في قصائد الديوان الجديد " بلوغ النهر " الصادر بداية هذا العام للشاعر " باسم فرات " يحاول الشاعر الانتماء إلى المجتمع الجديد، الذي وجد نفسه يعيش فيه، فهو ينهل من ميثالوجيا اليابان، وما حولها من بلدان آسيا، وقد دخلت على قصيدته معرفيات وأساليب ومفردات وأسماء لم تكن موجودة في قصائد ديوانه السابق" أنا ثانية " الذي صدر عام 2008 بل انه في إحدى القصائد يضمن هذه الحقيقة في عنوان قصيدة، فيقول على لسان من يعيش معهم " عن الغريب الذي صار واحدا منهم " وهو يحكي بلسانهم عن انتمائه الجديد:
" ها أنذا .. قدم في " ميكون " وأخرى في الأمل
يرقد تأريخ في جعبتي
أنصت للموج بينما الريح تقفل أبوابها خجلى
و " فينجان " خلفي
تحمل غبارها وابتسامات عابري الطريق والرغبات
الكسبة يبيعون أنين أيامهم بأوراق الموز
صلوات الرهبان تغلف سقوف المعابد
مع أنغام الطبول
حتى تتشابك فوق شجرة يجلس تحتها بوذا
مانحة الطمأنينة ل " ناغا "
ثم تتابع ترتيلات الغريب في فضاء غربته: " احتمي بالمطر من البلل / وبالمناداة من ضجيج الهدوء / أنصت للقلوب وهي تتغامز: أنظروا للغريب صار واحدا منا " وهذه هي القفلة المناسبة لكل ذاك الألم، ومحنة انتماء الشاعر، التي تتكرر في قصائد الديوان كنغمة حزينة، لا يجيدها غير هذا الشاعر، انها نغمة بناها الشاعر داخله من خلال فولكلور وميثلوجيا عراقية غارقة في الحزن، وتوقع الأسوأ من الحياة ! تجدها واضحة في الطباق الذي يستخدمه، الموت والحياة، الغربة والأهل، الآلهة والله الواحد، عبادة التماثيل وعبادة الله، الضوء والظلام، الأهل والأعداء، والاستعارات الشعرية التي يكررها في الكثير من قصائد الديوان، وتركيزه الدائم على استخدام الموسيقى اللغوية في مفردات قصائده لخلق الإيقاع المطلوب، وتكثيف الصور الشعرية لخلق التأثير المناسب في المتلقي، ان متابعتنا لقصائده تضعنا على خصائص القصيدة لدى هذا الشاعر المبنية على موقف وفن لغوي، فالفن لعرض هذا الموقف، والحصول على التأثير المباشر في المتلقي، والشعر منذ القديم يقف على ساقين هما الفن والموقف، وبهما يسير الشاعر إلى قارئه.
الفن الشعري واضح في قصائد الديوان الذي تحكي عتبته عن " بلوغ النهر " والنهر هنا لا يحمل مقومات المكان فقط كما يبدو للوهلة الأولى انه يحمل مضان الموقف، والموقف هنا " انتماء الشاعر للعالم الجديد " الذي وجد نفسه فيه، وبالرغم من أنها قيمة غير مستقرة في نفس الشاعر التي تنتمي إلى عالم آخر، وعادات أخرى، وميثلوجيا مختلفة إلا انها ساعدت في توليد حالة الدراما التي يعيشها الشاعر وقصيدته بين محنة الأنتماء لعالم مختلف وعالم أثير له عرفه منذ الطفولة، هي دراما إذن من نوع التراجيديا، وهي المادة التي عمل عليها الشاعر في قصائد الديوان التي بلغت اكثر من ثلاثين قصيدة.
ولنا أن نجتزىء من بعض قصائده، ما يؤيد ما ذهبنا إليه: انظر اولا بعض عتبات القصائد، التي تشي بوضوح ما عنيناه: " البراق يصل إلى هيروشيما " ص5، الساموراي " ص7، " الهنمي في هيروشيما " ص9، " الأمبراطور " ص 17، " طلات تن كام خام " ص 21 " سبادي " ص 29، " متحف السلام في هيروشيما " ص33، " بينما يبتسم بوذا" ص 37، " تقريظ باشو " ص 39، " تلاميذ هندوري " ص 43، " قلعة هيروشيما " ص47، " رجل من هيروشيما " ص59 وأغلب ما تبقى من عنوانات القصائد هي على هذا المنوال، وإليك بعض المجتزءات مما يتيح له الحيز المسموح بالنشر في جريدة يومية: " في احتفالات الهنمي / عليك أن تحتفي بالفرح / وتطرد أحزانك بعيدا / تحت أشجار الساكورا / تنادم ضحكات الجميع / وتمنح النسيان فرصة أن يتسلل إليك / تخبىء ذكرياتك في دهاليز مفقودة / في حديقة السلام / لك ان تأوي إلى البهجة مع المبتهجين " ص9 وقصيدة الأمبراطور التي يهمشها الشاعر بقوله: " في 18 نيسان 2011 فينتان – لاوس، فكرة القصيدة وعوالمها داهمتني حين كنت في فيتنام في مقبرة الأمبراطور خاي دينه، وأمام تمثاله بالذات " ص 20 ثم يقول ساخرا من حاله الان بعد مجده القديم: " الأمبراطور الذي تهتز الجبال من لائه / وتحت بسطاله ترتجف أسود وتنانين / هاهو داخل مربع يسوره شريط أصفر لا يتخطاه / ضريحه وقد فاق الأهرامات بأبهته / لم يعد مكانا للتبرك / فهو مأوى جرذان ومبولة سكارى/ ملابسه تذكر بقطيع الحمر الوحشية / وعصاه التي طالما ابتلعت ثعابين وأعداء / كثيب نمل غدت " ومن قصيدة سبادي ص29 نجتزىء: " امر على قرويين / أكواخهم تنبت البسمة والدهشة على وجوه العابرين / ألم حياءهم وأحزانهم في سلال رحيلي / بينما الغاضرية تستفيق على أمتداد حقول القصيدة " ومن قصيدة تلاميذ هندوري ص43 نجتزىء " هندوري يتمدد في رحم المدينة / في ورق الهدايا يبيع التأريخ / يعرض الفلسفة على رفوف السؤال / والذكريات مباحة للجميع / نداءات الباعة توقظ في عاطفة لهذا البلد العتيق / هذه جواهر من كلام، وأنهار معبأة في القناني / بينما رائحة البحر مجففة تملأ الطاولات / الحقول أستفاقت بأنتظار أفواه شاسعة كصحراء / معابد كثيرة لم يفض الرهبان عذريتها بعد / مكدسة للبيع، إنها السكينة للبيوت /السامورائيون دمى الأطفال / وسيوفهم ملعب للصدأ ".
أن البنائية التي أعتمدها الشاعر باسم فرات في قصائد ديوانه الجديد بعناصرها الأسلوبية المعتمدة في كل قصيدة أعطتنا عالما متشابكا من " الفن والموقف " فكل قصيدة هي فن وموقف في ذات الوقت، وقد خدم فن كتابة القصيدة الغرض الذي كتبت من اجله كل قصيدة " موقفه " من غربته ومما يعيشه من محنة الأنتماء إلى عالم غير عالمه وبلد غير بلده، ومن اشواق لا حد لها لطفولته، وإلى ميثلوجيا ورثها عن أهله واجداده، وحاول ان يجد ما لدى الآخر بديلا لما ورث، انها بحق قصائد محنة انتماء الشاعر.
* الديوان صدر عن دار الحضارة للنشر/ القاهرة – مصر / الطبعة الأولى 2012 / 104 صفحة من القطع المتوسط .
* كاتب عراقي يقيم في المغرب
جريدة الصباح العراقية .. 17 تشرين الأول 2012
http://www.alsabaah.com/ArticleShow.aspx?ID=37291