أجرى المقابلة- يوسف حمد
لا يستطيع المرء تقديم الشاعر العراقي (باسم فرات) دون أن يشير إلى الحضور المعرفي في نصوصه الشعرية، وكذلك دون أن يُذكِّر أن (باسم) يتخذ من الشعر غاية جمالية قائمة بنفسها، لكنها تفضي، في الوقت نفسه، إلى غاية أخرى متداخلة فيها، هي بلا شك الموقف النقدي والتأملي من التاريخ. فقراءة التاريخ بالنسبة لباسم المولود في مدينة كربلاء العراقية (1967) هيّ "المدخل الجيد للثقافة ولفكفكة الأزمة العربية الراهنة" كما يقول في المقابلة أدناه. والقارئ لدواوين باسم فرات الشعرية التي صدرت حتى الآن: (لغة الضوء)، و(بلوغ النهر)، و(أشهق بأسلافي وأبتسم) يلحظ نزوع باسم للكتابة بشكل مختلف في كل مرة، لبلوغ المعرفة عبر القصيدة المرتجاة، حتى لو يوقعه هذا الأمر في مشقة الكتابة عبر لغة اليومي والحياتي.
هاجر باسم من العراق في العام (1993) واستقر في الأردن، لكنه غادرها في رحلات متتالية شملت أكثر من (25) بلداً، وحصل ضمن هذه الرحلات على جنسية نيوزيلندا، لكنه لم يمكث فيها وفضَّل حياة السفر المتواصلة... وصل باسم إلى الخرطوم مؤخراً وكان ضيفاً على أكثر من فعالية ثقافية.
أدناه، مقتطفات من مقابلة أجرتها (اليوم التالي) مع باسم فرات على هامش زيارة قام بها إلى معرض الخرطوم الدولي للكتاب.
أجرى المقابلة - يوسف حمد
كيف يُقدِّم باسم فرات نفسه إلى القراء؟
أنا قارئ، وأجمل شيء أن يكون المرء قارئاً.. بصراحة، تُربكني كلمة شاعر، وأُعدُّ كل ما كتبته محاولات لكتابة قصيدة. أقول هذا وفي البال أن أعظم شعراء العالم لم يكتبوا أكثر من (11 إلى 19) قصيدة، أقصد القصيدة التي لا تستطيع أن تضيف لها كلمة أو حرفاً. استطعت، بحسب ما قاله النقاد، أن أصل إلى درجة معينة من كتابة القصيدة، ليست هي درجة الكمال. وبالطبع، إذا وصلت إلى كتابة القصيدة التي تريدها، ستكون، تلقائياً، قد انتهيت!! وأجمل ما في القصيدة هي أنك تبحث عن شيء ما خلالها، مثل أن يتصورك القراء أنك تكتب عن حبيبتك، وفي الواقع، أنت لا تكتب عن حبيبتك، إنما تكتب عن شيء في خيالك، ربما كانت حبيبة متخيلة!! والقصيدة عندي هي الشيء نفسه.
كيف تنظر إلى الشعر.. ثمة من يقتصره على الوزن والقافية، متناسياً حتى المضامين؟
هذا أصعب سؤال، أنْ يسأل الشاعر عن تعريف الشعر، فأنا أجهل الناس بالشعر.. ولا أعتقد أن بالإمكان تعريف الشعر. وبالنسبة لي، أنا بدأت كتابة الشعر في سن مبكرة، ربما كانت في المراحل الدراسية الأولى وعمري وقتها 10 سنوات. كنت أقرأ صحيفة (طريقة شعر)، وهي صحيفة متخصصة في الشعر، يحررها شعراء أمثال سعدي يوسف، إلى جانب عدد من المحررين الشيوعيين.
إذن، صحيفة (طريقة شعر) هي التي قادتك إلى الشعر؟!
أجادل وأقول: إذا كانت مقولة: "إن بعض الناس يولدون شعراء"، فأنا وُلدتُ شاعراً. وقررت أن أصبح شاعراً، ولا أزال في الطريق، وإذا وصلت، لانتهيت!! وأحاول أن أكتب بطريقة مختلفة.. ففي ديواني (لغة الضوء) تختلف لغتي الشعرية عن (أشهق بأسلافي وأبتسم)، وكذلك لغتي في (بلوغ النهر). ففي الديوان الأخير ثمة تداخل حضاري وثقافي ومؤثرات دينية مختلفة، أما (أشهق بأسلافي وأبتسم)، فقد بدا كما لو أنه ديوان حب، قصيدته الأولى وضعت بعناية، وكذلك القصيدة الأخيرة منه التي انتهت بموت، وأنا متعمد أن أخرجه بهذه الكيفية. أردت أن أصور دورة حياة كاملة، وأردت أن أقول: الشاعر يموت لكن شعره لا يموت.
إلى أيِّ مدى يمكن أن يتعامل باسم مع الشعراء بوصفهم مثقفين، وأصحاب موقف نقدي من الواقع؟
أنا أطمع أن أكون مثقفاً مثلما أطمع أن أكون شاعراً، وفي حديثي عن علاقتي بالواقع، أقول إن أكثر الأشياء التي أساءت للعقلية العربية الراهنة هي أننا لا نلتفت إلى التاريخ، أقصد تاريخ اللغات والأقوام والموسيقى والشعر، وتأتي ضمن هذه الالتفاتة الاهتمام لعلم الإناسة (الأنثربلوجي)، اكتشفت، مثلاً، إننا لا نقرأ لبعضنا، وهناك نقص في فهم ماهية التنوع في منطقتنا: اللغة والدين المذاهب... الخ، وهي المفتاح السحري لفك طلاسم الأزمة الحالية. وأقول، بعد دراسة وتعمق، إنه لا يوجد من يُعادي نفسه إلا العرب، لأننا لا نقرأ تاريخنا جيداً، وسمحنا للآخرين بتكريس شيء غير حقيقي عن تاريخنا، ومع هذا، أنا لا أقول إن العرب ملائكة، ولكن قصدي أن أدعو الجميع كي نقرأ تاريخنا بشكل نقدي، وهذا – برأيي - المدخل الجيد للثقافة ولفكفكة أزمتنا الراهنة.
كيف يقترب باسم من السياسة، خاصة وهو من بلد مأزوم سياسياً.. فالمتتبع لشعرك لا يجد أثراً لموقف سياسي؟!
أنا لا أتعاطى السياسة، ومدخلي دائماً للسياسة هو قراءة التاريخ، بالطبع هناك جهل من السياسيين بالتاريخ، وهذا ما يعمق الأزمة في العراق، كمثال، وفي غيره. وفي الحقيقة، أنا لا ألوم السياسيين بقدر ما ألوم المثقفين الذين لا يقرأون التاريخ، بل يسعى المثقفون لتكريس الأوهام والأحلام والكذب والشوفينية القاتلة. من هذه النقطة، أنا أُعادي المثقف أكثر من عداوتي للسياسي، لأن الأخير عادة غير مثقف، وبحاجة إلى مستشارين من النخب الثقافية. هناك مقولة راسخة بالنسبة لي وهي أن العراق مهد العروبة، والعروبة تختلف عن العرب، لأن العروبة هوية ثقافية. ولو أتينا إلى الآباء المؤسسين للحضارة: الفقهاء والعلماء واللغويين والمذاهب الدينية، جميعهم كانوا من العراق، أمثال أبي حنيفة النعمان وابن حنبل والشافعي الذي درس في العراق. لذلك أنا شديد الحساسية من المقولة الملتبسة التي تشير إلى أن العراق وطن صنعه الإنجليز، وأنا أُعدها مقولة ملفقة، ومثلها كذلك المقولة الأخرى التي تقول إن اللغة العربية لغة غازية للعراق، مع أن اللغة والأبجدية العربية بدأت في العراق، ولا توجد نصوص عربية سابقة للتي وجدت في العراق. وقد اتفق المؤرخون أن العراق يمتد من تخوم الموصل شمالاً إلى بلدان عبادان ساحل البحر جنوباً.
ما موقف باسم من التاريخ.. أهو نقدي أم موقف استلهامي؟
موقفي من التاريخ تأملي نقدي، وأنا متصالح مع المكان والتاريخ. هناك مسألة مهمة في حياتي اكتسبتها عبر تنقلي في أكثر من 25 بلدا أجنبيا، وكنت أذهب إلى متاحف تلك البلدان مثلما أذهب إلى أسواقها وتجمعات نخبها الثقافية. ومن المقارنة وجدت في منطقتنا العربية أننا نحاسب رجالاً عاشوا وصنعوا أحداثاً قبل مئات السنين بمعايير اليوم. واكتشفت في بريطانيا مثلاً الاحتفاء بشخصيات وملوك مارسوا جرائم بشعة في زمانهم، ويعد البريطانيون أن ما قاموا به أولئك شيء طبيعي في زمانه. إنما نصر نحن بصفتنا عرباً على أن نأتي إلى تمجيد أو التنكيل بشخصياتنا التاريخية ومحاكمتها بمعايير اليوم.. لذلك أنا أحترم الشخصيات التاريخية كثيرا،ً بغض النظر عن موقف الناس منها، قد أنزع إلى نزع الهالة التقديسية منهم، لكنهم ظلوا رموزاً تاريخية جديرة بالاحترام. من ناحية ثانية، مكنتني قراءة التاريخ من صياغة موقف سياسي خاص، ليس بالضرورة أن أطرحه، وساعدتني كذلك في معرفة كثير من المواقف السياسية التي أشاهدها، وأقرأ عنها الآن.
لباسم فرات – الشاعر - قطيعة مع السياسة، أنا أسأل عن أسباب هذه القطيعة، وفي بالي حالة المساكنة بين المبدع والسياسة التي شاهدناها في تجربة الروائي البيروني (ماريو فرغاس يوسا)، وهو يترشح سابقاً لمنصب الرئيس في الانتخابات البيرونية؟
الوضع في العراق يختلف، أنا فقدت كثيراً من أهلي في معترك السياسة والسلطة. ثانياً، همي الأول هو الشعر والمعرفة، وهما يتناقضان مع السياسة مثلما تتناقض السياسة مع الدين، ففي الشعر والمعرفة حس أخلاقي عالٍ، إنما في السياسة لا توجد مكانة للأخلاق. الآن يمكنني أن أقول إنني شاعر بلا وطن.. ففي نيوزيلندا، البلد التي أحمل جنسيتها، يتطلب الحصول على الخدمات والمنح الدراسية والمشاركة الثقافية أن أعيش هناك، ولا أستطيع ذلك لأنني أتنقل. وفي العراق بلدي الأصلي لم تتم دعوتي لمهرجان في العراق، إلا إذا كنت داخل العراق، وأعد هذا أمراً عادياً ولا يؤبه له، ويبدو لي أن الاعتزاز الحقيقي هو أن تتم دعوتي للعراق وأنا خارج أراضيه، وحتى هذه اللحظة لم يطبع لي كتاب في العراق، ولم يفاتحني أحد في ذلك.
هل جاء هذا التهميش، لو يسعفني المصطلح، كردة فعل لموقف سياسي يتبناه باسم من النظام العراقي؟
لا، فقط لأنني غير محسوب على المشهد الثقافي العراقي، وربما أشياء أخرى.
قريباً من التاريخ، هل وجد باسم فرات علاقة بين التاريخ والشعر؟
بدأ اهتمامي بالتاريخ وعلم الإناسة متأخراً عن الشعر، لكن أنا أقرأ أي شيء من أجل الشعر... بل قرأت وسافرت من أجل الشعر.. بعضهم يقول إن نصي الشعري نص معرفي، والبعض يصفه بأنه خليط بين المعرفي واليومي الحياتي... وجميعهم صادقون في زعمهم. أنا عشت مع شعوب يعيشون على الفطرة لا يعرفون حتى الحمام والمرحاض، وكذلك عشت مع أناس لهم سبل حياة حديثة، قرأت كتباً عن الديانات والموسوعات، وكتبت في أدب الرحلات، هذا الخليط جعل حياتي متنوعة، حتى إنني عملت خبازاً في الأفران وبيع الأكفان والمشغولات النحاسية والتصوير، وعملت في الجيش العراقي. عشت حيوات مختلفة جعلت حياتي ثرية وتعرضت فيها عدة مرات لما هو أقرب إلى الموت. وكل ما فعلت يأتي لأجل الشعر.
في مجموعتك الشعرية (بلوغ النهر) استخدمت مفردات: يابانية، وأردية، وفيتنامية... الخ، حتى أنك لجأت إلى الشرح في هوامش.. ماذا كنت تريد أن تقوله، عبر هذه النصوص المهجنة؟
صحيح، جاءت هذه المفردات لأن الديوان كتب في اليابان، ونيوزيلندا، ولاوس، وفيتنام، وأوردت هذه المفردات والعبارات احتراما لهذه البلدان التي عشت فيها والهمتني قصائد الديوان، ووضعت اسمي وعنوان الديوان باللغات اليابانية والإنجليزية والفيتنامية.
هل كتبت الشعر بهذه اللغات، أم أن الأمر مجرد استخدام لمفردات فقط؟
لا، لم أكتب الشعر بهذه اللغات. وفي الحقيقية كنت متحدثاً بهذه اللغات، لكنني أضعت مفرداتها بتطاول السنوات. وعلى ذكر اللغات غير العربية، أشير إلى أنني حاولت الكتابة باللغة الإنجليزية، وهي محض محاولة، وتركتها، لأنني أؤمن بأن الشاعر ينبغي أن يكتب الشعر باللغة المحببة إليه، وأنا لغتي العربية. صحيح، عندي ترجمات لشعري إلى لغات: الإنجليزية والأسبانية، وذلك لأنني كنت فاعلاً وحاضراً في المشهد الثقافي في تلك البلدان، وهذا الحضور يحتاج إلى تقديم نفسي. وهنا أشير بإعزاز إلى المترجم السوداني الرائع عباس الشيخ، فهو الذي ساعدني في الترجمة، وأظن أن عباس الشيخ من ولاية النيل الأزرق لو لم تخني معرفتي بأقاليم السودان.
هل كنت تراهن في (بلوغ النهر) على الجرس الشعري للمفردة أكثر من الرهان على لغة ذات لسان واحد؟
كل ما في الأمر أنني تماهيت مع ثقافات ومكان عشت فيه وخالطت شعوبه... وكنت في مجتمعات لا تعرف شيئاً من لغتي، ولا أنا أعرف لغتهم، لكن تماهيت معهم، وأحببت تنوعهم الثقافي.. أنا أتألم على أننا لم نحتف بتنوعنا. ورغم قصائد اليدوان ذات المفردات غير العربية إلا أن ثمة إشارات إلى للثقافة العربية حاضرة، للعراق وإلى العالم العربي.
يكتب باسم بلسان حبيب عاشق، لن أقول مهزوم، إنما لا يمتلك زمام المبادرة.. ما تعليقك؟
كانت عودتي لكربلاء بعد غربة، كنت في السابق أرى منارة الإمام الحسين من دارنا، وعند عودتي اختلف الأمر وأصبحت المدينة مكتظة، ولا أرى ما كنت أراه في السابق، من ثم، بعد دارنا، وهذا آلمني كثيراً وأشعرني بالهزيمة تجاه مدينتي، لذلك أصورها كحبيبة وأسعى لاستعادتها عبر نصوصي.
نجح باسم في إخفاء القافية من الأذن ومن العين... أرجو أن يكون هذا مدخلاً لنتحدث عن تجربتك الشعرية، وإلى أين وصلت؟
أنا مؤمن بمسألة، قد تكون تقليدية للغاية، هي أن القراءة مهمة للشاعر، والشاعر الذي يريد أن يكتب الشعر، عليه أن يقرأ التراث قبل أن يقرأ الشعر، لأنه من خلال قراءة التراث يستطيع الشاعر أن يكون فهما للشعر، إضافة إلى أن القراءات العالمية في الشعر تعطي الشاعر إلماماً بماهية الشعر... أنا لا أكتب قصيدة النثر، بل عندي تحفظ على هذه التسمية، لأن قصيدة النثر سطرية ومختلفة عن القصيدة التي أكتبها، أنا أكتب القصيدة الحرة، ويلاحظ في قصيدتي أنها ذات جرس رغم أنها لا تلتزم بالقافية الكلاسيكية، وأؤمن بالحداثة في الشعر، بل إن الحداثة بالنسبة لي هي موقف من الحياة بعامة.
جريدة اليوم التالي السودانية
السبت 20 أيلول 2014
http://www.alyoumaltali.com/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9/25128-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A7-%D8%A3%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A8%D9%82%D8%AF%D8%B1-%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81.html
لا يستطيع المرء تقديم الشاعر العراقي (باسم فرات) دون أن يشير إلى الحضور المعرفي في نصوصه الشعرية، وكذلك دون أن يُذكِّر أن (باسم) يتخذ من الشعر غاية جمالية قائمة بنفسها، لكنها تفضي، في الوقت نفسه، إلى غاية أخرى متداخلة فيها، هي بلا شك الموقف النقدي والتأملي من التاريخ. فقراءة التاريخ بالنسبة لباسم المولود في مدينة كربلاء العراقية (1967) هيّ "المدخل الجيد للثقافة ولفكفكة الأزمة العربية الراهنة" كما يقول في المقابلة أدناه. والقارئ لدواوين باسم فرات الشعرية التي صدرت حتى الآن: (لغة الضوء)، و(بلوغ النهر)، و(أشهق بأسلافي وأبتسم) يلحظ نزوع باسم للكتابة بشكل مختلف في كل مرة، لبلوغ المعرفة عبر القصيدة المرتجاة، حتى لو يوقعه هذا الأمر في مشقة الكتابة عبر لغة اليومي والحياتي.
هاجر باسم من العراق في العام (1993) واستقر في الأردن، لكنه غادرها في رحلات متتالية شملت أكثر من (25) بلداً، وحصل ضمن هذه الرحلات على جنسية نيوزيلندا، لكنه لم يمكث فيها وفضَّل حياة السفر المتواصلة... وصل باسم إلى الخرطوم مؤخراً وكان ضيفاً على أكثر من فعالية ثقافية.
أدناه، مقتطفات من مقابلة أجرتها (اليوم التالي) مع باسم فرات على هامش زيارة قام بها إلى معرض الخرطوم الدولي للكتاب.
أجرى المقابلة - يوسف حمد
كيف يُقدِّم باسم فرات نفسه إلى القراء؟
أنا قارئ، وأجمل شيء أن يكون المرء قارئاً.. بصراحة، تُربكني كلمة شاعر، وأُعدُّ كل ما كتبته محاولات لكتابة قصيدة. أقول هذا وفي البال أن أعظم شعراء العالم لم يكتبوا أكثر من (11 إلى 19) قصيدة، أقصد القصيدة التي لا تستطيع أن تضيف لها كلمة أو حرفاً. استطعت، بحسب ما قاله النقاد، أن أصل إلى درجة معينة من كتابة القصيدة، ليست هي درجة الكمال. وبالطبع، إذا وصلت إلى كتابة القصيدة التي تريدها، ستكون، تلقائياً، قد انتهيت!! وأجمل ما في القصيدة هي أنك تبحث عن شيء ما خلالها، مثل أن يتصورك القراء أنك تكتب عن حبيبتك، وفي الواقع، أنت لا تكتب عن حبيبتك، إنما تكتب عن شيء في خيالك، ربما كانت حبيبة متخيلة!! والقصيدة عندي هي الشيء نفسه.
كيف تنظر إلى الشعر.. ثمة من يقتصره على الوزن والقافية، متناسياً حتى المضامين؟
هذا أصعب سؤال، أنْ يسأل الشاعر عن تعريف الشعر، فأنا أجهل الناس بالشعر.. ولا أعتقد أن بالإمكان تعريف الشعر. وبالنسبة لي، أنا بدأت كتابة الشعر في سن مبكرة، ربما كانت في المراحل الدراسية الأولى وعمري وقتها 10 سنوات. كنت أقرأ صحيفة (طريقة شعر)، وهي صحيفة متخصصة في الشعر، يحررها شعراء أمثال سعدي يوسف، إلى جانب عدد من المحررين الشيوعيين.
إذن، صحيفة (طريقة شعر) هي التي قادتك إلى الشعر؟!
أجادل وأقول: إذا كانت مقولة: "إن بعض الناس يولدون شعراء"، فأنا وُلدتُ شاعراً. وقررت أن أصبح شاعراً، ولا أزال في الطريق، وإذا وصلت، لانتهيت!! وأحاول أن أكتب بطريقة مختلفة.. ففي ديواني (لغة الضوء) تختلف لغتي الشعرية عن (أشهق بأسلافي وأبتسم)، وكذلك لغتي في (بلوغ النهر). ففي الديوان الأخير ثمة تداخل حضاري وثقافي ومؤثرات دينية مختلفة، أما (أشهق بأسلافي وأبتسم)، فقد بدا كما لو أنه ديوان حب، قصيدته الأولى وضعت بعناية، وكذلك القصيدة الأخيرة منه التي انتهت بموت، وأنا متعمد أن أخرجه بهذه الكيفية. أردت أن أصور دورة حياة كاملة، وأردت أن أقول: الشاعر يموت لكن شعره لا يموت.
إلى أيِّ مدى يمكن أن يتعامل باسم مع الشعراء بوصفهم مثقفين، وأصحاب موقف نقدي من الواقع؟
أنا أطمع أن أكون مثقفاً مثلما أطمع أن أكون شاعراً، وفي حديثي عن علاقتي بالواقع، أقول إن أكثر الأشياء التي أساءت للعقلية العربية الراهنة هي أننا لا نلتفت إلى التاريخ، أقصد تاريخ اللغات والأقوام والموسيقى والشعر، وتأتي ضمن هذه الالتفاتة الاهتمام لعلم الإناسة (الأنثربلوجي)، اكتشفت، مثلاً، إننا لا نقرأ لبعضنا، وهناك نقص في فهم ماهية التنوع في منطقتنا: اللغة والدين المذاهب... الخ، وهي المفتاح السحري لفك طلاسم الأزمة الحالية. وأقول، بعد دراسة وتعمق، إنه لا يوجد من يُعادي نفسه إلا العرب، لأننا لا نقرأ تاريخنا جيداً، وسمحنا للآخرين بتكريس شيء غير حقيقي عن تاريخنا، ومع هذا، أنا لا أقول إن العرب ملائكة، ولكن قصدي أن أدعو الجميع كي نقرأ تاريخنا بشكل نقدي، وهذا – برأيي - المدخل الجيد للثقافة ولفكفكة أزمتنا الراهنة.
كيف يقترب باسم من السياسة، خاصة وهو من بلد مأزوم سياسياً.. فالمتتبع لشعرك لا يجد أثراً لموقف سياسي؟!
أنا لا أتعاطى السياسة، ومدخلي دائماً للسياسة هو قراءة التاريخ، بالطبع هناك جهل من السياسيين بالتاريخ، وهذا ما يعمق الأزمة في العراق، كمثال، وفي غيره. وفي الحقيقة، أنا لا ألوم السياسيين بقدر ما ألوم المثقفين الذين لا يقرأون التاريخ، بل يسعى المثقفون لتكريس الأوهام والأحلام والكذب والشوفينية القاتلة. من هذه النقطة، أنا أُعادي المثقف أكثر من عداوتي للسياسي، لأن الأخير عادة غير مثقف، وبحاجة إلى مستشارين من النخب الثقافية. هناك مقولة راسخة بالنسبة لي وهي أن العراق مهد العروبة، والعروبة تختلف عن العرب، لأن العروبة هوية ثقافية. ولو أتينا إلى الآباء المؤسسين للحضارة: الفقهاء والعلماء واللغويين والمذاهب الدينية، جميعهم كانوا من العراق، أمثال أبي حنيفة النعمان وابن حنبل والشافعي الذي درس في العراق. لذلك أنا شديد الحساسية من المقولة الملتبسة التي تشير إلى أن العراق وطن صنعه الإنجليز، وأنا أُعدها مقولة ملفقة، ومثلها كذلك المقولة الأخرى التي تقول إن اللغة العربية لغة غازية للعراق، مع أن اللغة والأبجدية العربية بدأت في العراق، ولا توجد نصوص عربية سابقة للتي وجدت في العراق. وقد اتفق المؤرخون أن العراق يمتد من تخوم الموصل شمالاً إلى بلدان عبادان ساحل البحر جنوباً.
ما موقف باسم من التاريخ.. أهو نقدي أم موقف استلهامي؟
موقفي من التاريخ تأملي نقدي، وأنا متصالح مع المكان والتاريخ. هناك مسألة مهمة في حياتي اكتسبتها عبر تنقلي في أكثر من 25 بلدا أجنبيا، وكنت أذهب إلى متاحف تلك البلدان مثلما أذهب إلى أسواقها وتجمعات نخبها الثقافية. ومن المقارنة وجدت في منطقتنا العربية أننا نحاسب رجالاً عاشوا وصنعوا أحداثاً قبل مئات السنين بمعايير اليوم. واكتشفت في بريطانيا مثلاً الاحتفاء بشخصيات وملوك مارسوا جرائم بشعة في زمانهم، ويعد البريطانيون أن ما قاموا به أولئك شيء طبيعي في زمانه. إنما نصر نحن بصفتنا عرباً على أن نأتي إلى تمجيد أو التنكيل بشخصياتنا التاريخية ومحاكمتها بمعايير اليوم.. لذلك أنا أحترم الشخصيات التاريخية كثيرا،ً بغض النظر عن موقف الناس منها، قد أنزع إلى نزع الهالة التقديسية منهم، لكنهم ظلوا رموزاً تاريخية جديرة بالاحترام. من ناحية ثانية، مكنتني قراءة التاريخ من صياغة موقف سياسي خاص، ليس بالضرورة أن أطرحه، وساعدتني كذلك في معرفة كثير من المواقف السياسية التي أشاهدها، وأقرأ عنها الآن.
لباسم فرات – الشاعر - قطيعة مع السياسة، أنا أسأل عن أسباب هذه القطيعة، وفي بالي حالة المساكنة بين المبدع والسياسة التي شاهدناها في تجربة الروائي البيروني (ماريو فرغاس يوسا)، وهو يترشح سابقاً لمنصب الرئيس في الانتخابات البيرونية؟
الوضع في العراق يختلف، أنا فقدت كثيراً من أهلي في معترك السياسة والسلطة. ثانياً، همي الأول هو الشعر والمعرفة، وهما يتناقضان مع السياسة مثلما تتناقض السياسة مع الدين، ففي الشعر والمعرفة حس أخلاقي عالٍ، إنما في السياسة لا توجد مكانة للأخلاق. الآن يمكنني أن أقول إنني شاعر بلا وطن.. ففي نيوزيلندا، البلد التي أحمل جنسيتها، يتطلب الحصول على الخدمات والمنح الدراسية والمشاركة الثقافية أن أعيش هناك، ولا أستطيع ذلك لأنني أتنقل. وفي العراق بلدي الأصلي لم تتم دعوتي لمهرجان في العراق، إلا إذا كنت داخل العراق، وأعد هذا أمراً عادياً ولا يؤبه له، ويبدو لي أن الاعتزاز الحقيقي هو أن تتم دعوتي للعراق وأنا خارج أراضيه، وحتى هذه اللحظة لم يطبع لي كتاب في العراق، ولم يفاتحني أحد في ذلك.
هل جاء هذا التهميش، لو يسعفني المصطلح، كردة فعل لموقف سياسي يتبناه باسم من النظام العراقي؟
لا، فقط لأنني غير محسوب على المشهد الثقافي العراقي، وربما أشياء أخرى.
قريباً من التاريخ، هل وجد باسم فرات علاقة بين التاريخ والشعر؟
بدأ اهتمامي بالتاريخ وعلم الإناسة متأخراً عن الشعر، لكن أنا أقرأ أي شيء من أجل الشعر... بل قرأت وسافرت من أجل الشعر.. بعضهم يقول إن نصي الشعري نص معرفي، والبعض يصفه بأنه خليط بين المعرفي واليومي الحياتي... وجميعهم صادقون في زعمهم. أنا عشت مع شعوب يعيشون على الفطرة لا يعرفون حتى الحمام والمرحاض، وكذلك عشت مع أناس لهم سبل حياة حديثة، قرأت كتباً عن الديانات والموسوعات، وكتبت في أدب الرحلات، هذا الخليط جعل حياتي متنوعة، حتى إنني عملت خبازاً في الأفران وبيع الأكفان والمشغولات النحاسية والتصوير، وعملت في الجيش العراقي. عشت حيوات مختلفة جعلت حياتي ثرية وتعرضت فيها عدة مرات لما هو أقرب إلى الموت. وكل ما فعلت يأتي لأجل الشعر.
في مجموعتك الشعرية (بلوغ النهر) استخدمت مفردات: يابانية، وأردية، وفيتنامية... الخ، حتى أنك لجأت إلى الشرح في هوامش.. ماذا كنت تريد أن تقوله، عبر هذه النصوص المهجنة؟
صحيح، جاءت هذه المفردات لأن الديوان كتب في اليابان، ونيوزيلندا، ولاوس، وفيتنام، وأوردت هذه المفردات والعبارات احتراما لهذه البلدان التي عشت فيها والهمتني قصائد الديوان، ووضعت اسمي وعنوان الديوان باللغات اليابانية والإنجليزية والفيتنامية.
هل كتبت الشعر بهذه اللغات، أم أن الأمر مجرد استخدام لمفردات فقط؟
لا، لم أكتب الشعر بهذه اللغات. وفي الحقيقية كنت متحدثاً بهذه اللغات، لكنني أضعت مفرداتها بتطاول السنوات. وعلى ذكر اللغات غير العربية، أشير إلى أنني حاولت الكتابة باللغة الإنجليزية، وهي محض محاولة، وتركتها، لأنني أؤمن بأن الشاعر ينبغي أن يكتب الشعر باللغة المحببة إليه، وأنا لغتي العربية. صحيح، عندي ترجمات لشعري إلى لغات: الإنجليزية والأسبانية، وذلك لأنني كنت فاعلاً وحاضراً في المشهد الثقافي في تلك البلدان، وهذا الحضور يحتاج إلى تقديم نفسي. وهنا أشير بإعزاز إلى المترجم السوداني الرائع عباس الشيخ، فهو الذي ساعدني في الترجمة، وأظن أن عباس الشيخ من ولاية النيل الأزرق لو لم تخني معرفتي بأقاليم السودان.
هل كنت تراهن في (بلوغ النهر) على الجرس الشعري للمفردة أكثر من الرهان على لغة ذات لسان واحد؟
كل ما في الأمر أنني تماهيت مع ثقافات ومكان عشت فيه وخالطت شعوبه... وكنت في مجتمعات لا تعرف شيئاً من لغتي، ولا أنا أعرف لغتهم، لكن تماهيت معهم، وأحببت تنوعهم الثقافي.. أنا أتألم على أننا لم نحتف بتنوعنا. ورغم قصائد اليدوان ذات المفردات غير العربية إلا أن ثمة إشارات إلى للثقافة العربية حاضرة، للعراق وإلى العالم العربي.
يكتب باسم بلسان حبيب عاشق، لن أقول مهزوم، إنما لا يمتلك زمام المبادرة.. ما تعليقك؟
كانت عودتي لكربلاء بعد غربة، كنت في السابق أرى منارة الإمام الحسين من دارنا، وعند عودتي اختلف الأمر وأصبحت المدينة مكتظة، ولا أرى ما كنت أراه في السابق، من ثم، بعد دارنا، وهذا آلمني كثيراً وأشعرني بالهزيمة تجاه مدينتي، لذلك أصورها كحبيبة وأسعى لاستعادتها عبر نصوصي.
نجح باسم في إخفاء القافية من الأذن ومن العين... أرجو أن يكون هذا مدخلاً لنتحدث عن تجربتك الشعرية، وإلى أين وصلت؟
أنا مؤمن بمسألة، قد تكون تقليدية للغاية، هي أن القراءة مهمة للشاعر، والشاعر الذي يريد أن يكتب الشعر، عليه أن يقرأ التراث قبل أن يقرأ الشعر، لأنه من خلال قراءة التراث يستطيع الشاعر أن يكون فهما للشعر، إضافة إلى أن القراءات العالمية في الشعر تعطي الشاعر إلماماً بماهية الشعر... أنا لا أكتب قصيدة النثر، بل عندي تحفظ على هذه التسمية، لأن قصيدة النثر سطرية ومختلفة عن القصيدة التي أكتبها، أنا أكتب القصيدة الحرة، ويلاحظ في قصيدتي أنها ذات جرس رغم أنها لا تلتزم بالقافية الكلاسيكية، وأؤمن بالحداثة في الشعر، بل إن الحداثة بالنسبة لي هي موقف من الحياة بعامة.
جريدة اليوم التالي السودانية
السبت 20 أيلول 2014
http://www.alyoumaltali.com/%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9/25128-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D8%B3%D9%85-%D9%81%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%A7-%D8%A3%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A-%D8%A8%D9%82%D8%AF%D8%B1-%D9%85%D8%A7-%D8%A3%D9%84%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81.html