علمني التجوال والرحيل المستمران، أنا المولع بقراءة التاريخ الثقافي للمدن، أن التاريخ لا يكمن في القبور، لأنها قد تكون قبور غزاة وطارئين. إنما يكمن في المنجز الثقافي. يكمن في شعرائها وفنانيها ومبدعيها وأعلامها، يكمن في أُسَرها "البيوتات"، فهي تعطينا تاريخ المدينة. ومن خلال قراءة تاريخ الأُسر العريقة في مدينة ما نمسك بالتاريخ الحقيقي للمدينة.
اعتبار القبور دليلاً على وجود فئة وعراقتها يُعدّ أكثر الأدلة ضعفًا وتزويرًا وإساءة للتاريخ والجمال، وليست مدينة النجف العراقية صاحبة إحدى أكبر مقابر العالم تعدّ النموذج الأبرز والأوضح فقط، حيث لا تُشكّل قبور سكانها القدماء واحدًا بالمائة من مقابرها؛ بل مقابر مدن النفط والمدن التي شاءت الأقدار أن تكون محط أحلام الفقراء والطامعين في المال والأمان معًا.
لمعرفة سكان المدينة الأكثر عراقة ووجودًا، نبحث في منجزها الكتابي، فيما يخص البلدان التي عرفت الكتابة، فالكتابة بلغةٍ ما تعني أن المدينة ذات هوية رئيسية تنتمي لهذه اللغة. أما لو كانت أكثر من لغة كتابية تتقاسم تاريخ المدينة لما قبل القرن العشرين، وتنامي صناعة النفط وبناء الدول الحديثة وما تتطلبه من مصانع وشركات- مما يعني هجرة واسعة من أماكن مختلفة- فإننا أمام مدينة متنوعة لم تتمكن لغة واحدة من أن تفرض هيمنتها عليها حتى مع وجود السلطة، وهو ما نلاحظه فيما يخص اللغة السريانية قبل الإسلام رغم سيطرة العرب ومحاولة ملوك الحيرة لتأسيس ثقافة عربية فرضت لهجتها على حد تعبير الباحث سعيد الغانمي في كتابه "ينابيع اللغة الأولى" واعتبار الحيرة الأساس الذي قامت عليه نهضة الكوفة والبصرة كما يرى العلامة جواد علي في كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام".
تجدد الأمر فيما يخص اللغة العربية بعد الاحتلال العثماني للعراق وجعل التركية لغة رسمية، لكنها لم تتمكن من فرض سيطرتها على مدن لها عراقة ومنجز كبير بالعربية كما في أمهات العراق الكبرى- أي بغداد والبصرة والموصل- لكنها تمكنت من أن تكون اللغة الأولى في عرابخا (كركوك). ومع هذا فالعربية والسريانية بقيتا فاعلتين في المدينة، وعليه نجد أن المنجز الكتابي وهو الممثل الأعظم والأهم في هوية أية مدينة، كانت حصة الأسد فيه في أغلب مدن العراق للعربية؛ باستثناءات بسيطة للتركية تقف عربخا (كركوك) في مقدمتها، بل تكاد تكون المدينة الوحيدة التي هيمنت اللغة التركية فيها ليس شفاهيًّا فقط بل كتابيًّا، مع وجود مدن أخرى بغالبية تركمانية على مدى قرون مثل أربيل وتلعفر وسواهما.
حين جاء الحكم الوطني بعد ثورة العشرين المجيدة، وعادت لغة العراقيين الذين أبدعوا أبجديتها ونقاطها وحركاتها ونحوها وصرفها، وكان لهم شرف كتابة أولى الموسوعات بها، لغة أولى، لكن هذه العودة القوية بسبب تطرف الأتراك في سِنِي احتلالهم الأخيرة، لم يجعل اللغات الأخرى تنحسر تمامًا في المناطق التي كان سكانها في معظمهم من غير العرب. فبرز عندنا شعراء وأدباء كتبوا بلغاتهم فأثروا المشهد الثقافي العراقي بلا شك.
إذا كانت هيمنة الإنجاز بلغة ما تدلّ دلالة واضحة وقوية على هوية مدينة أو أقليم أو وطن ما، فإن وجود منجز بأكثر من لغة سبق القرن العشرين كثيرًا يدل على عراقة لغات أخرى وتنوع قوميّ في المدينة والوطن عمومًا، مما يجعل دعاة فرض هوية ما على الوطن أو تلك المدينة أيضًا، دليلاً على إقصائية مرفوضة، لأن الاعتزاز بالتنوع لا يعني وعيًا بجماليته وثرائه فقط، وإنما هو اعتراف بوجود الآخر وحقه في المدينة وبالتالي في الوطن.
التركيز في هذه المقالة على التدوين لأنه الدليل الأقوى والأهم، لكن هذا لا يلغي أدلة أخرى منها ألقاب الأُسَرِ (البيوتات) ونوعية المطبخ أي المائدة. ففي العراق مثلاً تختلف المائدة ولو قليلاً من مدينة تاريخية إلى أخرى. وكمثال؛ فإن مائدة الموصل بوصفها أقدم مدينة ذات غالبية عربية منذ سقوط نينوى حتى الآن، تتميز بخصوصية عن مائدة البصرة التي نشم فيها المؤثرات الهندية وغيرها؛ نتيجة انفتاحها على البحر، وثمة عادات وتقاليد تُميز هذه المدينة عن تلك بسبب حضور ثقافي مختلف لغة أو دينًا أو مذهبًا أو بيئة، يؤدي إلى تلاقح ينتج عنه خصوصية هذه المدينة أو تلك عن غيرها.
صحيفة العرب اللندنية
نُشر في 06/10/2014، العدد: 9699، ص(14)]
http://www.alarab.co.uk/?id=34642