قراءة في قصيدة (يندلق الخرابُ فأتكئُ عليه) للشاعر باسم فرات
"الشَّاعرُ كائنٌ وحداني يتوجّس المجموعَ أن يربكوا توحده، ينهل من تأملاته، وتجاربه، وقراءاته، ويتماهى مع عزلته غير عابئٍ بالخلود، غير عابئِ بالأفول أيضًا".
هكذا يرى باسم فرات تفرُّد الشاعر ونتاجه، ويجعل من غربته أداةً فاعلةً في العمليّةِ الإبداعية لتكون خلاصه الفرديّ، فكما يقول: (وهل للشاعر من حقيقةٍ سوى القصيدة؟).
تبدو ملامح الاغتراب النفسي جليَّة في قصيدته (يندلق الخراب... فأتّكئ عليه) ومتفقة إلى حد بعيد مع ما ذهب إليه فروم في تعريفه لهذا الاغتراب بأنه "شكل من أشكال الخبرة التي يمارسها الإنسان وهو يشعر فيها بأنه غريب عن ذاته، ولا يجد نفسه كمركز لعالمه، كخالق لأفعاله وإنتاجه، وإنما أفعاله هي التي تصبح لها السيادة، وعليه أن يطيعها ويعبدها أحيانا" .
فالشاعر في بداية قصيدته يخاطب ذاتًا أخرى، يخاطب جزءًا من شخصيته التي تشظت وانشطرت بفعل الاغتراب والمنفى، ويطالبها بالمكاشفة والمواجهة والاعتراف، يحاور (أناه) الثانية لينهي مرحلة الصمت وليضع حدًّا لصراعه الداخليّ مكرّسًا، لمعادلة ميزان القوى بين أناه القديمة التي تحنُّ إلى أرض العراق وتلومه على منفاه وأناه الجديدة التي ترى خلاصها في المنفى.
يخاطب ذواته المتشظية بأسلوب طلبيٍّ يحمل عنفوان الأمر وإلزاميته ومعاني الندية في القوة والتأثير بين ذاتيه المتشظيتين، المخاطَبة و المخاطِبَة:
قل ما بدا لك
ودعني أقل ما بدا لي
هي لازمة غنائية تسجل لبداية ثورة داخلية، وتعزفها جوقة القصيدة أربع مرات إصرارًا من الشاعر على ثورته، فقد ملَّ التصنع والادعاء ويريد الانعتاق من كل القيود باعتراف كنسيّ، يريد أن يملّك ذواته حرية التعبير التي طالما حرمت منها، لا يريد أن يكون ذاك الطاغية الذي يكمم الأفواه، وينسج منظومة الخوف على مشروعيّة الكلام، فكل شيء مباح في أبجديته الثوريّة، لا خطوط حُمرٌ بعد اليوم، فكل (ما بدا لك) و (ما بدا لي) مشروع بوحه، والشاعر بهذا البوح ينعتق من كل القيود التي ألجمت روحه دهرًا فكان المنفى هو الثمن.
واستجابة من ذواته لهذه الثورة تبدأ المكاشفة، فتعبر إحدى ذواته عن مخاوفها وهواجسها من تجربتها الجديدة في المنفى، ومن فوبيا رفض الآخر لها في بيئة مغايرة لتلك التي نشأت فيها ثقافيًّا واجتماعيًّا ولغويًّا، وهذه المخاوف قد تعيق باسم فرات من التواصل مع بيئته الجديدة والتفاعل معها.
هذا الخوف من المجهول دفع بالشاعر لرؤية نفسه وقد غُلّقت أبواب المنافي في وجهه، فهو مغترب عنها روحًا رغم أنه يستوطنها جسدًا:
الجهات تتوارى خلف هذياناتها
والمنافي تغلق أبوابها بوجه الفرات
يتجذّر شعوره بالضياع بين حضارتين وثقافتين كما يعبّر عنه في قصيدة أخرى، فهو يعاني من التشظي بعد أن لفظته أرض السواد (العراق) ومخاوفه في منفاه فيقول:
فلا أرض السواد ترمي لك بسعفها وجلجامشها
ولا أرض إيوي تمنحك طمأنينة كيويها
في منفاه، "تتحول الهوية هنا إلى اغتراب، وتنقسم الذات فيه على نفسها بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبسبب استبداد الخوف تشعر الذات بالانكسار، أو ما سماه الفلاسفة الوجوديون المعاصرون (الاغتراب). إذ تعيش في عالم لا تسيطر عليه، وتشعر بعجزها عن تغيير مجرياته أو التأثير فيه، وتحرم من ممارسة حريتها، عندها تفقد الشعور بقيمة وجودها ويصبح كالعدم في نظرها أو على الأقل كالوجود الطبيعي للأشياء" . فكما يرى ديكارت، يغترب (الأنا) عن ماضيه عندما يشك في الذاكرة، ولا يطمئن إلى ما تحتويه من تجارب ومعارف، ليقع فريسة الندم على ماضيه.
يتمظهر هذا الملمح النفسيّ في قوله:
أيامي تلعقُ أيامي
والذي يمضي بعيدًا
دون خضرتِهِ
هو الآسُ
يحاول الشاعر الانتصار لما هو كائن، ويسعى لعيش جديد بدفن ماضيه وندب أيامه الخالية، ليتمكن من التصالح مع حاضره، فمعايشته لصور القتل والتشريد والتهجير– التي تحفل بها ذاكرته– يتنافى وقدرة الإنسان على العيش بشكل طبيعيّ:
أندبُكِ يا أيامي
وأزخرفُ شاهدتكِ بالعويل
......................
أندبك يا أيامي
وأضيء شاهدتك
بالبخور والآس
أرتل في جوقة المنسيين
ذكراك إلى الأبد
نلحظ أن تكرار صيغ المضارع في (أندب، أزخرف، أضيء، أرتّل) تحمل معاني الاستمراريّة والديمومة، فحتى لو تخلص الشاعر من أطياف الماضي إلا أن لعنته ستبقى تلاحقه أينما ذهب.
وكل هذا الندب والتفجع تقابله حقيقة واحدة:
ليس على النافذة من أحد
فسبح بحمد منفاك
في انصياعه للحاضر يقيم الشاعر حفل تأبينه، فيكلل قبر ماضيه وذكرياته بالآس، بما يحمله الآس من معانٍ تكرّس للموروث الشعبيّ العراقيّ:
والذي يمضي بعيدًا
دون خضرته
هو الآس
أندبك يا أيامي
وأضيء شاهدتك
بالبخور والآس
و الآس يحتل في خاطر الشاعر مكانا راسخًا، حيث يصر على توظيف رمزيته في مواضع متعددة من قصائده، مثل قوله:
ثقبوا قميصك بالآس
......
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
.......
وعلى كتفيك مواويل نخلٍ ودموع آس
........
أتولّه بالآس وهو يشبهني تمامًا
واستمرارًا لمراسم التأبين، يستدعي الشاعر مظاهر الطبيعة لتشاركه أحزانه، وهو بذلك يتمركز حول ذاته ويجعل الكون يتماهى مع آلامه:
الخريف يتوسد ذاكرتي
فالخريف- بإيحاءاته القاتمة- يحمل معنى اليتم والتهجير، خريف الاضطهاد، خريف الرصاصات التي قتلت أحبته وأجبر على دفع ثمنها في مفارقة ميلودرامية من مفارقات النظام السابق، لكن هذا التشبيه لم يعفِه من الوقوع في فخ التنميط الكلاسيكي لصورة الخريف مع أن الشاعر معروف بتجديده للصورة الشعرية وخلقه علاقات جديدة بين أركانها.
يقابل صورة الخريف باهتة الألوان صدى أجراس الكنائس التي ترثي ماضيه في قداس كونيّ جنائزيّ:
فالنواقيس تغدقُ المراثي علينا
تتصاعد وتيرة الألم عند الشاعر ليقع في فخاخ الجرح النرجسي، حيث "يبدو واضحًا المساس بأعمق جوانب النفس والنيل من التقدير والاعتبار الذاتي لها، مما يولِّد آلامًا معنوية شديدة جدا" ، فإحدى ذواته لا ترى في أحلامه بالعودة إلى أرض العراق إلا ضربًا من الأوهام، ضربًا من الجنون، يقوده إلى سلسلة متتابعة من الأخطاء:
أنتَ توقدُ أوهامك
بالجنون
تسعل
أخطاء
ومحبة
يفجر الجرح النرجسي عنده حالة من القلق الوجودي تبعثر أشتاته وتقوده إلى البحث في جدوى الحياة وعبثيتها. هذا الأمر لم يتفرّد به باسم فرات وحده، بل نراه ملمحًا مشتركًا بين أدباء المنفى، فمتلازمة ضياع الهويّة وعمليّة البحث عن الذات أصبحت همًّا فلسفيًّا عند مجايِليه من الشعراء في تسعينيات القرن الماضي:
فيطرق الندم بابك
لماذا تفتحه إذن؟
ألكي يباركك اليقين؟
أَوَما علمت أنّ الشك
حبرٌ اندلقَ على عمرِكَ
عَبَثًا صراخك
في فجر شائخة مصابيحه
هذا المونولوج الداخليّ بما يحمله من تقريع وتوبيخ للذات، وجلد لها يشي بحالة التأزم والضياع والشعور بأن ذاته مستهدفة، فالندم يلازمها والشك قد اندلق على أيامها.
ولنا هنا أن نقف وقفة ونتساءل عن ماهيّة الشك الذي يعايشه:
هل هو الشك بإنسانية الإنسان بعد أن رأى مقدار الوحشّية التي قد يمارسها على أبناء جلدته؟
هل هو شكٌّ يطالُ ذاته ومقدّراتها وقدرتها على التكيُّف؟
هل هو شكٌّ بغائية الوجود ومشروعيّته؟
و هذا الشك الديكارتي قاده إلى رحلة البحث عن ذاته والتأكيد على حضورها كما في قصائد أخرى:
أنا باسم فرات...يا الله...أتعرفني؟
يتماهى الشاعر مع قلقه الوجودي ليتلاشى الخط الفاصل بين ذاته وقلقها، مشكلاً كينونةً واحدةً:
أنا قلق ظامئ
توسده الحنين
فتكون المحصِّلة النهائية لكل ما يعانيه هو التّيهُ والضَّياع:
تبهت طرقي
صباحي مهدد بالزوال
ويدفعه الخوف والتهديد إلى ساحة المواجهة، فيقرر بوعيٍ أن يدع لجنونه حرية التصرف:
آذنُ لحماقاتي
أن تشعل أسرجة التيه
لم تكن حالة التيه التي أقحم نفسه فيها غاية بحد ذاتها، بقدر ما كانت محاولة يائسة منه للبحث عن الدليل وسط الفوضى.
انتهت رحلة التيه الشاعر إلى أن يحط رحاله ويستجيب لمنفاه، فيُدخِل (البحار) التي رمز بها لمنفاه إلى (صومعته) أي عزلته، ويواجه اغترابه ويتصالح مع الوطن المنفى:
تدخل البحار صومعتي
أشيٍّعُها مع نوافذي
لكن مع كل سوداوية الصورة النمطية للمنفى وتراجيديتها، لا يمكننا التغاضي عن حقيقة أن المنفى شكَّل للشاعر وغيره من الأدباء مصدر إلهام لتجربتهم الشعرية وأغنى حصيلتهم المعرفيّة بما أتاحه من تفاعل مع أجناسٍ وأعراق شتى والاطلاع على ثقافاتها وموروثها الحضاريّ، والشاعر يُقر بهذا أيضًا، الشاعر يرى أن "الاختلاط بشعوب و ثقافات مختلفة يوسع مدارك الخيال، بل هو تخضيب للمخيلة ".
مرّت تجربة المنفى عند الشاعر بمراحل متباينة، تمثلت بدايتها في التمركز حول الذات ورثائها انتهاء بانسلاخها من (الأنا) الفردية والانعتاق منها وصولاً للتماهي مع هموم الآخر رغم الاختلافات المجتمعية والفكرية والحضارية، ليكون الحس الإنساني هو القاسم المشترك، كما في ديوانه (بلوغ النهر) الذي كتب بعض قصائده في هيروشيما:
في أعلى الرأس، قنبلةٌ نوويّة انزوت متوشحة بالعار
كُتل بشريّة هائلة تعبرها دون أن تشعر بجحيمها
الذي نفثته قبل 62 عاما
بينما عند القدمين تشمخ عمارات تجارّية
نعود إلى قصيدته التي كتبها في بدايات اغترابه والتي تمثل مرحلة التيه والشك، حيث البحث عن إجابات (لأسئلةٍ ترمّلتْ)، وحيث الوحدة أدمنت عليه مع سبق الاصرار والترصد به، فهو في اغترابه يرى نفسه مستهدفا ومحوريًّا:
أقود هياكل وحشة أدمنتني
وأسئلة ترمّلت
حالة الصراع تلك أجبرت الشاعر أن يكون واقعيًّا في تعاطيه مع ظروفه الموضوعيَّة، فهو لا يريد أن يفقد حاضره بعد أن فقد ماضيه، لا يريد (لصباحه)– والذي رمز به لحاضره ومستقبله– أن يزول، لذا يسعى للتكيف والانخراط مع واقعه الجديد– الذي هو منفاه– ويبوح بخوفه من الطحالب التي قد تنمو على ضفتيه:
وصباحي مُهددٌ بالزوال
تنمو الطحالب على ضفتيه
والغربة تنمو أيضًا
الطحالب– بما تحمله من دلالات التطفل– لا تنمو إلا في المياه الراكدة، وهو لا يريد لحياته أن تصبح مستنقعًا آسنًا لماضيه وآلامه، كما أنّ الطحالب ملازمة للزبد الذي لا خير فيه، وجلّ ما يتوجس منه أي مبدع أن تكون أيامه زبدًا خالصًا وبحرًا كئيبًا، ويقابل الطحالب– أي العوائق– تنامي الغربة التي هي فرصته للنجاة مع ما تحمله من أَلَمٍ وخرابٍ يلوذ به وكوابيس يعايشها في رحلة البحث عن ذاته في منفاه.
نعلم أن ثمة انتقادات قد وجهت لشعراء المنفى الذين يتغنون بالحنين لأرض الوطن، فهل كان المنفى هو الحل الوحيد؟ أَلَمْ يكن المنفى هو مهربهم من تحمل الظرف التاريخي الذي تمر به أوطانهم؟ أَلَمْ يُصبح الاستجداء الشعري بذكر المنافي والغربة وسيلة للتكسب عند بعض الشعراء؟.
كأن هذه الاتهامات قد دارت بخلد الشاعر أو طرحتها إحدى ذواته، لذا يدفعها عن نفسه ويرى أن المنفى كان خياره الوحيد أمام آلة قتل نكّلت بأبناء عشيرته وغيبت أكثر من عشرين من أقربائه على أيدي النظام السابق. لكن يمكننا القول إن المنفى وإن كان قد أُجبر عليه في البداية إلا أنه استحال نمطًا اختياريًّا لحياته لاحقًا :
أقايض الحرب بالمنفى
وبابل لا تواسيني
تحاصرني البحار
ودجلة غارق في العطش
تبدو في أسطره نبرة اليأس من الحال التي وصل إليها العراق واستحال معها العيش، فدجلة- بما يحمل من معاني الخصب والحرية والتجديد والثورة وما يمثله من معين للارتواء- قد جفت منابعه وبات عاجزًا عن سد العطش، تعطش العراقيين للحرية والكرامة في ظل النظام السابق، وذلك سبب كافٍ لاختياره المنفى، كأنما يرد على من يتهمه بالهروب بأن العراق ما عاد قادرًا على العطاء.
يعيد الشاعر تأكيد تمركزه المطلق حول الذات، فيجعل من نفسِهِ فاعلاً ومؤثرًا، فهو من يمنح للنجوم ألقها وللرياح حركتها. هذه الأنا التي يُعلي الشاعر من شأنها تتماهى مع الإله:
أغمس الفوانيس في راحتيَّ
لأمنح النجوم هذا الألق
أشير للرياح أن تطوف ببابي
وفي مفارقة عجيبة تمثل عمق الصراع في داخله وتشظي ذواته يُفاجئنا بازدراء واحتقار مُنفرٍ لذاته:
أُرتق هزائمي بالمسرّات
فتشمئز المسرات هاربة
عويلها يُلطِّخ الجدران والأسرة
فالمعاني الدلالية للفعل (تشمئز) تحمل من معاني الاستصغار والدونية للمُشمَأَزِّ منه (الشاعر) الشيء الكثير، وكلمة (هاربة) توحي بأن ذات الشاعر المستجلبة للمسرات كأنها مصابة بجذام الخيبة، لذا أسرعت المسرات بالابتعاد عنها، وَلَمْ يتوقف الأمر عند ذلك، بل أطلقت صرخات احتجاجها وبدأ عويلها يعم الآفاق، فكيف تجرؤ نفسيّة الشاعر بكل آلامها أن تحلم بشيء من المسرة وكيف تراوده نفسه عليها؟.
في الحقيقة لا تبدو هذه التعبيرات التي يستخدمها الشاعر ماضيًا في جلد ذاته غريبة في رحلة المنفى، فالشعور السلبي يتنامى دائمًا في مناخات الهزائم التي تحجب بضبابها أفق السماء، وتتوارى خلفها أي نجاحات لتبدو مع عتمة الهزيمة دائمًا قليلة وباهتة، ويتموضع الفشل على واجهة الصدارة. حيث إن جلد الذات يكون "منفذًا للهرب من الفشل وليس تغييره. الغاية منه التقوقع والانحسار داخل بوتقة الانهزام مرورًا بفقدان الأمل وصولاً إلى فقدان الرؤية والطموح وانتهاء بالتلذذ باجترار الألم حتى إدمانه ".
لكن يبدو أن الشاعر مُدرك لخطر المضيّ قدمًا في جلد ذاته، فمع اعترافه بالخسارة يعاود التفكير ويعود لأسئلته الوجوديّة التي يتشاغل بها عن هموم منفاه:
أقرأ تنهيدات العقيق
في رنينه
والفيروز
على مشارف الخسارات
يُشعل بالسؤال وحدته.
وفي انعطافة مفاجئة يغير بها مجرى حياته، يقرر الشاعر التخلص من كل الحسرات والانتكاسات بانتفاضة شاملة على آلامه في عملية تطهير نفسيّ من إرث الماضي وبكائيّته الكربلائيّة:
تندلقُ الحسرات
من أصابعي
يندلق الخراب
فأتكئ عليه
و المُتتبّع لشعر باسم فرات يلحظ تكراره لكلمة الخراب في كثير من قصائده، ففكرة الخراب تستحوذ عليه، وقد وردت في عدة قصائد:
في السقوف مدنٌ عانقها الخراب
......
الذين أوقدوا شمعتك ناحلٌ رحيلهم
وخرابهم مُعلق في أقاصي العمر
......
لا أتنفس سوى الخراب
......
كفى تناسلاً أيها الخراب
......
أنا وبغداد نجلس معًا على شاطئ نعرفه
نحتسي خرابنا
الخراب هنا مساوٍ للطوفان في المعتقد الديني، وهو بشموليته يحتمل عدة أوجه:
هو الدمار
هو الموت الذي تجمع في كينونة مادية
هو بلاد الشاعر هو العراق
هو روح الشاعر التي تشظت بجروح الماضي وعوائق الحاضر
هو انهيار لمنظومة القيم الإنسانية
هو القيامة في صورتها السريالية
اندلاق الخراب كما الطوفان يمثل مرحلة التطهير وبناء مجتمع إنسانيّ أكثر نقاءً وطهرًا، وهي مرحلة إلزاميّة لإعادة البعث والنشور والبدء في حياة جديدة، فالهدم ضروريّ وغير مأسوف عليه لإعادة البناء، والاتكاء على هذا الخراب، إنما يمثل محاولة الشاعر إحياء العنقاء لتنتفض من الرماد.
______________________________________________________
إريك فروم عالم نفس وفيلسوف إنساني ألماني– أمريكي.
من ورقة عمل بعنوان "الاغتراب النفسي" منشورة على موقع الملتقى التربوي www.sef.ps/vb/multka426562/#.UTzeIXwgGSN
من قصيدة (أنا ثانية) من ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من مقال الدكتور حسن حنفي بعنوان (الهوية والاغتراب)، صحيفة الاتحاد، 27 أكتوبر 2012.
من قصيدة (آهلون بالنزيف) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (1/3/1967) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (أنا ثانية) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (عانقت برجا خلته مئذنة) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
يمكن الرجوع إلى موقع www.sitamol.net صفحة مصطلحات في الطب النفسي
www.sitamol.net/forum/showthread.php?t=15016
من قصيدة (1/3/1967) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
يقول الشاعر في إحدى لقاءاته: "إن المنفى سلاح ذو حدين، فإما أن يبتلعك وتنتهي كما حدث مع الكثير من الكتاب ممن كثر نشاطهم، ونتابع كتابتهم، وإذ بهم يصمتون، أو تتراجع لديهم الموهبة، فيجترون كتاباتهم ومنجزهم، أو هو إثراء لذلك حين تهضم الثقافة الجديدة والمكان الجديد، فيضيف لتجربته وهجا مختلفا تجعله يعبر لمرحلة إبداعية جديدة".
من قصيدة (تلاميذ هندوري) ديوان (بلوغ النهر) للشاعر باسم فرات.
هذه المعلومة عرفتها من خلال مراسلاتي مع الشاعر نفسه عبر الشبكة العنكبوتية.
يرجى الرجوع إلى مقال عبد الصمد السويلم بعنوان (جلد الذات) المنشور في موقع الحوار المتمدن m.ahewar.org
من قصيدة (الإمبراطور) ديوان (بلوغ النهر) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (آهلون بالنزيف) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (أرسم بغداد) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (عانقت برجا خلته مئذنة) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (إلى لغة الضوء أقود القناديل) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
____________________________________________________________________
الجزء الأول
جريدة العالم العراقية، الأربعاء 17 نيسان 2013 . السنة الرابعة، العدد 799
http://www.alaalem.com/programs/pdf/upload/irq_82588910.pdf
http://www.alaalem.com/index.php?news=%D1%C7%C6%CF%C9+%E4%ED%D1%E6%CE%3A+%DE%D1%C7%C1%C9+%DD%DC%ED+%AB%ED%E4%CF%E1%DE+%C7%E1%CE%D1%C7%C8+%DD%C3%CA%DF%C6+%DA%E1%ED%E5%BB%E1%C8%C7%D3%E3+%DD%D1%C7%CA+%AB2-1%BB&aa=news&id22=7664
الجزء الثاني
جريدة العالم العراقية، الأثنين 22 نيسان 2013 السنة الرابعة، العدد 800، الصفحة 11
رابط نسخة البي دي أف
http://www.alaalem.com/programs/pdf/upload/irq_654164154.pdf
وهذا رابط النسخة العادية
http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=7717
"الشَّاعرُ كائنٌ وحداني يتوجّس المجموعَ أن يربكوا توحده، ينهل من تأملاته، وتجاربه، وقراءاته، ويتماهى مع عزلته غير عابئٍ بالخلود، غير عابئِ بالأفول أيضًا".
هكذا يرى باسم فرات تفرُّد الشاعر ونتاجه، ويجعل من غربته أداةً فاعلةً في العمليّةِ الإبداعية لتكون خلاصه الفرديّ، فكما يقول: (وهل للشاعر من حقيقةٍ سوى القصيدة؟).
تبدو ملامح الاغتراب النفسي جليَّة في قصيدته (يندلق الخراب... فأتّكئ عليه) ومتفقة إلى حد بعيد مع ما ذهب إليه فروم في تعريفه لهذا الاغتراب بأنه "شكل من أشكال الخبرة التي يمارسها الإنسان وهو يشعر فيها بأنه غريب عن ذاته، ولا يجد نفسه كمركز لعالمه، كخالق لأفعاله وإنتاجه، وإنما أفعاله هي التي تصبح لها السيادة، وعليه أن يطيعها ويعبدها أحيانا" .
فالشاعر في بداية قصيدته يخاطب ذاتًا أخرى، يخاطب جزءًا من شخصيته التي تشظت وانشطرت بفعل الاغتراب والمنفى، ويطالبها بالمكاشفة والمواجهة والاعتراف، يحاور (أناه) الثانية لينهي مرحلة الصمت وليضع حدًّا لصراعه الداخليّ مكرّسًا، لمعادلة ميزان القوى بين أناه القديمة التي تحنُّ إلى أرض العراق وتلومه على منفاه وأناه الجديدة التي ترى خلاصها في المنفى.
يخاطب ذواته المتشظية بأسلوب طلبيٍّ يحمل عنفوان الأمر وإلزاميته ومعاني الندية في القوة والتأثير بين ذاتيه المتشظيتين، المخاطَبة و المخاطِبَة:
قل ما بدا لك
ودعني أقل ما بدا لي
هي لازمة غنائية تسجل لبداية ثورة داخلية، وتعزفها جوقة القصيدة أربع مرات إصرارًا من الشاعر على ثورته، فقد ملَّ التصنع والادعاء ويريد الانعتاق من كل القيود باعتراف كنسيّ، يريد أن يملّك ذواته حرية التعبير التي طالما حرمت منها، لا يريد أن يكون ذاك الطاغية الذي يكمم الأفواه، وينسج منظومة الخوف على مشروعيّة الكلام، فكل شيء مباح في أبجديته الثوريّة، لا خطوط حُمرٌ بعد اليوم، فكل (ما بدا لك) و (ما بدا لي) مشروع بوحه، والشاعر بهذا البوح ينعتق من كل القيود التي ألجمت روحه دهرًا فكان المنفى هو الثمن.
واستجابة من ذواته لهذه الثورة تبدأ المكاشفة، فتعبر إحدى ذواته عن مخاوفها وهواجسها من تجربتها الجديدة في المنفى، ومن فوبيا رفض الآخر لها في بيئة مغايرة لتلك التي نشأت فيها ثقافيًّا واجتماعيًّا ولغويًّا، وهذه المخاوف قد تعيق باسم فرات من التواصل مع بيئته الجديدة والتفاعل معها.
هذا الخوف من المجهول دفع بالشاعر لرؤية نفسه وقد غُلّقت أبواب المنافي في وجهه، فهو مغترب عنها روحًا رغم أنه يستوطنها جسدًا:
الجهات تتوارى خلف هذياناتها
والمنافي تغلق أبوابها بوجه الفرات
يتجذّر شعوره بالضياع بين حضارتين وثقافتين كما يعبّر عنه في قصيدة أخرى، فهو يعاني من التشظي بعد أن لفظته أرض السواد (العراق) ومخاوفه في منفاه فيقول:
فلا أرض السواد ترمي لك بسعفها وجلجامشها
ولا أرض إيوي تمنحك طمأنينة كيويها
في منفاه، "تتحول الهوية هنا إلى اغتراب، وتنقسم الذات فيه على نفسها بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وبسبب استبداد الخوف تشعر الذات بالانكسار، أو ما سماه الفلاسفة الوجوديون المعاصرون (الاغتراب). إذ تعيش في عالم لا تسيطر عليه، وتشعر بعجزها عن تغيير مجرياته أو التأثير فيه، وتحرم من ممارسة حريتها، عندها تفقد الشعور بقيمة وجودها ويصبح كالعدم في نظرها أو على الأقل كالوجود الطبيعي للأشياء" . فكما يرى ديكارت، يغترب (الأنا) عن ماضيه عندما يشك في الذاكرة، ولا يطمئن إلى ما تحتويه من تجارب ومعارف، ليقع فريسة الندم على ماضيه.
يتمظهر هذا الملمح النفسيّ في قوله:
أيامي تلعقُ أيامي
والذي يمضي بعيدًا
دون خضرتِهِ
هو الآسُ
يحاول الشاعر الانتصار لما هو كائن، ويسعى لعيش جديد بدفن ماضيه وندب أيامه الخالية، ليتمكن من التصالح مع حاضره، فمعايشته لصور القتل والتشريد والتهجير– التي تحفل بها ذاكرته– يتنافى وقدرة الإنسان على العيش بشكل طبيعيّ:
أندبُكِ يا أيامي
وأزخرفُ شاهدتكِ بالعويل
......................
أندبك يا أيامي
وأضيء شاهدتك
بالبخور والآس
أرتل في جوقة المنسيين
ذكراك إلى الأبد
نلحظ أن تكرار صيغ المضارع في (أندب، أزخرف، أضيء، أرتّل) تحمل معاني الاستمراريّة والديمومة، فحتى لو تخلص الشاعر من أطياف الماضي إلا أن لعنته ستبقى تلاحقه أينما ذهب.
وكل هذا الندب والتفجع تقابله حقيقة واحدة:
ليس على النافذة من أحد
فسبح بحمد منفاك
في انصياعه للحاضر يقيم الشاعر حفل تأبينه، فيكلل قبر ماضيه وذكرياته بالآس، بما يحمله الآس من معانٍ تكرّس للموروث الشعبيّ العراقيّ:
والذي يمضي بعيدًا
دون خضرته
هو الآس
أندبك يا أيامي
وأضيء شاهدتك
بالبخور والآس
و الآس يحتل في خاطر الشاعر مكانا راسخًا، حيث يصر على توظيف رمزيته في مواضع متعددة من قصائده، مثل قوله:
ثقبوا قميصك بالآس
......
فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
.......
وعلى كتفيك مواويل نخلٍ ودموع آس
........
أتولّه بالآس وهو يشبهني تمامًا
واستمرارًا لمراسم التأبين، يستدعي الشاعر مظاهر الطبيعة لتشاركه أحزانه، وهو بذلك يتمركز حول ذاته ويجعل الكون يتماهى مع آلامه:
الخريف يتوسد ذاكرتي
فالخريف- بإيحاءاته القاتمة- يحمل معنى اليتم والتهجير، خريف الاضطهاد، خريف الرصاصات التي قتلت أحبته وأجبر على دفع ثمنها في مفارقة ميلودرامية من مفارقات النظام السابق، لكن هذا التشبيه لم يعفِه من الوقوع في فخ التنميط الكلاسيكي لصورة الخريف مع أن الشاعر معروف بتجديده للصورة الشعرية وخلقه علاقات جديدة بين أركانها.
يقابل صورة الخريف باهتة الألوان صدى أجراس الكنائس التي ترثي ماضيه في قداس كونيّ جنائزيّ:
فالنواقيس تغدقُ المراثي علينا
تتصاعد وتيرة الألم عند الشاعر ليقع في فخاخ الجرح النرجسي، حيث "يبدو واضحًا المساس بأعمق جوانب النفس والنيل من التقدير والاعتبار الذاتي لها، مما يولِّد آلامًا معنوية شديدة جدا" ، فإحدى ذواته لا ترى في أحلامه بالعودة إلى أرض العراق إلا ضربًا من الأوهام، ضربًا من الجنون، يقوده إلى سلسلة متتابعة من الأخطاء:
أنتَ توقدُ أوهامك
بالجنون
تسعل
أخطاء
ومحبة
يفجر الجرح النرجسي عنده حالة من القلق الوجودي تبعثر أشتاته وتقوده إلى البحث في جدوى الحياة وعبثيتها. هذا الأمر لم يتفرّد به باسم فرات وحده، بل نراه ملمحًا مشتركًا بين أدباء المنفى، فمتلازمة ضياع الهويّة وعمليّة البحث عن الذات أصبحت همًّا فلسفيًّا عند مجايِليه من الشعراء في تسعينيات القرن الماضي:
فيطرق الندم بابك
لماذا تفتحه إذن؟
ألكي يباركك اليقين؟
أَوَما علمت أنّ الشك
حبرٌ اندلقَ على عمرِكَ
عَبَثًا صراخك
في فجر شائخة مصابيحه
هذا المونولوج الداخليّ بما يحمله من تقريع وتوبيخ للذات، وجلد لها يشي بحالة التأزم والضياع والشعور بأن ذاته مستهدفة، فالندم يلازمها والشك قد اندلق على أيامها.
ولنا هنا أن نقف وقفة ونتساءل عن ماهيّة الشك الذي يعايشه:
هل هو الشك بإنسانية الإنسان بعد أن رأى مقدار الوحشّية التي قد يمارسها على أبناء جلدته؟
هل هو شكٌّ يطالُ ذاته ومقدّراتها وقدرتها على التكيُّف؟
هل هو شكٌّ بغائية الوجود ومشروعيّته؟
و هذا الشك الديكارتي قاده إلى رحلة البحث عن ذاته والتأكيد على حضورها كما في قصائد أخرى:
أنا باسم فرات...يا الله...أتعرفني؟
يتماهى الشاعر مع قلقه الوجودي ليتلاشى الخط الفاصل بين ذاته وقلقها، مشكلاً كينونةً واحدةً:
أنا قلق ظامئ
توسده الحنين
فتكون المحصِّلة النهائية لكل ما يعانيه هو التّيهُ والضَّياع:
تبهت طرقي
صباحي مهدد بالزوال
ويدفعه الخوف والتهديد إلى ساحة المواجهة، فيقرر بوعيٍ أن يدع لجنونه حرية التصرف:
آذنُ لحماقاتي
أن تشعل أسرجة التيه
لم تكن حالة التيه التي أقحم نفسه فيها غاية بحد ذاتها، بقدر ما كانت محاولة يائسة منه للبحث عن الدليل وسط الفوضى.
انتهت رحلة التيه الشاعر إلى أن يحط رحاله ويستجيب لمنفاه، فيُدخِل (البحار) التي رمز بها لمنفاه إلى (صومعته) أي عزلته، ويواجه اغترابه ويتصالح مع الوطن المنفى:
تدخل البحار صومعتي
أشيٍّعُها مع نوافذي
لكن مع كل سوداوية الصورة النمطية للمنفى وتراجيديتها، لا يمكننا التغاضي عن حقيقة أن المنفى شكَّل للشاعر وغيره من الأدباء مصدر إلهام لتجربتهم الشعرية وأغنى حصيلتهم المعرفيّة بما أتاحه من تفاعل مع أجناسٍ وأعراق شتى والاطلاع على ثقافاتها وموروثها الحضاريّ، والشاعر يُقر بهذا أيضًا، الشاعر يرى أن "الاختلاط بشعوب و ثقافات مختلفة يوسع مدارك الخيال، بل هو تخضيب للمخيلة ".
مرّت تجربة المنفى عند الشاعر بمراحل متباينة، تمثلت بدايتها في التمركز حول الذات ورثائها انتهاء بانسلاخها من (الأنا) الفردية والانعتاق منها وصولاً للتماهي مع هموم الآخر رغم الاختلافات المجتمعية والفكرية والحضارية، ليكون الحس الإنساني هو القاسم المشترك، كما في ديوانه (بلوغ النهر) الذي كتب بعض قصائده في هيروشيما:
في أعلى الرأس، قنبلةٌ نوويّة انزوت متوشحة بالعار
كُتل بشريّة هائلة تعبرها دون أن تشعر بجحيمها
الذي نفثته قبل 62 عاما
بينما عند القدمين تشمخ عمارات تجارّية
نعود إلى قصيدته التي كتبها في بدايات اغترابه والتي تمثل مرحلة التيه والشك، حيث البحث عن إجابات (لأسئلةٍ ترمّلتْ)، وحيث الوحدة أدمنت عليه مع سبق الاصرار والترصد به، فهو في اغترابه يرى نفسه مستهدفا ومحوريًّا:
أقود هياكل وحشة أدمنتني
وأسئلة ترمّلت
حالة الصراع تلك أجبرت الشاعر أن يكون واقعيًّا في تعاطيه مع ظروفه الموضوعيَّة، فهو لا يريد أن يفقد حاضره بعد أن فقد ماضيه، لا يريد (لصباحه)– والذي رمز به لحاضره ومستقبله– أن يزول، لذا يسعى للتكيف والانخراط مع واقعه الجديد– الذي هو منفاه– ويبوح بخوفه من الطحالب التي قد تنمو على ضفتيه:
وصباحي مُهددٌ بالزوال
تنمو الطحالب على ضفتيه
والغربة تنمو أيضًا
الطحالب– بما تحمله من دلالات التطفل– لا تنمو إلا في المياه الراكدة، وهو لا يريد لحياته أن تصبح مستنقعًا آسنًا لماضيه وآلامه، كما أنّ الطحالب ملازمة للزبد الذي لا خير فيه، وجلّ ما يتوجس منه أي مبدع أن تكون أيامه زبدًا خالصًا وبحرًا كئيبًا، ويقابل الطحالب– أي العوائق– تنامي الغربة التي هي فرصته للنجاة مع ما تحمله من أَلَمٍ وخرابٍ يلوذ به وكوابيس يعايشها في رحلة البحث عن ذاته في منفاه.
نعلم أن ثمة انتقادات قد وجهت لشعراء المنفى الذين يتغنون بالحنين لأرض الوطن، فهل كان المنفى هو الحل الوحيد؟ أَلَمْ يكن المنفى هو مهربهم من تحمل الظرف التاريخي الذي تمر به أوطانهم؟ أَلَمْ يُصبح الاستجداء الشعري بذكر المنافي والغربة وسيلة للتكسب عند بعض الشعراء؟.
كأن هذه الاتهامات قد دارت بخلد الشاعر أو طرحتها إحدى ذواته، لذا يدفعها عن نفسه ويرى أن المنفى كان خياره الوحيد أمام آلة قتل نكّلت بأبناء عشيرته وغيبت أكثر من عشرين من أقربائه على أيدي النظام السابق. لكن يمكننا القول إن المنفى وإن كان قد أُجبر عليه في البداية إلا أنه استحال نمطًا اختياريًّا لحياته لاحقًا :
أقايض الحرب بالمنفى
وبابل لا تواسيني
تحاصرني البحار
ودجلة غارق في العطش
تبدو في أسطره نبرة اليأس من الحال التي وصل إليها العراق واستحال معها العيش، فدجلة- بما يحمل من معاني الخصب والحرية والتجديد والثورة وما يمثله من معين للارتواء- قد جفت منابعه وبات عاجزًا عن سد العطش، تعطش العراقيين للحرية والكرامة في ظل النظام السابق، وذلك سبب كافٍ لاختياره المنفى، كأنما يرد على من يتهمه بالهروب بأن العراق ما عاد قادرًا على العطاء.
يعيد الشاعر تأكيد تمركزه المطلق حول الذات، فيجعل من نفسِهِ فاعلاً ومؤثرًا، فهو من يمنح للنجوم ألقها وللرياح حركتها. هذه الأنا التي يُعلي الشاعر من شأنها تتماهى مع الإله:
أغمس الفوانيس في راحتيَّ
لأمنح النجوم هذا الألق
أشير للرياح أن تطوف ببابي
وفي مفارقة عجيبة تمثل عمق الصراع في داخله وتشظي ذواته يُفاجئنا بازدراء واحتقار مُنفرٍ لذاته:
أُرتق هزائمي بالمسرّات
فتشمئز المسرات هاربة
عويلها يُلطِّخ الجدران والأسرة
فالمعاني الدلالية للفعل (تشمئز) تحمل من معاني الاستصغار والدونية للمُشمَأَزِّ منه (الشاعر) الشيء الكثير، وكلمة (هاربة) توحي بأن ذات الشاعر المستجلبة للمسرات كأنها مصابة بجذام الخيبة، لذا أسرعت المسرات بالابتعاد عنها، وَلَمْ يتوقف الأمر عند ذلك، بل أطلقت صرخات احتجاجها وبدأ عويلها يعم الآفاق، فكيف تجرؤ نفسيّة الشاعر بكل آلامها أن تحلم بشيء من المسرة وكيف تراوده نفسه عليها؟.
في الحقيقة لا تبدو هذه التعبيرات التي يستخدمها الشاعر ماضيًا في جلد ذاته غريبة في رحلة المنفى، فالشعور السلبي يتنامى دائمًا في مناخات الهزائم التي تحجب بضبابها أفق السماء، وتتوارى خلفها أي نجاحات لتبدو مع عتمة الهزيمة دائمًا قليلة وباهتة، ويتموضع الفشل على واجهة الصدارة. حيث إن جلد الذات يكون "منفذًا للهرب من الفشل وليس تغييره. الغاية منه التقوقع والانحسار داخل بوتقة الانهزام مرورًا بفقدان الأمل وصولاً إلى فقدان الرؤية والطموح وانتهاء بالتلذذ باجترار الألم حتى إدمانه ".
لكن يبدو أن الشاعر مُدرك لخطر المضيّ قدمًا في جلد ذاته، فمع اعترافه بالخسارة يعاود التفكير ويعود لأسئلته الوجوديّة التي يتشاغل بها عن هموم منفاه:
أقرأ تنهيدات العقيق
في رنينه
والفيروز
على مشارف الخسارات
يُشعل بالسؤال وحدته.
وفي انعطافة مفاجئة يغير بها مجرى حياته، يقرر الشاعر التخلص من كل الحسرات والانتكاسات بانتفاضة شاملة على آلامه في عملية تطهير نفسيّ من إرث الماضي وبكائيّته الكربلائيّة:
تندلقُ الحسرات
من أصابعي
يندلق الخراب
فأتكئ عليه
و المُتتبّع لشعر باسم فرات يلحظ تكراره لكلمة الخراب في كثير من قصائده، ففكرة الخراب تستحوذ عليه، وقد وردت في عدة قصائد:
في السقوف مدنٌ عانقها الخراب
......
الذين أوقدوا شمعتك ناحلٌ رحيلهم
وخرابهم مُعلق في أقاصي العمر
......
لا أتنفس سوى الخراب
......
كفى تناسلاً أيها الخراب
......
أنا وبغداد نجلس معًا على شاطئ نعرفه
نحتسي خرابنا
الخراب هنا مساوٍ للطوفان في المعتقد الديني، وهو بشموليته يحتمل عدة أوجه:
هو الدمار
هو الموت الذي تجمع في كينونة مادية
هو بلاد الشاعر هو العراق
هو روح الشاعر التي تشظت بجروح الماضي وعوائق الحاضر
هو انهيار لمنظومة القيم الإنسانية
هو القيامة في صورتها السريالية
اندلاق الخراب كما الطوفان يمثل مرحلة التطهير وبناء مجتمع إنسانيّ أكثر نقاءً وطهرًا، وهي مرحلة إلزاميّة لإعادة البعث والنشور والبدء في حياة جديدة، فالهدم ضروريّ وغير مأسوف عليه لإعادة البناء، والاتكاء على هذا الخراب، إنما يمثل محاولة الشاعر إحياء العنقاء لتنتفض من الرماد.
______________________________________________________
إريك فروم عالم نفس وفيلسوف إنساني ألماني– أمريكي.
من ورقة عمل بعنوان "الاغتراب النفسي" منشورة على موقع الملتقى التربوي www.sef.ps/vb/multka426562/#.UTzeIXwgGSN
من قصيدة (أنا ثانية) من ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من مقال الدكتور حسن حنفي بعنوان (الهوية والاغتراب)، صحيفة الاتحاد، 27 أكتوبر 2012.
من قصيدة (آهلون بالنزيف) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (1/3/1967) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (أنا ثانية) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (عانقت برجا خلته مئذنة) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
يمكن الرجوع إلى موقع www.sitamol.net صفحة مصطلحات في الطب النفسي
www.sitamol.net/forum/showthread.php?t=15016
من قصيدة (1/3/1967) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
يقول الشاعر في إحدى لقاءاته: "إن المنفى سلاح ذو حدين، فإما أن يبتلعك وتنتهي كما حدث مع الكثير من الكتاب ممن كثر نشاطهم، ونتابع كتابتهم، وإذ بهم يصمتون، أو تتراجع لديهم الموهبة، فيجترون كتاباتهم ومنجزهم، أو هو إثراء لذلك حين تهضم الثقافة الجديدة والمكان الجديد، فيضيف لتجربته وهجا مختلفا تجعله يعبر لمرحلة إبداعية جديدة".
من قصيدة (تلاميذ هندوري) ديوان (بلوغ النهر) للشاعر باسم فرات.
هذه المعلومة عرفتها من خلال مراسلاتي مع الشاعر نفسه عبر الشبكة العنكبوتية.
يرجى الرجوع إلى مقال عبد الصمد السويلم بعنوان (جلد الذات) المنشور في موقع الحوار المتمدن m.ahewar.org
من قصيدة (الإمبراطور) ديوان (بلوغ النهر) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (آهلون بالنزيف) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (أرسم بغداد) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (عانقت برجا خلته مئذنة) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
من قصيدة (إلى لغة الضوء أقود القناديل) ديوان (إلى لغة الضوء) للشاعر باسم فرات.
____________________________________________________________________
الجزء الأول
جريدة العالم العراقية، الأربعاء 17 نيسان 2013 . السنة الرابعة، العدد 799
http://www.alaalem.com/programs/pdf/upload/irq_82588910.pdf
http://www.alaalem.com/index.php?news=%D1%C7%C6%CF%C9+%E4%ED%D1%E6%CE%3A+%DE%D1%C7%C1%C9+%DD%DC%ED+%AB%ED%E4%CF%E1%DE+%C7%E1%CE%D1%C7%C8+%DD%C3%CA%DF%C6+%DA%E1%ED%E5%BB%E1%C8%C7%D3%E3+%DD%D1%C7%CA+%AB2-1%BB&aa=news&id22=7664
الجزء الثاني
جريدة العالم العراقية، الأثنين 22 نيسان 2013 السنة الرابعة، العدد 800، الصفحة 11
رابط نسخة البي دي أف
http://www.alaalem.com/programs/pdf/upload/irq_654164154.pdf
وهذا رابط النسخة العادية
http://www.alaalem.com/index.php?aa=news&id22=7717