انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    عبداللّطيف الوراري:' الرّائي' بـاسم فـرات في أشعار منفاه الآسيوي..المنفى بوصفه تحريراً لمعنى الذّات

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    عبداللّطيف الوراري:' الرّائي' بـاسم فـرات في أشعار منفاه الآسيوي..المنفى بوصفه تحريراً لمعنى الذّات Empty عبداللّطيف الوراري:' الرّائي' بـاسم فـرات في أشعار منفاه الآسيوي..المنفى بوصفه تحريراً لمعنى الذّات

    مُساهمة  Admin الأربعاء يناير 26, 2011 9:04 pm


    2010-12-22

    'كان العراقيّون من منفى إلى منفى
    وفي كلّ المحطّاتِ التي يتوقـّفونَ بها
    نرى رجلا وحيداً واقفا تحت المطرْ!' المنصف الوهايبي.

    باسم فرات: قدر المنفيّ يُمثِّل الشاعر باسم فرات (1967م ــ )، في نظر دارسيه ومُجايليه على السواء، واحداً من أهمّ شعراء التجربة الجديدة في الشعرية العراقية اليوم، بما تعنيه الجِدّة، هنا، من ابتكارٍ لرؤيةٍ مخصوصةٍ للذّات والعالم ترفد تصوُّراتهما من زمنها وتاريخيّتها. وبسبب من قدر الشعر العراقي وضريبته الرمزيّة، وجد الشاعر نفسه في المنفى يعاركه ويندب خرائبه ويتجاوزه، كشأن أسلافه السومريّين. من بلده العراق عام 1993م، خرج الشاعر ـ ذات طارقة ـ إلى الأردن، ثم إلى نيوزيلندا، ثم إلى هيروشيما، قبل أن يستقرَّ به المقام في اللّاوس إلى حين. من منفى إلى منفى. وهو لا ينتمى إلى جيلٍ مُحدّد سوى إلى نفسه، جاعلاً من الشعر عزاءه في تقلُّب المصائر والأمصار. 'لقد وجد باسم فرات ـ بتعبير الشاعر سعدي يوسف ـ، طريقه المتفرّد في المشهد الشعري العراقي الرائع في المنفى'.
    بعد 'أشدّ الهديل' (1999م/ مدريد)، و'خريف المآذن' (2002م/ عَمَّان)، و'أنا ثانيةً' (2006م/ زيورخ- بغداد)، و'إلى لغة الضوء' (2009م/ القاهرة)، استطاع باسم فرات أن يكشف لقُرّائه ومُحبّيه حساسيّة الكتابة التي ينحتها ويوقدها بزيت ذاكرته وروحه ومعرفته، وهي لا تثبت على شكلٍ معيَّنٍ أو معتقَدٍ آسرٍ يحُول بينها وبين مجهولها في استئناف معناها، بل هي متوتّرة ما تفتأ تتبدَّل في عبور الذّات للمنافي والبحار والجزر والشِّعاب، تستنطق شواهد ليل الماضي بقدر ما تستبصر أفق الحاضر وتهجس به. وفي مُجمل ما يكتبه باسم فرات، يحتمي الشعر بالمعرفة ويتوهّج بحضورها، ويتّخذ من تأمّله في التاريخ، والأساطير، والفنّ، والصورة مادّةَ شعره الحيوية؛ وهذا ما يجعله مختلفاً عن مجايليه من شعراء العراق، ويجعل من طريقته في التعبير الأنفذ خيالاً وتأثيراً في ضمير الشعر العربي وراهنه.
    وبما أنّ 'الشاعر ابن بيئته' ــ مثلما تقول العرب ــ، ظلّت كربلاء تُخيِّم على شعر باسم فرات، وتُلْقي عليه ظلالاً ثقيلة، وشفيفة في آن، من إرث المظلومية والدم والنواح وجلد الذات، حتى ارتبط لدى قُرّائه بوصفه شعراً رديفاً للألم، وخزيناً لا ينضب من الوعي الحادّ بالمأساة ولغتها. إلى جانب أنّهُ يذكر أنَّ أحد أسلافه حسبما تروي له العائلة قد قطع رأسه وأرسل للأستانة، ليس بوسع باسم أن ينسى ما قرّ في ذاكرته وطيّ باله من شبح الأب الذي قتل، وهاجس الأمّ التي لم يتعرّف إليها إلّا في سن الخامسة عشرة بعد طفولةٍ سخمها اليتم والحرمان؛ وهذا ما يبرّر، بمعنى من المعاني، الحضور الكاسح لصور الفقد والحنين الموت ونُذُر الخراب والتّيه، مثلما يبرّر تلك النصوص المفجوع بها، التي يشغل فيها والداه مساحة مهمّة ممَّا كتب.
    ولقد أمكن لقارئ شعر باسم فرات أن يتبيّن بوضوح هذه الصور، ليس في الشعر الذي كتبه في العراق أو الأردن فحسب، بل حتّى وهو يسيح في مجهولٍ أسفل الأرض، إذ ظلّت الصور تُطارده ولم تتركه يتكيّف مع العيش في نيوزلندا، حتى أنّ المفردات التي استوحاها من منفاه النيوزلندي ب(ولنغتن)، من مثل الإلهة النيوزلندية وطائر الكيوي وشجرة البوهو توكاوا، لم تخرج عن بنية قصيدته بمسحتها الكربلائية التي فرضت مناخاتها، ولم يستطع سليلُها البليغ مقاومتها والفكاك منها.
    نصوص 'المنفى الآسيوي' أو ما بعد الكربلائيّة: يكشف الشاعر في (الرائي)* عن أشعاره الجديدة الّتي هي نتاج مغامرته الذاتية، في منفاه الآسيوي. وسوف تكون تجربة المنفى الآسيوي أكثر حضوراً وقيمةً في شعره، وتنقله إلى مستويات عالية من العمل على الدالّ أكثر من المدلول، فلن يأخذ المنفى، بالنّتيجة، معناه العادي والمتعيّن الذي كان له، بل ــ وهو يتخلّص من كربلائيّته ــ يُدمج الكتابة لدى باسم فرات في سيرورة جديدة من عمل الذّات واللغة والمتخيَّل، يبدو معها هو أكثر انشغالاً بسؤال الشّعري، ومتخفّفاً من بلاغة الحزن والشعور بالمظلوميّة على نحْوٍ مُطّرد ودالّ، ومرتفعاً بآلامه إلى مستوىً إنسانيٍّ مؤثِّر ومثير يضع العراق، موطن الحضارات الأولى، في مقام الفردوس المفقود الذي يضيع من الإنسان، بقدمٍ في ماء الأمل ولُغةٍ أنفذ ضوْءاً.

    الذّات والوعي بمعناها الجديد:
    في نصوص 'المنفى الآسيوي' نجدّ كلّ هذا. وفوق هذا، نعثر على رغبةٍ واضحة لدى باسم للخروج من عباءة 'الكربلائي' المحلولكة، إذا أراد أن يسير بتجربته في الكتابة والحياة إلى ضفافٍ جديدة. لقد وقف بمخيّلته وذائقته، قبل أُمّ عينيه المغرورقتين، على معنى الخروج وقيمته، لمّا وصل إلى هيروشيما، وتفاعل معها، حتى عدَّها هو نفسه المنفى الأخصب في حياته. يعترف باسم بذلك، قائلاً: 'في المنفى الآسيوي حقّقتُ طفرةً شعريّةً مُهمّة في تجربتي'، ومُشيراً إلى أَنّه 'منفىً إسترخائي تأمّلي إستكشافي' يُنْصت فيه لعزلته، ويحتفي بالحياة ضدّ الموت والخراب، وكتابته أشرفت على مدى أرحب 'مُثقلةَ بالهمّ الإبداعي والشعري والتّصالح مع المكان والثقافة الجديدة' (ص157).
    يكشف نصّ 'سليل'، الذي يؤرّخ لأوّل نصوص هذا المنفى، عن رغبة الشاعر المريرة في الانعتاق من أسر 'الصورة' الضاغطة والواخزة للوعي، مثلما يكشفُ عن تململٍ في إواليّات فهم ما يقع حول الذّات التي وجدت نفسه في صراعٍ بين فضاء (الهنا) وفضاء (الهناك). يقول الشاعر: 'عندما رأيْتُ رأسي/ بلحيةٍ وشَعرٍ مُنْسدلٍ/ مرفوعاً على رُمحٍ/ حلقتُ لِحيتي/ وقصصتُ شَعري/ تعطّرتُ/ ورحتُ أغازِلُ نسوةَ المدينة/ هل أوهِمُ نفسي/ أنّني لست الّذي في الصورة:/ محمولاً رأسه/ على رُمْح؟ !' (ص69).
    ذلك التنازع يستتبعه، حقيقةً، تبدُّلٌ حادّ في متغيّرات الوعي التي تُلحّ على واقع الكتابة ومُتخيّلها باستمرار، من أجل أن تعيش الذّات وتتكيّف مع الحياة الجديدة التي تشعّ من حواليها. في 'البراق يصل إلى هيروشيما'، نقف على معنى أن يصطرع في وعي الذّات عالمان، ديني تُراثي وآخر تاريخي، يقوم الشاعر بدَمْجهما في أفق التجربة الإنسانية المشتركة الذي يُفيد أنّ عهد النبوءات ولّى، وأنّ نهر الوجود لا ينقطع عن شقّ استعاراته الحيويّة: 'أمام قلعة هيروشيما/ وحيداً/ يقف البُراق/ دون نبيٍّ يمتطيه/ حاملاً أحلاماً/ فقدت صلاحيّتها/ تحته يجري النهر/ نزقاً ينبضُ بالجنون' (ص23). وبالتّالي، لا مندوحة من أن تنفتح الذّات على ممكن حياتها خارج شرنقتها الآسرة، وخارج التمثّلات التي حملتها، واستحالت إلى قيْدٍ يشدُّها إلى الماضي. لذلك، ليس من المغالاة أن نقول إنّ المنفى في تجربة الكتابة يمثّل، بالنسبة للشاعر، شكلاً مُلائماً من أشكال التعرُّف على الذّات بما ينغلق عليه عالمها من ذكريات وهواجس وأيقونات، فيتّخذ من حاضر منفاه معبراً للكشف عن معاناتها الذّاتية بقدر تجاوزها وتفجيرها تخييليّاً، مثلما في نصّ'رجل من هيروشيما' الذي يشفّ عن نزوع الشّاعر الإنساني وإقباله على الحياة بمجرّد نسيان الماضي، وإن كان يحمل آثاره وندوبه المادّية. يقول: 'الّذي فقد أباه/ في السادس من آب 1945/ وتشوّهت أًمُّه،/ الذي حمل عوقه/ ستّين عاماً/ ولا يزال،/ قدّم وردةً لقاتليه،/ واحتفى بالحياة.' (ص55). وفي سياق آخر، يتّخذ الشاعر من (الذّات) معادلاً للـ (ساموراي)، حيث يتخيّل الشاعر نفسه في صورة الساموراي الذي جُرِّد من أُبّهته وتاريخيّته، ولم يبق منه إلّا مادّته، لا روح فيه. تشفّ القصيدة عن أنّ المعنيّ هو صورة الشاعر، أناه ووظيفته في العصر الذي يحياه؛ فهو في المتحف، بلا دَوْرٍ ولا قيمة. يأخذ الاغتراب معناه الأوسع، الأنطلوجي. يقول الشاعر في (الساموراي): 'يُجرَّد من أُبّهته/ ويُركن/ في زاويةٍ شبه مُظلمةٍ/ في متحفٍ ما/ بانتظار/ مهرجانٍ جديدْ.' (ص22).لكنّ شاعراً كان مُسافراً مريضاً مثله، وعبر حقول الأعشاب الذابلة في أحلامه، هو ماتسوو باشو، رائد الهايكو الياباني، يستدعيه باسم كقناع، ويستثير من 'تقريضه' له معاني الأمل، ويجعل العزاء في الشعر قائماً، وجذوته في سريرته مضطرمة لا تنطفئ، حتّى وهو في هشاشته وعزلته، مثلما يغتسل في حضرته الجليلة من الأحزان والكوابيس التي علقت بذاكرته: 'ها أنت ذا في حضرة باشو/ لا تنْسَ أن تصبّ الماء على يديك/ وتضرب بالناقوس/ ثمّ تخلع نعليْكَ/ عليه اقصصْ طفولتك..'(ص34).من ذاتٍ إلى ذات، لا يكفّ الملفوظ الشعري عن أن يكشف بحث الشاعر المحموم عن ذاتيّته، شبيهاً بذلك البحث عن معناها اللّانهائي في عبور الأقنعة الأصلية والرمزيّة، والأيقونات البصرية المحتشدة التي يعيد تأويلها في لعبة المعنى، ويعالج سَداها في جُمّاع التجربة، لأنّ 'ما يبحث عنه لن يجده كاملاً'.
    أمكنة جديدة في مُتخيّل الكتابة:
    في هذه النصوص، يحضر البعد المكاني بزخمه السردي ووهجه الاستعاري، ماتحاً مادّته من إقامة الشاعر المتوتّرة ليس فقط بين فضاء (الهناك) و(الهنا)، بل بينهما وبين الفضاء المتخيّل والمحلوم به الذي ينتسج أفقه من عمل اللغة وسرد الأسطورة الشخصية، ويعمل على إزاحة الأوّل لصالح الثاني، فتطفح ـ نتيجةً لذلك ـ مفردات الحضور المستأنس به بدلاً عن الغياب الموحش. من هنا، تسرح في نسيج النصوص أشكال الأمل والفرح والضياء التي تُبدّد ذاكرةً منقوعةً بالموت والأحزان. نصّ 'المستقبل وهو يقفل راجعاً'، تمثيلاً، يصدع بمعنى ذلك، أن يكون الآتي عزاء الإنسان في حاضرٍ يذكّر بالماضي ويتجاوزه في آن:'غربانٌ تتبع ياماتو/ إنّها الغريزة يا لها من دليلٍ قاسٍ/ في مخيِّلة الجنود، الماضي قفز عالياً'. فإذا كان الحنين إلى الماضي غريزيّاً، فإنّ ذلك ليس مانعاً من أن يعقد الإنسان الأمل على 'الأمنيات المكتوبة على ورقٍ أبيض'(ص27).مرجع الكتابة، هنا، قياميّ ناهض، كهذا الذي يُحيل على هيروشيما في نصوص أخرى مثل 'تلاميذ هُندوري'، و'متحف السلام في هيروشيما'، و'قلعة هيروشيما'؛ فليست هيروشيما كأيٍّ من الأمكنةِ، ويا للرهبةِ العارمةِ التي تحفظها ذاكرتها، وهي التي انهارت عن بكرة أبيها قبل أن تنهض. من كربلاء إلى هيروشيما، هناك تواشج بين المفجوعتين، إلّا أنّ الأولى ترقد في الماضي، فيما الثانية تقدم من المستقبل. هذه الطريق التي تُعانيها الذّات بحثاً عن خلاصِها وتحرير معناها، هي قدر المنفيّ المزمن وغير الميؤوس منه، الذي يدع الوعد بالحياة مستأنفاً، على الدوام. في 'نهر ميكون'، باللّاوس، يرى الشاعر المدن التي خبّأت أسرارها ورمّمت ذكرياتها من ركام الحروب، فهي لا تأبى إلّا أن تستأنف رحلتها على ضفاف النهر الذي يُشاطئ دولاً مثل الصين واللاوس وميانمار وتايلاند وفيتنام، لأن نداء الحياة هو الترياق نفسه، ولقد تحوّل هذا النهر الذي اصطبغت مياهه بالدّم والعويل إلى معادلٍ نفسي وتخييلي كما لملفوظٍ مسكوتٍ عنه كما في 'عن الغريب الذي صار واحداً منهم'، كأنّ الشاعر يلمح إلى نهري الأمل دجلة والفرات: 'ها أنذا..قدمٌ في ميكون وأخرى في الأمل/ يرقدُ تاريخٌ في جعبتي/ أنصتُ للموج بينما الرّيحُ تقفلُ أبوابَها خجلى' ((ص15). أو لنقل، بعبارته هو، إنّه 'يُقطّر الفرات في مُخيّلة ميكون'.
    إنّ باسم فرات ليس مجرّد سائح 'يلتقط له الصور التذكارية' ويفرح بها، إنّه فوق كونه شاعراً، هو رائيٌّ يضع ذاكرته في أتون الأسئلة المنتجة والخلّاقة، فلا يكتفي بزيارة المكان، يل يستقرئه ويستبصره باعتباره مكاناً إنسانيّاً بليغاً يُفيد ـ كدَرْسٍ للاعتبار ـ أيّ مكان في العالم ميؤوسٍ منه، بما في ذلك الأمكنة التي عبرها واصطلى بنارها، من كربلاء إلى بغداد. فالمكان الجديد لا يحضر إلّا كمعادلٍ نفسيٍّ وأنطلوجيٍّ ينتسخ، بوعي أو بدونه، التجارب القديمة للمكان، ويُعيد تشكيلها بطريقةٍ تُفجّر المسكوت عنه الذي يرين على الذاكرة ولغة الأحلام. يقول: 'هي مدنٌ/ تعبرُنا ونعبرُها/ لتتركَ وشْمَها فينا/ وشْماً تُبارِكه آلهةُ الشنتو/ مدنٌ نطوفُ بها كالمجاذيب/ نُعلِّقُ ذكرياتِنا فيها،/ المليئة بمغامرات حمقى/ أهالوا نهاراتِهم على الليل' (ص47).يكتشف الشاعر في مدن الشرق الأدنى التي يعبرها تعبيراتٍ وصيغاً تفرض نفسها عليه، فتُنمّي لديه الشعور المبتهج بالانتماء إلى ثقافاتٍ بأكملها، مختلفة وحافزة. بالنتيجة، ليس الوطن ما تشكّل في الذاكرة، بل إنّ هويّته تتشكّل باستمرار من تراكم خبرة الشاعر الحسّية وغناها في عبوره حياة الأمكنة الجديدة التي يتصالح معها، ويكتشف فيها 'وطنه الجديد'، ويعيد تأويل استعارته من جديد، بعدما لم يعد العراق ـ كما يعتقد في قرارة نفسه ـ ّفردوْساً مفقوداً'، وإن كان ذلك لا يتمّ بمنأى عن الحنين القاسي الذي يتلبّسه، ويحاول كسر طوقه.هكذا، في كلّ مكانٍ يعبر به، من البحر إلى مرآب السيارات، يبحث فيه عن معنى ذاته المتشظّية، المتوزّعة بين الذّكريات والمنافي، ويقول 'إنّها فطنة الإنسان مع الحاجة'، ويزيد: 'وبينما أمضي/ مُتأمّلاً معابدَ وقصوراً وقلاعاً/ همستْ سيّدةٌ بجانبي تسخر من ثمانينها وهي تأفل:/ إنّها جميعاً كانت حطباً لحرب سادرين بحمقهم/ ما تراه، تقول لي الثمانينيةُ، نفخنا فيه من روحنا'(ص52). روح الإنسان، هذا هو الجوهر الذي يدع الوعد بالحياة مستأنفاً، على الدوام.ضربات للقبض على الجوهريّ:
    نلمس في نصوص'الرائي' تأثُّراً من لدن الشاعر بثقافة بلد المنفى وأساطيره ( بوذا، ناغا، طلات ساو، الدارما، الشنتو، الساكَ..)، التي يقوم بدمجها مع تاريخ العراق وأساطيره (أحيقار، مردوخ..)، في بنية القصيدة، فكأن جُلّ هذه النصوص وليد الثقافة الجديدة يتنفّسها ويحوّل تصالحه معها إلى بؤر ثقل نفسية ووجودية تجعل من اليومي والمعيش أنماط حياة وأشكال تخييل بانية؛ فليس المعنى هو وحده الذي يتغيّر، بل الخطاب الذي ينتظم إيقاع الذّات الكاتبة وسيروروة انبنائها الدلالي والرمزي: تدافع الجمل الشعريّة نثْراً، فيما إيقاع التضادّ والمفارقة يخترق بنيتها بشكل تلقائيّ وصادم في آن، ويبلغ ذروتها الفجائية في نهاية كل نصّ. يساهم ذلك في شعرنة السرد الذي يجعل من سرد الذّات سرداً متعدّداً يتغذّى من متواليات البوح والرؤيا والاستيهامات وأشكال الاستعادة الواعية وغير الواعية. ولا تعدم الخلفية، بالنتيجة، حركة الصُّورة التي ترفد دلالاتها الحسية وتجترحها من تراكم خبرات سابقة، عبر لغة مستقطرة ومكثّفة ترتفع بالتركيب النفسي لها إلى مجال خصيب يستوعب تحوُّلات الذات ويطلقها في مسارٍ لا ينتهي من إنتاج المعنى. ورغم لهجة الحنين والفقد والاغتراب السارحة في جسد القصيدة، وذلك بسبب من مرجعيّة الكتابة وأصولها التي تتحدّر من سيرة الشاعر وغنائيّته الخاصّة، إلّا أن الأخير يحدّ من آثارها السالبة إلى مستوى لا تشكّل معه عائقاً أمام تبلور حركة المعنى، كالمستوى السنتمنتالي. نخلص إلى القول إن تجربة باسم فرات في أشعاره الجديدة لهي جديرة بالاهتمام لاعتبارات سالفة، وأخرى مضمرة وفالتة. تجربة الكتابة كما الحياة التي تصطرع في مُتخيَّلها جذوة الأمل، وتنهض من ركام الخوف والوحشة والغياب والجراحات لأجل أن تجد معنى لكلّ ذلك، وتُحرّره، تعويضاً للشاعر عن تلك الفقدانات في الشعر وعبره، فإنّ 'جميع الخسارات والتضحيات ــ كما يقول باسم ــ تتضاءل أمام الشعر، لأنّ الشعر بحدّ ذاته هو الوطن، وهو العالم النقيّ تماماً' (ص137).
    هامش:
    *الرائي..باسم فرات: دراسة ومختارات وحوار، إعداد وحوار ناظم السعود، الحضارة للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م.


    صحيفة القدس العربي
    http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\22qpt85.htm&arc=data\2010\12\12-22\22qpt85.htm

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 16, 2024 3:25 pm