هيروشيما كانت نقطة التحول الكبرى
43 – فهمت من حوارات سابقة أجريت معك أن طموحك الأول في مستهل رحلة الاغتراب أن تكون أوربا لأنها محطات للأصدقاء والمعارف وأيضًا اتقاء من الوحدة والعزلة لتوافر كثرة من المهتمين بالشأن الأدبي والفني ولما فيها من العراقيين والناطقين بالعربية..، كان هذا في البدء وقبل أن تدور عجلة الاغتراب اختيارًا وعنوة بين القارات والأوطان، لكن المفارقة أتت من أنك اخترت (ودون أدنى ضغط) عدة مدن آسيوية (في لاوس واليابان) هما أكثر المدن جهرًا بالعزلة والوحدة والانغلاق بالنسبة لك، فلا أصحاب ولا معارف ولا لغة عربية ولا ناطقين بالعربية ولا من يهتم بالشأن الأدبي العربي، وبرغم هذا أراك تعلن عن حبورك وتفضيلك هذه المدن عن كثير من مدن العالم التي سكنتها أو مررت بها مع أنها في قلب العالم.. ألا أجد توضيحًا منك لهذه المفارقة؟
* كنتُ غضًّا لم تحنكني التجارب بعد، فسرت مع الإشاعة ورحت أُمنّي النفس بالوصول إلى أوربا، ولكني حين وصلت الأردن لم أبادر للذهاب إلى مبنى المفوضية العامة لشؤون اللاجئين، وبقيت صريع العمل الذي أنقذني من طائلة الحاجة لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، حتى ألحّ عليّ الصديق الشاعر وسام هاشم بالتقديم، وتحت ضغط الحاحه ذهبنا معًا، وقبل وصولنا بمئتي متر أشار للبناية فذهبت وقَدمتُ وكانت المفاجأة أن المدة ما بين التقديم والحصول على الموافقة لم تستغرق سوى 26 يوماً، وقدموا ملفي للوفد الهولندي الذي رفضني مشكورًا دون أن يقابلني، ومن ثم قدموا ملفي للوفد النيوزلندي الذي قبلني. وقد أصابني طول الطريق وساعات الطيران التي زادت على العشرين ساعة بالحزن حقًّا، وعانيت كثيرًا في نيوزلندا، فليس من السهل التأقلم مع مجتمع يختلف كليًّا عن المجتمع العراقي، ولكن مع مرور الوقت وكثرة النشاطات والمشاركات بدأ الشعور بالغربة والنفي يأخذ طابعًا آخر مع ازدياد تأقلمي وانهماكي بالحياة الثقافية النيوزلندية التي ساعدتني كثيرًا في تلمس مفاتيح اللغة الإنكليزية، حيث لا وجود لنشاطات تذكر للجالية العراقية والعربية في العاصمة. لكن هيروشيما كانت نقطة تحول كبرى، فقد تغيرت نظرتي تمامًا وإن كانت بوادرها اتّضحت في سنواتي الأخيرة في نيوزلندا، إذ شعرت بنضج كبير في رؤيتي للمنافي النائية وأهميتها في إثراء التجربة، وكم كنتُ غضًّا بحيث جرفتني ثقافة الإشاعة معها، رغم أن لا وجود لشخص لا تجرفه ثقافة الإشاعة في لحظات أو مواقف أو حالات معينة، ورحتُ أعي أن الشعر ليس حزنًا وحنينًا وشعورًا بالغربة والاغتراب وماضيًا مفقودًا أو تعيسًا وذكريات تقودنا مما يجعلنا نفتقر لأن نقود مستقبلنا إلى عوالم مختلفة، بل إنني راجعت في ذاكرتي سلوكيات الكثير من الشعراء في لحظات تأمل وتفكر ومراجعة فاكتشفت أن غالبيتهم افتعلوا خرابهم وأنهم لا يختلفون عن ثقافة الأقليات التي تصر على المظلومية ولكنها في ذات الوقت بدل التقدم للمستقبل تُنفذ بحرفية عالية سلوكيات وأخلاقيات جلاديهما، فكم من شاعر يشعر بالغبن والاضطهاد وبالمظلومية والاختلاف وما إلى ذلك، ولكنه يمارس دورًا قبيحًا في شتى المجالات فهو يُسقّط الآخرين ويلغيهم وينوح على ما يتعرض له وفي ذات الوقت لا شاعر سواه، وكل ناجح في نظره هو انتهازي حتى لو كان الناجح يسكن في أبعد نقطة في الأرض لا فضائيات ولا إمكانيات، بينما هو يتجاهل ماضيه أو حاضره الانتهازي مثلما لا يعي أنه إنما يجترّ نفسه ويكررها حتى لا تجد له جديدًا سوى انتفاخ أناه.
كل ما نحققه لا قيمة له إن لم يصمد أمام التاريخ وأحكامه وذائقات الأجيال القادمة، وإن الحكم الحقيقي على شاعر ما هو بعد وفاته بعدة أجيال وربما بعدة قرون، والشعر عالم واسع بل هو أوسع مما نتخيل ولكن تحقيق موطئ قدم مميز ومدهش في هذا العالم هو من أصعب الأمور التي تواجه الشاعر، وتحتاج إلى تواصل وانهماك وإخلاص للعملية الشعرية. هكذا رحت أجد في المدن والثقافات الجديدة موضوعات تفرض نفسها عليّ، وتَحوَّلَ تصالحي مع الأمكنة الجديدة إلى تصالح إيجابيّ انعكس على كتابتي الشعرية.
44 – أحقا ذكرت مرة أنك لم تقرأ لشاعر دون سنّ الثلاثين وأشعرتك نصوصه بنضج تجربته، الغالبية العظمى من الشعراء تنضج تجاربهم بعد سنّ الثلاثين، وفي حالات قليلة بعد سن الخامسة والعشرين.. لو كان هذا فعلا ما تعتقد به، فماذا تقول عن الشاعر رامبو الذي هز الشعر العالمي وطلقه وهو دون سن التاسعة عشرة؟ وكيف ترى تجربة الشاعر الشابي الذي يعدّ من المواهب الشعرية العربية الكبرى وانطفأت حياته وهو لم يتجاوز العشرينات؟
* هناك صنفان من الشعراء الصنف الأول تنضج تجربته بسرعة فائقة ويفرغ ما في جعبته خلال فترة شبابه الأول ويصمت بعدها أو يجتر نفسه، وهذا الصنف هو أقل من واحد بالألف، وعليه نستطيع أن نعتبره شذوذًا عن القاعدة، ورامبو فعل خيرًا حين ترك الكتابة وإلاّ لما وجد ذلك الصدى الكبير لو أنه استمر، والموت كان رحيمًا بأبي القاسم الشابي إذ مع الموت المبكر ضمن الخلود، أما الصنف الثاني وهو الغالبية العظمى فتنضج تجربته قبيل وبعد سن الثلاثين، وهو على عدة أنواع، نوع تنضج ويعطي كل ما عنده في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات وبعدها هبوط وتكرار، ونوع يعطي خير ما لديه في الثلاثينات والأربعينات، بل هناك عدد كبير جدًّا من الشعراء من أعطوا خير ما لديهم ما بين بداية الثلاثينات وبداية الأربعينات، ونوع آخر تجربته تتطور بشكل واضح وسريع ولكنها لا تنطفيء، ونوع آخر تجربته تتطور ببطء شديد بحيث إن ما كتبه في العشرينات والثلاثينات يكاد يكون بعيدا عن النضج قياسًا الى نصوصه في وقت لاحق.
45 – عنوان قصيدتك (البراق يصل الى هيروشيما) يوحي باستدعاء وزج رمز تراثي جليل ليتماهى في جحيم كوني معاصر، وأرى أن البراق التاريخي يتلبس هنا دور المخلص أو المنقذ من مأساة عصرية صنعها ونفذها (الخلف) ثم تنتخي أنت بـ (السلف) لنصرة زمن مسفوح ومهان بالنووي.. ما رأيك أنت في هذا التأويل؟
* لابدّ من ذكر مقتضب لخلفية هذه القصيدة. هناك مَن أشار عليّ بضرورة الاحتفال ببلوغي سنّ الأربعين، وصار الاتفاق أن أعدّ مائدة عراقية أو عربية للعشاء، فذهبت لمتجر في الجهة الأخرى من هيروشيما، وهو الوحيد حسب علمي يبيع مواد تموينية متوسطية (إيطالية، يونانية، تركية) فاجتزت ساحة السلام كالعادة وقبل عبور الطريق لكي أكون بجهة قلعة هيروشيما، قررت أن أغير طريقي، ففوجئتُ بتمثال صغير لحصان مُجنح، مقابل قلعة هيروشيما، ومن لحظتها طرقت القصيدة بابي، لم ألتفت لها، تسوقت وعدت للبيت أعددت للأصدقاء عشاء فيه روح عراقية، وكانوا يابانيين وألمانًا ونيوزلنديين وأستراليين، وقضينا وقتًا ممتعًا حقًّا، ثم ذهبت للسرير ولكن أنّى لي أن أنام والقصيدة تنتظر على بابي، وتطرق الباب والنوافذ؟ فلم أتمكن من النوم لأن القصيدة تمكنت مني تماماً، فقمت ودونتها بذات السهولة التي دونت فيها قصيدة الساموراي وأقل بقليل من تدويني لقصيدة سليل.
تأويلك يسرني بلا أدنى شك، فالشاعر الناجح هو الذي يهضم ثقافاته ويضعها على الورق من خلال اللاوعي، لأن هذا فيما يعنيه هو العفوية والتلقائية في نصوصه، وعلى ذكر التلقائية، فقد تمرّ بضعة عشر شهرًا دون أن أكتب فيها نصاً. نعم أقلق أحيانًا ولكني لا أجلس وأقرر أن أكتب، لإيماني أن النص حين يكتب نفسه يكون تلقائيًّا قريبًا للروح وخاليًا من الصنعة.
في تأويلك لنص "البراق يصل إلى هيروشيما" ربما يخالفك البعض وهذا حتمًا من صالح النص، ولكن ما أود أن أضيفه هو أنني لإيماني بتزاوج الثقافات، والتي أراها خير رد على دعاة صراع الحضارات ودعاة الأعراق النقية والأعراق الظالمة والمظلومة وإلى آخر قائمة الادعاءات التي تشيع ثقافة الكراهية والحقد والبغضاء والاستخفاف والتعالي على الآخرين، تجد في نصوصي استدعاءات لثقافتي مع ثقافات أخرى كما في نصوص "هنا حماقات هناك... هناك تبختر هنا" "أنا ثانية ً" "شيءٌ ما عنك... شيءٌ ما عني" "تقريظ باشو" "تلاميذ هُندوري" "لا قاربٌ يجعلُ الغرقَ يتلاشى" مثالاً لا حصراً، أما مقدار النجاح الذي حققته فيحدده القُرّاء عمومًا والنقاد خصوصاً.
هيروشيما كانت نقطة تحول كبرى
46 – اتصالاً بالسؤال السابق أود أن أعرف منك رؤيتك في قضية خلافية اسمها العلاقة بين التراث والمعاصرة. فهل أنت مع من ينكرون التراث بحجة أن المعاصرة جبّت ما قبلها وأيضًا لأن الحداثة أصبحت همك الأول؟ أم لا زلت تتمسك بثوابت الموروث لأنها تعني الهوية والأصالة؟ أم تراك تصطف مع الفريق الذي يمسك الجبهتين كلا بطرف تحقيقا لموازنة يراها البعض أشبه بالتوفيقية ولا تمثل موقفا محددا؟
* مشكلتي إن صح أن أدعوها مشكلة هي أنني أحب جميع الألوان، ليس في قاموسي الأسود والأبيض إلا كلونين عاديين، وكلامك يذكرني بمطلع شبابي حين كنت أحب الأبيض والأسود والرمادي ولكني مع مرور الأيام اكتشفت حبي للأصفر والأحمر والبنفسجي والبرتقالي وسواها من الألوان، وما عنيته هنا هو لماذا الإصرار على أن نكون مع أو ضد، ما المانع أن نعتز ونحترم تراثنا ولكن في ذات الوقت نؤمن أن الحياة في تطور دائم ولا عيب أن نستفيد من منجزات الآخرين لتطوير أدواتنا الشعرية، فحب التراث لا يعني التخلي عن الحداثة ومعاداتها، والإيمان بالحداثة لا يعني أن نلغي التراث بأجمعه ولا نرى فيه ومضة تستحق القراءة والتأمل، كم من مقطوعة أو قصيدة قديمة تتوهج فيها الحداثة ويشع منها الإبداع والهم الإنساني وترفرف فوق حروفها شعرية عالية بل خالصة. حين قرأت ديوان الأساطير كنت أشعر بالكثير من المقاطع وكأنها مكتوبة في يومنا هذا، وهذا ما ينطبق على الكثير من التراث، وإن كان المنجز الصوفي هو الأكثر وضوحاً. لست من دعاة مع أو ضد بل من دعاة الاعتزاز بكل جميل وإبداعي إن كان كتب اليوم أو قبل خمسين عامًا أو ألف وخمسمائة عام.
لا يمكن لبناية أن تشمخ عاليًا لتطلّ على السحاب إن لم يكن أساسها عميقاً، ومن يحكم على التراث بدون قراءته قراءة تأملية نقدية صارمة لا يختلف عَمَّنْ يبث روح التفرقة والتكفير والكراهية بين أبناء الشعب الواحد وبين الشعوب لمجرد اختلاف في الدين أو المذهب أو اللغة أو الانتماء الإثني، وهم جميعًا لم يطلعوا بشكل جيد على هذه الديانات والمذاهب والإثنيات والقوميات من خلال الكتب والبحوث والدراسات الرصينة بل من خلال ثقافة الإشاعة سيئة الصيت. نبذ التراث كمن ينبذ جذوره ووالديه، ولكن تقليد التراث تحت مسمى المحافظة عليه كمن يكون تابعًا لما يقرره والده إلى حد أن تتماهى شخصيته بشخصية والده أو والدته وتنسحق فيكون استنساخًا لا أكثر.
قبل ربع قرن من الآن ألح عليّ صديق ما على أن أقرأ الشعر المترجم، فكان جوابي الذي مازلت أعتز به وأراه صائباً، هو أنني أملك خططًا للقراءة وخطتي الحالية إنهاء قراءة الشعر العربي قديمه وحديثه ثم الذهاب إلى قراءة الشعر المترجم، وهذا منحني الفرصة لقراءة الكثير من كتب التراث، والخطط القرائية هي ديدني منذ البداية، ففي كل فترة أتوجه بكل بثقلي للاطلاع على حقل معرفي ما والتزود من منجزه. اتجاهي للحداثة وإن كان مبكرًا جدًّا ولكني لم أفهم يومًا أن الحداثة نكران وتنكر للتراث جملة وتفصيلاً. لا أمسك العصا من الوسط بكل تأكيد، ولكني ألتقط الجمال أينما كان متأملاً وسابحًا في ملكوته.
47 – على ذكر الحداثة أرى أن معناها الحقيقي قد دخل في التيه الجدلي وتداخل التفاسير بالاجتهادات حتى أصبحنا صدقا أمام حداثات بعدد قائليها. فكيف ترى وتتعامل مع مفهوم إشكالي كالحداثة؟ وهل توافق الشاعر والباحث الدكتور خزعل ألماجدي حين فرّق بين (التحديث) و(الحداثة) فربط الأول بعملية التجديد المستمر وهي سنّة طبيعية لكل مفاصل الحياة بينما أرجع الثانية (أي الحداثة) لمؤسسة الأيديولوجيا التدميرية؟
* أظن أن جميع المصطلحات فضفاضة وتتحمل الكثير من التفاسير ومصطلح الحداثة لا يشذ عن هذا، لأن الناس تترجم المصطلح حسب وعيها وفهمها له وأحيانًا حسب مصلحتها، وإلا فما الذي يجعل البعض يصر على أنه حداثوي وهو يكتب الشعر العمودى والتفعيلي والقصيدة الحرة بل وأحيانًا الشعر الشعبي (العامي) بينما الحداثة يجب أن تكون موقفًا واعيًا من الكتابة والشعر، هؤلاء يجيدون مسك العصا من الوسط، لكي يكونوا ضيوفًا على جميع الملتقيات والمنابر، وهناك من حمل عقليته البدوية وأسقطها على الحداثة، فصار لديه العرف البدوي القائل إن مجالسة الكبار والاختلاط بهم ومصاحبتهم تعني أنك كبير، واتخذ ذلك دليلاً على أنه شاعر كبير لمجرد مجالسته لأسماء لها وقعها في الشعر العربي وراح يستعمل دكتاتوريته لفرض هذا الوهم علينا، وهناك مَن يحسب أن مرور أكثر من ربع قرن على نشره لأول نصّ له، يكفي لينظر الجميع له على أنه شاعر كبير، وكأننا في مسلكية عسكرية تمنح رتبة أعلى لكل مَن تمضي عليه فترة زمنية ما، وأن الأقدم في الثكنة هو الآمر والناهي، ولسنا في حديقة إبداع ليس فيها أقدم وقديم لأن كل قديم يشيخ، بينما الإبداع شباب دائم، وقد تبهرك نصوص شاعر دون الأربعين أكثر بكثير من آخر تجاوز الستين، وكم أعجبت بنصوص لشعراء ولدوا في نهاية الستينات وبداية السبعينات وكتبت لهم عن إعجابي بل أخبرت أصدقاء لي للانتباه لنصوصهم ومتابعتهم، بينما مجاميع شعرية كاملة لشعراء ولدوا بداية الستينات وفي عقدي الخمسينات والأربعينات لم أجد فيها إلا انحدارًا لشاعرية هؤلاء الشعراء.
الحداثة تعني لي منظومة معرفية متكاملة أسها التاريخ وجذوعها الفكر والفلسفة وأغصانها وزهورها الأدب والفنون عامة. هي بحث سرمديّ عن الجمال والحياة والبهاء والحقيقة، ربما أنطلق من منطلق روحي أو صوفيّ ولكني في ذات الوقت أفهم أن الحداثة مصطلح متجدد ومتعدد في الآن ذاته.
الحداثة انطلاق للأمام.. للمستقبل على قاعدة هضم المنجز السابق للإنسانية، أي هضم تراث الإنسانية.
أما رأي الشاعر والباحث الدكتور خزعل الماجدي فهو يدعو للتأمل حقًّا، فالرجل كباحث ومنظر له باعٌ طويل، وما قاله يستحق منا أن نقف أمامه وندرسه، ولكني للأسف لم أطلع على رأيه كاملاً لكي أستطيع الحكم وأدلو بدلوي في الأمر، وعدم اطلاعي بكل تأكيد تقصير مني ولا علاقة للعزلة النائية التي أعيشها منذ أعوام طويلة بالأمر، فهذه ليست عذرًا للتنصل من المتابعة.
"أنا ثانيةً" قابل للتأويل
48 - يرى الشاعر رضا الخفاجي في مقالته عن (أنا ثانيةً) أن قصائدك جميعا تتوفر على درجة كبيرة من الوضوح الذي لا يقبل التأويل.. هل يقبل هذا التوصيف في عصر التأويل والاستقبال والقراءات المفتوحة؟ وكيف يتم التعامل مع نصوص لا تقبل التأويل من فرط وضوحها؟ ثم هل تجد رؤية الخفاجي مدحًا لقصائدك أم قدحًا فيها؟
* للشاعر رضا الخفاجي رأيه وأحترمه عليه، ولكنه ليس ملزمًا للآخرين، وقد تنوعت القراءات حتى تجاوزت الـ 25 قراءة للمجموعة، وهذا يدلل على أن "أنا ثانيةً" قابل للتأويل بدليل تعدد القراءات والتي زينتها مقالة الناقد الكبير حاتم الصكر، ورأي الشاعر الكبير سركون بولص الذي توّجَ الغلاف الأخير، والدراسات القيمة التي كتبها كل من الناقد ناجح المعموري والشاعر باقر صاحب والشاعر والناقد بلاسم الضاحي والشاعر والناقد الفلسطيني نصر جميل شعث والشاعر المغربي صلاح الدين شكي والناقد والشاعر عبد الكريم كاظم والشاعر والكاتب الفلسطيني راسم المدهون والشاعر علي الخباز والناقد زهير الجبوري والكاتب صباح الأنباري وآخرين.
أما بخصوص أن ما قاله رضا الخفاجي مدحًا أو قدحًا فلا بد من ذكر حقيقة توضح رأي هذا الصديق العزيز وهو أن رضا الخفاجي له ما لهُ عليّ، فالرجل منذ البداية وحتى هذه اللحظة يعتز ويحتفي بي ويدعمني معنويًّا كل الدعم بل كلي ثقة حتى آخر نفس في حياته سيبقى هكذا ولا يضاهيه في هذا أحد. وأنا أعني حصرًا أبناء مدينتي سوى الشاعر علي الخباز والشاعر سلام البناي والدكتور ماجد الوجداني وشقيقه حميد النجار والشاعر والسينمائي حميد حداد وزهير الشافعي وعقيل المنقوش وعلي حسين عبيد وفاضل عزيز فرمان وجاسم عاصي وهادي الربيعي، ولا يمكن إغفال الشاعر والمسرحي الكبير محمد علي الخفاجي وعراب، شعراء كربلاء محمد زمان، مع الاعتذار سلفًا لكل من يحمل لي الحب والاعتزاز ونسيت ذكر اسمه وعذري أن محبته في القلب ثابتة كما ثبتت في الراحتين الأصابع.
49 - برغم أن هناك معضلة حقيقية يجدها أي دارس للحضارات وتشابكاتها التاريخية والمعاصرة حتى وصل الأمر إلى حد أن يطلق البعض تسميات مهولة وضاجة بالتضاد مثل (صراع الحضارات) ونهاية التاريخ وسوى ذلك إلا أنني أجدك تعيش حياة أليفة ومتناغمة مع دخولك لحضارات غربية وشرقية أعلن كثير من المنتمين إليها عن تقاطعات خطيرة وصلت إلى حروب أممية وانسحاقات للإنسان والبلدان، ثم تصرح كتابيًّا في ديوانك الثاني (خريف المآذن) عن تلك الألفة حين أهديت الديوان إلى زوجتك بهذه الكلمات: إلى جينيت هل نحن تناغم حضارتين؟.. هل تقول لي من أين انبعث لديك هذا المشترك الإنساني (بين الحضارتين) وكيف استوى التناغم بديلاً للتطاحنات والنكبات الفاحشة، إن مرّت في حقب التاريخ أم حلت في شواهد معاصرة ناطقة بالجور والامتهان والاحتلال؟ ثم هل تكفي علاقة أسرية حادثة وقصيرة زمنيًّا للوصول إلى شعور التناغم الداخلي مع وجود كل هذا الخراب في التاريخ والمعاصرة؟
* إن أكثر من يجب أن يكون رسول محبة وسلام هو الشاعر، والحب هو الطريقة المثلى للوقوف بوجه هذا الخراب الماثل في الوردة والعصافير. الشاعر لا يملك طموحات السياسي والعسكري ورجل الدين الشرقي، وعليه فهو غير مجدٍ بالنسبة لهم إلا حين يُروض تحت مسميات أيديولوجية رعناء، وهذه خيانة حقيقية للشعر، بل بعض هؤلاء الخونة راحوا يدعون للعنف والقوة والحروب وتمجيد الطغاة الذين تحولوا إلى أبطال الأمة، حتى أن فئة ما راحت تُزايد على رجال الدين المتزمتين بفتاواها حين أباحت دم الجندي والشرطي والموظف لأنه يعمل ضمن حكومة وضعها الاحتلال حسب قولهم، لست معنيًّا بالحكومة وسواها ولكني معنيّ بالدم المراق وخصوصًا الذي وقع نتيجة فتوى شاعر وهذه هي الطامة الكبرى.
صراع الحضارات أكذوبة أيديولوجية أخرى من أجل إشباع غرائز الوحوش البشرية المتعطشة للدماء. الحياة الأليفة والمتناغمة التي أعيشها هي نتيجة إيمان حقيقي بكونية الشاعر، وما ذكرته عن الوطن الكتابيّ- الشعريّ. أنا ابنٌ بارٌ لكل الثقافات أغرف منها وأتعلم من ينابيعها، أحاول قدر الإمكان أن أبتعد عن مؤثرات ثقافة الإشاعة، لديّ قلقي كإنسان وشاعر وقارئ، قلق شعري وقلق إنساني، يرعبني لا مبالاة غالبية البشر بالبيئة، سباق التسلح، انتشار الأمية، انتشار الأوبئة، انتشار التطرف الديني والمذهبي والقومي، الفقر الذي ينخر في أحلام الملايين من البشر، وسواها من المشكلات التي تسلب السعادة وتبعثر التناغم الإنساني بين الناس.
كل دعوة بدأت من شخص واحد ومن ثم انتشرت، وسبب فشل الديمقراطيات والتحديث في بلداننا لأنها فوقية وليست تحتية، مما يعني عدم وجود أساس لها لكي تصبح طريقة حياة، إذ لا ديمقراطية بدون حرية الفرد، وهذا غير حاصل في مجتمعاتنا، أضرب هذا مثالاً، لكي أقول إن الأسرة أساس المجتمع، وحين تكون هذه الأسرة مثالاً لقيم الجمال والمحبة والتعدد الثقافي والتنوع الحضاري، حتمًا سيكون النجاح سبيلها، وهذا النجاح والفهم للعلاقة الإنسانية التي أدعو لها وأعني تزاوج الحضارات وتناغمها، هو ما انعكس إيجابيًّا على تفكيري وحياتي للوصول إلى شعور التناغم الداخلي، أي أن الاستعداد الروحي والثقافي كان موجودًا بالأساس، وعليه فلم يستغرق مني سنوات طويلة لكي أصل إلى ما وصلت إليه.
لماذا حدث الذي حدث؟
50 – ما ذكرته الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي عن المؤثرات الرافدينية في شعرك وكيف أنها زادتك كنزًا معرفيًّا رسخ في الذاكرة.. أجد في هذا التحليل مدخلاً ممتازًا لبحث وتجذير صور ودلالات تلك المؤثرات في نصوصك، ولكن الدليمي مسته سراعًا وتعميمًا دون استقراء أو إظهار خلاصات وتنصيصات، لكن هناك إشارتين وردتا في شهادة الدليمي هما أحوج إلى إضاءة خصبة منك: الأولى بقولها إن اطلاعك على ثقافات العالم قد أعانك على الحفر العميق في ثقافة بلدك؟ والثانية ترى أنك تخصّصت في أناشيد الرثاء التي تتردد على إيقاعات متباينة حتى أصبحت إحدى علامات نسيجك الشعري، ولكنها ترى أن هذا الرثاء ليس محليًّا بل يتلبس مكابدات إنسانية وكأنه يقدم صورة لرثاء النفس في وحشة الكون؟
* لم أسافر سائحاً، بل عاشقًا للمعرفة، البحث في كتاب الطبيعة والتنقيب في كتب المجتمعات والحضارات والثقافات هو ديدني، تعلمت الكثير بلا أدنى شك، وقد ساهمت الأسئلة التي تؤرقني وهي "لماذا حدث الذي حدث؟ ولماذا لا نكف عن تكرار سلبيات الجلاد بل تقليده والتفاخر بخطابه في الوقت الذي نتشكى من المظلومية؟ لماذا لا نملك مشروعًا وطنيًّا واضحاً، وليس لدينا حزب أو طائفة من الناس لها هذا المشروع وتملك حضورًا فاعلاً بين الشعب؟.... وسواها من الأسئلة" أقول ساهمت في نبشي المتواصل عن الحل، أو على الأقل معرفة الآليات التي يفكر بها مجتمعي وخصوصًا العقل السياسي العراقي، هذا العقل المناقض تمامًا لتاريخ البلاد ومنجزها الثقافي المدهش. العراقي يدهشك حقًّا بذكائه وفطنته بل وعبقريته، ولكن حين يدخل السياسة مفكرًا ومتحدثًا وممارساً، فهو بدوي أصيل، الحياة لديه تتكون من لونين لا أكثر، ويتهم عشاق الألوان الأخرى بالانتهازية والتذبذب والوصولية... إلى آخره، من قائمة الاتهامات التي يجيدها العقل البدوي، بل حتى حزبه الأممي قد برع بالتسقيط والعنف بذات الطريقة التي برعت بها أحزابه السياسية الأخرى قومية (وهي في الحقيقة جميعها عنصرية إلغائية إقصائية) ومذهبية.
النهل من ينابيع الثقافات الأخرى جعلني أتفهم هذه الثقافات، ولم أعد مثل أي لاجئ أو مهاجر أو سائح يقارن المجتمع الجديد بمجتمعه بما تحمله هذه المقارنة من روح عنصرية استعلائية حين تتحول بوعيٍ أو بدون وعيٍ إلى المفاضلة واعتبار المجتمع الأم أو الثقافة الأم هي النموذج التي يجب أن يقاس عليها. الحكم على المجتمع أي مجتمع يجب أن يتم من داخل منظومته الثقافية، والمقارنة خالية من المفاضلة وإبداء وجهات النظر النابعة من الثقافة الأم. هذا الاطلاع مَهّد السبيل لي بالحفر عميقًا بثقافة بلدي والخروج بنتائج تختلف عن غالبية الطروحات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، نتائج ترفض رهن البلد كبقرة حلوب لمشروع إمبراطوري تحت أي مسمى، وأعتقد أن أجوبتي على أسئلتك في طيات هذا الحوار كافية لتبيان حَفْرِي العميق في ثقافة العراق وخصوصية هذا الحفر.
أما بخصوص الإشارة الثانية، فليس لي إلا القول: إنه رأي لمبدعة كبيرة أكنّ لها احترامًا خاصًّا، مبدعة كتبت عني مرتين قبل أن نلتقي، ولرأيها أهميته نظرًا لمكانتها العالية في المشهد الأدبي المكتوب بالعربية، وأنا أتابعها بمحبة عالية فهي ليست روائية متميزة فقط، ولا كاتبة نص سردي عالي الجودة فقط، وإنما هي كاتبة مقال من الطراز الرفيع أيضاً، وأقرأ مقالاتها بمتعة هائلة، ولكني لا أحبذ أن أسجنَ في نسق ما أو أرهن نفسي لرأي ما، رغم أن ما قالته كاتبتنا الكبيرة كان بخصوص بداياتي المبكرة ولم يكن رأيًا معممًا على كامل التجربة، وإن كتابتها كانت بالتحديد عن موضوعة أدب الرثاء في موروثنا الرافديني. أنا شاعر وكفى إن كنت أجيد "أناشيد الرثاء"، أو "رثائي بالدرجة الأولى" كما ذهب سركون بولص إلى ذلك في كلمته التي زينت غلاف مجموعتي الثانية "أنا ثانيةً"، فهذا لا يُلغي سعيي الحثيث لتطوير أدواتي الشعرية والحفر في مناطق شعرية بكر.
51- إن موقفك المنشور حول المعاصرة والتراث أحسبه موقفًا عائمًا فيه الكثير من الالتباس، كيف أعي مثلا أنك تحب جميع الألوان ثم تتساءل: لماذا الإصرار أن نكون مع أو ضد.. وما المانع أن نعتز ونحترم تراثنا؟ ومن الواضح هنا أنك تستبعد الموقف النقدي الباحث والفاحص لهذه الكتل المنهمرة علينا باسم التراث بما تختزنه من موبقات وهزائم وافتئات ضد الحقيقة والفكر والإنسان، وبعض المفكرين المعاصرين ومنهم الدكتور زكي نجيب محمود طالبوا صراحة بإخضاع ما هو منسوب إلى التراث إلى عمليات غربلة ونقد واستقراء لإبعاد القبيح والدخيل والمستهجن والإبقاء على الصالح والعقلاني في كل المجالات. وهذا يتفق مع ما فعله الأوربيون في عصر النهضة حين عمدوا أولاً إلى نقد تراثهم وأفادوا من بعضه الإيجابي في تخليق نهضتهم الحديثة ولم يلتفتوا إلى الأصوات التي أرادت الحفاظ على التراث بحجج شتى، بل إن سبب النهضة الأوربية يعود إلى تفضيل الموقف النقدي من التراث المدون وغير المدون.. هنا ألا ترى وجوب الالتزام بمعادلة الـ (مع وضد) حتى نزيح التداخل التاريخي ونفرز الغث عن الصالح ونبعد ما هو ضد الحياة ونلتزم بما هو مطور وحافظ لها؟
* أنا علمانيّ بكل ما في الكلمة من معنى، ومعناها بالنسبة لي هو النظر إلى الأمور نظرة علمية منهجية بحثية لا مكان للعواطف فيها حين تتقاطع العواطف مع الحقيقة والمنهج العلمي، ورغم حبي واعتزازي بالعراق حدّ أنني كتبت مقالي "العراق.. الجغرافية المُغَيَّبَة" وهو ربما أكثر مقال كُتب عن العراق يحوي أدلة تاريخية جميعها قبل معاهدة سايكس– بيكو، بل نسبة من هذه الأدلة قبل المعاهدة بألف عام وغالبيتها قبل ولادة السيدين سايكس وبيكو بعدة قرون، ولكني حين قرأت لباحث عراقي معروف، مقالاً له يدافع عن العراق ويردّ على دعاة "العراق وطن اصطنعه الإنكليز" و"العراق عبارة عن تجميع عشوائي لقوميات وأديان مختلفة" وسواها من المقولات التي يرددها البعض من دعاة المظلومية وهم في جوهرهم امتداد "لجلاديهم"، وكان المقال رائعًا في مناقشته وتفنيده لهذه الدعاوي الباطلة والتي لا تستند إلى أي مصدر تاريخي وإنما تستند على ردة فعل مبالغ بعاطفتها ونزقها وأوهامها، ولكن علمانيتي أبت السكوت على فقرة تخص اليابان حيث استشهد الباحث القدير باليابان كنموذج للبلد الأحادي اللغة والعرق والدين بقوله: "خذ اليابان مثالاً: إنها تنطوي على وحدة اللسان والدين (الشينتو) والعرق، وبالتالي تجمع كل العناصر المؤلفة للأمة". فاستغربت من باحث بقامته أن يطلق كلامًا كهذا، إذ إنني عشت في اليابان وأعلم جيدًا أن هذا القول فيه مجانية، حيث إن اليابان بلد في جوهره متعدد الديانات والأقوام، فنسبة الشنتوية فيه ليست أكبر من نسبة الإسلام في العراق، وأما أنه بلد متعدد الأعراق فسحنات سكانه واختلاف قسماتهم وأطوالهم و"تضاريس" أجسادهم تفضح هذا القول، كما أن نسبة جد كبيرة من السكان تؤمن بالبوذية والشنتوية على حد سواء، وإن كانت الأخيرة دين الإمبراطور الرسمي، وهذا يعني دين الدولة الرسمي، فأتباع البوذية بالملايين، وكذلك أتباع المسيحية الذين عددهم أكثر من أكراد العراق، وهناك مقولة سمعتها تتردد على الألسنة وهي "يولد الياباني شنتويًّا ويتزوج مسيحيًّا وشنتويًّا ويموت بوذيًّا". نعم علمانيتي رفضت الانصياع إلى عاطفتي الوطنية، لأن الحقيقة أكبر من كل شيء. والآن أعود لذكر التراث لأقول وبكل وضوح أن لا شيء خارج نطاق البحث وكل شيء يجب أن يخضع للمنهجية العلمية الصارمة، لأن الأخيرة سبيلنا للخروج من هيمنة أسطرة التراث ورجاله، ولا يتم هذا إلاّ بفحص التراث جيدًا (أعني التراث بمعناه الشامل وليس التراث الأدبي فقط) بدون عواطف جياشة بنتها على مدى قرون ثقافة الإشاعة، حتى أصبح القول إن المتنبي لم يكن شاغل الناس ومسهرهم لدرجة الاختصام بينما هو نائم ملء جفونه عن شواردها وإنما مات وهو شاعر عادي الشهرة لدرجة لم توصله للبلاط البغدادي، والذي أخاله قد حاول طرق الباب خائباً، من باب الكفر، ويزداد الكفر كفرًا حين تدخل المتنبي مع أبي نؤاس والمعري إلى مفهوم الشعر والقصيدة فلا يتمكن من الفوز عليهما، هذا مع شاعر فكيف الحديث لو جرى بخصوص رجال دين عاديين انتصروا للإشاعة والعقل البدوي الذي سيطر على مقاليد ثقافتنا منذ القرن الخامس الهجري لتزداد الهوة بعد قرنين وأكثر حين توغل العقل المكتوب بالعربية في سباته (أفضِّل مصطلح العقل المكتوب بالعربية على العقل العربي لأن الأولى أكثر دقة واحترامًا للعدد الهائل ممن خطوا كتبهم بالعربية وهم من غير العرب أو من أصول غير عربية). دفاعي عن التراث لا يمنعني من الوقوف معارضًا وبشدة أسطورة صحراوية اللغة العربية التي هي ابنة بارة للأكدية، وتغيير مسار الجزيرة العربية والتي تقع تاريخيًّا وحقيقة بين نهري دجلة والفرات من بغداد وصعودًا في الشمال إلى العمق التركي قرب منابع النهرين، والإصرار على أن "شبه الجزيرة العربية" صحراء قاحلة وكأن مصطلح شبه الجزيرة يعني أن الصحراء تحيط من جوانبها الثلاثة وليس الماء، في استغفال حقيقي للوعي، علمًا أن صحراء مصر - قياسًا بمساحة مصر - ربما تكون أكبر من صحراء "شبه الجزيرة العربية" وعدم الأخذ بل رفض جميع الأساطير ابتداء من الفتوحات التي لا أثر لها حتى هذه اللحظة وليس انتهاء بخلق مجازر هائلة في التاريخ لا شواهد ولا أدلة تدلّ عليها أو الشاهد الوحيد هو ممن نجا من تلك المجزرة الأسطورة كالمجزرة الأسطورية لبني قريظة والتي حدثت في مخيال الراوي الوحيد لها وهو ليس صدفة عمياء أن يكون قرظيًّا، والكثير الكثير مما تحفل به كتب التراث ويحتاج فعلاً إلى إمكانيات هائلة لتشذيبه.
كلّ نصِّ عبارة عن نصوص مهضومة
52 – أنت ترى أن القراءة هي عملية إعادة إنتاج للنص المكتوب غير أن كثرة من الباحثين (ممن ينهجون موقف التناص) يرون أن الكتابة لا القراءة هي التي تعيد إنتاج وتمثل النصوص انطلاقا من نصوص سابقة أو محايثة بحيث تتحصل نتيجة تقول إنه ليس من نص جديد يمكن أن نصفه بالصفاء والبراءة والانقطاع عما سبقه، فهل ترى هذا الموقف؟ وهل ينجو نصك من الإفادة والنهل من نصوص وأفكار سابقة ومحايثة؟
* ومَن هذا الذي ينجو نصه من نصوص الآخرين، لا وجود لنصّ صافٍ، كلّ نصٍ عبارة عن نصوص مهضومة، أي إعادة إنتاج وتمثل للقراءات تتوقف على قدرة الشاعر وثقافته وموهبته وذكائه وحرصه على وضع بصمته وروحه ورؤيته في النص، ومن يقول غير هذا فهو أبعد ما يكون عن جادة الصواب، لكن من واجب كل شاعر أن يحلم ويصبو ويعمل على كتابة نص صافٍ وبريء، وهو حلم إن غادر الشاعر أخذ معه الإبداع، لأن هذا الحلم هو المحفز الحقيقي على الاستمرارية ليس ككمّ خالٍ من القيمة، بل كقيمة مضافة. بينما القراءة إعادة إنتاح للنص، وذلك من خلال فكّ شفراته والغور في أعماقه.
53 – أجدك تميل إلى توصيف الشاعر الكبير بشىء من الإطلاق، لكن ثمة من يعترض على هذا التوصيف أو وجوده بهذا الوصف والتأثير، مثلا كنت قد أجريت حوارًا مع الشاعر الراحل يوسف الصائغ في التسعينات أنكر خلاله وجود شاعر بهذا التوصيف حتى مع ذكر أسماء كالجواهري والسياب وتساءل بأي معنى هم كبار وإلى متى؟ ولكنه استدرك قائلا إن لم يكن ثمة شاعر كبير في المرحلة التي بحثها فإنه سيظهر حتمًا في الأجيال القادمة. هنا أسالك عن مفهومك للشاعر الكبير وبأي معنى يكون كبيرًا: أفي زمنه أم في الأزمنة اللاحقة؟ وكيف تستقبل رأي الصائغ في هذا المجال؟
* الشاعر الكبير نادر الوجود حقًّا، وأما المعدوم فهو الأكبر والأمير والأهم والأوحد وسواها من الإطلاقات المجانية حسب رأيي ومفهومي للحداثة، وهناك فعلاً شعراء كبار في زمنهم، أي بما حققوه وأضافوه، وهم عادة ندرة، فلو خرج خمسة شعراء كبار باللغة العربية على مدى نصف قرن فنحن محظوظون. علينا أن نفرق بين شاعر كبير وآخر مهمّ وثالث مميز ورابع جيد، والنوع الأخير يوجد منه بالعشرات اليوم ولكن أٌقل بكثير الشاعر المميز، والمهم أقرب للندرة، أما الكبير فأقل من هذا حتماً. عندما نقول هذا شاعر كبير، علينا أن نعي مقدار تأثيره على أقرانه ومن جاءوا بعده، وإضافته للمنجز الشعري، وهذا ينطبق على قلة قليلة لا يمكن ذكر أي اسم بدون أن يسبقهم السيّاب لأهمية منجزه وفرادته، وإن كانت التجارب الشعرية اللاحقة تجاوزته فلا يمكن أن نبخسه حقه وننكر أنه هو مَن عَبّدَ ومهّدَ لنا الطريق. الغالبية العظمى من الشعراء تقليديون، كتابتهم عبارة عن كتابة تزيينية لأنها تضيف موجودًا إلى موجود على حد تعبير أدونيس.
54 – كان الراحل جبرا إبراهيم جبرا يردد أن الشاعر هو قائد ذوق بين الجماهير، قاصدًا أنه أي الشاعر يفعّل الذوق وينقّيه بغية إشاعة السلوك الإيجابي والحضاري بين الجماهير، في حين أراك ترجح على وجوب أن يكون الشاعر رسول محبة وسلام.. هل يمكنك أن تدون شاعرًا واحدًا في العراق أو من العرب يدخل في توصيفك المشار إليه؟ وأليس صحيحًا أن التاريخ بوجهيه الماضي والمعاصر حفظ لنا - بتبجيل كبير - أسماء شعراء محاربين وخائضي معارك وانقلابات ودعاة دم وسيف وذائدي طغاة وحكام أحلوا سفك دماء شعوبهم؟
* هناك عدة أسماء حتمًا ولكن يحضرني الشاعر اللبناني أنسي الحاج، فهو قريب للشاعر الذي أراه. أما أن يكون التاريخ بوجهيه الماضي والمعاصر حفظ لنا بتبجيل كبير أسماء شعراء دعاة دم وحرب.... إلى آخره، فهذا لا يعنيني، لأن نتاجهم على الأغلب الأعم لا يحمل من روح الشعر ما أبحث عنه، وما حفظه التاريخ صورهم الملطخة بالدم والعنف. كيف لشاعر أن يحمل مسدسًا أو يكون بوق أيديولوجيات وأحزاب، ويدغدغ العواطف الرخيصة للجمهور، ألا يعني هذا أنه يرتكب جريمة بحق الإبداع والجمال. لستُ ثوريًّا ولا أميل لأي ايديولوجية مهما كانت، بل لا أستسيغ الكتابة المؤدلجة في الشعر وفي السرد معاً.
55 – الشاعر - وفق غارودي - لا يكفي أن يكون مدوّنًا أو رائيًا، بل عليه أن يساهم في تغيير العالم.. أتراها دعوة نظرية أم نزعة سياسية أم محاجة سريالية؟ وهل بإمكان الشاعر (أي شاعر) أن يقوم بدور المنقذ والمخلص في عالم الاحتكارات والهويات عابرة الجغرافية والأنظمة الشمولية والشركات متعددة الجنسية والحكومات الطفولية؟ بل هل بقيت مساحة حرة يمكن أن يعتليها الشاعر لإطلاق صرخته وتمرير خطابه؟
* هذه دعوة مؤدلجة، فما علاقة الشاعر بتغيير العالم؟! الشاعر منتج خطاب جمالي بحت، عابر للهوية بقدر ما هو ابنها المتمرد، لأن الإنساني والكوني هو ما يشدّ الشاعر حتى لو كان هذا الإنسانيّ في يومياته وعلاقاته الخاصة، فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكتب عما تريده الجماعة، بل عما يؤرقه ويقلقه ويجد له وقعًا في نفسه، لأن الجماعة عادة ما تكون حزبًا أو طائفة أو جمهورًا أميَّ الثقافة. لا يمكن أن يكون الشاعر مهمًّا إن لم ينسلخ عن الجماعة بمعنى أن يُغرّد خارج السرب وعيًا وقراءةً وتفكيرًا وكتابةً، بل وينسلخ عن ثقافة الإشاعة والمنظومة المعرفية التي أوجدتها الأخيرة.
56 – رغبتك (التي تقرب من الهوس) بالسفر واكتشاف عوالم جديدة لم تكن معروفة بل ولم يطأها غيرك من قبل أجد أنها من السعة والتحولات ما لا يمكن أن تسعها لغة الشعر فحسب بل إن ثراءها وانفتاحها على عوالم وأجناس وثقافات تدفعها لطرق أجناس تعبيرية عدة لاستيعابها واستقطار رموزها ومفاصلها، فهل أنا مصيب لو توقعت أن في الأفق أكثر من كتاب خارج مدونات الشعر مثل كتاب سيري ورواية وكتابة من نمط الرحلات؟ أم تراك تظن أن الشعر وحده قادر على الإحاطة بالتجارب مهما تشظت أو تداخلت واستطالت؟
* لا أكتمك.. هناك رغبة في تدوين الحيوات التي عشتها وأعيشها، ولكن السؤال الذي يؤرقني هو كيفية كتابة هذه السيرة، إذ إنني لا أحبذ قال وقلت وقمت، وإدخال القارئ بدوامة أمور شخصية سطحية مثل الإكثار من الحديث عن المطاعم والمقاهي وما شابه، فمثلما أريد من السيرة الذاتية أن تبين لي التطور الثقافي والفكري والكتابي للكاتب مع توضيح مرجعياته بل وتجاربه مع قراءة كتب معينة لها مكانتها في الثقافة، اكتشافاته للكتب وللكتاب وللمدن وللحياة بصورة عامة، هذه هي السيرة التي أحبذها. وسوف أضرب مثالين غير غافل عن كتب مذكرات مهمة لكبار المبدعين، الأول هو رواية - سيرة "على الطريق" لجاك كرواك، والتي فيها متعة حقيقية وإشراك القارئ في الحدث، تجعلك الرواية تحمل ثقافة جيل وكيف كان يفكر وسلوكياته وثقافته، رواية سيرة فيها متعة التلقائية مع الحب، حيث لا نجد عند جاك كرواك روحًا أنانية لتقديم نفسه على الآخرين، بل يتحدث عن عرابَين آخرين هما ضمن جماعتهم، ويعترف باندهاشه بعراب مجموعته، وكيف أن العرابين حين التقيا تنافرا. إذًا لا نجد نرجسية فارغة ولا مساحة مبالغًا فيها للحانات والخمور والسرقات وتمجيد الذات، بل سردًا لوقائع حياتية محملة بِهَمٍّ وجودي. أما المثال الثاني فهو كتاب لطفية الدليمي "يوميات المدن" وهو عبارة عن مقالات سيرة فيها المعرفي موازيًا للسردي وضمن قوانين كتابة المقال، وهذه اليوميات تمنحني متعة القراءة والمعرفة ومشاركة الكاتبة رحلتها بين المدن وتجربة اللجوء المريرة التي عاشتها في باريس ثم استقرارها في عَمّان التي لها مكانة خاصة في قلب الكاتبة. كثيرًا ما أتساءل: كيف لي أن أكتب سيرة حياة كالمثالين السابقين لا يشعر قارئ كتب السيرة بأنه أضاع وقته، وعليه المشروع قائم وهناك إلحاحٌ من أصدقاء، وللأمانة التاريخية فإن أكثر من يلحّ عليّ هو الكاتبة لطفية الدليمي، وأرجو أن يسعفني الحظ أو تسمح مزاجيتي بالشروع بتدوين تجاربي في السفر والرحيل الدائم.
43 – فهمت من حوارات سابقة أجريت معك أن طموحك الأول في مستهل رحلة الاغتراب أن تكون أوربا لأنها محطات للأصدقاء والمعارف وأيضًا اتقاء من الوحدة والعزلة لتوافر كثرة من المهتمين بالشأن الأدبي والفني ولما فيها من العراقيين والناطقين بالعربية..، كان هذا في البدء وقبل أن تدور عجلة الاغتراب اختيارًا وعنوة بين القارات والأوطان، لكن المفارقة أتت من أنك اخترت (ودون أدنى ضغط) عدة مدن آسيوية (في لاوس واليابان) هما أكثر المدن جهرًا بالعزلة والوحدة والانغلاق بالنسبة لك، فلا أصحاب ولا معارف ولا لغة عربية ولا ناطقين بالعربية ولا من يهتم بالشأن الأدبي العربي، وبرغم هذا أراك تعلن عن حبورك وتفضيلك هذه المدن عن كثير من مدن العالم التي سكنتها أو مررت بها مع أنها في قلب العالم.. ألا أجد توضيحًا منك لهذه المفارقة؟
* كنتُ غضًّا لم تحنكني التجارب بعد، فسرت مع الإشاعة ورحت أُمنّي النفس بالوصول إلى أوربا، ولكني حين وصلت الأردن لم أبادر للذهاب إلى مبنى المفوضية العامة لشؤون اللاجئين، وبقيت صريع العمل الذي أنقذني من طائلة الحاجة لثلاث سنوات وثلاثة أشهر، حتى ألحّ عليّ الصديق الشاعر وسام هاشم بالتقديم، وتحت ضغط الحاحه ذهبنا معًا، وقبل وصولنا بمئتي متر أشار للبناية فذهبت وقَدمتُ وكانت المفاجأة أن المدة ما بين التقديم والحصول على الموافقة لم تستغرق سوى 26 يوماً، وقدموا ملفي للوفد الهولندي الذي رفضني مشكورًا دون أن يقابلني، ومن ثم قدموا ملفي للوفد النيوزلندي الذي قبلني. وقد أصابني طول الطريق وساعات الطيران التي زادت على العشرين ساعة بالحزن حقًّا، وعانيت كثيرًا في نيوزلندا، فليس من السهل التأقلم مع مجتمع يختلف كليًّا عن المجتمع العراقي، ولكن مع مرور الوقت وكثرة النشاطات والمشاركات بدأ الشعور بالغربة والنفي يأخذ طابعًا آخر مع ازدياد تأقلمي وانهماكي بالحياة الثقافية النيوزلندية التي ساعدتني كثيرًا في تلمس مفاتيح اللغة الإنكليزية، حيث لا وجود لنشاطات تذكر للجالية العراقية والعربية في العاصمة. لكن هيروشيما كانت نقطة تحول كبرى، فقد تغيرت نظرتي تمامًا وإن كانت بوادرها اتّضحت في سنواتي الأخيرة في نيوزلندا، إذ شعرت بنضج كبير في رؤيتي للمنافي النائية وأهميتها في إثراء التجربة، وكم كنتُ غضًّا بحيث جرفتني ثقافة الإشاعة معها، رغم أن لا وجود لشخص لا تجرفه ثقافة الإشاعة في لحظات أو مواقف أو حالات معينة، ورحتُ أعي أن الشعر ليس حزنًا وحنينًا وشعورًا بالغربة والاغتراب وماضيًا مفقودًا أو تعيسًا وذكريات تقودنا مما يجعلنا نفتقر لأن نقود مستقبلنا إلى عوالم مختلفة، بل إنني راجعت في ذاكرتي سلوكيات الكثير من الشعراء في لحظات تأمل وتفكر ومراجعة فاكتشفت أن غالبيتهم افتعلوا خرابهم وأنهم لا يختلفون عن ثقافة الأقليات التي تصر على المظلومية ولكنها في ذات الوقت بدل التقدم للمستقبل تُنفذ بحرفية عالية سلوكيات وأخلاقيات جلاديهما، فكم من شاعر يشعر بالغبن والاضطهاد وبالمظلومية والاختلاف وما إلى ذلك، ولكنه يمارس دورًا قبيحًا في شتى المجالات فهو يُسقّط الآخرين ويلغيهم وينوح على ما يتعرض له وفي ذات الوقت لا شاعر سواه، وكل ناجح في نظره هو انتهازي حتى لو كان الناجح يسكن في أبعد نقطة في الأرض لا فضائيات ولا إمكانيات، بينما هو يتجاهل ماضيه أو حاضره الانتهازي مثلما لا يعي أنه إنما يجترّ نفسه ويكررها حتى لا تجد له جديدًا سوى انتفاخ أناه.
كل ما نحققه لا قيمة له إن لم يصمد أمام التاريخ وأحكامه وذائقات الأجيال القادمة، وإن الحكم الحقيقي على شاعر ما هو بعد وفاته بعدة أجيال وربما بعدة قرون، والشعر عالم واسع بل هو أوسع مما نتخيل ولكن تحقيق موطئ قدم مميز ومدهش في هذا العالم هو من أصعب الأمور التي تواجه الشاعر، وتحتاج إلى تواصل وانهماك وإخلاص للعملية الشعرية. هكذا رحت أجد في المدن والثقافات الجديدة موضوعات تفرض نفسها عليّ، وتَحوَّلَ تصالحي مع الأمكنة الجديدة إلى تصالح إيجابيّ انعكس على كتابتي الشعرية.
44 – أحقا ذكرت مرة أنك لم تقرأ لشاعر دون سنّ الثلاثين وأشعرتك نصوصه بنضج تجربته، الغالبية العظمى من الشعراء تنضج تجاربهم بعد سنّ الثلاثين، وفي حالات قليلة بعد سن الخامسة والعشرين.. لو كان هذا فعلا ما تعتقد به، فماذا تقول عن الشاعر رامبو الذي هز الشعر العالمي وطلقه وهو دون سن التاسعة عشرة؟ وكيف ترى تجربة الشاعر الشابي الذي يعدّ من المواهب الشعرية العربية الكبرى وانطفأت حياته وهو لم يتجاوز العشرينات؟
* هناك صنفان من الشعراء الصنف الأول تنضج تجربته بسرعة فائقة ويفرغ ما في جعبته خلال فترة شبابه الأول ويصمت بعدها أو يجتر نفسه، وهذا الصنف هو أقل من واحد بالألف، وعليه نستطيع أن نعتبره شذوذًا عن القاعدة، ورامبو فعل خيرًا حين ترك الكتابة وإلاّ لما وجد ذلك الصدى الكبير لو أنه استمر، والموت كان رحيمًا بأبي القاسم الشابي إذ مع الموت المبكر ضمن الخلود، أما الصنف الثاني وهو الغالبية العظمى فتنضج تجربته قبيل وبعد سن الثلاثين، وهو على عدة أنواع، نوع تنضج ويعطي كل ما عنده في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات وبعدها هبوط وتكرار، ونوع يعطي خير ما لديه في الثلاثينات والأربعينات، بل هناك عدد كبير جدًّا من الشعراء من أعطوا خير ما لديهم ما بين بداية الثلاثينات وبداية الأربعينات، ونوع آخر تجربته تتطور بشكل واضح وسريع ولكنها لا تنطفيء، ونوع آخر تجربته تتطور ببطء شديد بحيث إن ما كتبه في العشرينات والثلاثينات يكاد يكون بعيدا عن النضج قياسًا الى نصوصه في وقت لاحق.
45 – عنوان قصيدتك (البراق يصل الى هيروشيما) يوحي باستدعاء وزج رمز تراثي جليل ليتماهى في جحيم كوني معاصر، وأرى أن البراق التاريخي يتلبس هنا دور المخلص أو المنقذ من مأساة عصرية صنعها ونفذها (الخلف) ثم تنتخي أنت بـ (السلف) لنصرة زمن مسفوح ومهان بالنووي.. ما رأيك أنت في هذا التأويل؟
* لابدّ من ذكر مقتضب لخلفية هذه القصيدة. هناك مَن أشار عليّ بضرورة الاحتفال ببلوغي سنّ الأربعين، وصار الاتفاق أن أعدّ مائدة عراقية أو عربية للعشاء، فذهبت لمتجر في الجهة الأخرى من هيروشيما، وهو الوحيد حسب علمي يبيع مواد تموينية متوسطية (إيطالية، يونانية، تركية) فاجتزت ساحة السلام كالعادة وقبل عبور الطريق لكي أكون بجهة قلعة هيروشيما، قررت أن أغير طريقي، ففوجئتُ بتمثال صغير لحصان مُجنح، مقابل قلعة هيروشيما، ومن لحظتها طرقت القصيدة بابي، لم ألتفت لها، تسوقت وعدت للبيت أعددت للأصدقاء عشاء فيه روح عراقية، وكانوا يابانيين وألمانًا ونيوزلنديين وأستراليين، وقضينا وقتًا ممتعًا حقًّا، ثم ذهبت للسرير ولكن أنّى لي أن أنام والقصيدة تنتظر على بابي، وتطرق الباب والنوافذ؟ فلم أتمكن من النوم لأن القصيدة تمكنت مني تماماً، فقمت ودونتها بذات السهولة التي دونت فيها قصيدة الساموراي وأقل بقليل من تدويني لقصيدة سليل.
تأويلك يسرني بلا أدنى شك، فالشاعر الناجح هو الذي يهضم ثقافاته ويضعها على الورق من خلال اللاوعي، لأن هذا فيما يعنيه هو العفوية والتلقائية في نصوصه، وعلى ذكر التلقائية، فقد تمرّ بضعة عشر شهرًا دون أن أكتب فيها نصاً. نعم أقلق أحيانًا ولكني لا أجلس وأقرر أن أكتب، لإيماني أن النص حين يكتب نفسه يكون تلقائيًّا قريبًا للروح وخاليًا من الصنعة.
في تأويلك لنص "البراق يصل إلى هيروشيما" ربما يخالفك البعض وهذا حتمًا من صالح النص، ولكن ما أود أن أضيفه هو أنني لإيماني بتزاوج الثقافات، والتي أراها خير رد على دعاة صراع الحضارات ودعاة الأعراق النقية والأعراق الظالمة والمظلومة وإلى آخر قائمة الادعاءات التي تشيع ثقافة الكراهية والحقد والبغضاء والاستخفاف والتعالي على الآخرين، تجد في نصوصي استدعاءات لثقافتي مع ثقافات أخرى كما في نصوص "هنا حماقات هناك... هناك تبختر هنا" "أنا ثانية ً" "شيءٌ ما عنك... شيءٌ ما عني" "تقريظ باشو" "تلاميذ هُندوري" "لا قاربٌ يجعلُ الغرقَ يتلاشى" مثالاً لا حصراً، أما مقدار النجاح الذي حققته فيحدده القُرّاء عمومًا والنقاد خصوصاً.
هيروشيما كانت نقطة تحول كبرى
46 – اتصالاً بالسؤال السابق أود أن أعرف منك رؤيتك في قضية خلافية اسمها العلاقة بين التراث والمعاصرة. فهل أنت مع من ينكرون التراث بحجة أن المعاصرة جبّت ما قبلها وأيضًا لأن الحداثة أصبحت همك الأول؟ أم لا زلت تتمسك بثوابت الموروث لأنها تعني الهوية والأصالة؟ أم تراك تصطف مع الفريق الذي يمسك الجبهتين كلا بطرف تحقيقا لموازنة يراها البعض أشبه بالتوفيقية ولا تمثل موقفا محددا؟
* مشكلتي إن صح أن أدعوها مشكلة هي أنني أحب جميع الألوان، ليس في قاموسي الأسود والأبيض إلا كلونين عاديين، وكلامك يذكرني بمطلع شبابي حين كنت أحب الأبيض والأسود والرمادي ولكني مع مرور الأيام اكتشفت حبي للأصفر والأحمر والبنفسجي والبرتقالي وسواها من الألوان، وما عنيته هنا هو لماذا الإصرار على أن نكون مع أو ضد، ما المانع أن نعتز ونحترم تراثنا ولكن في ذات الوقت نؤمن أن الحياة في تطور دائم ولا عيب أن نستفيد من منجزات الآخرين لتطوير أدواتنا الشعرية، فحب التراث لا يعني التخلي عن الحداثة ومعاداتها، والإيمان بالحداثة لا يعني أن نلغي التراث بأجمعه ولا نرى فيه ومضة تستحق القراءة والتأمل، كم من مقطوعة أو قصيدة قديمة تتوهج فيها الحداثة ويشع منها الإبداع والهم الإنساني وترفرف فوق حروفها شعرية عالية بل خالصة. حين قرأت ديوان الأساطير كنت أشعر بالكثير من المقاطع وكأنها مكتوبة في يومنا هذا، وهذا ما ينطبق على الكثير من التراث، وإن كان المنجز الصوفي هو الأكثر وضوحاً. لست من دعاة مع أو ضد بل من دعاة الاعتزاز بكل جميل وإبداعي إن كان كتب اليوم أو قبل خمسين عامًا أو ألف وخمسمائة عام.
لا يمكن لبناية أن تشمخ عاليًا لتطلّ على السحاب إن لم يكن أساسها عميقاً، ومن يحكم على التراث بدون قراءته قراءة تأملية نقدية صارمة لا يختلف عَمَّنْ يبث روح التفرقة والتكفير والكراهية بين أبناء الشعب الواحد وبين الشعوب لمجرد اختلاف في الدين أو المذهب أو اللغة أو الانتماء الإثني، وهم جميعًا لم يطلعوا بشكل جيد على هذه الديانات والمذاهب والإثنيات والقوميات من خلال الكتب والبحوث والدراسات الرصينة بل من خلال ثقافة الإشاعة سيئة الصيت. نبذ التراث كمن ينبذ جذوره ووالديه، ولكن تقليد التراث تحت مسمى المحافظة عليه كمن يكون تابعًا لما يقرره والده إلى حد أن تتماهى شخصيته بشخصية والده أو والدته وتنسحق فيكون استنساخًا لا أكثر.
قبل ربع قرن من الآن ألح عليّ صديق ما على أن أقرأ الشعر المترجم، فكان جوابي الذي مازلت أعتز به وأراه صائباً، هو أنني أملك خططًا للقراءة وخطتي الحالية إنهاء قراءة الشعر العربي قديمه وحديثه ثم الذهاب إلى قراءة الشعر المترجم، وهذا منحني الفرصة لقراءة الكثير من كتب التراث، والخطط القرائية هي ديدني منذ البداية، ففي كل فترة أتوجه بكل بثقلي للاطلاع على حقل معرفي ما والتزود من منجزه. اتجاهي للحداثة وإن كان مبكرًا جدًّا ولكني لم أفهم يومًا أن الحداثة نكران وتنكر للتراث جملة وتفصيلاً. لا أمسك العصا من الوسط بكل تأكيد، ولكني ألتقط الجمال أينما كان متأملاً وسابحًا في ملكوته.
47 – على ذكر الحداثة أرى أن معناها الحقيقي قد دخل في التيه الجدلي وتداخل التفاسير بالاجتهادات حتى أصبحنا صدقا أمام حداثات بعدد قائليها. فكيف ترى وتتعامل مع مفهوم إشكالي كالحداثة؟ وهل توافق الشاعر والباحث الدكتور خزعل ألماجدي حين فرّق بين (التحديث) و(الحداثة) فربط الأول بعملية التجديد المستمر وهي سنّة طبيعية لكل مفاصل الحياة بينما أرجع الثانية (أي الحداثة) لمؤسسة الأيديولوجيا التدميرية؟
* أظن أن جميع المصطلحات فضفاضة وتتحمل الكثير من التفاسير ومصطلح الحداثة لا يشذ عن هذا، لأن الناس تترجم المصطلح حسب وعيها وفهمها له وأحيانًا حسب مصلحتها، وإلا فما الذي يجعل البعض يصر على أنه حداثوي وهو يكتب الشعر العمودى والتفعيلي والقصيدة الحرة بل وأحيانًا الشعر الشعبي (العامي) بينما الحداثة يجب أن تكون موقفًا واعيًا من الكتابة والشعر، هؤلاء يجيدون مسك العصا من الوسط، لكي يكونوا ضيوفًا على جميع الملتقيات والمنابر، وهناك من حمل عقليته البدوية وأسقطها على الحداثة، فصار لديه العرف البدوي القائل إن مجالسة الكبار والاختلاط بهم ومصاحبتهم تعني أنك كبير، واتخذ ذلك دليلاً على أنه شاعر كبير لمجرد مجالسته لأسماء لها وقعها في الشعر العربي وراح يستعمل دكتاتوريته لفرض هذا الوهم علينا، وهناك مَن يحسب أن مرور أكثر من ربع قرن على نشره لأول نصّ له، يكفي لينظر الجميع له على أنه شاعر كبير، وكأننا في مسلكية عسكرية تمنح رتبة أعلى لكل مَن تمضي عليه فترة زمنية ما، وأن الأقدم في الثكنة هو الآمر والناهي، ولسنا في حديقة إبداع ليس فيها أقدم وقديم لأن كل قديم يشيخ، بينما الإبداع شباب دائم، وقد تبهرك نصوص شاعر دون الأربعين أكثر بكثير من آخر تجاوز الستين، وكم أعجبت بنصوص لشعراء ولدوا في نهاية الستينات وبداية السبعينات وكتبت لهم عن إعجابي بل أخبرت أصدقاء لي للانتباه لنصوصهم ومتابعتهم، بينما مجاميع شعرية كاملة لشعراء ولدوا بداية الستينات وفي عقدي الخمسينات والأربعينات لم أجد فيها إلا انحدارًا لشاعرية هؤلاء الشعراء.
الحداثة تعني لي منظومة معرفية متكاملة أسها التاريخ وجذوعها الفكر والفلسفة وأغصانها وزهورها الأدب والفنون عامة. هي بحث سرمديّ عن الجمال والحياة والبهاء والحقيقة، ربما أنطلق من منطلق روحي أو صوفيّ ولكني في ذات الوقت أفهم أن الحداثة مصطلح متجدد ومتعدد في الآن ذاته.
الحداثة انطلاق للأمام.. للمستقبل على قاعدة هضم المنجز السابق للإنسانية، أي هضم تراث الإنسانية.
أما رأي الشاعر والباحث الدكتور خزعل الماجدي فهو يدعو للتأمل حقًّا، فالرجل كباحث ومنظر له باعٌ طويل، وما قاله يستحق منا أن نقف أمامه وندرسه، ولكني للأسف لم أطلع على رأيه كاملاً لكي أستطيع الحكم وأدلو بدلوي في الأمر، وعدم اطلاعي بكل تأكيد تقصير مني ولا علاقة للعزلة النائية التي أعيشها منذ أعوام طويلة بالأمر، فهذه ليست عذرًا للتنصل من المتابعة.
"أنا ثانيةً" قابل للتأويل
48 - يرى الشاعر رضا الخفاجي في مقالته عن (أنا ثانيةً) أن قصائدك جميعا تتوفر على درجة كبيرة من الوضوح الذي لا يقبل التأويل.. هل يقبل هذا التوصيف في عصر التأويل والاستقبال والقراءات المفتوحة؟ وكيف يتم التعامل مع نصوص لا تقبل التأويل من فرط وضوحها؟ ثم هل تجد رؤية الخفاجي مدحًا لقصائدك أم قدحًا فيها؟
* للشاعر رضا الخفاجي رأيه وأحترمه عليه، ولكنه ليس ملزمًا للآخرين، وقد تنوعت القراءات حتى تجاوزت الـ 25 قراءة للمجموعة، وهذا يدلل على أن "أنا ثانيةً" قابل للتأويل بدليل تعدد القراءات والتي زينتها مقالة الناقد الكبير حاتم الصكر، ورأي الشاعر الكبير سركون بولص الذي توّجَ الغلاف الأخير، والدراسات القيمة التي كتبها كل من الناقد ناجح المعموري والشاعر باقر صاحب والشاعر والناقد بلاسم الضاحي والشاعر والناقد الفلسطيني نصر جميل شعث والشاعر المغربي صلاح الدين شكي والناقد والشاعر عبد الكريم كاظم والشاعر والكاتب الفلسطيني راسم المدهون والشاعر علي الخباز والناقد زهير الجبوري والكاتب صباح الأنباري وآخرين.
أما بخصوص أن ما قاله رضا الخفاجي مدحًا أو قدحًا فلا بد من ذكر حقيقة توضح رأي هذا الصديق العزيز وهو أن رضا الخفاجي له ما لهُ عليّ، فالرجل منذ البداية وحتى هذه اللحظة يعتز ويحتفي بي ويدعمني معنويًّا كل الدعم بل كلي ثقة حتى آخر نفس في حياته سيبقى هكذا ولا يضاهيه في هذا أحد. وأنا أعني حصرًا أبناء مدينتي سوى الشاعر علي الخباز والشاعر سلام البناي والدكتور ماجد الوجداني وشقيقه حميد النجار والشاعر والسينمائي حميد حداد وزهير الشافعي وعقيل المنقوش وعلي حسين عبيد وفاضل عزيز فرمان وجاسم عاصي وهادي الربيعي، ولا يمكن إغفال الشاعر والمسرحي الكبير محمد علي الخفاجي وعراب، شعراء كربلاء محمد زمان، مع الاعتذار سلفًا لكل من يحمل لي الحب والاعتزاز ونسيت ذكر اسمه وعذري أن محبته في القلب ثابتة كما ثبتت في الراحتين الأصابع.
49 - برغم أن هناك معضلة حقيقية يجدها أي دارس للحضارات وتشابكاتها التاريخية والمعاصرة حتى وصل الأمر إلى حد أن يطلق البعض تسميات مهولة وضاجة بالتضاد مثل (صراع الحضارات) ونهاية التاريخ وسوى ذلك إلا أنني أجدك تعيش حياة أليفة ومتناغمة مع دخولك لحضارات غربية وشرقية أعلن كثير من المنتمين إليها عن تقاطعات خطيرة وصلت إلى حروب أممية وانسحاقات للإنسان والبلدان، ثم تصرح كتابيًّا في ديوانك الثاني (خريف المآذن) عن تلك الألفة حين أهديت الديوان إلى زوجتك بهذه الكلمات: إلى جينيت هل نحن تناغم حضارتين؟.. هل تقول لي من أين انبعث لديك هذا المشترك الإنساني (بين الحضارتين) وكيف استوى التناغم بديلاً للتطاحنات والنكبات الفاحشة، إن مرّت في حقب التاريخ أم حلت في شواهد معاصرة ناطقة بالجور والامتهان والاحتلال؟ ثم هل تكفي علاقة أسرية حادثة وقصيرة زمنيًّا للوصول إلى شعور التناغم الداخلي مع وجود كل هذا الخراب في التاريخ والمعاصرة؟
* إن أكثر من يجب أن يكون رسول محبة وسلام هو الشاعر، والحب هو الطريقة المثلى للوقوف بوجه هذا الخراب الماثل في الوردة والعصافير. الشاعر لا يملك طموحات السياسي والعسكري ورجل الدين الشرقي، وعليه فهو غير مجدٍ بالنسبة لهم إلا حين يُروض تحت مسميات أيديولوجية رعناء، وهذه خيانة حقيقية للشعر، بل بعض هؤلاء الخونة راحوا يدعون للعنف والقوة والحروب وتمجيد الطغاة الذين تحولوا إلى أبطال الأمة، حتى أن فئة ما راحت تُزايد على رجال الدين المتزمتين بفتاواها حين أباحت دم الجندي والشرطي والموظف لأنه يعمل ضمن حكومة وضعها الاحتلال حسب قولهم، لست معنيًّا بالحكومة وسواها ولكني معنيّ بالدم المراق وخصوصًا الذي وقع نتيجة فتوى شاعر وهذه هي الطامة الكبرى.
صراع الحضارات أكذوبة أيديولوجية أخرى من أجل إشباع غرائز الوحوش البشرية المتعطشة للدماء. الحياة الأليفة والمتناغمة التي أعيشها هي نتيجة إيمان حقيقي بكونية الشاعر، وما ذكرته عن الوطن الكتابيّ- الشعريّ. أنا ابنٌ بارٌ لكل الثقافات أغرف منها وأتعلم من ينابيعها، أحاول قدر الإمكان أن أبتعد عن مؤثرات ثقافة الإشاعة، لديّ قلقي كإنسان وشاعر وقارئ، قلق شعري وقلق إنساني، يرعبني لا مبالاة غالبية البشر بالبيئة، سباق التسلح، انتشار الأمية، انتشار الأوبئة، انتشار التطرف الديني والمذهبي والقومي، الفقر الذي ينخر في أحلام الملايين من البشر، وسواها من المشكلات التي تسلب السعادة وتبعثر التناغم الإنساني بين الناس.
كل دعوة بدأت من شخص واحد ومن ثم انتشرت، وسبب فشل الديمقراطيات والتحديث في بلداننا لأنها فوقية وليست تحتية، مما يعني عدم وجود أساس لها لكي تصبح طريقة حياة، إذ لا ديمقراطية بدون حرية الفرد، وهذا غير حاصل في مجتمعاتنا، أضرب هذا مثالاً، لكي أقول إن الأسرة أساس المجتمع، وحين تكون هذه الأسرة مثالاً لقيم الجمال والمحبة والتعدد الثقافي والتنوع الحضاري، حتمًا سيكون النجاح سبيلها، وهذا النجاح والفهم للعلاقة الإنسانية التي أدعو لها وأعني تزاوج الحضارات وتناغمها، هو ما انعكس إيجابيًّا على تفكيري وحياتي للوصول إلى شعور التناغم الداخلي، أي أن الاستعداد الروحي والثقافي كان موجودًا بالأساس، وعليه فلم يستغرق مني سنوات طويلة لكي أصل إلى ما وصلت إليه.
لماذا حدث الذي حدث؟
50 – ما ذكرته الكاتبة الكبيرة لطفية الدليمي عن المؤثرات الرافدينية في شعرك وكيف أنها زادتك كنزًا معرفيًّا رسخ في الذاكرة.. أجد في هذا التحليل مدخلاً ممتازًا لبحث وتجذير صور ودلالات تلك المؤثرات في نصوصك، ولكن الدليمي مسته سراعًا وتعميمًا دون استقراء أو إظهار خلاصات وتنصيصات، لكن هناك إشارتين وردتا في شهادة الدليمي هما أحوج إلى إضاءة خصبة منك: الأولى بقولها إن اطلاعك على ثقافات العالم قد أعانك على الحفر العميق في ثقافة بلدك؟ والثانية ترى أنك تخصّصت في أناشيد الرثاء التي تتردد على إيقاعات متباينة حتى أصبحت إحدى علامات نسيجك الشعري، ولكنها ترى أن هذا الرثاء ليس محليًّا بل يتلبس مكابدات إنسانية وكأنه يقدم صورة لرثاء النفس في وحشة الكون؟
* لم أسافر سائحاً، بل عاشقًا للمعرفة، البحث في كتاب الطبيعة والتنقيب في كتب المجتمعات والحضارات والثقافات هو ديدني، تعلمت الكثير بلا أدنى شك، وقد ساهمت الأسئلة التي تؤرقني وهي "لماذا حدث الذي حدث؟ ولماذا لا نكف عن تكرار سلبيات الجلاد بل تقليده والتفاخر بخطابه في الوقت الذي نتشكى من المظلومية؟ لماذا لا نملك مشروعًا وطنيًّا واضحاً، وليس لدينا حزب أو طائفة من الناس لها هذا المشروع وتملك حضورًا فاعلاً بين الشعب؟.... وسواها من الأسئلة" أقول ساهمت في نبشي المتواصل عن الحل، أو على الأقل معرفة الآليات التي يفكر بها مجتمعي وخصوصًا العقل السياسي العراقي، هذا العقل المناقض تمامًا لتاريخ البلاد ومنجزها الثقافي المدهش. العراقي يدهشك حقًّا بذكائه وفطنته بل وعبقريته، ولكن حين يدخل السياسة مفكرًا ومتحدثًا وممارساً، فهو بدوي أصيل، الحياة لديه تتكون من لونين لا أكثر، ويتهم عشاق الألوان الأخرى بالانتهازية والتذبذب والوصولية... إلى آخره، من قائمة الاتهامات التي يجيدها العقل البدوي، بل حتى حزبه الأممي قد برع بالتسقيط والعنف بذات الطريقة التي برعت بها أحزابه السياسية الأخرى قومية (وهي في الحقيقة جميعها عنصرية إلغائية إقصائية) ومذهبية.
النهل من ينابيع الثقافات الأخرى جعلني أتفهم هذه الثقافات، ولم أعد مثل أي لاجئ أو مهاجر أو سائح يقارن المجتمع الجديد بمجتمعه بما تحمله هذه المقارنة من روح عنصرية استعلائية حين تتحول بوعيٍ أو بدون وعيٍ إلى المفاضلة واعتبار المجتمع الأم أو الثقافة الأم هي النموذج التي يجب أن يقاس عليها. الحكم على المجتمع أي مجتمع يجب أن يتم من داخل منظومته الثقافية، والمقارنة خالية من المفاضلة وإبداء وجهات النظر النابعة من الثقافة الأم. هذا الاطلاع مَهّد السبيل لي بالحفر عميقًا بثقافة بلدي والخروج بنتائج تختلف عن غالبية الطروحات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، نتائج ترفض رهن البلد كبقرة حلوب لمشروع إمبراطوري تحت أي مسمى، وأعتقد أن أجوبتي على أسئلتك في طيات هذا الحوار كافية لتبيان حَفْرِي العميق في ثقافة العراق وخصوصية هذا الحفر.
أما بخصوص الإشارة الثانية، فليس لي إلا القول: إنه رأي لمبدعة كبيرة أكنّ لها احترامًا خاصًّا، مبدعة كتبت عني مرتين قبل أن نلتقي، ولرأيها أهميته نظرًا لمكانتها العالية في المشهد الأدبي المكتوب بالعربية، وأنا أتابعها بمحبة عالية فهي ليست روائية متميزة فقط، ولا كاتبة نص سردي عالي الجودة فقط، وإنما هي كاتبة مقال من الطراز الرفيع أيضاً، وأقرأ مقالاتها بمتعة هائلة، ولكني لا أحبذ أن أسجنَ في نسق ما أو أرهن نفسي لرأي ما، رغم أن ما قالته كاتبتنا الكبيرة كان بخصوص بداياتي المبكرة ولم يكن رأيًا معممًا على كامل التجربة، وإن كتابتها كانت بالتحديد عن موضوعة أدب الرثاء في موروثنا الرافديني. أنا شاعر وكفى إن كنت أجيد "أناشيد الرثاء"، أو "رثائي بالدرجة الأولى" كما ذهب سركون بولص إلى ذلك في كلمته التي زينت غلاف مجموعتي الثانية "أنا ثانيةً"، فهذا لا يُلغي سعيي الحثيث لتطوير أدواتي الشعرية والحفر في مناطق شعرية بكر.
51- إن موقفك المنشور حول المعاصرة والتراث أحسبه موقفًا عائمًا فيه الكثير من الالتباس، كيف أعي مثلا أنك تحب جميع الألوان ثم تتساءل: لماذا الإصرار أن نكون مع أو ضد.. وما المانع أن نعتز ونحترم تراثنا؟ ومن الواضح هنا أنك تستبعد الموقف النقدي الباحث والفاحص لهذه الكتل المنهمرة علينا باسم التراث بما تختزنه من موبقات وهزائم وافتئات ضد الحقيقة والفكر والإنسان، وبعض المفكرين المعاصرين ومنهم الدكتور زكي نجيب محمود طالبوا صراحة بإخضاع ما هو منسوب إلى التراث إلى عمليات غربلة ونقد واستقراء لإبعاد القبيح والدخيل والمستهجن والإبقاء على الصالح والعقلاني في كل المجالات. وهذا يتفق مع ما فعله الأوربيون في عصر النهضة حين عمدوا أولاً إلى نقد تراثهم وأفادوا من بعضه الإيجابي في تخليق نهضتهم الحديثة ولم يلتفتوا إلى الأصوات التي أرادت الحفاظ على التراث بحجج شتى، بل إن سبب النهضة الأوربية يعود إلى تفضيل الموقف النقدي من التراث المدون وغير المدون.. هنا ألا ترى وجوب الالتزام بمعادلة الـ (مع وضد) حتى نزيح التداخل التاريخي ونفرز الغث عن الصالح ونبعد ما هو ضد الحياة ونلتزم بما هو مطور وحافظ لها؟
* أنا علمانيّ بكل ما في الكلمة من معنى، ومعناها بالنسبة لي هو النظر إلى الأمور نظرة علمية منهجية بحثية لا مكان للعواطف فيها حين تتقاطع العواطف مع الحقيقة والمنهج العلمي، ورغم حبي واعتزازي بالعراق حدّ أنني كتبت مقالي "العراق.. الجغرافية المُغَيَّبَة" وهو ربما أكثر مقال كُتب عن العراق يحوي أدلة تاريخية جميعها قبل معاهدة سايكس– بيكو، بل نسبة من هذه الأدلة قبل المعاهدة بألف عام وغالبيتها قبل ولادة السيدين سايكس وبيكو بعدة قرون، ولكني حين قرأت لباحث عراقي معروف، مقالاً له يدافع عن العراق ويردّ على دعاة "العراق وطن اصطنعه الإنكليز" و"العراق عبارة عن تجميع عشوائي لقوميات وأديان مختلفة" وسواها من المقولات التي يرددها البعض من دعاة المظلومية وهم في جوهرهم امتداد "لجلاديهم"، وكان المقال رائعًا في مناقشته وتفنيده لهذه الدعاوي الباطلة والتي لا تستند إلى أي مصدر تاريخي وإنما تستند على ردة فعل مبالغ بعاطفتها ونزقها وأوهامها، ولكن علمانيتي أبت السكوت على فقرة تخص اليابان حيث استشهد الباحث القدير باليابان كنموذج للبلد الأحادي اللغة والعرق والدين بقوله: "خذ اليابان مثالاً: إنها تنطوي على وحدة اللسان والدين (الشينتو) والعرق، وبالتالي تجمع كل العناصر المؤلفة للأمة". فاستغربت من باحث بقامته أن يطلق كلامًا كهذا، إذ إنني عشت في اليابان وأعلم جيدًا أن هذا القول فيه مجانية، حيث إن اليابان بلد في جوهره متعدد الديانات والأقوام، فنسبة الشنتوية فيه ليست أكبر من نسبة الإسلام في العراق، وأما أنه بلد متعدد الأعراق فسحنات سكانه واختلاف قسماتهم وأطوالهم و"تضاريس" أجسادهم تفضح هذا القول، كما أن نسبة جد كبيرة من السكان تؤمن بالبوذية والشنتوية على حد سواء، وإن كانت الأخيرة دين الإمبراطور الرسمي، وهذا يعني دين الدولة الرسمي، فأتباع البوذية بالملايين، وكذلك أتباع المسيحية الذين عددهم أكثر من أكراد العراق، وهناك مقولة سمعتها تتردد على الألسنة وهي "يولد الياباني شنتويًّا ويتزوج مسيحيًّا وشنتويًّا ويموت بوذيًّا". نعم علمانيتي رفضت الانصياع إلى عاطفتي الوطنية، لأن الحقيقة أكبر من كل شيء. والآن أعود لذكر التراث لأقول وبكل وضوح أن لا شيء خارج نطاق البحث وكل شيء يجب أن يخضع للمنهجية العلمية الصارمة، لأن الأخيرة سبيلنا للخروج من هيمنة أسطرة التراث ورجاله، ولا يتم هذا إلاّ بفحص التراث جيدًا (أعني التراث بمعناه الشامل وليس التراث الأدبي فقط) بدون عواطف جياشة بنتها على مدى قرون ثقافة الإشاعة، حتى أصبح القول إن المتنبي لم يكن شاغل الناس ومسهرهم لدرجة الاختصام بينما هو نائم ملء جفونه عن شواردها وإنما مات وهو شاعر عادي الشهرة لدرجة لم توصله للبلاط البغدادي، والذي أخاله قد حاول طرق الباب خائباً، من باب الكفر، ويزداد الكفر كفرًا حين تدخل المتنبي مع أبي نؤاس والمعري إلى مفهوم الشعر والقصيدة فلا يتمكن من الفوز عليهما، هذا مع شاعر فكيف الحديث لو جرى بخصوص رجال دين عاديين انتصروا للإشاعة والعقل البدوي الذي سيطر على مقاليد ثقافتنا منذ القرن الخامس الهجري لتزداد الهوة بعد قرنين وأكثر حين توغل العقل المكتوب بالعربية في سباته (أفضِّل مصطلح العقل المكتوب بالعربية على العقل العربي لأن الأولى أكثر دقة واحترامًا للعدد الهائل ممن خطوا كتبهم بالعربية وهم من غير العرب أو من أصول غير عربية). دفاعي عن التراث لا يمنعني من الوقوف معارضًا وبشدة أسطورة صحراوية اللغة العربية التي هي ابنة بارة للأكدية، وتغيير مسار الجزيرة العربية والتي تقع تاريخيًّا وحقيقة بين نهري دجلة والفرات من بغداد وصعودًا في الشمال إلى العمق التركي قرب منابع النهرين، والإصرار على أن "شبه الجزيرة العربية" صحراء قاحلة وكأن مصطلح شبه الجزيرة يعني أن الصحراء تحيط من جوانبها الثلاثة وليس الماء، في استغفال حقيقي للوعي، علمًا أن صحراء مصر - قياسًا بمساحة مصر - ربما تكون أكبر من صحراء "شبه الجزيرة العربية" وعدم الأخذ بل رفض جميع الأساطير ابتداء من الفتوحات التي لا أثر لها حتى هذه اللحظة وليس انتهاء بخلق مجازر هائلة في التاريخ لا شواهد ولا أدلة تدلّ عليها أو الشاهد الوحيد هو ممن نجا من تلك المجزرة الأسطورة كالمجزرة الأسطورية لبني قريظة والتي حدثت في مخيال الراوي الوحيد لها وهو ليس صدفة عمياء أن يكون قرظيًّا، والكثير الكثير مما تحفل به كتب التراث ويحتاج فعلاً إلى إمكانيات هائلة لتشذيبه.
كلّ نصِّ عبارة عن نصوص مهضومة
52 – أنت ترى أن القراءة هي عملية إعادة إنتاج للنص المكتوب غير أن كثرة من الباحثين (ممن ينهجون موقف التناص) يرون أن الكتابة لا القراءة هي التي تعيد إنتاج وتمثل النصوص انطلاقا من نصوص سابقة أو محايثة بحيث تتحصل نتيجة تقول إنه ليس من نص جديد يمكن أن نصفه بالصفاء والبراءة والانقطاع عما سبقه، فهل ترى هذا الموقف؟ وهل ينجو نصك من الإفادة والنهل من نصوص وأفكار سابقة ومحايثة؟
* ومَن هذا الذي ينجو نصه من نصوص الآخرين، لا وجود لنصّ صافٍ، كلّ نصٍ عبارة عن نصوص مهضومة، أي إعادة إنتاج وتمثل للقراءات تتوقف على قدرة الشاعر وثقافته وموهبته وذكائه وحرصه على وضع بصمته وروحه ورؤيته في النص، ومن يقول غير هذا فهو أبعد ما يكون عن جادة الصواب، لكن من واجب كل شاعر أن يحلم ويصبو ويعمل على كتابة نص صافٍ وبريء، وهو حلم إن غادر الشاعر أخذ معه الإبداع، لأن هذا الحلم هو المحفز الحقيقي على الاستمرارية ليس ككمّ خالٍ من القيمة، بل كقيمة مضافة. بينما القراءة إعادة إنتاح للنص، وذلك من خلال فكّ شفراته والغور في أعماقه.
53 – أجدك تميل إلى توصيف الشاعر الكبير بشىء من الإطلاق، لكن ثمة من يعترض على هذا التوصيف أو وجوده بهذا الوصف والتأثير، مثلا كنت قد أجريت حوارًا مع الشاعر الراحل يوسف الصائغ في التسعينات أنكر خلاله وجود شاعر بهذا التوصيف حتى مع ذكر أسماء كالجواهري والسياب وتساءل بأي معنى هم كبار وإلى متى؟ ولكنه استدرك قائلا إن لم يكن ثمة شاعر كبير في المرحلة التي بحثها فإنه سيظهر حتمًا في الأجيال القادمة. هنا أسالك عن مفهومك للشاعر الكبير وبأي معنى يكون كبيرًا: أفي زمنه أم في الأزمنة اللاحقة؟ وكيف تستقبل رأي الصائغ في هذا المجال؟
* الشاعر الكبير نادر الوجود حقًّا، وأما المعدوم فهو الأكبر والأمير والأهم والأوحد وسواها من الإطلاقات المجانية حسب رأيي ومفهومي للحداثة، وهناك فعلاً شعراء كبار في زمنهم، أي بما حققوه وأضافوه، وهم عادة ندرة، فلو خرج خمسة شعراء كبار باللغة العربية على مدى نصف قرن فنحن محظوظون. علينا أن نفرق بين شاعر كبير وآخر مهمّ وثالث مميز ورابع جيد، والنوع الأخير يوجد منه بالعشرات اليوم ولكن أٌقل بكثير الشاعر المميز، والمهم أقرب للندرة، أما الكبير فأقل من هذا حتماً. عندما نقول هذا شاعر كبير، علينا أن نعي مقدار تأثيره على أقرانه ومن جاءوا بعده، وإضافته للمنجز الشعري، وهذا ينطبق على قلة قليلة لا يمكن ذكر أي اسم بدون أن يسبقهم السيّاب لأهمية منجزه وفرادته، وإن كانت التجارب الشعرية اللاحقة تجاوزته فلا يمكن أن نبخسه حقه وننكر أنه هو مَن عَبّدَ ومهّدَ لنا الطريق. الغالبية العظمى من الشعراء تقليديون، كتابتهم عبارة عن كتابة تزيينية لأنها تضيف موجودًا إلى موجود على حد تعبير أدونيس.
54 – كان الراحل جبرا إبراهيم جبرا يردد أن الشاعر هو قائد ذوق بين الجماهير، قاصدًا أنه أي الشاعر يفعّل الذوق وينقّيه بغية إشاعة السلوك الإيجابي والحضاري بين الجماهير، في حين أراك ترجح على وجوب أن يكون الشاعر رسول محبة وسلام.. هل يمكنك أن تدون شاعرًا واحدًا في العراق أو من العرب يدخل في توصيفك المشار إليه؟ وأليس صحيحًا أن التاريخ بوجهيه الماضي والمعاصر حفظ لنا - بتبجيل كبير - أسماء شعراء محاربين وخائضي معارك وانقلابات ودعاة دم وسيف وذائدي طغاة وحكام أحلوا سفك دماء شعوبهم؟
* هناك عدة أسماء حتمًا ولكن يحضرني الشاعر اللبناني أنسي الحاج، فهو قريب للشاعر الذي أراه. أما أن يكون التاريخ بوجهيه الماضي والمعاصر حفظ لنا بتبجيل كبير أسماء شعراء دعاة دم وحرب.... إلى آخره، فهذا لا يعنيني، لأن نتاجهم على الأغلب الأعم لا يحمل من روح الشعر ما أبحث عنه، وما حفظه التاريخ صورهم الملطخة بالدم والعنف. كيف لشاعر أن يحمل مسدسًا أو يكون بوق أيديولوجيات وأحزاب، ويدغدغ العواطف الرخيصة للجمهور، ألا يعني هذا أنه يرتكب جريمة بحق الإبداع والجمال. لستُ ثوريًّا ولا أميل لأي ايديولوجية مهما كانت، بل لا أستسيغ الكتابة المؤدلجة في الشعر وفي السرد معاً.
55 – الشاعر - وفق غارودي - لا يكفي أن يكون مدوّنًا أو رائيًا، بل عليه أن يساهم في تغيير العالم.. أتراها دعوة نظرية أم نزعة سياسية أم محاجة سريالية؟ وهل بإمكان الشاعر (أي شاعر) أن يقوم بدور المنقذ والمخلص في عالم الاحتكارات والهويات عابرة الجغرافية والأنظمة الشمولية والشركات متعددة الجنسية والحكومات الطفولية؟ بل هل بقيت مساحة حرة يمكن أن يعتليها الشاعر لإطلاق صرخته وتمرير خطابه؟
* هذه دعوة مؤدلجة، فما علاقة الشاعر بتغيير العالم؟! الشاعر منتج خطاب جمالي بحت، عابر للهوية بقدر ما هو ابنها المتمرد، لأن الإنساني والكوني هو ما يشدّ الشاعر حتى لو كان هذا الإنسانيّ في يومياته وعلاقاته الخاصة، فليس مطلوبًا من الشاعر أن يكتب عما تريده الجماعة، بل عما يؤرقه ويقلقه ويجد له وقعًا في نفسه، لأن الجماعة عادة ما تكون حزبًا أو طائفة أو جمهورًا أميَّ الثقافة. لا يمكن أن يكون الشاعر مهمًّا إن لم ينسلخ عن الجماعة بمعنى أن يُغرّد خارج السرب وعيًا وقراءةً وتفكيرًا وكتابةً، بل وينسلخ عن ثقافة الإشاعة والمنظومة المعرفية التي أوجدتها الأخيرة.
56 – رغبتك (التي تقرب من الهوس) بالسفر واكتشاف عوالم جديدة لم تكن معروفة بل ولم يطأها غيرك من قبل أجد أنها من السعة والتحولات ما لا يمكن أن تسعها لغة الشعر فحسب بل إن ثراءها وانفتاحها على عوالم وأجناس وثقافات تدفعها لطرق أجناس تعبيرية عدة لاستيعابها واستقطار رموزها ومفاصلها، فهل أنا مصيب لو توقعت أن في الأفق أكثر من كتاب خارج مدونات الشعر مثل كتاب سيري ورواية وكتابة من نمط الرحلات؟ أم تراك تظن أن الشعر وحده قادر على الإحاطة بالتجارب مهما تشظت أو تداخلت واستطالت؟
* لا أكتمك.. هناك رغبة في تدوين الحيوات التي عشتها وأعيشها، ولكن السؤال الذي يؤرقني هو كيفية كتابة هذه السيرة، إذ إنني لا أحبذ قال وقلت وقمت، وإدخال القارئ بدوامة أمور شخصية سطحية مثل الإكثار من الحديث عن المطاعم والمقاهي وما شابه، فمثلما أريد من السيرة الذاتية أن تبين لي التطور الثقافي والفكري والكتابي للكاتب مع توضيح مرجعياته بل وتجاربه مع قراءة كتب معينة لها مكانتها في الثقافة، اكتشافاته للكتب وللكتاب وللمدن وللحياة بصورة عامة، هذه هي السيرة التي أحبذها. وسوف أضرب مثالين غير غافل عن كتب مذكرات مهمة لكبار المبدعين، الأول هو رواية - سيرة "على الطريق" لجاك كرواك، والتي فيها متعة حقيقية وإشراك القارئ في الحدث، تجعلك الرواية تحمل ثقافة جيل وكيف كان يفكر وسلوكياته وثقافته، رواية سيرة فيها متعة التلقائية مع الحب، حيث لا نجد عند جاك كرواك روحًا أنانية لتقديم نفسه على الآخرين، بل يتحدث عن عرابَين آخرين هما ضمن جماعتهم، ويعترف باندهاشه بعراب مجموعته، وكيف أن العرابين حين التقيا تنافرا. إذًا لا نجد نرجسية فارغة ولا مساحة مبالغًا فيها للحانات والخمور والسرقات وتمجيد الذات، بل سردًا لوقائع حياتية محملة بِهَمٍّ وجودي. أما المثال الثاني فهو كتاب لطفية الدليمي "يوميات المدن" وهو عبارة عن مقالات سيرة فيها المعرفي موازيًا للسردي وضمن قوانين كتابة المقال، وهذه اليوميات تمنحني متعة القراءة والمعرفة ومشاركة الكاتبة رحلتها بين المدن وتجربة اللجوء المريرة التي عاشتها في باريس ثم استقرارها في عَمّان التي لها مكانة خاصة في قلب الكاتبة. كثيرًا ما أتساءل: كيف لي أن أكتب سيرة حياة كالمثالين السابقين لا يشعر قارئ كتب السيرة بأنه أضاع وقته، وعليه المشروع قائم وهناك إلحاحٌ من أصدقاء، وللأمانة التاريخية فإن أكثر من يلحّ عليّ هو الكاتبة لطفية الدليمي، وأرجو أن يسعفني الحظ أو تسمح مزاجيتي بالشروع بتدوين تجاربي في السفر والرحيل الدائم.