انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    شاعر الالتباس .. غزال هارب من إطار مذهب

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    شاعر الالتباس .. غزال هارب من إطار مذهب Empty شاعر الالتباس .. غزال هارب من إطار مذهب

    مُساهمة  Admin الجمعة مايو 04, 2018 4:47 am


    مجلة الجديد: [نُشر في 01/05/2018، العدد: 40، ص(125)]
    اشتهر الشاعر نزار قباني بوصفه شاعر المرأة وشاعر المراهقين لأن معظم جمهوره منهم، وفي بداياتي مع القراءة والشعر، قرأت أن القراء ما إن يتجاوزوا مرحلة المراهقة حتى يتركوا شعره متجهين إلى شعراء آخرين، وكنتُ أشعر بالزهو وأنا في بداية مراهقتي لأن ذائقتي الشعرية لم تستسغ شعر نزار قباني، أنا المهووس بشعراء الحداثة ابتداء من السياب وليس انتهاء بجماعة كركوك، فضلاً عن شعراء عرب يمثلون الخط الثوري في ثورة الشعر الحديث العربية.
    نعم، كنتُ أتعالى على مَن يحب شعر نزار قباني، وكانت فرحتي كبيرة حين قرأت كتابًا شعريًّا أظنه "أسئلة الشعر" لمنير العكش، إن لم تخنّي الذاكرة، وفيه أعطى قصيدتيْن واحدة للسياب وأخرى لنزار قباني؛ إلى عشرة أشخاص يمثلون عشر عينات مختلفة من المجتمع، اختلف كل فرد فيهم في تلقيه لقصيدة السياب بينما اتفقوا جميعًا في التلقي فيما يخص قصيدة قباني. كنت استشهد بهذه الدراسة الميدانية، في تبرير موقفي السلبي من شعر قباني؛ فضلاً على استشهادي الدائم برأي السيّاب في شعره، حين قال ما فحواه "إن شعر نزار قباني مثل الحلوى التي سرعان ما تذوب في الفم، ونزارٌ واحد يكفي في الشعر العربي".
    لكنني حين تحدثتُ مع أستاذي "فاضل ديوان" في شأن شعر نزار نصحني أن أقرأ له عدة مجموعات شعرية، فهذا ضروري ليكون حكمي أكثر دقة، وشعرت عبر حديثه إعجابه الكبير به، لا سيما وهو مكثر، فقرأت له عديد المجموعات الشعرية، وعزوتُ إعجاب "فاضل ديوان" بشعره لأنه أكثر ميلاً للمحافظة، بينما أنا أميل أكثر للحداثة؛ حينها حصلتُ على عدة مجموعات شعرية له التهمتها قراءة.
    كان أستاذي في الشعر الشاعر والمسرحي "محمد زمان" معجبًا بنزار قباني غاية الإعجاب، ويراه جادًّا ومثابرًا ومتفردًا، ويُعلل الأمر، بأنه ليس بإمكان شاعر أن ينجز هذا الكم من المجموعات الشعرية إن لم يكن مُنَظّمًا ودقيقًا في حياته ويحسب حساب الوقت جيدًا، ولم أكن أجرؤ على مكاشفته برأيي بشعر نزار قباني، لكنني لم أقتنع يومًا إلاّ برأي السياب فيه، ولطالما وقعت في دائرة الجدل حول شعره وأهميته، منافحًا عن السياب وجيل الستينات العراقي؛ لا سيما الرموز مثل سركون بولص وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر وصلاح فائق وفاضل العزاوي وآخرين.
    أن تُبدي رأيًا مخالفًا للسائد في شعر شاعر جمهوره في بلادك هو الأوسع، شاعر لم يكن ذلك الكاتب العراقي الذي رَحَّب بنزار قباني في الصحافة العراقية حين حضوره مهرجان المربد في ثمانينيات القرن العشرين، مبالغًا حين ذكر حجم جماهيريته، هذا الشاعر الدمشقي الذي يفوح ياسمين دمشق من ثنايا قصائده؛ شاعر أشهد بأني وقلة من أصحابي كُنّا خارج النسق نُغرّد في عدم ميلنا لشعره، وأُعزي الأمر إلى متابعتنا الجادة لمنجز جيل الستينات العراقي ومجلة شعر اللبنانية وما تُرجم وكان يُتَرجم من حركات الحداثة الغربية، نحن المولعين بشعراء الحداثة عربًا وأجانب.
    مرت الأعوام تلو الأعوام، وفي الآونة الأخيرة، كنت أسترجع في ذاكرتي ما قرأت لقباني، فضلاً عن القصائد الكثيرة التي أعدت قراءتها مؤخرًا، يمكنني القول إنني تراجعت كثيرًا عن موقفي من شعره، فقد لاحظت أمرًا مهمًّا فيه، ألا وهو أن نزار قباني ابن المركز في الثقافة العربية، أي الغالبية العربية الإسلامية وابن مدينة دمشق وهي إحدى الحواضر العربية المركزية، بنى نسقه الشعري على لغة الهامش، فهي لغة تخلو من البلاغة النخبوية وتميل إلى بلاغة العامة، بل إن لغته أقرب إلى اللغة العامية التي يمكن لكل قارئ بالعربية أن يفهمها؛ نزار قباني يكتب شعرًا عاميًّا بكلمات فصيحة ويبتعد عن الفصحى.
    لغة أكثر قربًا من العامية حتى من لغة الصحافة، خطابه واضح يكاد ينزلق نحو المباشرة، لكنه وبحرفية عالية يترك خيطًا رفيعًا بين الوضوح والمباشرة، لم يستحوذ نزار قباني على قلوب الملايين فقط، وهي الحالة الشعرية الوحيدة في الشعر العربي، لأن مظفر النواب ومحمود درويش أقل شعبية منه، لكنه أيضًا كسر القاعدة التي تميَّز بها شعراء المركز، أي فخامة اللغة وبلاغتها النخبوية، و"شَعْرَنَ" الهامش وهو ابن المركز.
    لا شكَّ أن هناك شعراء ذهبوا إلى لغة الهامش لأنهم أبناء ثقافة الهامش، أي أبناء مجموعات سكانية لا تُعدّ عربية إسلامية، فهم أبناء الأقليات، وقد ذكرت ذلك مرارًا عن الشاعر سركَون بولص، مثلما ذكرت نقيضه الشغوف بفخامة البناء اللغوي والبلاغي والمسحور بلغة القرآن الكريم وهو الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد على الرغم من انتمائه إلى فئة الهامش أيضًا كونه صابئيًّا مندائيًّا.
    في عقد السبعينات؛ ظهر في بريطانيا جيلٌ شعري ينحو نحو البساطة في الشعر، كانت محاولاتهم جعل الشعر مثل الماء والخبز، وشاءت الصدف أن تجمعني أمسيات شعرية مع أحد شعراء هذا الجيل في العاصمة النيوزلندية وَلِنْغْتُن، ولدينا في العراق ثمة مَن حاول الاستفادة من الجيل السبعيني البريطاني مثل الشاعر غزاي درع الطائي؛ لكن يمكنني القول بنوع من الجرأة أن الشاعر نزار قباني قد سبق جيل السبعينات البريطاني هذا، فشعره سلس للغاية ولا يُتعب القارئ بالتأويل بل يدخل مباشرة إلى القلب، والجمهور لا يحب التأويل وفهم النص على مستويات، أعني أن يكون للنص مستويات قراءة متعددة، هذه المستويات تَـحرِم الشعر من الجمهور وتحصره في نُخبة النخبة.
    أرى أن نزار قباني يُعدّ بحق أحد أقطاب التجديد في الشعر العربي، وإن كتب قصيدة التفعيلة متأخرًا؛ قياسًا بغيره؛ لكنه جدَّد في عمود الشعر وفي لغة الشعر والتناول الشعري للأشياء، فهو من أوائل مَن اهتموا بالتفاصيل التي كان يراها الشعراء لا تصلح للشعر؛ ابن المركز يهتم بالهامشي والمهمل عند الشعراء، وانتبه إلى أشياء المرأة الحميمة؛ أي زينتها؛ فاستحوذ على قلوب الصبايا والمراهقات لأنه يُعبّر عنهن بامتياز، مثلما يجد المراهقون ضالتهم في كتاباته ليُعبّروا لحبيباتهم بمايغريهن في الانجذاب إليهم.
    ثمة رأي قرأتُه قبل سنوات طويلة، يذكر فيه كاتبه أن نزار قباني أزاح عمر بن أبي ربيعة من قلوب العُشَّاق واستحوذ على مكانته، وشخصيًّا أميل لهذا الرأي، على الرغم من إيماني أن العُشَّاق لو لم يكن نزار قباني موجودًا لابتعدوا عن عمر بن أبي ربيعة تلقائيًّا؛ بسبب مناهج التدريس التي لا تُخرّج أجيالاً تجيد قراءة التراث. وإن كانت الفرصة مواتية لنزار قباني، فالرجل اختطَّ لنفسه طريقة في الكتابة غير مألوفة في الشعر العربي، طريقة جريئة في تعامله مع المرأة والحديث عنها بلسانها، أو في التعبير عن شغفه بحبيبته فالكلمات الدالة على مناطق مُعينة من جسد المرأة التي يتجنبها كثير من الشعراء، أو يتداولونها بنطاق محدود، تجد حضورها الفاعل والغزير في نصوصه.
    نزار قباني يشبه الربيع القصير جدًّا في العراق، فهو شاعر تقرأ له وسرعان ما تتجاوزُه حين تقرأ لشعراء آخرين وتزداد وعيًا بالشعر، لكن وجوده ضرورة مثل وجود الربيع القصير في العراق، لا يمكن الاستغناء عنه، وهو يمثل مع مظفر النواب ومحمود درويش، إغراءً بالمحاكاة وتوريطًا في الوقت نفسه، لأن شعبية هؤلاء الشعراء المفرطة وطبيعة خطابهم الشعري، جعلتهم بيتًا فضاحيًّا لكل مَن يدخله، يتعرى أمام القُرّاء دون إرادته، ويصبح الخروج منه دون أن يَعلق صبغٌ أحمر في حناجرهم أشبه بالمستحيل.

    مجلة الجديد: [نُشر في 01/05/2018، العدد: 40، ص(125)]
    http://aljadeedmagazine.com/?id=2592

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس مايو 02, 2024 6:40 am