انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    وفـاء الشــاعر وتعسّــف نبوءتـــه

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

     وفـاء الشــاعر وتعسّــف نبوءتـــه Empty وفـاء الشــاعر وتعسّــف نبوءتـــه

    مُساهمة  Admin السبت ديسمبر 05, 2015 4:49 am


    ثمة أقدار تلاحق بعض الشعراء، يكتبون مآسيهم قبل أن تحصل، هل هي نبوءة؟ أم أن الحياة تتآمر عليهم فيصبح الخيال الذي يستقرئ فاجعة الأمة، فاجعة شخصية، تتحقق بطريقة متعسفة مع الشاعر. الشاعر الذي يتلمس الشعر بروحه البريئة وهو في الابتدائية، أكثر من سواه تورطًا بالشعر، لا بدّ أن يتميز ويتفرد.
    الشاعر أولى وأهم متعه القراءة، يقرأ في كل مكان، في وسائط النقل وأماكن الراحة، في الثابت (السرير، الكرسي) والمتحرك (الحافلة والسيارة والقطار والطائرة)، حرمان الشاعر من القراءة، قرار إعدامه إن كان لأسباب خارجة عنه، وقرار انتحاره حين يكون الأمر بيد الشاعر، نتيجة غرور أو تحويل جهده إلى الاجتماعي، وإذا كان الشاعر يعلل النفس بأن المانع سياسيّ على سبيل المثال، فكيف سينظر إلى مأساته وهو يرى حماقات طغاة تسببوا في جوع فلذات كبده، لقد تم الحكم هنا على الشاعر بإعدام من نوع لا يتحقق إلا تحت وطأة غرور الطغاة.
    الشاعر خالد جابر يوسف كان موته أنموذجًا (ما أقسى هذه الجملة) لحالة راح ضحيتها هو ومعه مئات الآلاف من العراقيين وغير العراقيين، ممن ابتلوا بحروب وظروف تعسفية اقتصادية وأمنية، شاعر تميز عن أقرانه، وحصل على جائزتين مهمتين وهو في بداية مشواره، جميع مَن قرأ له كان يراه مشروع شاعر سيكون له دوره في الحداثة الشعرية العربية، عصاميّ بامتياز، فالعصاميّ على درجات، إذ لا يمكن مقارنة العصاميّ في بلدان الاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي بنظيره في بلدان علامتها الفارقة الحروب والدكتاتوريات والحصار والفقر.
    بريق الشهرة الذي ناله هذا الشاعر ولا سيما بعد فوزه بجائزة يوسف الخال عام 1988 ومن ثم جائزة دار الشؤون الثقافية عام 1992 لم يستمر، بل راح يذوي ليصبح الشاعر المميز مجرد ذكرى طيبة في الوسط، فالشاعر ليس طبالاً على أبواب الطغاة، تحت ذريعة "أنا شاعر وعائلتي تذوي من الجوع والعوز" فيسفح ماء وجه الشعر شهريًّا أمام بوابة القصر الجمهوري، مثلما فعل كثيرون، منهم من مجايليه ولا يرتقون إلى موهبته ومنهم من أجيال شتى.
    ابتعد الشاعر ابتعادًا قسريًّا، لا سيما بعد أن أجبر الحصار الشامل الجائر أو بعبارة أخرى جريمة الأمم المتحدة والعالم المتقدم بحق الشعب العراقي بجريرة معاقبة نظام صدام حسين، آلاف الشعراء والأدباء والنخبة المثقفة على بيع مكتباتهم وأثاث بيوتهم، ومن ثم الهجرة القسرية، هنا كان الشاعر بين خيارين، أما الانحياز إلى إنسانيته والابتعاد عن أجمل ممارسات وانشغالات حياته وهي القراءة والكتابة والترجمة، من أجل توفير متطلبات المعيشة لأسرته، وأما تدبيج قصائد ومقالات تتفق وتوجهات النظام أنذاك.
    بقي الشاعر مخلصًا لنقاء الشعر، فآثر الانغماس في العمل لتعيش أسرته بكرامة، ثم قاده هذا السبب نفسه إلى الهجرة ما بين 2001- 2004 ولكن إخلاصه هذا، مثلما هو إخلاص مزدوج أي لنقاء الشعر والكلمة والوفاء للأسرة والحنو عليه بفروسية تليق بزوج وأب كتب الشعر فتميز على أقرانه، مثلما تسبب بضغوط تراكمت، وفاقت قدرته على الصبر والاحتمال بحسب تعبيره، مما عرضه إلى تعب نفسي شديد، أنهك قلبه وجسده، وبقيت حسرته كشاعر حقيقيّ بأنه لم يتمكن من إشباع رغبته ومتعته التي ظل طوال سنوات عديدة يتوق إليها وهي القراءة.
    التصوف كان ملاذًا للشاعر، لكن هذا الملاذ لم يزرق قلبه أبرًا تجعله يقوى على تحمل صعوبة الحياة وقسوتها معه، وإن كان الشاعر وصل في أيامه الأخيرة إلى قناعة متصوف زاهد حقيقيّ، فهذا لا ينفي أن الوجع انغرز في القلب، وكل ألم يُحتمل إلا ما يمس أهم متع الشاعر التي تدنو من مرتبة الصلاة بالنسبة إليه، ألا وهي متعة القراءة، فكان الشاعر يتعذب عذابًا لا يحسه إلاّ مَن أدركته الطريقة، وهنا لا أعني طريقة التصوف فقط، إنما طريقة القراءة، أي أن تتحول القراءة إلى حالة تصوف وملاذ لا يقوى الإنسان على التضحية بها إلاّ في حين يرى دموع أطفاله مضمخة بالجوع والحرمان.
    صدّق الشاعر حين يقول: "ولكن ما يخفف عني أهوال الحياة ومصائبها وحرمانها أن الله تعالى أنصفني إذ عوضني عن هذا الحرمان الظاهر بنعيم باطن، إذ أسبغ علي محبته واختصني بكلامه ومناجاته وأسراره ورفع كثيراً من الحجب بيني وبينه لما رأى صدقي في محبته وإخلاصي في طلبه وأبقى سبحانه منها حيث أكون بين الناس ما هو ضروري لطبيعتي البشرية ومناسب لها ولو رفع مزيداً منها لكنت في حال يصعب تكيفه مع متطلبات الحياة البشرية الاجتماعية، ولكن في الخلوات ترفع الأستار (بيني وبين حبيبي لستُ أبديها/ أسرارُ حبٍّ عزّ راويها). لقد ظلمتني الدنيا وأنصفني الله."

    صحيفة العرب اللندنية
    [نُشر في 04/12/2015، العدد: 10117، ص(15)]
    http://www.alarab.co.uk/?id=67785

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 01, 2024 7:16 pm