع العربي الذي أدمن الصوت وأعتاد عليه، وأرى أن وسام هاشم وطالب عبد العزيز خير من يمثلان هذه القصيدة.
    رغم انحيازي التام للحداثة، ولكني أجد لزاماً على كل شاعر أن يكون له إطلاع جيد على علم العروض، وأن تكون قراءته للتراث جيدة، فليس كل التراث منظومة إنشائية، بل إننا لو وضعنا في تصورنا الفترة الزمنية التي أنتج فيها سوف نجد حداثة تفوق في حالات معينة حداثة أغلب شعرائنا، فحداثة أبي نؤاس وبشار بن برد وسواهما أفضل بما لا يقاس من كل منجز الإحيائيين، وأما التصوف فقد فتح للغة آفاقاً رحبة، وما زلنا نقرأهم وجمرة الإبداع تلفعنا.
    شخصياً كتبت نصوصاً موزونة، وكانت مجموعتي الأولى "أشدّ الهديل" تحوي أكثر من قصيدة موزونة، ولست ضد الوزن، ولكني مع الجملة الحداثوية، جملة خطاب تجبرنا على الإعتراف بتفردها، لا أن تكون جملة تقليدية أُشبِعَتْ استهلاكاً، وتصيبنا بالغثيان.

    س42: في إجابتك التباس واضح في حدود مصطلح " القصيدة الحرة" وأنت تقول "ولهذا أجد في ما نكتبه وزناً من نوع آخر، بل موسيقى لا تخطئها الأذن المتمرسة"، هل تعني أن القصيدة الحرة تخلصت من الأوزان الخليليلة وإيقاعاتها وأسست لها أجنحة وأقفاصاً أخرى، أين هي بالتحديد أوزان وإيقاعات القصيدة الحرة التي تكتبها؟

    لا أؤمن بالآلهة ولا أعبد أصناماً، فالشاعر هو محطم الأصنام وسارق الأزل من الآلهة، وما فعله الخليل بن أحمد الفراهيدي بقدر ما هو إنجاز يحسب له، بقدر ما هو تقعيد للاوزان يكبلها بالنمذجة، وكل تقعيد تكبيل، وكل نمذجة لابد للشاعر الهازئ بآلهة قومه وأصنامها، أن يرفضها، الشعر أكبر من أن تحده أوزان معدودة، وأن يحيط به شخص واحد أو عدة أشخاص ليقولوا هذا هو الطريق الأصوب والأوحد فاسلكوه.
    الشعر عالم قائم بذاته وهو غاية الغايات بلاشك، وما دعوة كبار الشعراء الى أن الشعر يحتاج الى تخصيص حياة كاملة أو حيوات له، إلا لأنه لا حدود له، ولهذا نجد الثورات الدائمة والخروج على النمطية، ففي الوقت الذي تقيأت المطابع لنا مئات المجاميع الشعرية ذات الصراخ العالي والخطابية وكأنها مناشير سياسية وليست قصائد تنبع من ذات قلقة متمردة على السائد والمألوف، كان ثمة شعراء يجترحون أنماطهم الشعرية، متخلصين من وصايا الخليل وقوانينه المحدودة، مؤمنين أن أوزان الشعر وموسيقاه لا يمكن حصرها في أشكال معينة، وهكذا أسسوا أوزانهم الخاصة بأجنحتها التي لا يمكن لقفص أن يحتويها.
    ألم تخبرنا كتب التراث عمن كان يرد على النحويين والنقاد بقوله: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا، أو: أنا أكبر من العروض. نعم الشاعر أكبر من العروض وله أن يقول وعلى الآخرين أن يتأولوا، ولولا هذه الحرية المعطاة للشاعر لما استمتعنا بالمنجز الهائل والمتنوع للشعر.
    إذا اعتبرنا الأوزان والإيقاع هو ما جاء به الخليل لا غير، وهو النموذج الوحيد والأوحد فبكل تأكيد، أن ما أكتبه لا وزن له ولا إيقاع، بل إن منجزاً مهماً في الشعرية المكتوبة باللغة العربية، هو ابن غير شرعي مما يستدعي طرده خارج القبيلة، ولكن الأمر سوف يختلف تماماً حين ننظر لكتاباتنا على أنها خروج على النمذجة، وتحطيم للأصنام، وكفر بالآلهة، من هنا سوف ننظر للأمور بمنظار جديد، سوف ننظر بعيوننا، ونسمع بآذاننا، ونتذوق الإبداع بملكاتنا ووعينا وثقافتنا، لأنهم ببساطة يريدوننا أن نفعل كل شيء من خلال الأموات، نطرب للموسيقى الشعرية التي قررها لنا الأسلاف – الأموات، ونكتب حسبما رسموه لنا، ونميز بين الشعر وبين اللاشعر من خلالهم، فأين نحن إذن؟، من هنا يكمن جوهر فهمي لكل شيء وليس للشعر فقط، أفهم وأتذوق وأحب وأميز وأستمتع بوعيي وحواسي أنا لا بوعي وحواس الآخرين.من خلال ما أسلفت أستطيع القول إن ما يكتبه غيري وأنت منهم وأكتبه، تنبع موسيقاه من ذات النص، لا من نمذجة الآخرين.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد سبتمبر 29, 2024 2:28 am