بدأت مسيرة الثقافة العراقية بإشكالية، أوجدتها الأحزاب والنخب العراقية، تبلورت بمرور السنوات، لينتج عنها وعيّ جمعيّ قارّ، يعيش ازدواجية بين ولائين، فمن جهة هو عراقيّ لكنّ الهوية الضيّقة سرعان ما تنشب أظفارها، فينتصر لها على حساب عراقيته، أو في أحسن الحالات يدافع عن هوية عراقية مبنية على رؤاه هو، أي بما تتفق وهويته الضيقة. القومي العربي يؤمن بالعراق الذي رسمت حدوده معاهدة سايكس - بيكو وفصلته عن وطنه العربي الكبير وأمته العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة، فهو جزء منها غير مبال بتنوعه وخصوصيته وبالتالي بخصوصية البلدان الأخرى التي تشكّل حسب وهمه الوطن العربي الكبير، قافزًا على حقيقتين تاريخيتَين أولاهما أن هذا "الوطن العربي" الذي ربما يكون نجيب عزوري (توفي 1916) الشاميّ أوّل مَن أشاع مصطلحه في باريس سنة 1904 من خلال تأسيسه رابطة "الوطن العربي" والتي كان شعارها "أرض العرب للعرب"، أقول إن هذا "الوطن العربي" لم تقسمه معاهدة سايكس - بيكو ولا غيرها، حيث إن بلدانًا عديدة منه كانت تئن تحت احتلالات مختلفة، منها البريطاني والفرنسي والإسباني والإيطالي، قبل المعاهدة الآنفة الذكر.
الحقيقة الثانية المُغَيَّبَة هي اتفاق المؤرخين والباحثين على أنه من تخوم الموصل شمالاً حتى بلاد عبادان وأدنى شط العرب جنوبًا، كما عند المؤرخ الروماني أميانوس مَرشيلينوس وجمهرة من المؤرخين والبلدانيين العرب والمسلمين والأجانب، ويكاد يكون العراق الحالي أصغر كثيرًا من الخارطة البابلية التي جعلته يمتد شمالاً أكثر، وهو عند المؤرخ البريطاني كينير في كتابه الإمبراطورية الفارسية الصادر سنة 1811م يمتد حتى جنوب ماردين، وأما نهراه دجلة والفرات فهما من العوامل الرئيسية على توحيده جغرافيًّا واقتصاديًّا فأجبرا الجميع على المثول عند هذه الحقيقة التاريخية - الجغرافية حين تخطيط الحدود، بينما القوميون العرب والأكراد فقط مَن يرفض هذه الحقيقة ويصرّون، فالعربي بادّعائه أنها مؤامرة لتقسيم "الوطن العربي" وخلق كيانات هزيلة، والكُردي بزعمه أن العراق لا وجود له وتمت صناعته في أروقة السياسة البريطانية في العشرينات هكذا بكل شطط القول، كي لا تتوحد كردستان الكبرى التي لم تكن يومًا دولة ولم تكن موحدة لأن كثيرًا من المدن التي يزعم القومي الكُردي أنها جزء من وَهْمِهِ الكردستاني كانت حتى قبيل الحرب العالمية الأولى إن لم تكن الثانية بغالبية غير كردية وتراثها ليس كرديًّا. لكنها لعنة الوهم الذي يتلبس المتطرفين من المؤدلجين، عربًا وغيرهم.
أما القوميّ غير العربيّ فقد كان ضحية لظروف حاقت بالعراق والمنطقة سوف أتناولها في الفقرات التالية؛ مما أدّى لردة فعل قوية وعنيفة غذتها ثلاثة روافد:
1- عدم مبالاة العراقي بقراءة تاريخه عمومًا وتاريخ تنوعه. القراءة التي تقود لتساؤلات عن حجم دور وأهمية هذا التنوع ومنجز كل فئة بلغتها وهل تتناسب مطالبه وبالذات ما يخص "حق تقرير المصير" مع هذا المنجز الذي هو وحده يؤشر عراقته في المكان الذي يطالب به، لأن الأرض للجميع ولكن إذا كان لابدّ من نسبتها لجماعة فيجب أن تُنسب للغة التي تمّ أكثر التدوين بها، لا للذين نزحوا إليها خلال القرن العشرين حتى إننا لا نجد شاعرًا أو أديبًا واحدًا كتب بلغتهم.
2- قوة بطش الدكتاتورية في العراق، والتي كانت جرائمها بحق عرب العراق أكثر من غيرهم، لكن سيطرة غير العرب على طليعة حركة اليسار، وتحويل الصراع البعثي - الشيوعي إلى صراع النقائض، أي كلما زاد الخطاب القومي العربي البعثي في تمجيد العرب والحديث عن مؤامرة للنَّيْل من أمة العرب الواحدة، زاد الخطاب الشيوعي في إعلاء شأن الأقليات وفي مقدمتهم الأكراد الذي تحول الحلف معهم إلى حلف مقدس لم تنقضه حتى جرائم بعض الزعماء الأكراد كما في جريمة مجزرة بِشتآشان؛ مما أدّى إلى السماح للخطاب العنصري المليء بالحقد والكراهية لكل ما هو عربي والتقليل من شأن سكان العراق الأصليين مع تضخيم الآلة المنتجة للوهم. وهم الأمجاد الغابرة الذي يقابله وهم المظلومية التي وُضعتْ تحت المجهر ليتم تكبيرها آلاف المرات عند الجميع بلا استثناء أي القوميات والمذاهب.
3- التنشئة الخاطئة، فمناهج الدراسة لا تعير كبير أهمية حتى هذه اللحظة لزرع حب العراق والاعتزاز بتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والعرقي، فنحن ندرس منذ عقود تاريخ غيرنا أكثر مما ندرس تاريخنا، فأبطال البلدان العربية الأخرى في القرنين التاسع عشر والعشرين، أكثر حضورًا في الوعي الجمعي العراقي من الأبطال العراقيين، حتى إن أنزه سياسي عراقي لغاية هذه اللحظة- وهو جعفر أبو التمن- يكاد يكون مُغَيَّبًا تمامًا لو قارناه بشخصيات عربية قضينا ساعات طويلة في حفظ أسمائها وإنجازاتها كي نجتاز الامتحانات.
أما تنشئة الأحزاب، فلا وجود لحزب عراقي يوصي ويُشَجّع أعضاءه بقراءة تاريخ العراق وجغرافيته بشكل علمي دقيق، ليزيد من تماسك العراقيين واعتزازهم بهويتهم ونضالهم المشترك، أدبيات الأحزاب وما نشرته من كتب هي عادة لا علاقة لها بالوطن. كان اليسار يتباهى بنشر الأدب الروسي وكأنه وكيل للروس وليس حزبًا عراقيًّا، وأما القوميون العرب فأصبح الأدب العربي بأقلام المصريين والشاميين هو المنتشر في الأسواق، بينما مؤلفات الأدباء العراقيين تغرق برطوبة مخازن دار الشؤون الثقافية.
في تصريحين غير متزامنين أكّدَ كلٌّ من السياب والجواهري إدمانهما قراءة الرواية، لم يلتفت غالبيتنا إلى رغبة السيّاب بإنجاز حلمه "مشروع قراءة الفلسفة" لكن هوسًا أصاب معظمنا بقراءة الرواية، ونتج عن هذا الهوس تفشّي الجهل بتاريخنا وتنوعنا مما منح التطرف القومي والديني والمذهبي أن يتوغل في ثقافتنا العراقية؛ لأن الجهل عامل مساعد إن لم يكن فعّالاً في تقبّل الآخر تقبلاً تامًا أو رفضًا تامًّا، أي التعامل السلبي الذي يخلو من الإيجابية وهو مساءلة طروحات الآخر بعين نقدية عارفة ببواطن الأمور ومؤمنة بأن المعرفة محبة.
كان الصراع البعثي - الشيوعيّ، ووقوف الأخير بوجه التطلعات القومية للغالبية العربية التي منحت العراق هويته وشخصيته، وفي ذات الوقت الإعلاء من شأن بعض الأقليات وتأييد طروحاتهم مهما كانت مغالية في عنصريتها ومعاداتها للعراق وأمنه القوميّ، بل وتعميمها على أنصاره ومؤيديه، الذين كانوا يتزايدون كلما أوغل البعثيون في طغيانهم وخطابهم الشوفيني الإقصائيّ وعنفهم ودمويتهم، مما مَهّدَ الطريق أمام النخبة الثقافية العراقية أن تتبنى طروحات الأقليات باستثناء التركمان الذين كانوا ضحية لنقمة القوميين العرب والأكراد والآشوريين ولا مبالاة الشيوعيين إن لم تكن نقمتهم، ولا يعني هذا أن التركمان لم يتدنسوا بالعنصرية والتطرف والاستعلاء على الآخرين.
صعود الهوية المذهبية
كان زلزال اجتياح الكويت في سنة 1990 وما تلاها من تداعيات أدَّتْ إلى تنامي الحسّ المذهبي في العراق، فشوارع المدن المقدّسة امتلأت بشعارات معادية لمذهب ورموز نسبة كبيرة من العراقيين، تلاها نشر مجموعة من المقالات مسيئة لهم في الصحيفة الناطقة بلسان الحزب الحاكم، كانت عبارة عن جمر تحت الرماد لا يحتاج إلاّ إلى النفخ ليتوهج لا لينير بل ليحرق؛ وإذا كان مرور أكثر من عقد من السنوات العجاف بعد هذا المفصل التاريخي، أسهم في ضمور الجمر وتزايد الرماد، فإن المقالات الخمس التي نشرت نهاية 2002 في جريدة بابل، جاءت لتعيد الذاكرة لما حدث في ربيع 1991 وبذلك انخرط الكثير من "المثقفين العراقيين" تحت ضغط هذا النهج في نفخ رماد الطائفية.
جاء الزلزال الأكبر وهو حرب 2003 لتُمنح الحرية كاملة لمن تكممت أفواههم، ولكن طول التكميم كان سببًا رئيسيًّا- مع ما ذكرناه أعلاه بخصوص معرفة تاريخ الوطن- لأن تفقد هذه الأفواه معرفة الكلام الصحيح، فجاء كلامها مُكرّسًا لمطالب الهوية الضيّقة وليس لإقامة دولة تكون ممثلاً حقيقيًّا للعراقيين قاطبة. انفجر التديّن المؤدلج في المجتمع العراقي، والذي كانت الحملة الإيمانية في التسعينات التي بدأها نظام الرئيس صدام حسين، لتقطف الأحزاب الإسلامية القادمة مع الدبابات الأميركية أو التي منحتها هذه الدبابات الفرصة للظهور على الساحة السياسية ثماره؛ وذلك بتعبئة الشارع الذي كان مهيئًا أصلاً، جاعلين من "مثقفين" ارتدوا عن يساريتهم وعلمانيتهم وقوميتهم التي لم تعد تأتي بالمنافع، نحو الطائفة الرائجة سوقها مالاً ومكانة ونجومية.
لم يكن الشعر نخبويًّا لدرجة لا يمكن معها القول بوجود جمهور له، بل عموم الثقافة العراقية أثبتت أنها تعيش عالَمًا لا تربطه علاقة بالجماهير، فالمثقف العراقي لم تسعفه قراءاته وإبداعاته في إعادة ثقة الناس بالوطن والهوية الكبرى، بل يمكن القول إن شريحة واسعة من هؤلاء "المثقفين" وإن كان غالبيتهم غير مؤثرين، قد تذكروا الطائفة واتضح أن ملامسة وعيهم للثقافة الإنسانية كان سطحيًّا.
القتل في الثقافة العراقية
لا تخلو النخب الثقافية في العالم من الحسد والغيرة، ولكن ما يُميّز النخبة الثقافية العراقية، أنها موغلة في قسوتها، لا يستطيع "المثقف" العراقي أن يتجاهل الآخر أو أن ينظر إلى منجزه كَمُحَفِّز، وإنما يسلك طريق التسقيط والإلغاء ولو "تمادى" المبدع الغريم بنشاطه وإبداعه فالقتل الثقافي هو السلاح الذي يمارسه هذا "المثقف" حين يطلق العنان لِمُخَيّلته في ابتكار تُهَمٍ وبثّ إشاعات مسيئة تطال حتى الجانبين الأخلاقي والسلوكي للمبدع الغريم، ومن المفارقات أن كثيرًا من هذه التُّهَم الملَفّقة ارتكبها "المثقف" ذاته، وهو يباركها لنفسه ويبررها للمقربين منه حتى يختلف معهم، لأنها في معظمها ليست تهمًا في جوهرها وإنما يُضخّمها تطرف الفرد العراقي، ولم تكبح كتب الأدب والفكر عربية ومترجمة من كبح جماح التطرف العراقي عند النخبة المثقفة.
في الثقافة كما في السياسة، شخصنة الأمور والإشاعات هو ما يُمَيّز معظم النخبة الثقافية العراقية، لأن خلو البلاد من تقاليد ثقافية - سياسية ومعايير أخلاقية، أدّى إلى وقوع هذه النخبة في تناقضات عجيبة، ساهمت في الخراب الذي يعيشه المجتمع العراقي. ماذا لو التزمنا بقواعد تمنع صعود الطغاة على الأقل ثقافيًّا، أعني التفاف نخبة من المثقفين حول الطاغية، سؤال قادني لوضع هذه النقاط أدناه لأميّز بين المثقف المبدئي والآخر الانتهازيّ، وبذلك لم يعد الدكتاتور أو الطاغية شخصًا واحدًا بعينه بل هو ما تنطبق عليه وعلى حزبه هذه النقاط:
1- كل رئيس حزب مضى على رئاسة حزبه أكثر من ثلاث دورات انتخابية على أن لا تزيد الدورة على خمس سنوات، أو أكثر من 16 سنة.
2- بعد مضيّ ربع قرن فهو دكتاتور وطاغية.
3- حين تزيد فترة رئاسته لحزبه أو منظمته على فترة رئاسة غريمه أو مَن عارضه فهو بكل تأكيد أسوأ منه، أي جميع مَن عارض صدام حسين وفترة رئاسته
4- كل حزب لا يتضمن نظامه الداخلي الإيمان بوحدة التراب العراقي وأن العروبة هويته الأم، وتنوعه هو الروافد التي تصب في الهوية الأم وتثريها ولا يمكن الاستغناء عنها وتجاهلها.
5- الدعوة لمعرفة منجز التنوع العراقي وامتداداته ونظامه الإناسيّ (الأنثروبولوجي) فالمعرفة توقف تنامي الوهم بالعظمة والمظلومية والتاريخ المجيد التليد الذي ينمو بخصوبة عالية عند الأقليات حين تعي أن الغالبية تجهلها تمامًا.
النقاط أعلاه لتشخيص حالة يجب تعريتها وفضحها مما يعني بالتالي تعرية الانتهازية التي تمترس خلفها المثقف العراقي حين جعل موقفه مناهضة شخص وليس مناهضة حالة، فأصبح كل مَن يُعارض نظام صدام حسين شخصًا وطنيًّا ثوريًّا، وحين زواله أصبحت مناهضة العروبة دليلاً على الوطنية الثورية، وبعد انتهاكات الإسلام السياسي دخل الإسلام مع العروبة لتصبح معاداة هذه الثنائية جواز مرور للعلمانية الليبرالية.
المسكوت عنه هنا هو أن النخبة الثقافية العراقية متصالحة مع "المثقف" الذي يعمل مع الأقليات غير العربية مهما بالغ خطاب هذه الأقلية في وهم العظمة والمظلومية والعراقة وفي معاداة العرب، لدرجة أن النخبة أصبحت لا تُعبّر عن استيائها من هذا الخطاب ومن تحميل الأغلبية العربية جرائم الأنظمة وتستقبل الخطاب العنصري الشوفيني المناهض للعرب ولوحدة التراب العراقي بتصالح عجيب يدعو للريبة.
إذن الانتهازي ليس مَن مدح صدام حسين أو عمل في منظومته الثقافية بل كل مَن ارتدّ لهويته الضيقة وأعلى من قوميته أو مذهبه أو عمل في المنظومة الثقافية (صحف، مجلات، قنوات وكالات أخبارية ومؤسسات ثقافية) لأحزاب قومية أو مذهبية أو تغاضى عن خطابها العنصري أو المذهبي؛ وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من وسطنا الثقافي، والكثير ممن كنا ننظر لهم كأبطال لمحاربتهم دكتاتورية صدام حسين هم الآن يقبضون رواتب ممن مضى على رئاسة حزبه أكثر من ثلث قرن أو هو وعائلته منذ عمر الجمهورية؛ وهؤلاء لا يسمحون بنقد يُوَجّه "للسيد الرئيس" ولا للخطاب العنصري أو الطائفي مهما تمادى في الكراهية والإقصاء.
إن الثقافة العراقية بحاجة ماسة لمراجعة شاملة وتفكيك حواملها الاجتماعية، للخروج بصيغة عراقية تحتفي بالجميع وترفض تطرف الجميع وليس تطرّف فئة دون سواها؛ ترى في تنوعنا ثراءً محتفية بالمنجز العراقي بغير العربية كما بالعربية، مؤمنة أن الاختلاف دليل عافية للمجتمع، مبرزة إيجابيات المجتمع العراقي والعلاقات الإنسانية الراقية التي جمعت بين مختلف النخب العراقية مسلمة ومسيحية وصابئية ويهودية، عربية وكُردية وتركمانية وسريانية وشبكية ويزيدية، متسامية على جراحها، تُجَذّر خطابًا عراقيًّا معرفيًّا نقديًّا، يدعو للمحبة ولكن ليس على حساب الحقائق والرؤية العلمية.
نشرت في مجلة الجديد اللندنية العدد الثاني آذار 2015
وفي صحيفة العرب اللندنية في 29 آذار 2015، رقم العدد 9871 ، الصفحة 11
http://www.alarab.co.uk/m/?id=48646