تعريف المصطلحات الدقيق - يقينًا - يساعدنا على تجنب الخلط والوقوع في آفة الخداع الذي يمارسه كثيرون، ابتداءً من السياسي ومرورًا برجل الدين. وليس انتهاء "بالمثقف"، فانتشار الخلط بين مفاهيم المصطلحات وحواملها، أدى إلى بروز سرديات مليئة بالأوهام والخيانة، تقبلناها وَرَدَّدْناها ببغائيـًّا، بلا تفحص ولا مساءلة نقدية واعية، لا سيما أن إحدى معاناة اللغة العربية، أن الناطقين بها، يعتنون بالأشياء وليس العلاقة بين الأشياء، بحسب المفكر الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي".
ثمة خلط بين هذه المصطلحات الثلاثة، العرق والإثنية والقومية، في حين أن العرق، هو المرحلة الأولية لحياة شعب ما، لم يجرّب الـمَدَنية، ومن هنا فهو نادر الاختلاط بأعراق وإثنيات وقوميات أخر، وحين يتم الاختلاط، يرتقي إلى مصاف الإثنية، وقد تتأخر المرحلتان في حياة شعب ما، أو إحداهما، ولا يمكن أن تصل الإثنية إلى مرحلة القومية إلا بعد أن تحقق لغتها التدوينية حضورًا عميقًا وقديمًا في الذاكرة الجمعية لأبنائها، ويصبح الكاتب والشاعر والفارس والعاشق، في الوعي الجمعي منتمين إلى الجماعة اللغوية الواحدة وليس إلى المكان، فامرؤ القيس وطَرَفَة بن العبد والنابغة الذبياني وعنترة بن شداد وعروة بن الورد والصعاليك وقيس بن الملوح وكثيرًا غيرهم، لا يفكر المغربي والمصري والعراقي والسوري بأمكنتهم أولاً في وعيه ولا وعيه في آن معًا، وإنما في اللغة العربية وانتمائهم إليها.
عن منظمة اليونسكو، عام 1952م. أصدر مجموعة من علماء الاجتماع كتابًا بعنوان "بيان حول السلالة" شدَّدوا على وجوب إسقاط مصطلح "عرق" واستبداله بمصطلح "إثنية" الذي قد مرّ ثلاثة وأربعون عامًا على أول استعمال له. هذا المصطلح "الإثنية" يُعرّفه عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر، كالآتي "تلك المجموعات البشرية التي تتمتع باعتقاد موضوعي في أصلها الموحد الذي انحدرت منه؛ نسبة للتشابه الجسماني، أو تشابه العادات أو بسبب ذكريات الاستعمار والهجرة، وهذا الاعتقاد يجب أن يكون مهمًّا لتكوين المجموعة نفسها، وليس من الضروري أن تشترك في رابطة الدم الحقيقي" لأن نقاء الأعراق وهم كبير، لا سيما بعد خروج العرق إلى فضاء الإثنية.
على وفق رأي عالم الاجتماع اللغوي جوشوا فيشمان فإن الإثنية تنتقل وتتحول إلى القومية في نهاية المطاف، إذ يقول: "تصير المجموعة قومية عندما يكون لديها تصور لتاريخها الجماعي، وعندما يعي أفرادها هذا التصور ويتجاوبون معه، وهو تصور يفترض بالتأكيد وجود مجموعة أفراد متخصصة، في إيجاد رموز وقيم عامة، وتصدر عن هذا الماضي الجماعي، وتُعَبّر عنه في الوقت ذاته، وفي الترويج لهذه القيم والرموز".
إذن الفرق بين الإثنية والقومية، بحسب اعتقادي، هو أن الأولى جماعة تملك لغتها الخاصة ولكنها لغة شفاهية، أو دُوّنَت مؤخرًا (القرن التاسع عشر وما بعده) فهي مجموعة تملك ذاكرة شفاهية فقط. أما القومية فهي مجموعة سكانية عادة تخلو من النقاء العرقي، ولديها ذاكرة جمعية كتابية تمتد لما قبل القرن التاسع عشر إن لم يكن السابع عشر، أي أنها أنجزت منظومتها الثقافية المدونة قبل هذا التاريخ بفترة، والمنظومة هي إنجاز تصور لتاريخها الجماعي ورموزها وقيمها المعبرة عنها وتدوين ذلك.
وبوضوح أكثر، إن الإثنية حتى تصل إلى مرحلة القومية، لا بدّ لها من لغة واحدة تدوينية تجمعها أي ما ندعوه باللغة الفصحى الكتابية، التي بإمكان أي متعلم فيها أن يفهم تمامًا ما مُدَوّن أمامه، مثلما يفهم القارئ باللغة العربية في العراق ما مُدوّن بأقلام مصرية ومغاربية ويمنية وشامية، وأنه يشترك مع سكان بقية المناطق التي تسكنها هذه الإثنية بذاكرة واحدة حتى لو تناقضت، فالذاكرة العربية على سبيل المثال واحدة في ذكرها لرموزها، وإن كان بعضهم يرونهم شياطين، فيزيد بن معاوية بل معاوية نفسه وآلاف الشخصيات التاريخية، هي لا غبار على رمزيتها وإن كانت سلبية بحتة عند بعض العرب.
من العلامات الفارقة، في كون مجموعة لغوية ما، إثنية وليست قومية، أننا لا نجد في مدونتها الكتابية، شعراء وأدباء وباحثين ومؤرخين ومنظرين ومؤلفين عمومًا، كتبوا أعمالهم بلغتها وهم ينتمون لقوميات وإثنيات أخرى، وقد مضت على وفاتهم عقود طويلة، وخلفوا لنا آلاف الكتب والموسوعات. مثلما لا نجد مؤثرات تُذكر في لغة كتابية من لغة شفاهية أخرى، أي أن الشفاهي في لغة كتابية يؤثر على التدوينيّ فيها، لكن لا تأثير للشفاهي والكتابي في لغة إثنية ضمن لغة قومية.
الموروث الكتابي - التدويني يضم أعدادًا كبيرة من الكُتّاب أصبحوا من الأسلاف، أي مضى على موتهم قرنان وثلاثة وخمسة، وهو ما نراه في اللغات القومية وليس اللغات الإثنية، مثل العربية والسريانية والفارسية والتركية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية والإيطالية واليابانية، فهذه اللغات، بإمكان قومياتها أن تحدثنا عن آلاف المبدعين والكٌتّاب ممن ماتوا قبل قرن من الزمان على الأقل، إن لم يكن قرنين وأكثر، لكن الأمر ينعدم عند الناطقين باللغات الإثنية، فغالبًا ما يكون لديهم تراث شفاهي مؤلفوه مجهولون، وأننا لا نجد أسماء إبداعية كثيرة.
اللغات الإثنية، حتى بدايات القرن العشرين إن لم يكن أحدث من هذا التاريخ، تخلو من كتب رصينة وموسوعات كبيرة وبالإجمال تفتقر إلى مئات الكتب وإلى مئات المؤلفين (الباحثين، المؤرخين) الذين ماتوا قبل منتصف القرن العشرين، مثلما تفتقر إلى الأسر العلمية، فلا يمكننا في هذه اللغات أن نتحدث عن عشرات الأسر العلمية، التي أنجبت مؤلفين ومبدعين، مثلما عليه الحال في اللغة العربية أنموذجًا، والتي يصعب حصر الأسر العلمية فيها في مجلد واحد، بل إننا نجد في العربية، أسرًا أخذت ألقابها من كُتبٍ أنجزها أسلافها، مثلما عليه الحال في أسرة الجواهري وكاشف الغطاء وبحر العلوم، أو ألقابها تعود إلى أسماء كُتّاب أو مبدعين، أي أن هذه الأسر أسسها (وهو تعبير مجازيّ) هؤلاء.
رُبَّ سائل يسأل: ماذا عن المجموعات السكانية ذات العدد القليل، مثل السريان؟ السريان لديهم منجزهم الذي لم ينقطع، وإن قلّ كثيرًا بسبب هيمنة لغات أخرى، وهؤلاء عكس أبناء عمومتهم العرب، جاءت المسيحية لتحدّ من اندفاع لغتهم، فحين تبنّى اليونانيون ومن ثم الرومان، المسيحية اندفع التأليف باليونانية ثم اللاتينية، مما تسبب في خنق اللغة السريانية، وحين جاء الإسلام، كانت اللغة السريانية في دور احتضارها، لكنها لم تمت واستمر التأليف فيها.
من هنا يمكن النظر إلى المنجز المكتوب باللغة السريانية، على أنه منجز ضخم، استوفى على أثره السريان شروط القومية منذ قرون طويلة، وهو يشمل آلاف الكتب، وبحسب مؤلف كتاب "تاريخ نصارى العراق" فهناك ثلاثة آلاف وخمسمئة (3500) كتاب، وهو عدد كبير للغاية لو علمنا أن هذه الكتب - المخطوطات، سبقت الإسلام، وتمّت المحافظة عليها، مما يُعدّ دليلاً على براءة العرب من حرق الكتب والمكتبات المزعومة.
السريان الذين يختلفون عن المسلمين قوميًّا وعقديًّا، وعلى الرغم من قلة عددهم، لكن المسلمين عربًا وفرسًا وأتراكًا، لم يمنعوهم من ممارسة التأليف وحفظ لغتهم وعقيدتهم وثقافتهم عمومًا، فلم يحدث في تاريخنا ما يُثبت أن عداءً سافرًا ضد اللغات والثقافات الأخرى، مارسته الحكومات المتعاقبة منذ النصف الأول من القرن السابع الميلادي وحتى بدايات القرن العشرين الميلادي، مما سمح للحفاظ ليس على اللغة السريانية المهمة، بل والحفاظ على لغات أخرى، لأن الصراعات التي كانت تجري في منطقتنا، صراعات سلطوية على الحكم بين المسلمين، كمسلمين أو بين غيرهم من قوى كبرى.
لم يَـثـْلمْ هذا الصراع التعايش التسامحي الذي أبقى نسبة المسيحيين واليهود عالية في بعض مدننا بل وعواصمنا، حتى ماض ليس بالبعيد. إذ كان حتى العشرينيات وربما الثلاثينيات، يُشكل اليهود نحو ثلاثين بالمائة من سكان بغداد، والديانة الثانية فيها، وأن المسيحيين حتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين، يشكلون نسبًا واضحة من سكان عديد المدن بما في ذلك عواصم ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، وثمة بلدات كانوا فيها غالبية مطلقة حتى بدايات القرن العشرين. وبفضل هذا التعايش نمت الإثنيات ولم تتعرض إلى المحو والذوبان في القوميات الكبيرة، ومجازر القرن التاسع عشر وما تلاه، بحق المسيحيين، كانت للغرباء اليد الخفية القاتلة فيها، وباعتراف المسيحيين أنفسهم.
عدم تطور بعض الإثنيات إلى مرحلة القومية حتى الآن، سببه أن غالبيتهم العظمى لم يغادروا مناطقهم التاريخية والتي عادة ما تكون ذات وعورة أو ندرة وانغلاق جغرافي لايسمح بالاحتكاك المغذي للتطور، بما في ذلك اللغة التي عادة تكون فقيرة للغاية ولا تتعدى البضعة آلاف كلمة، متشبثين بعملهم الرئيس في الرعي والزراعة، وكان انتقال بعضهم إلى المدن فرادى، وهذا يقود إلى الذوبان السريع، أي لم يحدث تمددًا سريعًا لهم.
مَن حدث لهم مثل هذا التمدّد فهو لا يرقى إلى بدايات القرن العشرين، وأسبابه الحرب العالمية الأولى التي حدثت فيها ولأول مرة في تاريخ الإسلام والمسلمين، عملية إبادة ضخمة ومخزية، ذَهَبَ ضحيتها مليون ونصف المليون أرمني ونصف مليون سرياني وعشرات الآلاف من المسيحيين العرب، وهؤلاء كانوا سكان المدن والقرى المجاورة للمدن، مما تسبب بتغيير التركيبة السكانية بشكل كبير وسافر، وأدّى تدخل القوى الغربية الكبرى، والتجاذبات التي حدثت منذ العشرينات، وتنامي صناعة النفط خاصة والصناعة عامة، أن استمر الصراع في الاستحواذ على الأرض، وتكريس سردية التاريخ العريق، والسكان الأصليين حتى عند مَن لم يعرفوا الكتابة لما بعد الحرب العالمية الأولى، والتي هي أساس التمدن والحضارة.
إن قراءة دقيقة لما كانت عليه تلك المدن والبلدات والقرى الكبيرة، تكشف عن منجزها الكتابي الذي يخبرنا حقيقتها قبل الحرب العالمية الأولى، وكذلك البيوتات (الأُسَر) التي شكلت هويتها التاريخية حتى مطلع القرن العشرين، أو منتصفه. فمدن الهلال الخصيب عامة، هي مدن كتابية وبيوتات علمية واجتماعية، طبعت بمنجزها التدويني طابع مدننا.
مـتـاحــــــف ويـنـابـيـــع
الإثنيات وإن لم تصل إلى مرحلة القومية بعد، أدّت دورًا كبيرًا وواضحًا في رفد المنجز الكتابي والثقافي بل والاجتماعي عمومًا للقوميات، ولو تتبعنا أصول الذين كتبوا باللغات اليونانية واللاتينية والسريانية والعربية بعَدِّها اللغات الأقدم التي أنجزت تراثًا عمره يزيد عن ألف سنة، ثم تتبعنا المنجز الكتابي للغات الفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية والبرتغالية والروسية، فسوف تبهرنا مساهمة المبدعين في تلك اللغات وهم من أرومات لا تنتمي إليها.
لقد أثرت الإثنيات، ثقافات القوميات، وإن كان تأثيرها في القوميات الكبيرة (اللغات الكتابية العريقة والثرية بمنجزها الكتابي) تأثيرًا بسيطًا للغاية، مقارنة بتأثير القوميات الكبيرة فيها، فهي إن أعارت بضع عشرة كلمة للغات القومية، ففي المقابل استعارت آلاف المفردات من الأخيرة، مثلما استعارت كثيرًا من أنساقها الثقافية وحواملها الاجتماعية، وخير ما نراه واضحًا تأثير الثقافة العربية، لغة وتفكيرًا وسلوكًا وفنًّا ومطبخًا وأزياءً وعمارة، في اللغات القومية والإثنية جميعها على السواء، لكننا لو فكَّكنا المؤثرات القومية على الإثنيات ستبهرنا النسبة التي استعارت بها الإثنيات من القوميات.
إن الأعراق والإثنيات، تملك مكتبة شفاهية ومتحفًا متنقلاً وصيدلية، لا غنى للبشرية عنها، فهي إن لم تعرف التدوين، لكن أساطيرها وحكاياتها وفنونها وما توارثوه، يُعدّ مكتبة حقًّا، وملابسها وأدواتها الحياتية والاجتماعية وطرق معيشتها يجعلها متحفًا حيًّا، وأما التداوي بالأعشاب فكثير منه خضع للدراسة المختبرية ليثبت فاعليته. الإثنيات روافد تصب في نهر القوميات، ولو منعنا هذه الروافد فمنسوب أنهار القوميات سيقلّ كثيرًا، قد لا نجافي الحقيقة حين نقول: إن الإثنيات ملح البشرية.
مجلة الجديد
الجديد باسم فرات [نُشر في 01/05/2016، العدد: 16، ص(106)]
http://www.aljadeedmagazine.com/?id=1452