انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الحب كما عرفته

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الحب كما عرفته Empty الحب كما عرفته

    مُساهمة  Admin الجمعة مارس 07, 2014 8:12 pm


    هل أريدك نسخة من أمي وأنا المؤمن بالتطور والخصوصية والاختلاف والتميّز، أنتِ التي تملكين كل هذا، حتى بتُّ أراكِ ما لا يراه فيك أقرب الناس إليك.

    العرب باسم فرات [نُشر في 15/02/2014، العدد: 9470، ص(21)]

    لن أحدثك عن الحب، عن تلك المشاعر الغريبة التي تنتابني طوال الوقت، ولا عن السحر الذي تركه أبي في مخيلة أمي، لدرجة أنها واصلت زيارة قبره كل خميس على امتداد ثلث قرن، ولم تنقطع حتى حين وضعوا الحواجز الكثيرة، لكن المرض احتجزها، فالسرطان وحده، نعم وحده، حرمها من قبره، المرأة التي تَرَمّلتْ وهي في السادسة عشرة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يومًا، كانت تحتاج إلى شهرين وخمسة أيام لكي تتم سنتها السابعة عشرة، وفترة زواج لا تزيد عن ثلاث سنوات كثيرًا، كانت تتباهى بعشيقات أبي، وبحبه لها، وكيف أنه وعدها أن يترك علاقاته الغرامية والشراب ويتفرغ لها.

    كانت تنسى نفسها حين تحدثني عنه، أبي صاحب الغراميات لم يتوَانَ أن يُقدّمَ روحه وهو في الخامسة والعشرين من عمره قربانًا لشرف جارته وكرامتها حين هجم متهوِّرٌ بمسدسه على بيتها، نسي أن هذا الشخص كان ضيفه ليلة أمس. رصاصة في الكلية ونزيف داخلي أنهت حياةَ حبيب أمي الذي بقيت طوال إثنتين وأربعين سنة وخمسة أيام تعيش على ذكراه، هل كانت مصادفة أن أبي يُقتل في العاشر من تموز 1969 وأمي يغتالها السرطان في الخامس عشر من تموز 2011؟

    لماذا كلما قررتُ أن أكتب إليك حضرتْ طُفولَتي وأُمّي بسواد أيامِها وبياض قلبها وخُضرةِ سريرتها واشتعالات عِشقها؟ كانت تحضر حديقة حبها لأبي وتسقيها يوميًّا بهُيامِها ووفائها وإخلاصها، برفضها استبدال رجل آخر غير أبي، كنتُ أرى زُهورَ ذكرياتِها تنمو معها وتُزاحمنا أحيانًا، تبتسم حين تتذكر أبي، بل لم أر لها ابتسامة أجمل وأعمق وأبهى إلاّ حين تتذكره أو يحضر ذكره أمامها، كنتُ أشعرُ بزهوها حتى خُيّلَ لي أنها المرأة الوحيدة التي تفخر بزوجها أكثر من ابنها، وحيدها. زهوها أنها أرملة الشاب ذي الخامسة والعشرين من عمره، الذي قدّمَ حياته ومستقبل عائلته، زوجةً وطفلاً لم يعبر الثانية من عمره كثيرًا وطفلة في يومها الثلاثين، لأن شهامته أبت أن ينفرد جاره الأبعد وضيفه لليلة أمس، بمسدسه، وهو ذكر، بجارته الأقرب الوحيدة، وهي أنثى عزلاء في بيتها وزوجها في المستشفى.

    حتى بعد أن صدرت لي مجموعة من الدواوين الشعرية بالعربية والإنكليزية والأسبانية وكتبت عني عشرات الدراسات بالعربية والإنكليزية، وتم اختياري في أنطولوجيات شعرية بعدة لغات، بعضها أنا فيها العراقي والعربي الوحيد، وبعضها تكون قصيدتي أو قصائدي الوحيدة في الأنطولوجيات لم تُكتب باللغة الإنكليزية. كانت تفرح بكل صدق وتفخر، ولكن يبقى ذلك الفرح وتبقى تلك البسمة التي ترتسم على محياها حين يُذكر أبي أو تلفظ اسمه فيها نكهة العاشقة المتولّهة.

    لن أنسى حين عدتُ للعراق لأول مرة بعد غياب دامَ ثماني عشرةَ سنة وخمسة وعشرين يومًا، وكان السرطان قد تفشى في جسدها، وبعد أن نثرت الحلوى المُكَيَّسَة على رأسي، عانقتها فبكت. أردتُ أن أفرحها لكي أُوقف نزف دموعها، فقلتُ لها إن مجلة “أدنبرة ريفيو” خصصت عددًا عن الثقافة العراقية وجاءتني دعوة من شاعر عراقي يقيم في لندن لتزويد المجلة بقصيدة أو أكثر، وكم كانت مفاجأة بالنسبة إليّ حين فتحتُ المجلةَ فوجدتُ أن قسم الشعر كان يحتوي ثلاثة شعراء فقط هم عبد الوهاب البياتي وسعدي يوسف وأنا، تَبَسّمتْ لي وأثنتْ على ذلك، ولكن بسمتها كانت لمجاملة الأقارب، الذين تجمعوا لرؤيتي بعد غياب طويل. كبر الأطفال وصار أبناء بعضهم بنفس العمر الذي تركتُهم فيه. لكن أمي التي طالما أشعرتني أن انفراج شفتيها بفرح وزهوٍ لأبي يختلف عنهما حين تخصني الحالة، لم تكن إلاّ تلك المرأة القوية بإصرارها والمضحية من أجلنا لكي ترانا أحسن وأفضل وأرقى، كانت لا تريدني أن أقنع بما دون النجوم كما قال الشاعر، فهل سأواصل المسير بذات الهمة التي كنتُ عليها لكي أمنح أمي ابتسامة ترتفع إلى زهو ابتسامتها لأبي؟ هذا ما ستكشفه الأيام وارتفاع وتيرة همتي وانغماس قلقي بالإصرار على التجاوز وحُلمي بالاكتشاف وتنمية الوعي.

    هل أريدك نسخة من أمي وأنا المؤمن بالتطور والخصوصية والاختلاف والتميّز، أنتِ التي تملكين كل هذا، حتى بتُّ أراكِ ما لا يراه فيك أقرب الناس إليك وأكثرهم فخرًا بكِ، بل أرى ما لا ترينه فيكِ واكتشفتُ مزايا تحمُّلي البر والبحر، لكي أعرف كيف جعلتِها مُدهشةً فيكِ وغير ذات بالٍ بسواكِ، فلم أتوصّل إلاّ إلى كونك تتقنين التميّز وترفضين التقليد والاتباع وتحرصين على وضع بَصمتكِ حتى في شرب الشاي، وتصنعين من قهوتك خمرةً أسكر بها عن بُعد.

    جريدة العرب اللندنية
    http://www.alarab.co.uk/?id=15411

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 16, 2024 7:58 pm