(ألغاز مليحة) كتاب يبحث في تاريخ مكان يقع في الشارقة، الإمارات العربية المتحدة، بحسب المعطيات التاريخية والحفريات الآثارية، من لقى ونقوش وآثار، ولكن أنا العراقي المهموم بوطن ابتلى بمآس لا حصر لها باتت تُهدّد وحدته تزامنًا مع رفض هويته الأبرز والأغزر والأعرق بعد السريانية ألا وهي عروبته التي تحولت عند البعض إلى عار يجب التخلص منه بإنكار (عروبته) وشتمها ولعنها ولصق الموبقات جميعها بها، وهي التي وضع أسلاف العراقيين أسسها و90% من بداياتها، حتى وصلنا إلى مرحلة يُتَّهم فيها "بالبعثية" وربما "الصدّامية" مَن يناقش حقائق تاريخية أثبتها مؤرخون وبلدانيون قدامى من يونانيين ورومان وسريان وعرب، وفي أبسط الأحوال لا يُنظر إلى المتحدث بالوثائق العلمية والنقوش والمسكوكات والمنجز الكتابي والتدويني سوى قومي عروبيّ متعصب، مع التسامح المطلق في قراءة أوهام سرديّات غير العرب في العراق وسورية خصوصًا.
إن قارئًا جيدًا ومثابرًا للتاريخ مع قليل من التأمل تتاح له استنتاجات مبنية على أسس علمية لا غبار عليها، إلى حقيقة عراقة العرب في منطقة الهلال الخصيب الكبرى ووادي النيل، ومعرفتهم الجيدة بالحضارة والمدنية، لأن مَن يعرف الكتابة والأبجديات والنقود لا يمكن إلاّ أن يكون له حظّ ولو بسيط من الـمَـدَنيّة، أضف إلى ذلك وجود التنظيمات السياسية والقانونية والاجتماعية، ولا يمكن التغاضي عن العلاقات الوثيقة بين سكان المنطقة من عُمان واليمن حتى سفوح جبال زاغروس وطوروس وسواحل البحر المتوسط ووادي النيل.
يكشف الكتاب عن علاقة تاريخية وثيقة تمتد من أيام "السومريين" والأكاديين وحتى القرن الثالث الميلادي، حين تم وضع حد لمرحلة إزدهار مليحة ومدن السلسلة الحضارية - التجارية العربية على ساحل الخليج العربي وفي حوض الفرات، على يد أردشير بن بابك، مؤسس السلالة الساسانية، وابنه شابور الأول؛ هذا التدمير أوقف عمليًّا شريان الحياة الكبير القادم من الهند، والمتمثل بطريق الحرير البحري، ويوَضّح الباحث عبر معطيات الحفر الآثاري، أن مليحة كانت من المدن النادرة التي شهدت تجاور وتفاعل العنصرين العربيين؛ الشمالي - الآرامي، والجنوبي - اليمني، وقدمت عبر نقوشها الكتابية، فرصة مهمة للتعرف على طبيعة العلاقة بين هاتين الجماعتين، وعوامل تكون الهوية العربية في تلك الفترة المبكرة.
أدلة النهوض الحضاري تؤكد أن لا وجود لطفرات حضارية في مسيرة البشرية، وأن الشعوب المغلوبة لا يمكنها التخلّي عن لغاتها وتدوينها وتتبنى لغة الفاتح الجديد، إلاّ إذا كان الفاتح الجديد يملك مقومات النهوض جميعها، بحيث يصعب الوقوف بوجهها، وفي المقابل تفتقر تلك الشعوب إلى مقومات النهوض والصمود، أي إلى أبجدية تُطيع الكتابة لها، وتدوين واضح ومنجز حضاري - ثقافي - مَدَنيّ، واستقرار سياسي واقتصادي واجتماعي؛ إذًا كلّ زَعمٍ عن وعي حضاريّ كبير كانت تتمتع به شعوب المنطقة فقررت أن تتبنى اللغة العربية (لغة الفاتح الجديد) لكي لا تتخبط المنطقة -بحسب هذا الزعم- بظلام صحراوي بدويّ لا بصيص ضوء يلوّح في البعيد، إنما هو كلام مرسل لا ينطق به إلاّ مَن طعن العلم والمعرفة والحقائق التاريخية والمنطقية بمقتل.
يستعرض الباحث المسح الأثري لمليحة، عبر النقوش والنقود (المسكوكات) والجرار وغيرها ليثبت أن مليحة جزء من محيط ثقافي انتشر في أرجاء شبه الجزيرة العربية كلها، من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، في علاقة عضوية تكاملية مع منطقة الهلال الخصيب (العراق والشام).
لقد أدّى إدماج الديانتين اليونانية والعربية في منظومة دينية جديدة شملت مناطق نفوذ الثقافة الهلنستية في سورية القديمة والعراق والأناضول وحتى مصر، إلى إدخال عنصر البخور العربي بقوة في الطقس اليوناني. فالتقليد العربي القديم الذي كان يعدّ حرق البخور ذبيحة غير دموية لا يقل مفعولها عن الذبيحة الدموية، أصبح هو السائد في المعابد اليونانية، ومن بعدها الرومانية. وكان هذا سببًا أساسيًّا في زيادة الإقبال على البخور العربي، الذي سبق وأن تحدث عنه هيرودوت بشكل مستفيض في القرن الخامس قبل الميلاد
نلاحظ أن المدن التجارية العربية، تدمر بفاعليتها التجارية والثقافية المتميزة، ومملكة الحضر، غربي الموصل، في إقليم بيث عربايا (معظم شمال العراق وأجزاء من سورية وتركيا اليوم)، كمدينة عربية - آرامية ذات شأن كبير في العلاقات الدولية خلال القرن الأول قبل الميلاد، والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد. ودورا أوربيس (صالحية الفرات) المجاورة لها على شاطئ الفرات. والأهم من ذلك مملكة كرخ ميسان (كرك سباسينوس) عند مصب نهري دجلة وكارون في الخليج العربي، وإلى جوارها مدينة الأبلة (أبولوغوس)، بالإضافة إلى مدينة الزارة (جارا) على الساحل المقابل لجزيرة البحرين، شهدت انتعاشًا غير مسبوق، وتمتعت باستقلال غير مشكوك فيه، وأسست لسلطات سيادية مرتبطة بحجم قوتها الاقتصادية؛ بل شكلت سلسلة ثقافية واقتصادية متكاملة، ذات هوية عربية شمالية، بينما مليحة تشكل جسرًا نحو الجنوب العربي، لتكمل بذلك الدائرة الحضارية التجارية التي ميزت تلك القرون.
تمتاز مدينة مليحة مثل أخواتها المدن العربية التي تأسست قبل الميلاد في العراق وبلاد الشام وأعالي دجلة والفرات (تركيا اليوم) بنزوعها نحو رسم خصوصية حروفية من الأبجدية الآرامية (السريانية)، أو تحوير الأبجدية السريانية إلى أبجدية جديدة، وأبرزها مملكة الأنباط التي طورت خطًّا سريانيًّا متصلاً، انبثق منه في القرن السادس الميلادي في الحيرة خط الجزم العربي الذي نستخدمه الآن؛ وكذلك مملكة الحضر التي طورت خطًّا مميزًا من الأبجدية الآرامية (السريانية)، والتي ذهب أحد الباحثين العراقيين من جامعة الموصل إلى أنها أساس الأبجدية العربية المعتمدة، في بحث قدّمه في أحد المؤتمرات العالمية حول الأبجديات.
يستنتج الباحث أن مليحة بأن ملوخا الواردة في وثائق آكاد وآشور هي مليحة في وسط إمارة الشارقة وليست في وادي السند في باكستان والهند، ومن خلال المعطيات الأثرية والتاريخية فإنها عاصمة مملكة عُمانا القديمة على الأرجح، وذلك لوجود دار لسكّ العملة وقصر ملكي وحصن كبير نسبيًّا، مخالفًا الشائع في الأوساط الأكاديمية، وقد أثبت اكتشاف مقبرتها الملكية مؤخرًا (بعد صدور الكتاب) ونقوش مزدوجة آرامية - مسندية، مذكور فيها اسم كاهن ملك عُمان، إلى أن استنتاج مؤلف الكتاب كان صائبًا ودقيقًا.
ألغاز مليحة، دراسة في الآثار والنقوش والرموز
المؤلف: تيسير خلف
إصدار: دائرة الثقافة في الشارقة، الطبعة الأولى 2014
صحيفة العـرب اللندنيـة
[نُشر في 03/06/2016، العدد: 10295، ص(14)]
http://www.alarab.co.uk/?id=81768