أنت حر في اختياراتك وترجيحاتك وما تريد أن تكون عليه، لكن لابد من القول بأن ثقافة النفي تعتمد على ترجيح شيء وإلغاء الأشياء الأخرى، ترجيح ثقافة ما وإلغاء بقية الثقافات، ترجيح حقبة تاريخية ووصم بقية الحقب التاريخية بالسلبية، والسلبية المفرطة أحيانًا.
ولابد من الاعتراف بأن ثقافة النفي مستوردة، لم يعرفها الإسلام في فجره، ولا ترجع للعرب وإنما لطبيعة المنطقة التي أنجبت لنا الإسلام، دينًا وثقافة وتراثًا، فهي لم تكن يومًا إلاّ منطقة متعددة الألسن والعقائد، فالعرب الذين يُشكلون جزءًا من نسيج العراق وبلاد الشام ووادي النيل؛ على امتداد الألف سنة التي سبقت ظهور الدين الإسلامي؛ كانت متحفًا للتنوع والإبداع ومهدًا للـمدنـيَّـة.
عقيدة الفرقة الناجية، تم فرضها خارجيًّا، حين استولت الثقافتان اليونانية والرومانية على المسيحية، وتكرر الأمر مع الإسلام حين استولت الثقافتان الفارسية والآسيوية (الأقوام التركية)،ففي المسيحية تم استحداث مصطلح الهرطقة والمسيحية القويمة، وفي الإسلام تم استحداث "أهل السنة والجماعة" ليقابله "أتباع أهل البيت" وأزيح مصطلح "أهل الكتاب" الذي يشير إلى المساواة، بل وسبق الديانات التوحيدية ورمزية هذا في أبسط صوره؛ الاحترام.
كلما تراجع نفوذ المسلمين السياسي والاقتصادي والمعرفي كان المعادل له بروز التشدد، لكن أصداء التسامح والمعرفة وجدت لها مكانًا في مؤلفات متأخري العصر الذهبي؛ والذين هم أساتذة فقهاء عصور الانحطاط؛ كالغزالي مثالاً؛ بل حتى مؤلفات ابن تيمية شيخ السلفية وعصور الانحطاط عند المتنورين والعلمانيين و"أتباع أهل البيت" على السواء، فلم تخل كتب هذا العصر تمامًا من شذرات التسامح والمعرفة، على الرغم مما امتلأت به من فتاوى تكفيرية.على أن حمل هذه الفتاوى بعدّها ردة فعل على انحطاط المسلمين، وتوغل بل تَغَوّل الأوربيين والمغول، وضياع الخلافة وهيبتها ورمزيتها؛ ينجيه وينجي ثقافتنا من ثقافة النفي الصارخة في فتاواه.
ما يدعو للتأمل، حضور هذه الثقافة في خطاب "العلمانيين" و"المتنورين" و"الأمميين" وكأن ردة فعلهم لا تختلف عن ردة فعل ابن تيمية وسواه من رجال الدين.
عدم عدّ التاريخ كله تاريخنا؛ وانتقاء ما نريد؛ فتلك ثقافة نفي، وعدم الاحتفاء بتراثنا كله بتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والمناطقي، فهذه ثقافة نفي، لأن عوامل عديدة اشتركت في ولادة هذا التراث.
"على العراقي أن يقول إنه سومري، أكدي، آشوري، آرامي، ولكن ليس عليه أن يقول إنه عربي" هذا ما قاله لي ممثل حركة سياسية قومية غير عربية، هو ممثلها في نيوزلندا، وهو لم يولد أبوه في العراق، لأنه من تلك المجموعة السريانية التي جلبها الاحتلال البريطاني إلى العراق في أيلول 1918م.
ما الفرق بينه وبين الدعاوى التي تريد محو تراث العراق الذي سبق الإسلام وترى فيه تراثًا وثنيًّا؟ أو تختار منه فترات محددة من التاريخ الإسلامي تتفق وميولها المذهبية؟ وما الفرق بين هؤلاء والدعاوي الكثيرة التي نقرأها في وسائل التواصل الاجتماعي لمن يُفترض أنهم نخبة "المثقفين العلمانيين المتنورين"، بِعَدِّ الإسلام دينًا إرهابيًّا، أو عَدّه ليس أكثر من جزء طارئ، وأن الكل هو تاريخه الذي سبق الإسلام بأكثر من ألف سنة ويمتد لعدة آلاف.
لا يمكن التخلص من هيمنة دين يعتنقه أكثر من 90% من الشعب، وأكثر من 95% من تراثه التدويني خـُطَّ بلغة الكتاب المقدس لهذا الدين، واتهامه بالبدوية والسجن المملوء عُقَدًا وأمراضًا، وأنه أغرقنا بالدم والظلم والفقر والعبودية؛ عبر الكتابة العاطفية المتوترة؛ فهذه ثقافة نفي لا تختلف عمن لا يرى العراق إلاّ من وجهة نظره، فهي صورة أكثر قتامة مما يُؤخذ على ابن تيمية.
ثقافة النفي، التي أنجبت لنا فقهاء التطرف؛ هي نفسها التي أنجبت هؤلاء المتنورين؛ الذين ما زادهم العيش في كنف الغرب إلاّ شعورًا بالتفوق على الآخرين، وأذكى نار نرجسيتهم.
التخلص من ثقافة النفي؛ لا يأتي عبر إلغاء عقائد الناس، بل دراستها وتحليلها وتفكيكها لمعرفة الخلل، وقبل الشروع في ذلك يجب قراءة تاريخ التنوع اللغوي والعقائدي والمناطقي.
مَن يتعرضون إلى عقيدة الأغلبية وهويتهم؛ تحت زعم أننا لسنا عربًا وأن العرب لا يملكون شيئًا في مسيرة المنطقة التاريخي (الشرق الأوسط وشمال إفريقية)؛ يجهلون أن ثمة إثنيات لم تعرف الكتابة حتى عشرينات القرن العشرين، وأنه ليس هناك من لغات تدوينية سبقت اللغة العربية، لها تراثها الـثـَّـر ، سوى السريانية واليونانية واللاتينية، وأن الأبجدية العربية ابتكار عراقي، سبق الإسلام.
صحيفة العرب اللندنية
[نُشر في 2016/11/26، العدد: 10467، ص(15)]
http://www.alarab.co.uk/article/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1/95689/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%81%D9%8A