استطرادات
تمامًا كما يفعل الغجريون حين ينزلون مكانًا يغادرونه لآخر، يسيح رحّالة العصر الحديث من الأدباء: شعراء وقاصون يزورون الأمكنة ويتوغلون في أعماقها بحثًا عن وجهها الآخر، ويغادرونها لسواها بعد أن يحتفظوا بما سبرتْه خطاهم في تلك الأعماق. ثقافات وتقاليد وطبيعة وتراث ولغات تتشابك كلها في مرايا الوعي والبصر فيستخلص الرحالة منها عصارتها، ويمزجونه بذواتهم المتحرقة للتعرف والتآلف مع الأمكنة، ثم مغادرتها سالبين منها ذكرياتٍ ورؤى وصورًا يوصلونها عبر هذه اللوعة اللسانية التي تضمها يومياتهم. عامان في أعماق الأكوادور يقضيها الشاعر الثمانيني باسم فرات مدوناً يومياته التي تبدأ يوم الاثنين 23 تموز 2012 وتنتهي في الثامن من حزيران 2013 . ثم يجمعها في كتاب، نال عنه جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق في أبو ظبي. وكان اختيار الشاعر لأسلوب اليوميات مناسبًا لتغطية ما مرَّ به من غرائب الطبيعة خاصة. ويحس القارئ أن الشاعر مصحوب بصفته الشعرية هذه وهو يطأ المكان أو يدوّن يومياته عنه في لفته وتداعيات الخيال واختيار المفردات بعناية كي لا يكتفي بالوصف الخارجي الرتيب. و كما كان الغجريون يعزفون وينشدون للأمكنة يقوم الشاعر بالتغني بتلك المرائي البصرية التي يكاشف القارئ بخوفه أحيانًا من مجهولها وفضوله الحارق للتوغل فيها. الأكوادور ذاتها لها في الذاكرة الثقافية رنين ماضوي تركته صور حضاراتها وطبيعتها معًا. وهذان العنصران يشتغل عليهما الكاتب في يومياته، مستفيدًا من تنافذ القصيدة والطبيعة فحين يهتز القارب بشدة، ويرى الشاعر الحيتان تكون قصيدة أخرى تلح عليه كما يقول، مؤكدًا أنه سيدوّنها في أرقِه. يتجنب الشاعر إغراء المدن الكبرى، ويلاحق التنوع العرقي والبيئي في الأكوادور. رحلة الكاتب الأولى ستكون لجنوب غرب الأكوادور هابطًا من سلسلة جبال الأنديز إلى البحر. وحين يتوجه للرحلة يصف نفسه بأنه (الشرقي العراقي المهووس بالدهشة وحب الاستكشاف الصادم الذي لم تفسده القراءات. أريد أن آتي للمكان كما آتي للشعر بلا حوامل وخلفيات ومؤثرات.) وأحسب أن تلك أبرز مزايا كتابات الرحالة الجدد. وأمام كيتو القديمة يحس العراقة والإنسانية وهما يتعاضدان لصنع هذا اللهب الخالد من سمفونية تتآزر فيها عناصر الطبيعة في العمق الأكوادوري، حيث الأمطار المتواصلة والأنهار والجبال والينابيع والشلالات والأشجار المتنوعة والطيور والسحنات السمر المعجونة بدم الهنود الحمر، متآلفة مع شعوب عديدة عربية وأوربية. الرقصات التي يراها الكاتب والتقاليد الشعبية ومقتنيات المتاحف القديمة تحفز ذاكرة الشاعر؛ فتعود به إلى ما رآه في العراق وبلدان عربية تهيأ له العيش فيها. وهذه ميزة أخرى لهذه الرحلة، فالكاتب لا يرهن سرده بما يرى منعزلاً عن ذاكرته، بل يربط المرائي الجديدة بما اختزن من ثقافة، أو ما عاش من أحداث خلال خدمته العسكرية الإلزامية، أو بدايات غربته في المدن العربية. القصيدة دومًا معه حتى وهو فوق الجبال القريبة من نهر الجليد التي كتب فيها سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية قصيدة يحلم فيها بتوحيد القارة، فيكتب باسم قصيدة تشي بالحزن لأنه غير قادر على تخيل المقارنة عما فعله الطغاة في بلده وما كان يريد بوليفار في قصيدته الحلم.
جريدة الاتحاد الظبيانية. الملحق الثقافي. العدد 361 الصفحة 23
الخميس 12 جمادي الأولى 1435 هجرية 13 آذار 2014 ميلادية
http://alittihad.newspaperdirect.com/epaper/viewer.aspx
تمامًا كما يفعل الغجريون حين ينزلون مكانًا يغادرونه لآخر، يسيح رحّالة العصر الحديث من الأدباء: شعراء وقاصون يزورون الأمكنة ويتوغلون في أعماقها بحثًا عن وجهها الآخر، ويغادرونها لسواها بعد أن يحتفظوا بما سبرتْه خطاهم في تلك الأعماق. ثقافات وتقاليد وطبيعة وتراث ولغات تتشابك كلها في مرايا الوعي والبصر فيستخلص الرحالة منها عصارتها، ويمزجونه بذواتهم المتحرقة للتعرف والتآلف مع الأمكنة، ثم مغادرتها سالبين منها ذكرياتٍ ورؤى وصورًا يوصلونها عبر هذه اللوعة اللسانية التي تضمها يومياتهم. عامان في أعماق الأكوادور يقضيها الشاعر الثمانيني باسم فرات مدوناً يومياته التي تبدأ يوم الاثنين 23 تموز 2012 وتنتهي في الثامن من حزيران 2013 . ثم يجمعها في كتاب، نال عنه جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة التي يمنحها المركز العربي للأدب الجغرافي-ارتياد الآفاق في أبو ظبي. وكان اختيار الشاعر لأسلوب اليوميات مناسبًا لتغطية ما مرَّ به من غرائب الطبيعة خاصة. ويحس القارئ أن الشاعر مصحوب بصفته الشعرية هذه وهو يطأ المكان أو يدوّن يومياته عنه في لفته وتداعيات الخيال واختيار المفردات بعناية كي لا يكتفي بالوصف الخارجي الرتيب. و كما كان الغجريون يعزفون وينشدون للأمكنة يقوم الشاعر بالتغني بتلك المرائي البصرية التي يكاشف القارئ بخوفه أحيانًا من مجهولها وفضوله الحارق للتوغل فيها. الأكوادور ذاتها لها في الذاكرة الثقافية رنين ماضوي تركته صور حضاراتها وطبيعتها معًا. وهذان العنصران يشتغل عليهما الكاتب في يومياته، مستفيدًا من تنافذ القصيدة والطبيعة فحين يهتز القارب بشدة، ويرى الشاعر الحيتان تكون قصيدة أخرى تلح عليه كما يقول، مؤكدًا أنه سيدوّنها في أرقِه. يتجنب الشاعر إغراء المدن الكبرى، ويلاحق التنوع العرقي والبيئي في الأكوادور. رحلة الكاتب الأولى ستكون لجنوب غرب الأكوادور هابطًا من سلسلة جبال الأنديز إلى البحر. وحين يتوجه للرحلة يصف نفسه بأنه (الشرقي العراقي المهووس بالدهشة وحب الاستكشاف الصادم الذي لم تفسده القراءات. أريد أن آتي للمكان كما آتي للشعر بلا حوامل وخلفيات ومؤثرات.) وأحسب أن تلك أبرز مزايا كتابات الرحالة الجدد. وأمام كيتو القديمة يحس العراقة والإنسانية وهما يتعاضدان لصنع هذا اللهب الخالد من سمفونية تتآزر فيها عناصر الطبيعة في العمق الأكوادوري، حيث الأمطار المتواصلة والأنهار والجبال والينابيع والشلالات والأشجار المتنوعة والطيور والسحنات السمر المعجونة بدم الهنود الحمر، متآلفة مع شعوب عديدة عربية وأوربية. الرقصات التي يراها الكاتب والتقاليد الشعبية ومقتنيات المتاحف القديمة تحفز ذاكرة الشاعر؛ فتعود به إلى ما رآه في العراق وبلدان عربية تهيأ له العيش فيها. وهذه ميزة أخرى لهذه الرحلة، فالكاتب لا يرهن سرده بما يرى منعزلاً عن ذاكرته، بل يربط المرائي الجديدة بما اختزن من ثقافة، أو ما عاش من أحداث خلال خدمته العسكرية الإلزامية، أو بدايات غربته في المدن العربية. القصيدة دومًا معه حتى وهو فوق الجبال القريبة من نهر الجليد التي كتب فيها سيمون بوليفار محرر أمريكا اللاتينية قصيدة يحلم فيها بتوحيد القارة، فيكتب باسم قصيدة تشي بالحزن لأنه غير قادر على تخيل المقارنة عما فعله الطغاة في بلده وما كان يريد بوليفار في قصيدته الحلم.
جريدة الاتحاد الظبيانية. الملحق الثقافي. العدد 361 الصفحة 23
الخميس 12 جمادي الأولى 1435 هجرية 13 آذار 2014 ميلادية
http://alittihad.newspaperdirect.com/epaper/viewer.aspx