في مرحلة الانحطاط التي تمرّ بها الأمة، نتيجة لتسلط المستبدين والطغاة على الحركات القومية العربية وبالتالي على المناصب الكبرى، ومن ثم بروز الأحزاب الطائفية تحت يافطة الإسلام السياسي، أصبح تأنيب الذات والنظر بسلبية للعروبة حدّ اعتبار العروبة والإسلام صنوان للعنف والإرهاب؛ أو كما وصفها أحدهم "إنهما كالماء والسمكة".
إن استنكار واقعة الاغتيال هو فعل حضاري إنسانيّ، فنحن من ضحاياه بل ربما من أول ضحاياه، لكن ليس على حساب الحقائق والكرامة، وإنما ما نحتاجه هو دراسة هذه الظاهرة من داخل أنساقها، وبأقلام عربية ليست صريعة الأدلجة بشقيها، أعني ليست قومية حد العنصرية لا ترى في العرب سوى أمة ملائكية عظيمة لم تعرف في تاريخها سوى العدل والحق؛ وليست ناقمة على هويتها ظنًّا أن السخط وإلصاق العيوب بالعروبة والإسلام يعني اللحاق بالغرب المتحضر.
إن تجريم النفس وإيجاد المسوغات لكل الإساءات التي يتفنن بها متطرفوا الغرب، تعني مسخًا للذات المسحوقة أمام هذا الغرب المهيمن فكريًّا وتقنيًّا وعسكريًا؛ هذا المسخ للذات لا يقود إلاّ لتطرف معاكس يلتقي والتطرف الدينيّ أن كلاهما يُكرّس العاطفة السلبية؛ ويزرع دوغما تتحول إلى عقيدة تكفيرية للمختلف، فالمتدين المتطرف الذي يشهر بوجوهنا نصوصه الدينية التكفيرية، مخرجها عن سياقاتها التاريخية وأسباب النزول، متجاهلاً قول الإمام علي بن أبي طالب "القرآن حمّال أوجه" هذا القول الذي يمكننا من تجنب سيل الفتاوى الرخيصة التي ملأت فضائياتنا، ويقينا شرّ التكفير والإرهاب تحت مُسمّى الجهاد.
أما الذين يجرمون أنفسهم فتطرفهم لا يبدأ من التباهي بالإلحاد والانتقاص من الآخرين بما في ذلك العلمانيين الذين يضعون كلمة الكريم بعد القرآن، وحين ذكر الشخصيات المقدسة عند الناس يتوخون الاحترام ونعتها بما تعارف عليه المجتمع، بل يتمادون في اتجاهين الأول الإمعان بتأنيب الذات والحط من الهوية وعقائد الناس والنظر للتراث والثقافة عمومًا على أنها إرهابية ليصل الأمر ببعضهم وصم اللغة العربية بالإرهاب؛ أما الاتجاه الثاني فهو أخذ ما يقوله الغرب على أنه من المسلمات والبديهيات المتصفة بالنزاهة والعلمية.
التفكيك ودراسة الظاهرة
أمام هذا الانحدار الذي تواجهه المنطقة، لا بدّ من مراكز بحوث ودراسات تمارس حريتها العلمية بلا رقيب سلطوي، لدراسة واقعنا الذي يسير نحو الهاوية أكثر وأكثر؛ فلا نجاة إلاّ بالعلم المبني على المحبة، حيث لا ضغائن الأيديولوجيات ولا كهنة المعابد ولا خطط المستشرقين. دراسات تشتغل على تفكيك منظومتنا الثقافية، وتتبع مصادر العنف والإقصاء في هذه الثقافة ومحاولة تجفيفه بالاستفادة من شذرات الماضي المضيئة وما توصل له كفاح البشرية من أجل حياة أفضل تصان فيه كرامة الإنسان وعقائده وحريته الشخصية، حيث لا استبداد أنظمة يعدّ عليه أنفاسه ولا راديكالية مُدججة بالعنف الثوري تارة وبالعنف الديني تارة أخرى.
مراكز البحوث التي تمدّ المجتمع بنتائج وخلاصات بحوثها، غير قادرة على العمل بلا زراعة الأرض التي تقف عليها، وأعني الالتفات إلى المدارس لتكون منطلقًا لمجتمع متسامح يؤمن بالتعددية الثقافية كما السياسية، ويرى في السلام وثقافة اللاعنف بديلاً لا مناص منه؛ مع إلغاء مظاهر عسكرة المجتمع، وتفريغ قدرات الشباب في البناء والإبداع ومساعدتهم على بناء مستقبل زاهر لهم.
إن ما يمر به العرب راهنًا هو ما يدعو للحسرة حين يتبارى ثلة من مثقفيهم بتبرير حتى الإساءات والاستفزازات لمتطرفي الغرب، كما حدث حين وقف بعض المبدعين مع الأنظمة القمعية المستبدة، فالعنف مرفوض بكل أشكاله لأنه لغة الضعفاء كما يشاع، لكن هل القبول بإساءات الآخر لعقيدة غالبية العرب والسخرية من هويتهم، إلا دليلا على أن ثلة المثقفين هؤلاء هم الوجه الآخر لثقافة، أما أن تعادي ذاتها وتحتقرها وتركع أمام الغرب، أو تؤله ذاتها فتتخذ من الإرهاب وسيلة لمحو الآخر، وهي في الحقيقة تمحو نفسها.
صحيفة العرب اللندنية
نُشر في 14/01/2015، العدد: 9797، ص(15)]
http://www.alarab.co.uk/?id=42683
