انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الخرطوم تتوكأ على نيلين ومحبة

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

     الخرطوم تتوكأ على نيلين ومحبة Empty الخرطوم تتوكأ على نيلين ومحبة

    مُساهمة  Admin الثلاثاء مارس 31, 2015 2:47 am

    الخرطوم المشاهد الأولى


    كانت طائرة الخطوط القطرية التي أقلتني من عَمّان إلى الدوحة قد تأخرت في الإقلاع، مما اضطرني حين الوصول إلى مطار "حمد الدولي" أن أجري مسرعًا باتجاه البوابة التي منها ألج إلى الطائرة التي ستقلني من الدوحة إلى الخرطوم. سلمت بطاقة صعود الطائرة للموظف، ليخبرني أن حقائبي مازالت في الطائرة القادمة من عمّان، فإن أحببت الطيران للخرطوم على أن أتسلم حقائبي من مطار الخرطوم غدًا فأهلا وسهلا، وإلاّ فعليّ العودة والتوَجّه لأول مكتب يقابلني كي ينقلوني للفندق مع وجبتَي عشاء وفطور.
    من حسن الحظ كان النُّزُلُ بعيدًا عن المطار، مما سمح لي برؤية بعض مناطق الدوحة، رأيتها ليلاً وفي الصباح الباكر حين حملتنا الحافلة للمطار. على أمل أن تكون لها زيارة خاصة للاطلاع على معالمها بشكل يسمح بالقول إنني فعلاً رأيتها.
    ما لفت نظري بين ثلاث عواصم هي عَمّان والدوحة والخرطوم، أن الأولى موغلة بخنوعها أمام الإنجليزية، وأقل خضرة منهما، ورغم وقوعها عند حافة صحراء لكن غبارها لا يمكن مقارنته بغبار الخرطوم وأتربتها التي غطت الشوارع. قليلة هي اللافتات المكتوبة بالإنجليزية فقط في الدوحة والخرطوم، وأعني بالدوحة المناطق التي مررنا عليها بالحافلة، ففي عمان ثمة شارع في حي الصويفية يكاد تكون جميع لافتاته (اللوحات التعريفية بالدكاكين) بالإنجليزية أو الحروف الرومانية.


    مصادفة اكتشفتُ مناطق جديدة في الخرطوم أثناء رحلة تسوق قصيرة، ومصادفة رأيت النيل الأبيض الذي بدا لي أكثر اتساعًا من النيل الأزرق، رغم أن الأزرق أسرع جريانًا منه، هكذا خُيّلَ لي أنا المسافر المقيم في الأمكنة، في الجغرافية والكتب معًا. كان أصدقائي الفقراء يُزَيّنون النيل الأبيض بسمرتهم، ما بين صائد سمك وبائع فواكه ومتفرج وآخرين يعمدون أجسادهم بالماء، ترتفع الأشجار على سواعدهم السمر، أطعموا أيامهم جبنة وشايًا، وتركوا أحلامهم.
    توقفت عند فواكِهيّ، اشتريت مانجا وموزًا، أخبرني أن اسم أسرته هو البغدادي (أو البغادة) وهم أسرة ليست كبيرة في السودان، جذورهم من بغداد، هذا الأمر ليس مستبعدًا، فالهجرة لم تتوقف يومًا. سألته كيف لي أن أعود لحيّ المعمورة، أو لشارع ستين، كان واقعيًّا حين أخبرني أن أسلك الطريق الذي أمامي وحين أصل للمقبرة أضعها على يساري وأسأل أحد المارة، كان العطش قد استبد بي، وفي الطريق سألت شابًّا كان دقيقًا في وصفه، فدوّنت وصفه للطريق على ورقة وشكرته ومضيت أحمل عبق النيل الأبيض في خفقاتي. المصادفات وحدها تجعل الجمال أكثر اكتمالاً، ذلك ما أفرحني حين تحققت رغبتي بمشاهدة النيل الأبيض.

    يمتاز السودانيون بالتنوع المدهش، تنوع في تدرج السمرة، وكل سُمرة فيها ملاحة تشبه طيبة هذا الشعب، كما أن تدينهم فطري، أي أنه يشبه تدين كبار السن من العراقيين قبل الثمانينيات. فالمرأة هنا كما في مصر تصافح الرجال ولا تجد في ذلك ما يسيء لإيمانها وتدينها، وثقتها كبيرة بنفسها، وعليه فإنَّ الاختلاط واضح ومنتشر، ولم يمنع الحجاب الاختلاط البريء. والاحترام في العلاقات كان القاسم المشترك فيما شاهدته، لكن مشاهداتي تبقى غير دقيقة لأني وصلت البلاد حديثًا، ومعظم الطبقة التي تعاملت معها هي طبقة متعلمة وبعضها من ذوي التعليم العالي.
    ثمة مدن تتآلف مع طرقاتها وأزقتها، وأخرى تستأنس بحدائقها ونظافتها ودقة تنظيمها، بينما أخرى تجد عزاءك في كرم أهلها رغم الفقر الذي بدل أن يُدَنّسَ حيواتهم، رصّعَها بالطيبة والابتسامة. هكذا كنت أُردّد وأنا أتجول في شوارع صارت نهبًا للغبار. الخرطوم لا تختلف عن جارتنا الجميلة المبتسمة دائمًا، المُقبلة على الحياة ببراءة طفلة، لكن الحرب التي سحقت ليس زوجها فقط، وإنما بيتها بالكامل فلم يعد لها المزاج الذي يغريها بالاعتناء بأنوثتها، يُساعده الفقر الذي استوطنها على متن صاروخ طائرة سمتية، جعلتها الحرب تقاطع مُزَيّنات المدينة، وكلما نظرت إليها رأيت جمالاً واضحًا خففتْ وطأة الزمن- وبكلمة أدق الحرب- من توهّجه.

    لا أستطيع أن أزيح الغبار عن شوارع الخرطوم، لكني أَتَنَعّم بقدرة على ملء زبيلي بالمحبة من أشجار الطيبة التي ثمارها العابرون. النيلان الآن مفعمان بعناق السماء، يكاد ماؤهما أن يتجول في شوارع العاصمة، فنحن في الخريف حسب التقويم السوادني، والحزام الأخضر لم يَصمد أمامَ الزحف الصحراوي ولا مبالاة الإنسان، فأكلته الأَرضة حتى من الذاكرة، وصار كما المرويات الشفاهية للحوادث، الجميع يتناقلها ولكن لا أحد رآها.

    ثمة ظاهرة وهي كثرة البيوت الكبيرة، الفكرة لا تختلف عما عليه في عَمّان، لكن عادة بناء البيوت في الخرطوم يكون أفقيًّا أكثر منه عموديًّا، بينما في عمّان عموديًّا أكثر منه أفقيًّا، أي سعة مساحة البيت في الخرطوم وضيقها في عَمّان. هي بيوت يراد منها أن تضم العائلة فلا يشرع الأبناء بتكوين عائلة خارج نطاق بيت الأب، هي جزء من سلطة أَبَويّة، فَيُخَصّص كل جناج لأحد الأبناء. بيوت الخرطوم (حسب مشاهداتي) ناجزة، بينما بيوت عمان تكتمل بمرور الزمن، أي تُترك فسحة للأسياخ الحديدية أن تشرئب نحو السماء حتى تتم خطوبة أحد الأبناء فيشرعون ببناء طابق له، مما يجعلها واضحة للعيان لسنوات طويلة.

    الخرطوم تتكون من ثلاثة مدن. الخرطوم وهي الأحدث وأم درمان وبحري، ومهما نقرأ عن البلدان فلا يمكن فهمها جيدًا إلاّ حين نسكنها ونتماهى مع أهلها. فالكتب لا تخلق تجربة وإنما معلومات. والجاليات في المنافي تُقسم إلى قسمين الأول يتكفل الحنين بتحويل المكان الأول إلى جنة مفقودة، والثاني يتكفل الحقد والكراهية التي تزحف من مكانها الطبيعي أي للحكام لتتحول للوطن أرضًا وشعبًا أو شعبًا فقط. وخلال فترة وجودي في البلدان التي عشت فيها لمستُ أمورًا أحيانًا هي مناقضة لما يُشاع ويلتصق بالمخيال الجمعي، مثال ذلك حرية المرأة في أمريكا الجنوبية، لأكتشف أن الحرية في الملبس لا غير، وأنها تعاني من اضطهاد حتى لو كانت في منصب حكومي أعلى. مثلما لمست الانفتاح هنا وكأن الصورة التي رُسمت له أُريد لها أن تكون كما يَتَمنّى الغرماء.
    يبقى شارع النيل أجمل شوارع الخرطوم، ليس لأنه مُطلّ على النيل الأزرق فقط، بل لأن في جزرته الوسطية، تتشابك أشجار الماهوجني العملاقة التي زرعها الغزاة الإنجليز لتدلّ على أثرهم الإيجابي الوحيد ربما في هذه البلاد التي تفنّنوا في خلق الفتن بين شعبها المسالم والذي يعيش متآخيًا على مدى قرون طويلة قبل أن تدكّ المدفعية البريطانية أواصر هذه الأمة التي أجمل ما فيها طيبتها.
    حين كنت أتناول القهوة السودانية وكعادتي بلا سُكّر، كي أستمتع بطعمها، متأملاً النيل وقد أنهيت أول جولة في أمواجه والمراكبيّ في غنائه حنين لقريته في شمال السودان، كتبت على ورق بَلَّلَهُ عبق النسيم الخريفيّ:
    المدن التي ينحني لها المطر كي تستحم العصافير في بحيرات أساها، عانقت الغريب ورمت ذاكرتها في أحضان العابر، تتوسد صحراء تتيه في بحرٍ احمرّت وجنتاه خجلاً، وهو ينظر لصبايا النوبة يملأن سلال أنوثتهن بحدائق حنّاء، ويشعلنَ للنيلين وهج عذوبتهن احتفاءً بالملكة الكنداكة التي كانت طوال سني حكمها (40 قبل الميلاد– 10 ميلادية) لمملكة كوش بن حام، تحلم بالاسترخاء على سواحل البحر المتوسط وكأنها كانت تود النظر إلى أوربا معاتبة على ما سيفعله أحفاد الأخيرة بسليلي الفراعنة السود.
    الخرطوم تتوكأ على نيلين ومحبة.


      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 16, 2024 10:42 pm