ثمة مَن يرى أن الكتابة انتحار، ويرى آخرون أنها مواجهة ضد القبح لتتويج الجمال، وهي مواجهة الكذب والتظليل والشائعات، وما أكثر الشائعات التي تحولت إلى مقدسات في تاريخ البشرية؛ هنا تصبح مهمة الكاتب أكثر صعوبة لأنه سيواجه تهمًا يتساوى أصحاب الشهادات العليا من الأدباء مع أشباه الأميين في إطلاقها، فنزع المقدس عن الـمُدَنّس وتعريته والقول إن هذا مُدَنّس، جريمة لا تغفرها إلا العقول النَّيِّرَة المبتلاة بتفكيك الشائعات التي لبست لبوس التقديس وما هي إلاّ أكاذيب أطلقت عن حقد أو حب مبالغ فيه أو لردّ تهمة أو في أثناء سجالات عقائدية مؤدلجة تضع مكبرات عملاقة على الخطأ حتى يصبح جريمة لا تغتفر، وعلى الصحيح حتى يمسي مقدّسًا لا يمكن المساس به، بل كثيرًا ما تماهى هؤلاء مع حماسهم سلبًا وإيجابًا، ومن ثم يبدأون بمرحلة تكريس هذا الحماس عن طريقهم ومَن يتفق معهم ويوافقهم لتثبيت هذا الحماس المناهض للمنهجية العلمية، ويتحول عن طريق التكرار الممنهج والواسع إلى مُسَلّمات علمية.
إذا كان الزمن كفيلاً، بتثبيت الشائعات والأوهام والأكاذيب ورسم صورة مختلقة للشخصيات والأفعال، كمسلّماتٍ تفكيكها يَمسّ العقيدة، أو يجرح الذات القومية، لأن قرونًا من الزمن كفيلة بتثبيتها في النخاع الشوكي ومسامات الجسم والعقل جميعها معًا، فأن ما توصلت إليه ثورة الاتصالات في عصرنا اختصرت القرون بسنوات وربما شهورٍ. وهو ما شهدناه بعد اجتياح نظام صدام حسين للكويت، وكيف إن الآلة الاعلامية الجبارة كرّست أكذوبة أن الجيش العراقي هو رابع جيش في العالم، في حين نجد أن الأسس التي تعتمدها الجيوش وهي روح المواطنة العالية، وصناعاتها العسكرية والتي أسرارها تمنح الجيش مصداقيته وقوته بل بصفته جيشًا حقيقيًّا تحسب له الجيوش الأخرى حسابًا أم لا، وهذا لم يكن متوافرًا في الجيش العراقي، الذي معظم سلاحه إن لم يكن مستوردًا جميعه، والروح الوطنية شبه مقتولة، لأن خطاب النظام كان قوميًّا متطرفًا يُعلي من شأن الأيديولوجية العربية المبنية على وطن واحد يمتد من المحيط إلى الخليج وأنه كان يُكرر كذبة تقول إن هذه الحدود وضعها الاستعمار، في حين ولا سيما العراق حدوده معروفة للغاية عند المؤرخين المسلمين والعرب وبعض الأجانب.
نتج عن هذه الدعاية الجبارة في تضخيم حجم وقوة الجيش العراقي، مجموعة أكاذيب استغلها مغامرون وحاقدون وعنصريون وانتهازيون، تنفي وجود العراق تمامًا، واختلط الحابل بالنابل، لأن الناس في غالبيتها العظمى لا تفرق بين إقليم جغرافي وبين دولة وبين نظام، والعراق الذي فقد جزءًا من أراضيه نتيجة معاهدة سايكس - بيكو 1916م. هو أوفر حظًّا من سورية التي تقسمت إلى خمس دول، هي سورية، الأردن، لبنان، فلسطين، الكيان الصهيوني.
الآلة الإعلامية نفسها الآن تُكرّس أكاذيب فيما يخص سورية، وهي لم تصمت عن العراق أبدًا، بَلَدان كلاهما قادا نهضة العرب، وعلى أراضيهما تمت الكتابة الأولى، والأبجدية الأولى، والقوانين الأولى، وتأسست المدن الأولى، وأبدعت القصائد الأولى والملاحم الأولى، والإمبراطوريات الأولى، وليس غريبًا أن الأبجدية العربية ابتكار عراقي صرف، استلهم أبجديات سورية، وأن لغة القرآن لغة أهل الحيرة التي استفادت من هجرة الأنباط السوريين إليها، وأن ممالك العرب الأولى أقيمت على الأراضي العراقية والسورية، بل إن المتأمل لمنطقة الهلال الخصيب، التي يصر بعض السوريين المؤدلجين تسميتها سورية الكبرى، سوف يكتشف أن سكان هذين الأقليمين (العراق وبلاد الشام) أدوا الدور الأكبر على مر التاريخ في حضارة المنطقة بما في ذلك الحضارة اليونانية، وهم في حقيقة الأمر رواد الحضارة العربية الإسلامية ودور السوريين في النهضة العربية حتى في مصر لا ينكرها أحد، وهذا لا يبخس دور مصر الرائد والمهمّ، بل يفخر المصريون فيها مما يجعل النموذج المصري تعامله مع دور غير المصريين ومع عروبته وانتمائه لتاريخه العريق أنموذجًا يُحتذى؛ ولأن دمشق وبغداد المركزان الأساسيّان في هذه الحضارة فلا بدّ من إضعافهما وتحويلهما في أحسن الحالات إلى مركزين إداريين وليس إلى عاصمتين، بعد أن تمّ إضعاف مصر ولو بطريقة أقلّ دراماتيكية.
هل هو انتقام من دوريهما؟ ربما نعم فتكريس هذه الضجة الإعلامية و هوس مراكز البحوث لتزوير حقيقة العراق وسورية ووصفهما وَطَنَيْنِ صنعتهما معاهدة على يد غرباء، وأن لا وجود لشعب عراقي وشعب سوريّ، لأن فيهما تنوعًا عرقيًّا وقوميًّا ودينيًّا ومذهبيًّا، هنا تصل الكذبة الغربية المدعومة من عنصريين وطائفيين من متطرفي سكان المنطقة، أوج دنسها المراد منه أن يكون مُقَدّسًا، لأن الأوطان جميعها تفتقد إلى الأحادية اللغوية والعرقية والقومية والدينية والمذهبية، وهي في حقيقتها متنوعة ومتعددة لغويًّا ودينيًّا ومذهبيًّا وقوميًّا وعرقيًّا، ومختلفة مناطقيًّا وجغرافيًّا (سهول، جبال، وديان، تلال....).
أي مارد هذا الذي له القدرة أن يخلق أكاذيب بلغت غاية التدنيس، وعبر ضخها الإعلامي المتكرر والممنهج، وشراء الذمم، واعتماد الترديد الببغائيّ الذي يمتاز به الغالبية العظمى ممن يُعدون من الطبقة المثقفة، ولأن هذه الأكاذيب تلامس الحس المختلف، أي تلامس أوهام وحقد وردة فعل المختلفين قوميًّا أو دينيًّا أو مذهبيًّا عن القابضين على زمام الحكم، بجميع درجات هذا الحس وطبقات اختلافه، فانتشارها يكون أسرع حتى مما يُتوقّع؛ لأن سياسة الأنظمة الخاطئة هي التي تبذر البذور.
الأنـظـمــــة شّـــــر البــــــلاء
تُعد الأنظمة التي صعدت على كراسي الحكم بوساطة الدبابات، إن كانت داخلية أو خارجية، سببًا رئيسًا ومهمًا في حدوث هذا الخراب وهذا الشرخ في جسد الأمة، وبناء الأرضية المؤاتية لهكذا أكاذيب وتلفيقات أن تنمو بسرعة الضوء؛ فأوهام الوطن العربي الكبير، والتشبّث بالسلطة وتحوّل الثوار إلى طغاة والجمهوريات إلى مزارع عائلية، جعل الهاجس الأمني هو المسيطر والمتصدر لأولوياتهم، فلم يفكروا بتنمية الشعور بالمواطنة لدى أبناء الأمة، ولا سيما المختلفين قوميًّا أو طائفيًّا عنهم (الحكام) ولا بجعل مراكز البحوث تقوم بدراسة المجتمع وطبقاته وأطيافه، وتحويل تنوعه إلى ثراء ومفخرة للبلاد، وجعل ثقافة التنوع ثقافة مجتمعية ليست متوارثة فقط فهي في الجوهر كذلك، ولكن جعلها مبنية على أسس علمية وضخ الروح أكثر في كل إيجابية فيها، وقول الحقيقة بأسلوب لا يجرح الآخر المختلف بقدر جعله يشعر بالاعتزاز والمواطنة، مع قناعته أن شركاء الوطن يعرفون عنه أكثر مما يظن، معرفةً لا تسمح له بتلفيق سردية وهمية مبنية على تمجيد ذاته والإساءة للوطن أو لغالبيته، وذلك حين يكون التأكيد على أهميته للوطن وللأمة.
العراق وسورية إقليمان معالمهما التاريخية واضحة عند المؤرخين والبلدانيين، فالعراق من تخوم الموصل شمالاً إلى بلاد عبادان على ساحل البحر جنوبًا، ومن حلوان (بعد خانقين) شرقًا، أما سورية فمن كيليكيا شمالاً إلى سيناء جنوبًا ومن المنطقة الواقعة قرب الفرات شرقًا؛ وهويتهما الكُبرى يُستدلّ عليها عبر مئات الآلاف من الكتب التي خُطّت بلغة عربية هي إبنة بارّة لبيئتهما، لم تخلقها رمال الصحارى البعيدة، إنما هي لغة الأنهار والطرقات والحقول والحب ومفرداته الستين، لغة لا تُخفى عبقريتها على مبدعيها الذين ساهمت بيئة الهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام وحوالي ثلث تركيا) في جعلها أكثر اللغات دقة دلالية، ولا يمكن إغفال الجانب الأفريقي من البحر الأحمر.
فتنوع تضاريس هذا الجزء من العالم، وتنوع أعراقه وقومياته ولغاته وعقائده، منح اللغة العربية ثراءً، نادرًا ما نجده بين اللغات، وفقرًا طبقيًّا يُحسب لها، فالتنوع الـمُـدهش منع الثقافات الطبقية أن تنمو وتتغلغل في البُنية الثقافية لأكبر وأهم وأوسع لغاته أي اللغة العربية، وعلى العموم فالثقافات الطبقية طارئة وليست أصيلة فيه، وإن حكمته أو جزءًا منه لقرون عديدة. لا يمكن نكران ما خلّفته الثقافات الطبقية من مؤثرات في العراق وسورية، ولكنها تُعدّ شيئًا بسيطًا مقارنة بتأثير الثقافات الأصيلة ولا سيّما السريانية والعربية في الثقافات الطبقية؛ وقول رجل من عامة الناس لرأس الدولة "لو رأينا فيك إعوجاجًا لقوّمناك بسيوفنا" يختصر الكثير مما يقال.
ماذا لو اتجهت البحوث الأكاديمية، إلى فرضية جديدة تناقض الفرضية التي تحولت إلى إيقونة التراث والعقل العربي، أعني أن موطن اللغة العربية العراق وبلاد الشام، وليس نجد والحجاز؟ وتم تعميم هذه البحوث وما تتوصّل إليه بطريقة لا يُسيّرها مُدَوّنو القرون الإسلامية الأولى بهيمنتهم وسطوتهم التاريخية الثقيلة؛ يكون البحث عن أصول اللغة العربية الفصحى في الحيرة والحضر والموصل (استوطنها العرب بعد سقوط نينوى 612 ق. م.) وميسان ومدن الأنبار ودمشق وحلب وحمص والرّها ونصيبين وحرّان وتدمر والبتراء بل ودلتا النيل، وسواحل البحر المتوسط، وسواحل البحر الأحمر الأفريقية.
ستكون الأنهار والبحار والسهول والجبال والهضاب والمستنقعات (أهوار العراق ودلتا النيل) والمدن والقرى خلفيات للمفردات العربية، وليست الصحراء فقط، أو على الأقل جزءًا فاعلاً من أصول المفردات العربية، هنا سنجد أنفسنا أمام فهم جديد للغة العربية، لا يسمح لمتطرفي السريان والمستشرقين وأعداء الثقافة العربية أو العرب المستعجمين (دعاة السومرية والبابلية ودعاة اللغة العربية غازية) التقوّل إن العربية نهلت من السريانية، وهذا يعني أنها كما ثبت لم تنهل من الفارسية بالمقدار الذي صَوّره علماء اللغة الفرس أيضًا.
كيف سيكون عليه خطاب مثقفينا الذين يرون في اللغة العربية لغة غازية، وأنها صحراوية، أليس هذا الخطاب سينهزم أمام البحوث العلمية التي لا تكتفي بتأكيد حقيقة اختراع العراقيين للأبجدية العربية ولهم الدور الأجلى في نحوها وصرفها وبلاغتها وتدوينها وتأصيل العلوم والمعارف والترجمة .. وإلخ, بل ستثبت هذه البحوث مَدَنية اللغة العربية وأن سعة ودقة دلالتها لم تنجبها صحراء وإنما عراقة تاريخية على امتداد أنهار دجلة والفرات والعاصي وبردى والليطاني والخابور وسواها من الأنهار بما في ذلك النيل، وتشاطئها مع سواحل بحار لا تقل عن الأنهار مثل البحر المتوسط وضفتي الخليج العربي وضفتي البحر الأحمر وخليج عُمان وخليج عدن وبحر العرب والمحيط الهندي.
أما فيما يخص عراقة العرب في المناطق المشار إليها أعلاه، فلا يكفي حصر البحوث في النطاق الجامعي، بل نشرها على نطاق واسع، ودعوة الأدباء للاطلاع عليها أو ملخصاتها على الأقل، ونشرها في وسائل الاتصالات التي يسيطرون عليها وهذا كفيل بنزع أوهامهم وعدائهم لأنفسهم فهم عرب لأن اللغة العربية هي الوحيدة التي يكتبون ويتواصلون بها، وأن الغالبية العظمى من تراث المنطقة الكتابي بهذه اللغة، التي يحق للعراقيين أن يفخروا بأن دورهم في هذه اللغة هو الأهم، مثلما يحق للشاميين بأن النقوش العربية المكتوبة بالخطوط الآرامية والنبطية والتدمرية وسواها وجدت في أراضيهم، والمصريين أيضًا، الفخر للشاميين والمصريين لما قدموه بعد العراقيين في العصر العباسي ومأثرتهم الكبرى في العصر الحديث، فقد أدى الشاميّون والمصريون دورًا عظيمًا في الإبداع والتدوين والترجمة والقواميس والمعاجم الحديثة، حتى إن لا يمكن لقارئ عراقيّ إنكار ما تعلمه من تلك الكوكبة التأسيسية التي ولدت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
أظن أن هذا سيؤدي إلى تقليص الفجوة بين الدرس الأكاديمي الذي يجهله معظم الناس، وبين زعم وادعاءات "المثقفين" بوجود احتلال عربي للعراق وسورية ومصر، وسيقود حتمًا إلى تفكيك وتعرية أوهام السرديات التي تضخمت بشكل منافٍ ليس لأبسط قواعد الكتابة ناهيك عن البحث العلمي فقط، بل لأخلاقيات البشر والأخوة الإنسانية، هذه السرديّات التي رمت معظم أهل العراق وسورية وثقافتهم ومنجزهم التدويني في سلة المهملات، بصفتهم غزاة دَنّسوا أرض السكّان الحقيقيين الأصليين.
الدكتـاتـوريات القـوميــة ســببًا تـدميريّـًا
تمتاز الحضارة اليونانية بميزة تقترب من الحضارة العربية، ألا وهي كثرة المبدعين والكُتّاب والأعلام الذين ينتمون لها ثقافيًّا فقط، وليس عرقيًّا، وَتَوَسّع المفكر جورج طرابيشي في كتابه "نقد نقد العقل العربي .. نظرية العقل" في هذا الأمر، والحال ينطبق بنسبة معينة مع الحضارة العربية، التي تزخر بالأعلام غير العرب عرقيًّا، وكثيرًا ما قفز إلى الذاكرة والاستشهاد، سيبويه صاحب الكتاب وهو المرجع الأول في النحو، والبخاري صاحب الكتاب الأشهر بالحديث "الجامع المسند الصحيح"، ومئات إن لم يكن آلاف الأسماء التي كانت من أسباب ازدهار الحضارة العربية، ومنح التراث المكتوب بالعربية، المرتبة الأولى بين اللغات.
لـمـــاذا إذن؟
إذن لماذا نقول الحضارة اليونانية، في حين لدينا اعتراضات على قول الحضارة العربية، وثمة مَن أضاف لها الإسلامية ليتدارك هذا الاعتراض، وفي حين لا أحد يعترض على نسب أعلام الحضارة اليونانية لليونان واليونانية، ممن ينتمون لها ثقافيًّا فقط أو كتبوا بها، لكننا نجد العكس تمامًا عندنا، إذ نلاحظ إلصاق تهم التطرف القومي العروبي الإلغائي تُرمى على مَن يرى الذين كتبوا بالعربية ضمن بوتقة الحضارة العربية عربًا مجازًا، قياسًا إلى الحضارة اليونانية والرومانية والإنغلوسكسونية والفرانكوية والفارسية والتركية، وهذه لغات كتب فيها عشرات الآلاف من المؤلفين وهم لا ينتسبون عرقيًّا لها.
ثمة حاجز نفسي صنعته النخب السياسية والثقافية المؤدلجة، ضد كل ما هو عربي، وجاءت الدكتاتوريات العربية، بقمعها للحريات وتفننها بالإقصاء والتعذيب والإلغاء وفرض رؤيتها الساذجة لمفهوم القومية العربية، التي بدأت هوية ثقافية كان العديد من روادها ليسوا عربًا عرقيًّا، فتحولت مع اغتصاب فلسطين، إلى قومية تقلد المنتصر الغازي الجديد، أي تقلّد الخطاب الصهيوني، عن نقاء العرق وسموّه، وفكرة شعب الله المختار، عبر نقطتين كلاهما يتناقض مع جوهر الإسلام والإنسانية، النقطة الأولى "اغتصاب" الآية القرآنية الكريمة "وكنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وذلك بجعلها تقتصر على العرب، وهذا مناف لقوله تعالى "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" والآيات القرآنية الكريمة جمة، التي تؤكد على إنسانية وعالمية رسالة الإسلام، فكيف للباري عزّ وجل أن يجعل عرقًا ما خير الأعراق والأمم؟ لكنه العصاب الذهني المأزوم والمفلس، والذي بدل أن يفكك الخطاب الصهيوني راح يتماهى معه.
النقطة الثانية هو خطاب الفرقة الناجية، تجرّأ هؤلاء الذين جاءوا إلى السلطة عن طريق الإنقلابات والمؤامرات، أن يجعلوا من أنفسهم وخطابهم بأنهم الفرقة الناجية، أي عن طريق استعمال العنف والتصفية الجسدية لكل معارض لهم، وكأنهم بهذا يحيون فتاوى الفقهاء التكفيريين، التي سنرى أن تلامذتهم أي المتأسلمين، عملوا بها بتطرف لم يخطر ببال فقهاء التكفير الأوائل الذين كانوا نتيجة طبيعية لابتلاء الأمة والمنطقة بالغزو الصليبي والمغولي - التتاري.
قاد هذا الأمر إلى بروز تيارين، كلاهما نهج النهج نفسه، أي فكرة الفرقة الناجية، التيار الأول تمثّل بالعرب وسواهم ممن عارضوا الحكم الدكتاتوري للقوميين العرب، والتيار الثاني، هو تيار الحركات القومية غير العربية، فتماهوا مع رفض العروبة أساسًا، وكلما ازداد قمع الأنظمة، زاد التياران من رفضهم للعروبة حتى بوصفها هوية ثقافية صنعتها شعوب المنطقة كلها. وحدث تحالف غير معلن، تم بموجبه أن يصمت مثقفو الغالبية العربية، على سرديات اختلقها وضخمها قوميو الأقليات غير العربية، منقوعة بالإساءة للعروبة والإسلام والعرب.
يظن هؤلاء أن الإسلام وحامله العروبة، هما سبب كل مآسينا، ولم يقتصروا على الظن، وإنما راحوا يؤسسون لسردية متوهمة، عن جنة كان يعيشها سكان المنطقة جميعهم، والتأكيد على غزوٍ عربيّ، مما يوحي بأن لا وجود للعرب قط قبل الإسلام في العراق وبلاد الشام ومصر؛ وهذا يعني أن بلاء المنطقة بحسب زعمهم، من هؤلاء العرب البدو الذين جلبوا الخراب والموت والعبودية والإرهاب والتخلف لهذه الشعوب، التي تم طمس هويتها وتجريدها من لغتها وفرض اللغة العربية الغازية عليها.
ثم مازالت هذه الفئات جميعها، دكتاتوريات ومتطرفو ضحاياها يصرون على خلق فجوة الكراهية في المنطقة، وثقافة الإقصاء؛ والمنطقة في خضمّ هذا الصراع الذي لم ينتج نسقًا ثقافيًّا مبنيًّا على تفكيك ثقافة الفرقة الناجية، وصناعة الدكتاتورية والحزب القائد، وثقافة الصورة، إنما مثلما أوضحنا أعلاه، شائعات انتشرت كالهشيم، عبارة عن أعمدة ومقالات حماسية وشعارات امتلأت بها الشوارع والصحف والبرامج والمنابر السياسية والإعلامية والدينية، ليتفاجأ الجميع بصعود حركات الإسلام السياسي الأصولي الطائفي الدموي التكفيري، بكل الميراث السلبي للسلاجقة والمغول والتتار والصليبيين والصراع العثماني - الصفوي، وكأن المراد الترحّم على الدكتاتورية العربية التي دمرت البلاد والعباد، فجاءت هذه وليدتها لتحرق الأخضر؛ وتنفخ في عصور التخلف والهمجية والوحشية، شاطبة على سماحة الإسلام التي خير ما تجسدت بإسلام أمهاتنا وجداتنا والأجيال التي لم تتلوث بسموم الأيديولوجيات، وعمليات غسل المحبة من العقل الجمعي، التي تمارسها الأنظمة والأحزاب والميلشيات ووسائل الإعلام.
صار الجميع مجبرًا على تنفس هواء ملوث بتكفير المذاهب الأخرى، لم تعد لدينا قضية مركزية تتمثل بالقضية الفلسطينية، وإنما في مهاجمة وتكفير وإبادة الآخر الذي هو أشدّ عداوة للإسلام من اليهود والمسيحيين بحسب زعم الطائفيين، وصارت مشاهد قطع الرؤوس يتم إخراجها بطريقة هوليوودية، وفي الجانب الآخر تخرج علينا مراكز البحوث الغربية بتقاريرها التي تدعو إلى تمزيق العراق، ثم دخلت سورية على الخط، وكم حاولوا مع مصر ولكنها مازالت قوية وعصية عليهم، والأمر نفسه في أكثر من بلد عربي. وأحسب أن شدّة الطغيان في العراق وسورية وليبيا، هو الذي قاد إلى هذه النتيجة التي نتمنى أن تنقشع سريعًا.
يتلقف الطائفيون هذه التقارير ليطبلوا لها، وأنها ستكون حلاًّ ناجعًا سحريًّا، وأما الأقليات فبعض متطرفيها دأبوا منذ مدة إلى إنكار وجود إقليمَي سورية والعراق قبل العشرينات، ذهبت مواقع التواصل الاجتماعي تمتلئ بخرائط مذهبية وقومية عنصرية لتمزيق المنطقة إلى دويلات على أساس عرقي وديني ومذهبي، وساعدت مشاهد العنف والتفجيرات وتدمير الآثار والمقدسات وقطع الرؤوس، على تقبل كثير من الناس لهذه المشاريع التقسيمية الكارثية والتي هي في جوهرها عداء للعروبة والإسلام، إضعاف للجميع، لتبقى إسرائيل هي الأقوى والمتحكم الأوحد.
العروبة هنا ليست هوية عرقية وإنما هوية ثقافية ميراثها هو الأضخم وعمقها يمتد إلى قرون طويلة، قبل نشوء إسلام التكفير ابن القرن الحادي عشر الميلادي والذي غذته القرون التي تلت ذلك التاريخ، وكاد أن يندثر من ثقافتنا لأنه طارئ عليها، على الرغم من أن فقهاءه أبناء بيئات مدينية، لكن الجهاد في أفغانستان أحياه، وجاء اجتياح نظام صدام حسين إلى الكويت، فرصة ثمينة لهذا التيار فقد حارب وجاهد جنبًا إلى جنب الكفار (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وبقية الدول الغربية) لتقوى شوكته وتنمو في أماكن عديدة، ويصبح لاعبًا رئيسًا في محاربة الجميع بعد سنة 2003 ميلادية.
تـفـكـيك الأنسـاق والحـوامــل
ما نحتاجه، مراكز دراسات فوق الميول الطائفية والعنصرية، تقوم بتفكيك المنظومة الثقافية والحوامل الاجتماعية للمجتمع من جهة وتفكيك الخطاب الغربي والصهيوني والأقلوي (أقليات دينية ومذهبية وقومية وإثنية) فخطاب بعض الأقليات أصبحَ مقدسًا عند عدد كبير من أدبائنا وكُتّابنا وهم الطبقة المهيمنة على وسائل الإعلام، وتفكيك خطورة محاربة العروبة، وخطورة دعم ومساندة الحركات القومية الأخرى،من دون ثوابت وشروط لا تنتهك كرامة الأوطان والأغلبية العربية، بل والاعتراف بأن هذه الأغلبية تعرضت لظلم الأنظمة والخطاب القومي العنصري العربي المتشدد والطائفي المتطرف أكثر من سواها. ناهيك عن تخندق عدد كبير من هؤلاء المثقفين تحت خيمة الطائفية وهم الذين كثيرًا ما تشدقوا بالإنسانية والتقدمية والدولة الوطنية.
وأخيـــرًا علينا أن نعتـذر
إن ثقافة الاعتذار، أحد طرق بناء ثقة بين أطياف الأمة، ومن هنا نبدأ، فبعد عملية التفكيك والنقد والتحليل، أو بالتزامن معها، تتم الدعوة للاعتذار، اعتذار العربيّ عما صنعه بأخيه العربيّ، وبأجنحة أمته من القوميات والإثنيات الأخرى، واعتذار المسلم لغير المسلم، والسّنّيّ لغير السُّنّيّ، والعكس أيضًا، أي في اعتذار غير العربيّ للعربيّ، وغير المسلم للمسلم، وغير السنيّ للسُّنّيّ، اعتذار الجميع من الجميع، لأن الاعتذار شجاعة تعادل الوقوف أمام الذات وتعريتها وتفكيكها لوضع الحلول الناجعة لوقف تدهورنا الكارثيّ، واعتذارنا لهذه الأرض التي أنجبت أولى وأعظم الحضارات والأديان، هو في حدّ ذاته اعتذار للأسلاف ولشهدائنا، ولمناضلينا الذين سعوا لجعلنا على طريق المـَدَنيّة والحداثة، لنكون فاعلين في الحضارة العالمية، ولكننا لم نكتف بالاستهلاك، إنما خرجت منا جموع الطغاة والقتلة والإرهابيين والمتطرفين ودعاة التقسيم. الاعتذار سيجعل العروبة هوية ينتمي لها غير العربيّ لأنها تاريخه، يتصالح معها مثلما كان في النصف الأول من القرن العشرين، قبل أن تختطفها الأنظمة الدكتاتورية وتجعلها عورة يتوارى عنها الجميع.
صحيفة العرب اللندنية .. الأحد 25 تشرين الأول 2015
[نُشر في 25/10/2015، العدد: 10077، ص(14)]
http://www.alarab.co.uk/?id=64748