الكتاب يتناول عهد المأمون والمعتصم، وملحق 'رحلة برنار الحكيم عام 867م' يسلط الضوء على التعايش بين المسلمين والمسيحيين في القدس ومصر.
العرب باسـم فـرات [نُشر في 03/04/2014، العدد: 9517، ص(15)]
البطريرك ديونيسيوس التلمحري يعدّ لدى بعض المهتمّين بأدب الرحلة من أهمّ رجالات العصر العباسي الذين دعوا إلى ضرورة التعايش بين الإسلام والمسيحية، وهو ما يؤكّده كتاب «رحلات البطريرك ديونيسيوس في عهد الخليفتين المأمون والمعتصم» الذي ترجمه تيسير خلف وصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
هذا الكتاب أحالني إلى موضوع “العصور الوسطى المختَلَقة” للباحث الألماني هَريبَرت إليغ، وترجمه للعربية نوري أبو رغيف، وكنت قد قرأت ملخصات عنه فيما يخص الفترة الإسلامية عند الكاتب نادر قريط، ففي “العصور الوسطى المُخْتَلَقَة” يتم شطب ثلاثة قرون تقريبًا، هي ما بين 614 – 911 ميلادية، فهي فترة ملفقة ولا وجود لها، وبهذا يتم الشطب على الفترة من إعلان الإسلام وحتى ثلث قرن قبل استيلاء البويهيين على بغداد سنة 945 ميلادية.
وهي إن دققنا وجدناها أكثر فترة في تاريخ العرب غزارة بالتأليف والأعلام، وعليه حين كتب نوري أبو رغيف مرة على جداره في موقع التواصل الاجتماعي “إن الألمان هم أكثر مَن أساؤوا للعرب” بقيت الجملة عالقة في ذهني، وكنتُ أودّ لو يبرهن على هذا الكلام ببحث مفصل، ولكن لم يحدث إلى الآن. تذكرت هذا وأنا أقرأ هذا الكتاب الذي بين أيدينا، فهو مكتوب بالسريانية وضمّنَه نصًّا ميخائيل الكبير في تاريخه، الذي ترجمه للعربية مار غريغوريوس صليبا شمعون، فهذا الكتاب يُشكك فيما ورد عند صاحب القرون الوسطى المُخْتَلَقَة، رغم تغلغل أسطورة المركزية الأوروبية في عقول الكثير منا، بحيث نعتمد ما يقررونه حتى لو وجدت وثائق تُبطل ادعاءاتهم واستنتاجاتهم.
قصة 'وامعتصماه'
الفترة التي يغطيها هذا الكتاب هي عهد الخليفتين المأمون والمعتصم. وما جاء فيه لا يتناقض مع ما ذكره الطبري في تاريخه “تاريخ الرسل والملوك” فيما يخص الفترة ذاتها، وإن كان في بعضها تفاصيل لا نجدها عند الأخير، كما في “وقعة عمورية” أو “مأساة مدينة عمورية” كما ذكرها البطريرك التلمحري، ومع ذلك تتفقان في عدم ذكر قصة وامعتصماه الشهيرة وإنقاذ المرأة الهاشمية، وإنما هو هجوم شَنّه ملك الروم ثاوفيل، وسبى أكثر من ألف مسلمة، ومَثَّلَ بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم وقطع آذانهم وأنوفهم.
أما ما ذكره إخباريو العصر المملوكي المتأخر ومؤرخوه كالقلقشندي وابن العماد الحنبلي وابن خلدون حول الحديث عن “وامعتصماه” وإنقاذ المرأة الهاشمية، وأنه كان يحتسي كأسا عندما بلغه الخبر، فإنه -حسب المحقق- من المحتمل أن يكون هذا البيت من بائية أبي تمام: “لبّيتَ صوتًا زِبَطريًّا هَرَقْتَ لَهُ / كَأسَ الكَرى وَرُضابَ الخُرّدِ العُرُبِّ” هو الذي ألهم هؤلاء؛ فبنوا على أساسه قصة “وامعتصماه” التي أطلقتها المرأة الهاشمية.
يطلق البطريرك التلمحري على جيش الخليفة المأمون “جيش الفرس″ وعلى جيش المعتصم “الأتراك”، ويتضح من سياق الرحلات أن المأمون كان أكثر تعاطفًا وانفتاحًا على المسيحيين من المعتصم، وعلى الرغم من جرائم الفرس فإنها أقلّ من جرائم الأتراك.
ونستشفّ أن هناك فرقًا بين ما ذكره وما أشيع من ظلم العرب، وتحميل مسؤولية الكثير من الجرائم لهم؛ تلك التي نفذها غيرهم، ففي الصفحة 113 من الكتاب نقرأ هذا النص من الرحلة: “وإذا ما تحدثنا عن أعمال أفراد عشيرته الموالي، يتيه العقل ويعقل اللسان من كثرة جرائمهم، فقد تجبروا ولم يستطع أحد أن يقاومهم أو يردعهم عن إشباع رغباتهم، فكان المولى يحلّ فدان المسيحي من حقله، ويحرث حقله هو، ويُسخّر الرجل وعائلته لحصاد حقله والعمل معه، ولم يكن الحاكم ليردعهم. وإذا ما رغب المولى في قرية ما، ضاعف على أبنائها الضرائب حتى يضطروا إلى بيعها فيشتريها بأبخس الأثمان… وقد احتمل الناس حتى المسلمين الكثير من العنف من الحكام والموالي”، وهو ما نلاحظه في الصفحة 84 حيث ما إن غادر المأمون مصر حتى راح الفرس يعيثون فسادًا وظلمًا فيها، وهذا الظلم هو الذي جعل الكثير من الناس يلتجئون إلى الموالي، حماية لأنفسهم منهم.
براءة المأمون
يذكر البطريرك، أن عبيدالله بن السري كانت مدينته محصنة ويمتلك ثمانين ألف رجل معظمهم من الميديين، فنقرأ هامش المحقق الذي يؤكد أن تسمية الأكراد كانت شائعة، مما يعني أن نظرية المستشرقين حول انتساب الأكراد إلى الميديين غير دقيقة، كما يثبت ما أورده البطريرك من وجهة نظر كاتب السطور أن هؤلاء حتمًا بمرور الزمن تمصروا وأصبحوا جزءًا من الشعب المصري الذي كان حاله كحال جميع العرب نتاج تزاوج الأقوام والشعوب والأعراق.
في حديثه عن آثار الفراعنة والأهرامات، نجد أنفسنا أمام واقعتين اتهم فيهما العرب: الأولى من قبل البطريرك ديونيسيوس، فيما يخص تمثال جزيرة رودس، بينما يثبت المحقق أن المصادر الإغريقية تشير إلى بناء هذا التمثال البرونزي عام 280 ق.م. وسقط عام 227 ق.م. نتيجة زلزال مدمر، وكان يمثل الإله الإغريقي أبولو أو هيليوس إله الشمس، حسب بعض المصادر، ويبدو أن المسلمين قد وجدوا قطع هذا التمثال مبعثرة في المكان فنقلوها معهم ولم يقوموا هم بتدميره. أما الواقعة الثانية فهي ما يخص الثغرة التي في الهرم، حيث يدون كلامًا يبرئ ساحة المأمون والعرب، فهو يقول “رأينا إلى جانب أحدها ثغرة يبلغ عمقها نحو 50 ذراعًا، صفت جدرانها بالحجر الذي حطمه الناس فيما بعد ليروا فيما إذا كانت مجوفة أم لا؟”. ويعلق المحقق أن هذه الرواية تدحض الخرافة التي تزعم أن الخليفة المأمون هو الذي حاول فتح الأهرام بحثًا عن الذهب، وقد تداولها مؤرخو العصر المملوكي في مصر، وهي منقولة عن كتاب ألف ليلة وليلة، إذ فيه قصة حول هدم المأمون للأهرام. بينما البطريرك يتحدث عن حفرة موجودة في الهرم عند زيارته ولا يشير إلى علاقة للمأمون بذلك.
أصل السريانية
وحول تسمية السريان وسوريا، يعتمد على أسطورة لا أساس لها تاريخيا أو أثريا يدعمها، وهي عن شقيقين أحدهما يدعى سورس والآخر قيليكس، وقد تخاصما حبّا في الزعامة، فذهب قيليكس مع جيشه إلى المنطقة الموجودة ضمن جبل أمنون المعروف اليوم بالجبل الأسود، حيث أقام مُلكًا وسميت المنطقة باسمه قيليقية.
أما سورس فسيطر على منطقة غربي الفرات فدعيت باسمه سوريا. وهو يُدخل ممالك عربية ضمن السريان، كما في الأباجرة في الرها، وملوك الحضر والتي يعترف بأنها من أرض العرب، ويختمها بالقول إن أصل اللغة السريانية وأساسها هي مدينة الرها.
وخير ما أختم به هذا العرض هو خاتمة الملحق الخامس والأخير من الكتاب “رحلة برنار الحكيم عام 867م” لنعرف ضوءًا منيرًا من تاريخ سكان المنطقة، حيث يقول برنار الحكيم:
“والآن سأقول لكم كيف أن المسيحيين حافظوا على شريعة الله في كل من القدس ومصر. إن المسلمين والمسيحيين في القدس ومصر على تفاهم تام، حتى أنني إذا سافرت ونفق في الطريق جملي أو حماري، وتركتُ أمتعتي مكانها وذهبت لاكتراء دابة من البلدة المجاورة عدتُ فوجدتُ كل شيء على حاله لم تمسّه يد. فقانون الأمن العام في تلك الديار يقضي على كل مسافر بالليل أن يكون بيده وثيقة تبيّن هويته، فإذا عدمها زُجّ في السجن حتى يتحقق في أمره ويثبت أنه ليس جاسوسًا”.
جريدة العرب اللندنية
[نُشر في 03/04/2014، العدد: 9517، ص(15)]
http://www.alarab.co.uk/?id=19223