انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    عبد القادر فيدوح، عراق الذاكرة في شعر باسم فرات

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    عبد القادر فيدوح، عراق الذاكرة في شعر باسم فرات Empty عبد القادر فيدوح، عراق الذاكرة في شعر باسم فرات

    مُساهمة  Admin الأربعاء يناير 27, 2021 5:27 am

    عراق الذاكرة
    في شعر باسم فرات
    عبد القادر فيدوح – جامعة قطر
    لجج الهوية/عتمة الراهن:
    ليس هناك أقسى من أن يعيش الإنسان غريبا في ذاته قبل منفاه طوعًا، أو كرهًا، بعيدًا عن وطنه، وعن ذاكرته الجمعية، وقبل أن يرتمي في منتهى الإجلاء والتهجير بأقصى الأضرار التي تحيط به، بخاصة من الناحية النفسية، أو حين تستغلق عليه الأقطار والأصقاع التي تتقاذفه بين رياح الفيافي؛ بعواصفها الهوجاء، وأعاصيرها التي تجبر الإنسان على التكبيل، واحتجاز حريته، وقد لا يكون الانعتاق منها إلا في ضوء مساحة اللون الأسود، الذي يلتهم عمر الإنسان المهدور، وهو ما يجبره على أن يكون منفيًا، أو مغتربًا من خلال "فكرة الانفصال والابتعاد عن الوطن الأم، أو عن الأصل الثقافي، أو العرقي." يصدق هذا المنحى على الكثير من الحالات في أوطاننا العربية التي أرغمت مواطنيها على أن يكونوا تحت غائلة الشتات، كما في أحرار المجتمع الفلسطيني، والعراقي، والسوري، واليمني، والليبي، وغيرهم كثير ممن فقدوا حريتهم في أوطانهم، وأضاعوا طريقهم إلى سواء السبيل، فتشتتوا في كنف غياهب المجهول، وعتمة المصير في غياب وضوح الرؤية، وامِّحاء علامات الوطن، وتلاشي معنى الروح فيه؛ مما جعل الكل يعرض عنه جفاءً، ويرضخ للهجر بالاضطهاد والتهديد، والارتحال بالنفي، والنزوح بالتشريد القسري، ولاشك في أنه ما من واقع أشد قتامة، وأكثر مرارة، من الواقع العربي المشتت بين واقعية الصمت، والقمع، والاستلاب، والغربة، والضياع، والنفي؛ الأمر الذي جعل الشاعر [باسم فرات] يأمل في أن يكون أي شيء إلا أن يكون ذاته، لما يحيط بها من ضبابية، وما يشملها من ترمُّد وأسى؛ كما كانت وجهة آماله، أيضا، هي أن يخرج هذا الوطن من منفاه؛ ليبعث في ظلال من النور والضوء، متوجًا بالفرح والأغاني، وهو ما يجعله يستلهم فضاءه الأنبل بغية استشراف "الزمن/ الحلم" بكل ما يحمله من إمكانات رؤياوية، تمتلك الذات بمشاعر الرفض احتفاء باستقدام الآتي المحمل بقيمه التفكيكية، الهدمية، وإعادة بناء حلم يقاوم فراغات الصمت، ويمتص فيافي النفي والحزن، ويمضي نحو امتلاك الفضاء الأرحب في دَعته، والأفسح في سعته، حيث لا شيء يحتوي الذات أو يصدها. غير البحث عن الاستقرار، حتى لو كان ذلك على أطراف المجتمعات الأخرى، وحافاتها المنزوية بدورها قسرًا؛ لتكون عبئًا يُنظر إليها على أنها كيانات مقحمة عنوةً بملحقات نِدَّ الوزر، ونظيره، في هذا الوطن أو ذاك، وفي كل الحالات تتبخر أحلام الذات المهجَّرة فيشعر وكأنه يجوب في اللامكان، أو في مكان غير المكان، أو في الفضاء المسكون بالانفصال عن كل شيء بعد انسداد التطلع، وانغلاق الآفاق، والتنكر للذات من ذاتها كما في قول الشاعر باسم فرات:
    أنا باسم فرات … يا الله.. أتعرفني
    المخافر موشومة على جلدي
    وأمي لم تلتفت للشظايا
    حين مشطت صباي
    فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
    بعباءتها التي تشبه أيامي تمامًا
    كانت تكنس الطائرات
    لترسمني كما تشتهي
    أ لأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
    وتحت لساني نهران يهدران
    أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
    البلاد خريف طويل
    سيلٌ من الغثيان
    لعل ما يحتويه القرين الدلالي في هذا المقطع يصبُّ في معنى التشرد، بعد فقد هوية الشاعر في اسمه قبل وطنه، واللجوء إلى المجهول كرهًا من الواقع التغريبي، وانفصال الذات عن ذاتها، نظير طمس معالم هويتها في مسمى الاسم الذي أصبح مجردًا من الغرض والغاية، حين تنكر له حسن الطالع، وانقلب عليه كما جاء في قوله: [أنا باسم فرات … يا الله.. أتعرفني] في إشارة إلى أن حالة الطمس غائرة في أعماق كيان الذات من مرجعية هويتها، التي أجبرته على النفي في صورة الانفضاض عبر [البلاد خريف طويل]، وكأن لا فرق بين هذا الوطن أو ذاك في دلالات معنى التشرد، واتساع خرابه، وجدبه، وهو ما عبر عنه موقف كل الشرفاء الذين أعرضوا عن أوطانهم، وهاجروا وذويهم إلى وجهة المنفى، كما جاء في رسالة محمود درويش إلى سميح القاسم، قوله: "من البدء ونحن نسافر في ما ليس سفرًا بقدر ما هو اقتلاع، وليس سفرًا بقدر ما هو ضياع، وليس سفرًا بقدر ما هو صراع... مدفوعين إلى استبدال سفر بسفر، بحثًا عما يؤجل فينا إطلاق الصرخة المكبلة باعتبارات ليس أولها قداسة المكان، وليس آخرها سخرية الزمان ، داخل بوتقة التشتت، واحتوائه في كنه تابوت منفاه الألم، كما قال السياب. وهل في ألم صورة المنفى، ومكابدة العذاب، ومرارة التشرد ما يعوض للإنسان هوية تأويه؟ وكيف له النجاة من غياب المعنى، وإفلاىسه؟، ومن له بالقبض على حقيقة هويته التي تحمل معها الأبعاد النفسية والفكرية والثقافية؟ وهل قدر الإنسان مرهون بانفصاله عن واقعه، أو مقرون بذوبانه في هوية الآخر؟ والأهم من ذلك أنَّى يكون له ما يعوض هويته المسلوبة، ويندمج في هويةٍ غير هويته؟، هذا غيض من فيض من المواقف التي تبعث الحيرة والقلق، كما في قول باسم فرات:
    ... وَأَقولُ: في الأقاصي البَعيدَةِ
    ثَمّةَ ما يَدعو لِلتَّذَكُّرِ
    في الْمُدُنِ التي أَنْهَكَها البَحْرُ
    أَردِمُ أَحْلامي
    لِي مِنَ الْحُروبِ تذْكارٌ
    وَمِنَ البلادِ أقصى الجِراحِ
    يسرد الشاعر معاناة هوية ضميره الجمعي الجريح على امتداد تجربته المريرة، منذ المنتصف الثاني من القرن العشرين، مع الحل والترحال بين الأقاصي والتذكر، بين المدن وأهوال البحر، بين الحروب وتداعي الفواجع، بين كل هذه المآسي يردم [باسم فرات] أحلامه، وهي الصورة التي يشترك فيها مع شعبه في محنته، وفيما أصاب الوطن من رزايا، باتت تحت قبضة القهر وسيطرته، ومخالب الغريم بإنفاذه الجارح، كما ينفذ السهم في صيده، وتجريح الأسى قبل تجريح الذات، وتمزيق الروح، وتبديد طاقات الناس، غير أن ما يشفع للذات الفاعلة التي تستند إلى رصيدها التاريخي الماجد؛ غالبا ما تسترجع قواها في "تفاعلها مع مصيرها وصيرورتها، فهي بعد كل محنة إشكالية تدخلها، تعيد ترتيب نفسها من جديد، وتخرج محملة باستبصارات جديدة، تظن أنها قادرة على أن تجنبها المزيد من المحن."
    وبما أن طبيعة الذات متعددة المشارب، ومتنوعة المآرب فإن ميولها - غالبًا - ما تمنحنا الإحساس باكتناه ما بداخلها من عمق في التصورات، بوصفها مصدرًا - مرجعيًا - للتأمل، وما ينتابها من شعور يغذي الوجود النفسيّ بما ليس على قيد ولا وثاق، أو في توقها إلى الوجود الأسمى، أو تواريها في أحلامها المجهضة، أو من خلال ظروف قد لا تكون نابعة من اختيارها، سواء تعلق الأمر بالذات الفردية [المستلبة]، أم بالذات الجماعية [المتشظية]، حتى أنه "لم يعد ممكنًا أخذُ استلاب الفرد بالمعنى... الكلاسيكي؛ إذ إنه لتكون الذات مستلبة، يجب أن تكون أولًا متماسكة متجانسة، وليس مجرد أجزاء أو شظايا، كما هي فعلًا. وقدرة الفرد واقعيًا على متابعة أموره في الزمن أو تفكيره بمستقبل له، أفضل بكثير من حاضره ومن ماضيه، إنما هي ممكنة فقط بفضل شعوره بمركزية ذاته أو هويته" الفردية في نزوعها إلى التحرر مما تراه قيدًا، أو قهرا، في ظل وجود تحكمه الهشاشة والظلامية في كل شيء، وأصبح يفقد مكوناته المكتسبة من:
    تعال أحدثك عن الآذان التي تغطي المدينة
    عن قاع دجلة ينحب عن ألف ليلة وليلة
    بعد أن هشَّم قناصٌ ذراعي كهرمانة
    رعويُّون ما عرفوا المرايا والتبغدد
    رايات أوهامهم تغطي الطرقات
    في المقاهي لحاهم تمسح الأغاني
    لتتركَ ظلَّها قبورًا تحكم البلاد
    ليس هناك من شك في أن الجرح الغائر في قلب العراق أصاب حضارته الماجدة قبل واقعه؛ على النحو الذي عبرت عنه القرائن الدلالية في جميع إبداعات الشاعر باسم فرات، التي كانت محمَّلة في تضاعيفها نبرة مكروبة، تؤكد حالة العسف، والاستعباد، والتشريد، والنفي، والحال هذه أن المتلقي لا يجد في نصوص باسم فرات إلا ما يعبر عن علاقة الذات بالمعاناة المثقلة، وبهدر الإنسان، وتبديد قيمه الخالدة، وفقد قدراته على الفاعلية، كون الذات الجمعية في مقام الإنسان العراقي، تعيش حالات التمزق في عدم الاستقرار النفسي، واضطراب الوجود الطبيعي بفعل الإساءة الخاضعة للعقاب الجماعي؛ الأمر الذي أجبر المواطنين على الاغتراب بكثرة الأسفار "التي لا تنتهي واحدة، حتى تستأنف أخرى، كما جاء في رأي الناقد حاتم الصكر، وهو ما جعل باسم فرات يتلمس بشعرية رهيفة - رغم قسوة مادتها - تلك الرؤى والخيالات التي تبرق في الذاكرة كلما ذكر وطنه العراق، أو أيقونته الخالدة: بغداد، أو موطن طفولته ومسقط عذاباته، وفقداناته: كربلاء؛ حيث تلهو كهرمانة بصب الزيت أو الماء، كما في النصب الحديث، على رؤوس اللصوص يقوم قناص في القصيدة بتهشيم ذراعها. رمزيا سيعطلها عن مكافحة اللصوص ريثما يصل علي بابا... ولكنها هنا تبدل موقعها، تصبح هدفا للرماة الظلامين، الذين أتوا على حاضر العراق بعنفهم المؤدلج باسم الدين، وجاءوا على معالم العراق وحضارته وحيوات أبنائه ومستقبلهم كما يهجم الجراد ، ليجهض التطلع الذي كان يحمل رؤية حالمة، وإحياء الوعي الحضاري الذي أجهض عنوة، فلم يكن هناك من بد إلا محاولة مواجهة الصراعات القاتلة، سعيا إلى إمكانية تحقيق التطلع:
    وَحينَ تَطَلّعْتَ إلى الوَطَنِ
    ابتَلَعَكَ الْمَنفَى
    تَنْفُخُ سَنَواتِكَ فلا تَرى سِوى الرمادِ
    وَتَخْشى على بَهائِكَ من الاندِثار....
    يا لُهاثَ الفُراتَيْن
    كي أستطيعَ مُصافَحَةَ غُرْبَتي
    هَل عَليَّ أَنْ أَحْرِقَ جُذوري؟
    ...
    في الأقاصي التي أنْهَكَها البَحْرُ
    أَرْدِمُ أَحلامي
    لي مِنَ الْحُروبِ تذْكارٌ
    وَمِنَ البِلادِ أَقصى الجِراحْ .
    أمام هذه المشهدية المفزعة لغياب رمزية الحضارة الدينية في صوت نداء المؤذن الذي كان يملأ الأجواء الروحية، وأمام غياب الحكايات الشعبية المتوارثة على لسان ألف ليلة وليلة، بوصفها أيقونة تاريخ الثقافة الأصيلة، وفوائد حجر الكهرمان من مسك العنبر والقيم الجمالية، وبإشعاعات طاقته المعبرة عن السلام والهدوء، وأمام دلالات التوازي في هذه الصور، ابتلاع المنافي/ رؤية الرماد/ الاندثار/ مصافحة الغربة/ ردم الأحلام/ في الأقاصي/ أحرق جذوري، وغيرها كثير من الصور التي تنشأ عنها علاقات تجاور دلالي الذي يحدثه الدال اللغوي بانتقاله من الظاهر إلى الباطن، أمام كل هذه المشاهد التاريخية، والنفسية، والوجودية يحضر الدمار ليزيح العظمة والمكانة عن دورها الحضاري، ويُعوض كل ذلك بالارتعاب الذي بات يتلذذ بالقسوة والعذاب، بدافع قتل جينيالوجيا القيم، وهدم النتاجات الثقافية بقوة العقاب، سواء أكان ذلك من الذات نفسها بالخيانة والمداهنة، أم من الآخر المحترف في نصب الدسائس والاحتيال، وفي كلتا الحالين تضمِر الكلفة فعل الدمار والتخريب بوشْمَة ناعمة، "ويطلق الخداع مباشرة فهمًا أوسع للحقيقة يتيح التعالي على الخداع... وبصرف النظر عن عدد المرات التي ينحلُّ بها عالم الذات فإنها تبقى قادرة بشكل لانهائي على تكوين عالم جديد؛ إنها تعاني السلبي، لكنه لا يستطيع أبدًا أن يبتلعها تماما. في الواقع، لا تفعل المعاناة إلا تدعيم قدراتها التركيبية. السلبي دائما، وحصرًا، مفيد، فهو لايكون مدمرًا بأي معنى نهائي" .
    وإذا كان سارتر Jean-Paul Sartre يرى في الإنسان أنه رهين المصادفات، والإساءة، والاستبداد، فإن مثل هذه النتيجة - حتمًا - تكون مكدومة، لما فيها من صدمة موجعة، أو ضربة قاصمة، بخاصة حين تُسكِت هذه المصادفة، أو هذا العسف نبضا يانعا، أو هديل حمام، أو تغريدة عندليب، أو تفتح زهر العطر، أو تفتق سنبلة، كما جاء في قول الشاعر الجزائري عبد الله عشي:
    كان يمكن أن تكبر السنبلة
    وتولد ياقونة الماء والزاد والراحلة
    كان يمكن أن تكبر الكلمات
    لو مضت نحو دهشها الأسئلة
    كان يمكن...
    لكنهم قتلة.
    لقد حاول [الرعويون] بحسب ما ورد في النص تغييب "المكتوب بما شاؤوا لا بما شاءت الأقدار" وأسكتوا "الترانيم الجذلة"؛ وعفَّروا وجوده، حتى أصبح رمادًا هامدًا:
    رمادُ أيامي
    نوافذُ مشرعةُ الأمد
    كسرتْ صمتَها
    ...
    وَمِنَ البَيْتِ سَرَقَتْني الثكناتُ
    وَرَمَتْني إلى الْمَنفَى
    أنا والله ُوَحيدانِ
    ثَمّةَ أَبَدِيّةٌ تَسْتَظِلّ بي
    ثَمّةَ نِسْيانٌ يُغادِرُني

    هكذا يُغيَّب المجدُ، كما يَغيب القمر في الليلة الظلماء، وتغيب الشمس في الكسوف الكلي، هكذا أرادوا...أن يحترق قَرصنا، ويختفي نورنا... "والأرض يباب، والوطن خراب" أو هكذا تمنوا، كسر القلم لرسم المجهول، وتوقيف الإمكان، وتغييب التبصر؛ وإذا كانت إرادة المجهول عمياء، فإنها حتما لا تدوم في الاستفزاز والإقصاء؛ لأن وراءها إرادة العقل القادرة على النفاذ إلى اختراق العُماة، وتحويل "الظلامية" إلى وعي معلوم، يستوجب فهم التحاور، وحوار التفاهم؛ لبناء صرْح المراد، علّنا نبلغ الغايات المرجأة؛ لذلك علينا أن "نتابع طريقنا غير ملتفتين. نحن نعلم ماذا نستطيع أن نعطي، ونعلم من يقف أمامنا" على رأي جوته Goethe. انطلاقا من أن "الدهر لا يبني الرجال صوارما إلا إذا نشأوا على الجمرات".
    هكذا، تتوزع رموز الهوية، والهوية واحدة في شعر باسم فرات، تتشظى على خريف العمر الذي سال على نهر الأرض، وأنبت مشاعر الهوس بالماضي، والأصل، والامتداد، لا لتقف عند الأم، الرحم الأول، وموطن الانبثاق والتبرعم، بل تجاوزتها وتعدتها إلى أعمق من ذلك، لجذور الانتماء وبداية البدايات، إلى جدته من أبيه، ليؤكد رسوخ الوطن في ذاكرته الكليمة، وانغماسها في أغوارها، التي حملها معه في مطارح الغربة:
    مهووس أنا بماضيها المورق أسى
    كانت تقص عليّ أحزان القصص
    وفي عينيها الرمادتين بزرقة خجولة
    تنبت القصائد
    تنبت القصائد في قريحة باسم فرات، فتُخضب أسىً على غصون ماض جريح، لاستدعاء ذاكرة واجمة سردتها الجدة، وهل الجدة غير الماضي الذي يمتد كسرعة تدفق الدم في الشرايين، والجراح التي يحملها في حقيبة سفره، ودمه المنسكب على حافة الذاكرة، وأروقة الاستذكار، كل هذا عبّر عنه المعجم اللّغوي من خلال الدال القرائني الذي يفيض أسى/ حسرات/ أحزان/ نشجت/ أحزانا، يتناسل منها الرّوع ويتبرعم:
    حين سألتها عن الغيوم في كلماتها
    نشجت حسرات وهي تؤكد:
    لعل بعض هذه السحب تهدِّئ من روع الدم
    لذلك جاءت لغة [باسم فرات] مطاوعة ترسم خيوط تجربته الشعرية، تنسج موقفه الشعوري، سكبت فيه ظلال الكلمة أسى الغربة، وحنين الوطن، ومناجاة الامتداد في جدته لأبيه؛ من صلب الترائب، لترسم الهوية التي تسكن الشاعر أينما رحل، الجدة مستودع الذكريات التي غطاها سيل الدماء في كل مسلك سابل:
    دم غزير في أروقة الذكريات
    وبعد اثنتين وعشرين سنة
    قالت: اشتقت لأبيك
    وبين بداية القصيدة ونهايتها تتنامى المشاعر وتمتزج بين الجمال وذبوله، بين الأنوثة وصمودها، بين الشوق والوداع، يختصر لنا فيها [باسم فرات] رحلة عمر طويلة عاشتها الجدّة/ الوطن/ الهوية، تتوزع مراسم الجمال في عينيها وشعرها، في مفاتنها، وأنوثة لا تذوى رغم الثمانين، ولا تضوى:
    في ثمانينها كانت
    تضفر شعرها بشمس شباط
    وكنت أنظر في عينيها
    عينان تشبهان ضفائرها
    غائرتان في الجمال
    أنوثة لم تغادرها يوما
    وجمال الجدة ليس إلاّ جمال الوطن، أو هي الصورة التي يحتفظ بها الشاعر عن هذا الوطن، وهو بعيد عنه يحمل له أشواقا، كما تبوح له جدته بأشواقها لأبيه:
    قالت: اشتقت لأبيك
    نهضت من نموها
    لم تتكلم إنما في عينيها بريق وداع
    استقر إلى الأبد
    وفي هذه الأشواق والوداع والموت ما يذكرنا بقصيدة المتنبي "في رثاء جدته"، لقد تقاسمت الجدتان الشوق للأبناء وهم بعيدون عنها، وكما استقبل المتنبي كتاب جدته وهي تشكو شوقها إليه وطول غيبته، أنصت [باسم فرات] لقصص جدته الحزينة وشوقها لولدها، وماتت جدة المتنبي شوقا وهي تقبل كتابه:
    لَكِ الله مِنْ مَفْجُوعَةٍ بحَبيبِها قَتيلَةِ شَوْقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصْمَا
    وهو الشوق الذي باحت به جدة [باسم فرات] لابنها، ثم برقت عيناها بوميض الرحيل والوداع إلى الأبد، وفي هذا التناص ما يوحي بالحالة النفسية للشاعر الذي عانى النوّى، والتنائي، وحمل الشوق لتراب الوطن وما ضمّ؛ وقد اختار [باسم] أن تكون جدته لأبيه لأنها "نزعة عرق" وجدر الانتماء، لعراق الامتداد والأصل.
    صحيح أن صورة الوطن والأم توحدّت لدى الأدباء المعاصرين، لكن الإبداع في الصورة الشعرية عند [باسم] امتد ليربط صورة الوطن/ الهوية بالجدّة، هذه الصورة التي كشفت عن عمق تجربته الشعورية التي ارتبطت بتميّز الإبداع، فالعلاقة بين الشاعر والوطن هي العلاقة بينه وبين أمه، تخيّم عليه لواعج الشوق والحنين، ويلفّه أسى البين والنّوى، وقد التقى [بسام] مع "أحمد شوقي" في استبدال رائع بديع بين مدلولين ثابتين في تركيب استعاري جمع بين مألوف وغير مألوف يوحي بالعلاقة القوية بين الأم/ الجدّة/ والوطن/ الهوية، فشوقي شبّه (مصر) حين ضاقت به على الرغم منها، فركب البحر قاصدًا الأندلس/ رمز المنفى والبعد بـ (أم موسى) حين ألقت به في اليمِّ، وسألت الله أن يكلفه، وبعثت أخته لتقص خبره:
    بِنّا فلم نخل من روحٍ يراوحنا من برّ مصرَ وريحانٍ يغادينا
    كأم موسى، على اسم الله تكفُلنا وباسمه ذهبت في اليمِّ تُلقينا

    وفي هذا التشبيه البليغ إيحاء بمكانة الوطن وحضوره القويّ في ذات الشاعر، ووفائه له، كما يرسم لنا معاني الشوق والحنين إلى الوطن، والحزن والألم وهما يسكنان الشاعر في منفاه، امتثالا لمقولة الآمدي "وإنّما استعارت العرب المعنى لما ليس له، إذا كان يقاربه أو يناسبه أو يشبهه في بعض أحواله، أو كان سببا من أسبابه، فتكون اللّفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له، وملائمة لمعناه".

    رحلة الاغتراب/تبديد الهوية
    إذا كان الأمن الثقافي والنفسي مطلب كل إنسان على وجه الأرض، فإن الشعور بالاغتراب مواجِهُ هذا المنحى، ومبايِن له، بخاصة حين تدخل الذات في رهان مع اللامتناهي، الذي يحاول أن يخلق بديلاً لكلّ إذلال واضطهاد، والدخول في غمار المجهول بكل ما يحمله من صفات الغربة والغرابة، وحالة التفكك النيتشوي Déconstruction Nietzschéenne. وفي ضوء ذلك نجد الشاعر [باسم فرات] قد أبان بلغته طريق الضيم بعبارات التوازي الدلالي في أوسع معانيه، التي ينبثق عنها سقوط المعنى في مقابل صعود اللامعقول من المواقف الحائرة، وكشوف المضمرات العميقة المرتهنة باستلاب الذات، والكشف عن اسودادها الداخلي أمام قمع الحياة، نظير ما يعانيه الإنسان من فقدان الشعور بالانتماء، وعدم الإحساس بإنسانية الإنسان، وغياب المعنى، بعد أن تحولت الذات في نظر الآخر إلى شيء، وتغيَّرت العلاقات إلى تشيؤ، وتقلّب الوجود إلى تذرر، وانسلخ فيه الإنسان، وتنكر لإنسانيته، واستحال إلى أشياء جامدة، اكتسبت صفات الاغتراب، كما في قصيدة حلم مغتصب:
    سنوات طويلة أغرقني المنفى
    وأنتِ ربطتِ عَلَقًا أخضر في شبَّاكِ وليِّكِ المعصوم
    ونثرتِ شعركِ فوق ضريحِه...
    كل منفَى يطردُني إلى آخر
    وكنت أستقوي على كل هذا بمنديل مسحتُ دمعكِ فيه
    يوم طاردنا العسعسُ، غبتُ في مدلهمَّات الحياة
    آويتُ غربتي في أسمالي
    في غمرةِ تشُّردي بقي صوتكِ
    دليلي على أنك حلمٌ اغتصبَه منِّي الرحيل
    قد يكون في هذه اللوحة المأساوية ما يلوِّح به الشاعر [باسم فرات] من تساوق في نبرته الحزينة، المعبرة عن تشرُّده بلا مأوى؛ هائما، تائها، ضائعا، لا تُعرف له وجهةٌ، ولا مجثمٌ، وبين تضاعيف هذا التشتت، والتيه في إضلالة الطريق، وتغوية هويته في وطنه المغتصب، يتضافر تناظر القرين المشترك لفَقد روح الانتماء بما يحتمله النص من عمق في الشمولية الدلالية، ويظهر هذا التناظر الدلالي في صور إضاعة الهوية: (وأنتِ ربطتِ/ ونثرتِ شعركِ/ دمعكِ فيه/ بقي صوتكِ /دليلي على أنك/ حلمٌ اغتصبَه منِّي الرحيل) في مقابل ما يتلاحم مع معاناة الشاعر في هذه الصور: (أغرقني المنفى/ كل منفَى يطردُني إلى آخرَ/ وكنتُ أستقوي/ آويتُ غربتي/ في غمرةِ تشُّردي/ بقي صوتكِ دليلي)
    في النص ضميران ينبضان بالأنين والوصَب، الأول في ضمير [أنتِ/الهوية]، الغائرة في قلب الضمير [المتكلم/الشاعر]؛ وكأنهما جسد واحد، مجبر على الضياع في جوف فَيَافِي الضلال، وعلى الرغم من ذلك فإن كليهما ينبض بوقاية الذاكرة؛ الساكنة في الجسم، كما يسري الدم في الوريد، كونهما معًا يمثلان الأصالة التي تتفيأ بالغشاء بين المفاصل والعضلات، وكلاهما أصبح "يتمَزّق من الوجع في اتساع خرقه، ومساحات من الكآبة والتفتت، ولا شيء يشبه هذا الوجع، غير التبدد والتشتت" ، وهو ما جعل الشاعر [باسم فرات] يبحر في ذاكرة العراق؛ ويسبر عمق التاريخ، ويكتنه نبضات قلب الزمن، متأسيًا بما أفرزت الحضارة البابلية من وَجاهة وأمجاد، بوصفها أقدم ما أنتجه الإنسان، وما أبدعته مخيلته، وقد أجمع الباحثون والمختصون في التراث على أن أقدم الإبداعات والفنون تعود في الأصل إلى العراقيين، و"أولى محاولات في تاريخ الإنسان للتعبير عن الحياة وقيمها، ومعانيها، ومشاكلها، ومآسيها، بأسلوب الفن الأدبي."
    ولعل بريق تلك الذاكرة الأسطورية بدأ في نظر [باسم فرات] يختفي ويتلاشى، لتتحول عراق الأمس، ملحمة الشعراء، وقبلة العشاق، إلى كومة رماد، فالعصافير التي كانت تشدو في حبور، وتنقر وجدانه، وتطل عليه كالنجم الطارق يسترشد به، ويبعث فيه روح النشوة بالحبور، سرعان ما تتحول إلى استطارة، فيطير الحلم في الآفاق، وينقلب الوجه الحضاري المشرق للعراق إلى رماد، ويخفت النور، ويتبدد الضوء، وتدلهم البشرى التي تراءت في الأفق البعيد، ويتحول الجَذْل إلى نكبة، بعد أن بات الموت يُلقى في كل مكان، وترتد جموع البشر إلى جثث، والوطن يغرق في نزيف موتاه، والعصافير تُدْبِر عن وجهتها:
    عصافير تنقر نافذتي يوميا
    تكتب قصائدها وتطير
    تاركة إيايَ
    أهمس للرقص أن يستمر
    أنا العاجز عن التحليق...
    أترك كل شيء
    بانتظار عصافيرَ تنقر نافذتي
    تكتب قصائدها وتطير
    إن اجتماع (العصافير والقصائد) هو التئام الترقب بالأمل، وتآلف الروح مع الحياة، وهي الصورة المنشودة لكل إنسان لولا صورة التقابل مع ( أنا العاجز/ أترك كل شيء)، بانكسار الذات قبل أن تصيبها الضربة القاضية، وتنزل بها قاصمة الظهر، وهي الحالة التي تتأرجح بين الممكن والمستحيل، والبحث بصيغة التمني، والقمع في صوغ التغييب القسري فيما يضمره المعنى الحقيقي والنفسي للأنا الجمعي في صورة تقابل ضدية، بوصفها الصورة الأكثر انتشارا في شعر [باسم فرات] حيث الطباق والمقابلة يعدان سَمْت الرؤية الشعرية عنده، وهما معًا يشيران إلى البحث المستمر عن الحلم المفقود؛ في مقابل غدر الزمان الذي حول المجد من حال أجدر إلى حال أردأ، حتى أصبح العراقي مطاردًا، أو مسلوبًا، كما في هذا التوازي الدلالي بين الغربة والبحث عن الذات؛ بما يشبه الحالة القائمة على تماثل ضدي بين الشاعر والقدر المحتوم في معنى الاغتراب:
    غريبا أصافح الريح الغريبة
    ثم نفترق....
    أبقى أبحث عني
    عن ذكرياتي أسأل الطرقات
    الطرقات التي لم تحتفظ بخطوات الغريب
    أمر نسيما في بلاد العواصف
    فيُنْكِرني الجميع
    لعل القارئ يدرك في هذا المقام أيَّ جرح يحمل الشاعر، وأيَّ ألم، وأيَّ نوع من المعاناة يعاني؛ إنها معاناة الانسلاخ من واقع الزمن الموبوء، المستلب، والمغترب، فالشاعر – في تقديري - يتمرد على الزمن الآني المتهرئ الذي تنصل من قيمه ومبادئه الهشة، ويتوحد بالزمن الماقبلي [أبقى أبحث عني/عن ذكرياتي] الحافل بالحب والبطولات، وليس غريبا أن ترتد الذات إلى ماضيها، إلى القلب والذاكرة، تتوخى ولادة الفرح من نهر الضياء الذي لا ينضب، وتتفيأ بدفء ظلاله التي لا تنفد، ونحن نوافق الشاعر إحساسه بالخيبة، وشعوره بالاغتراب في زمنه الآني؛ لأننا نرفض أن ننشد الخلاص في "الماقبل الذاكراتي"، بوصفه الأكثر إشراقا، ونبلا، وضياء، وأصالة. ولكن بالمقابل، ينبغي أن يستلهم فضاءه الأنبل بغية استشراف "الزمن/ الحلم" بكل ما يحمله من إمكانات رؤياوية، على نحو ما جاء في قصيدة أمازونيون:
    الأمازونيون
    بنوا لي حُلما يتوسط أنهارهم،
    تحته شلالاتٌ
    نبضها قوارب مليئة بأصوات طيورٍ
    أزاحوا أنين الماضي بعيدًا
    وعلى أطراف الحلم زرعوا آسًا
    قال كاهنهم هو ما تشتاق إليه
    من أرض سومر
    الأمل ولادة جديدة يستشرفها الإنسان، بالنظر إلى ما بداخله من أحلام يسعى إلى تحقيقها، والشاعر [باسم فرات] من هذا النوع الذي يحمل الكون السومري في ذاكرته، ومجد الحضارة البابلية في قلبه، وليس غريبا في ذلك أن يكون وريث أمْجَد حضارة على وجه الأرض يافعًا؛ من منظور أن كل كائن بشري بحسب أدغار موران Edgar Morin يحمل الكون في داخله، ويمكننا القول أيضا إن كل فرد حتى الذي يحيا أكثر أشكال الحياة بساطة، يشكل بحد ذاته كونا، فهو يحمل داخله تعددياته الداخلية، وشخصياته الافتراضية، وعددًا لا يحصى من الشخصيات الخيالية، ووجودا متعددًا في الواقع والخيال ، غير أن تثبيط أي حلم¬، والتنكيل به، يصعب تدميره، أو محوه؛ لأن الإنسان بضميره الجمعي لا يعيش ليحيا، ولكنه يعيش لتحيا استمرارية هويته، وتواتر ذاكرته من خلال تعاقب الأجيال بالذود عن الشرف، والدفاع عن الأرض، وحماية الوطن، وهي السمة التي لا ترتكن لها الحضارات العريقة، اعتقادا منها أن كل بداية لا تجثم خلفها إلى الأبد، ولكنها تنهض في ناصيتها باستمرار، شأن الحضارة العراقية التي توالت عليها الانكسارات ولم تذعن، وتعاقبت عليها العثرات والمحن ولم تخضع، طال الزمان أو قصر، بفضل إرث نخوة العراقي، وأصالته، بخاصة:
    حين يضع العراقيُّ نظره على قلبه؛
    ....
    علاماته نهران دافقان على يمينه وشماله
    في جبينه تراتيل معابد بابلية
    تسري الرياح تحت قدميه،
    معبأة بمواويل القرى
    يوم استنجد بها الملوك فطردتهم؛
    خشيةً على عذارى النخيل
    أنا العراقي الذي استظلت بظله
    حناجر المغنين
    سأمسك ذكريات طهارقا*
    ......
    من أن تغادر حقول الماضي
    خساراته أمام شكيمة أسلافي وعنفوانهم
    أولئك الذين رضخ المجدُ عند أقدامهم ساجدًا
    فأهَلْنا عليه الخراب
    تبدو الصورة الدالة في هذه المقطوعة معبرة عن معاناة الضمير الجمعي للعراقي الأصيل، فيما بين الغريب والاغتراب؛ إذ الصورة الشعرية في مدلولها الداخلي تتشكل من مجمل حدوس ومشاعر سبقية، يكون المبدع قد اكتسبها من حافظة ذاكرة هذا الضمير الجمعي، وفق معطيات تفاعل محصلة الخبرات، وتعدد التجارب - حتى ولو كان ذلك دون وعي منه - وتبعًا لذلك يكون سياق الذاكرة - الشعوري واللاشعوري - هو المتحكم في عملية الخلق الفني الذي يعتمد على التركيز والتكثيف، حيث تبقى الصورة الشعرية عملًا فنيًا يشير إلى عظمة الخيال المبدع الذي تنتجه الذاكرة وتنميه، "وإلى العاطفة السائدة التي تلونها" القدرة الباطنية الخفية؛ من أجل الكشف عن جوهر هذه الصورة التي تعبر عن وجودها بالخلق الفني. ، والحال هذه أن [باسم فرات] ينطلق من مآثر أمجاد الحضارة بما كان يراه ممتدا في وثاقة العراق وقوته؛ لينطلق من مرجعية ثاوية في لاوعيه، تتداعى بفعل توالي الأحداث المؤلمة، فيعيد المبدع أصالته في إسقاطات فنية، من منظور أن كل شاعر على وجه التحديد تتجلى في إبداعاته رؤى تكون امتدادًا لأصالته، على الرغم مما قد ينتابه من هزات الآخر المحطمة، ومع ذلك تجد نفسها مطالبة بتجديد نفسها وصد انسداد الوضع:
    قلوبنا المشعة على الجهات
    انتظارنا السرمدي للبهجة
    المرايا
    محطات تترقب؛ بشغف بالغ الشفافية
    طلعَتَك؛ لتستنشق رائحة ملِكةِ الليل
    أرى رقص المرايا فرحا بجلوسك الملائكي أمامها
    كنت أسمع غناءها
    على الرغم من قسوتك
    وأنا أغار من المرايا...
    صراخ الروح وهي تدق أسواركِ العالية
    جنون القلب الذي تاه في غاباتك
    من تموز البابلي وحتى قصيدة السياب الأخيرة...
    يا من يهاجر إليها السنونو
    ويبكي من هواها الحمام
    أنوثتك اختزال
    شفافيتك أزلٌ
    وعذوبتك سديم
    من ينابعك شرِب الحلاج، وابن عربي، والسهروردي، وجلال الدين الرومي
    فكانوا صرعى فتنتكِ
    ورُسلَكِ إلى الخلود
    لا أحد ينكر، أو يتنكر لهويته بوصفها مسكنه الأبدي، ولا يمكن له إلا أن يكون مرآة ذاكرته، تمتح منها الأجيال رحيق ما تفرزه عطايا التشييد من متون التجارب المكتنزة، تجسدها أسماء العبارات الفنية؛ لأن أعظم الحضارات هي التي تولد من رحم الكلمات، وتبعث في فضاء الفن الذي هو من أروع بقايا الحضارات الإنسانية، التي تضمن لمبدعيها الخلود والبقاء على الدوام؛ وبغداد هي مثال لهذه العظمة، وحتى وإن زالت الحضارة البابلية فقد تركت لنا آثارها المشعة والمتمثلة في أعظم لمحة تناولت المصير الإنساني في استكشاف قواه الخفية، ومصارعة القدر، ومقت الفناء، وحب الحياة، والبحث عن الخلاص، وطلب الخلود
    هدر الذات/ وميض التطلع
    ما من انتماء إلا ويستند إلى حقيقة راسخة، تحوز على رضا الذات في علاقتها بالمصير المشترك؛ للموجود في الوجود، المحايث للواقع المتعاقب، حيث الذات دوما في علاقة سببية مع ذاتها المتتالية؛ بوساطة تضافر الضمائر التي تمتلك فاعلية الإنفاذ، وبهذا المنظور يكون الإنجاز شرطا ضروريا لفعل الذات المسئولة عن صوْن حقائق الهوية، والإقرار بالتشييد عبر توالي الأزمنة، وفي الواقع؛ وفي خضم ذلك لا تصبح الذات سببا لفعلها إلا بما تتملكه من رصيد مرجعي، يسعى إلى توافق أنطولوجي؛ أي الوجود بما هو موجود، على وَفق النسق الثقافي المعمول، المتعلق بإنجازات الذات في حال نجت من القوة التدميرية من الآخر المستبد؛ بدافع ردع الذات، وسلب خيراتها، وهو ما قد يعترض سبيل الذات، ويعطل مسارها بأذى الآخر، بوصفه المصدر المسبب للمعاناة التي تتجاوز أية نتيجة تسببت بها هذه الذات، أو تلك، ومن هنا يجد الآخر متنفسا في عدوانيته على الذات، مسببا لها الأذى والدمار، منظورا إليها على أن هذا الضرر يشكل جزءا من غواية الحياة ، التي تفتح شهية العدوان، يكون الرابح فيها الآخر؛ ضمن سياق العقوبات الممنهجة في حق الذات، وهو ما يمكن بحسب - نيتشه Nietzsche - أن يمحو الحقيقة التي تخص حياة الذات؛ بالعنف المبرمج، وبمسوِّغات الغاية والوسيلة؛ من منظور أن تأسيس فكرة الضَّلال تجبر الظالم، الباغي، على تحويل ذلك العدوان إلى داخل الذات نفسها لاستنبات عالم داخلي شنيع، عالم مفكك، يتكون من ضمير مثقل بالإثم؛ سعيا إلى توجيه ذلك العدوان ضد الذات باسم قيم القوة الناعمة: [الحرية/العدالة/الديمقراطية] سرعان ما تبدو هذه الشعارات صفاتٍ مجردة، ومرتهنة بسلب الإرادة، وبالقسوة النفسية، والعسف القمعي، الذي يكمن في جنون قوة التوغل بالوحشية المفرطة؛ لإدراك تغيرات ذهنية الذات، باستراتيجية الحيوية الرَّافِهة في ظاهرها، باغية في طويتها، بالنظر إلى ما تبنته الإيديولوجيات الاستعمارية المخاتلة، والنظريات الفكرية المضللة من مثل ما عبر عنه إنغلز الذي يعرف العنف بكونه مسرِّعًا في عملية التنمية الاقتصادية
    وفي ضوء ذلك، كان رصيد عنف الآخر على العراق، الذي حمل معه القوة التدميرية، وقْتيًا، على الرغم من أنه هجَّر الناس، وشتتهم، واغتصب الوطن، وسلب الأرض وما فيها، ونهب الخيرات، وحاول أن يفكك المجتمع، وأن يجعل من الوعي استذلالا، ومن الضمير وهْنًا، يسبح في غياهب النسيان، لاسيما فيما يتعلق بالفكر والثقافة؛ ولكن هيهات أن تنكسر الحضارة الراسخة، التي تتمتع بمجد تليد، اعتقادًا منا أن أيَّ قوة مستبدة، مهما تغطرست، على كرهٍ من العراق في توالي الحروب، لا تضرب إلا في حديد بارد؛ لما تتمتع به حضارات بلاد الرافدين العريقة من بسالة.
    صحيح أن خيارات الذات كانت محدودة في ظل الارتكاسات المتعاقبة على العراق، وأن الخلاص من المضايقات، والإكراهات، والحروب المتوالية لم يكن من الأمر الميسور دائما؛ إذ في كل مرة لا تتخلص من كبوتها إلا بشق الأنفس؛ نظير فعل المحنة التي عانت منها سيرورة نسيج الذات، وهي تبدو أكثر تشظيًا، سرعان ما تستعيد عافيتها، وفي مناخ كهذا استطاع الشاعر [باسم فرات] أن يرسم إرادة القوة المدمرة في مقابل التقاعس عن أداء القائمين على حماية الوطن في صورة؛ (الحروب التي تشتهيني/ أظل وحيدا/ أحصي أخطائي) كما في قوله:
    أيامي تتناسل سوادًا
    ها أنذا
    أطلق المطر والخضرة من خريفي
    بينما الحروب تتفاقم فيّ
    تبتل ذاكرتي بالمنافي
    ......
    الحروب التي تشتهيني دائمًا
    .....
    أمام الله، أظل وحيدًا
    أحصي أخطائي
    الذي في يميني أكلته الطائرات
    والذي في شمالي ابتلعته السواتر
    كيف سأعانق الضوء
    ظلي يراودني على نفسي
    فأختزل الجنون
    أرمي لسنارتي الحماقات، فتنهش الأسماك كلماتي
    ...
    أتذكر أنني بلا وطن
    وإن الحروب ما زالت تلاحقني وتغيّر أشكالها
    والشظايا سعاليَ المزمن
    بساطيل* الحرس مَسَخَت ذكرياتي
    كل مافي راحتي رمادُ
    يبدو أن شاغل الشاعر من اليأس المتشظي في الواقع، بات يُشعره وكأنه يعيش في دوامة من رعب الحروب، التي سببت له - بوصفه الضمير الجمعي للمجتمع العراقي - اضطرابا من ردىً، وخراب؛ نتيجة هذه الحروب التي أحدثت شرخًا في مكونات الذات، وبنية النَّاص/العالم، إلى الحد الذي غير من المدركات الملازمة للمستجدات التي تقتحم كيانه؛ الأمر الذي أسهم في فقدان توازن هويته، ومحاولة إعادة تكوينه، بطريقة راديكالية، تسعى إلى الوصول بكل ما تملك من وسائل اقتلاع جذري، وبسرعة، من منظور أن مصلحة الآخر المجدية، والعقلية النفعية الرأسمالية، تُضني ملكة إبداع [باسم فرات] وتكدِّر دلالات الاغتراب الوجودي، وأن كل ما يحرك صوره الفنية بوعيه المدرك مصدره الفهم الحقيقي لمصير الذات من مشاعر القلق السوريالي، هذه الصورة المعبرة التي باتت ترافق المجتمع في رحلته إلى المنفى الاضطراري، وكأنه قدر محتوم، هكذا بادل الشاعر جنون حب الوطن بجنون المنفى، والاختلال الهستيري؛ المفضي إلى المجهول، فيما يشبه صورة الانعزال القسري للإنسان نظير ما آل إليه الوطن، من خلال الشعور بالوحشة، والخوف على المصير، وفقدان الاتجاه، بوصفه أحد أهم النماذج المتحققَة "لانهيار الهيكل الثقافي للمجتمع، الذي يحدث بصفة خاصة حينما يطرأ انقطاع حاد في التواصل بين الأهداف الثقافية وقدرات أفراد الجماعة، تلك القدرات التي حددت بما يتفق والهيكل الاجتماعي، وبحيث يتم إعمالها وفقا لهذا الهيكل" . ولكن، مع كل بلوى هناك بصيص من الأمل يبرق في الآفاق حتى لو كان ذلك باحتراز، طالبا الأمنية بتوقٍ حدَّ التضرع، كما في قوله:
    باب الرجاء
    تذرف النسوة أمنياتهن ببذخ
    ليحصدن أملاً يتَعَيَّشْن عليه
    ....
    أنا كعادتي أستحم بالفرات
    وأتأمل البيداء موطن الحرية
    في النص شعور بالتمني، والشاعر قمين بهذا الاسترحام، وكأنه يخاطب القدر الذي يقضي به الله على عباده بالاتقاء فيه؛ لما في دلالة [الرجاء] من التوسل والاستعطاف بالتضرع، بعد أن أثقل كاهله التغرُّب، والهدر النفسي، والنزوح القسري، وهول الآخر العسِف، والحال هذه عندما يشعر الإنسان بالاغتراب والتهجير القسري، وما يصاحبه من أذية الفزع، يدرك في عالمه الداخلي أنه بحاجة إلى من يؤمن له قدرًا من الحياة الكريمة، ونصيبًا من المأمن الذاتي، ويدله على تأمين المصير حتى يشعر بالوجود الحق، بوصفه أحد المرتكزات التي تحقق كينونة الذات، على حد ما عبر عنه باسم فرات:
    دلني...
    كيف أرسم بروقي فوق سريركَ
    دُلَّني
    دُلَّني أيها السواد
    وعندما ينشد [باسم فرات] الواقع المشرئب فهذا يعني في أبسط معاني الحياة أنه يطلب الكرامة، التي تقع في أولويات المعاني الإنسانية في بعدها الأشمل الوجودي، وإذا كان الشاعر قد أفاض برؤاه في معنى الأسى والأذية التي تلاحقه أنَّى كان، فإنه قادر على التطلع إلى ما هو مشرق، ويقف ضد كل ما ينتابه من شقاء الضمير الباعث على اليأس والقلق، وعلى الرغم من ذلك فقد بعث هذا التوجسُ التَّنظرَ، والتأمل فيما يتجاوز به الخوف من المصير، والشروع في التيَمُّن على أنه مفتاح أساسٌ لفهم الحياة، وما ينتظره من إشراقة واعدة، ولا غرابة في ذلك مادام الأمل قائما في الحياة على الدوام؛ مهما اغترب الإنسان على العالم؛ لذلك نجد الشاعر [باسم فرات] حريصا على الدفاع عن الكينونة المنشودة بوثوق الانتماء للوطن، ومن ثمة، فإن وميض التطلع هو بوابة الالتماس بالإنجاد والإغاثة من القدر المحتوم، وهي الصورة التي نقلها في صورة العرافة الحاذقة:
    العرافة الحاذقة؛ سليلةُ التنجيم وقراءة الطالع
    المتَّشِحةُ بالأخضر في مرقد الوليِّ
    تمسح بكفَّها بطونَ فتيات حلَمن بالأمومة
    وأخريات حلمن بزوج يطرد شبق الليل
    وعفريتَ العنوسة.
    تزداد خزائنها وهي تؤمِّل النساء بخزائن سماوية
    تَحملُهنَّ بقوارب الأوهام إلى الشمس
    وتُطعمهن آمالاً أجنحتها من ثلج
    ليست [العرافة] هنا إلا ذلك التنبؤ بالمستقبل، والترقب الواعد في مقام الإيمان بالإنجاز، والتقوى، وحضرة الولي الصالح؛ في إشارة إلى الصوغ الذي يريد إيصاله بصيغة التأمل، والشاعر حين يوظف العرافة مقرونة بالصبايا، وحين يرسم صورة الصبايا وهن يلجأ إلى المبتغى من التنجيم على أنه الأمل الموعود، فإنما يبتغي التحول من وضع أصبح عصيا على الوجود، وجثم على الرقاب؛ إلى من يدعي القدرة على استشراف المستقبل حتى لو اقتضى الأمر بالتنجيم، وهو بذلك يحاول أن يطرق باب الواقع المأمول في صورتي الصبايا وهن يستغثن بمجيب دعوة الداعي؛ والشاعر في مثل هذه الصورة يحاول أن يتجاوز الواقع المعمول فيما وصل إليه تطلع المرأة في مقتبل عمرها، بوصفها رمزا لتجدد الحياة إلى الواقع المأمول بعد أن فقدت الأمل في الخصب؛ سعيا إلى معانقة إشراقة نور التجلي، ورغبة في دفع نبض الحياة بالولادة المشرئبة لعراق الغد المشرق، عراقُ إحياء الحضارة بانبعاث الحياة بالولادة المرتقبة من بطون الصبايا، رمز بطون أرض العراق الماجدة، بعد أن يئسن من جراحات السنان الغائرة، لذلك يحاول الشاعر أن يتطهر بالاستغاثة مما أصابه من رزايا المنفى والإجلاء:
    يا إله الغرباء
    أنا غريب
    عُدَّتي منفى
    وأحلامي وطن مطعون في الخريطة
    كلما فتحت بابا
    زحف السيل مترا
    والريح تُشهر العتمة في وجه الصباح
    دلني
    على أرض لا تجرح مثل بغداد
    أرض تنبت الشعر فقط
    نهرها قصائد لا تجف....
    يا إله الغرباء
    آلة التنجيم أغرت السفن بالغرق
    لا أمل للغرباء ببلاد خطوا عليها طفولتَهم
    لا أمنيات في البلاد التي تجهل ماضيهم
    هل ترى عرائي
    في صحراء يتوهمها الجميع بستانا
    يا إله الغرباء دُلَّني
    على أمٍّ
    فوطتها دموع
    منديلها حقول ريحان،
    وعباءتها حِداد
    يجسد الشاعر في هذا المقام معالم الضياع من أيقونة عراق المجد، بتلاشي الذات، وفقد بوْصلتها من وطن تم اغتصابه قسرًا، ولم يعد يحمي أبناءه من جور الآخر المستبد، الذي أضاع الهوية، وبدد الرؤيا، وفي خضم ذلك استحال السبيل المنشود، واستكان للمنفى بغيًا، وجورًا، وضيْما، وقهرًا، وعلى الرغم من ذلك فإن صورة العراق تبقى عالقة في ناصية الشاعر، بوصفها بريق تلك الذاكرة الأسطورية حتى لو بدا وميض وجدانها يختفي ويتلاشى، ومع ذلك تبقى بغداد الأمس، ملحمة الشعراء، وقبلة العشاق؛ وبغداد إذ تمضي إلى سبيل البلاء تترك في إثرها ضياء الكلمة، وصوت الشاعر، وهذا يعني قلب المعادلة؛ إذ تتحول من حيز التنكر حين [تجهل ماضي سلالتها كونها مطعونة في الخريطة]، إلى الحيز الإيجابي "الانبعاث"، اعتقادا من الشاعر أن أيقونة العراق - أعظم الحضارات - هي التي تولد من رحم الكلمات، وتبعث في فضاء الفن الذي هو من أروع بقايا الحضارات الإنسانية، التي تضمن لمبدعيها الخلود والبقاء على الدوام. وبغداد هي مثال لهذه العظمة، وحتى وإن زالت الحضارة البابلية فقد تركت لنا آثارها المشعة؛ والمتمثلة في أعظم إلماعة، تناولت المصير الإنساني في استكشاف قواه الخفية، ومصارعة القدر، ومقت الفناء، وحب الحياة، والبحث عن الخلاص، وطلب الخلود.

    قائمة المصادر والمراجع
    أولا – الدواوين:
    1. أشد الهديل، دار صهيل للأنباء والنشر، القاهرة، 2017
    2. أشهق بأسلافي وأبتسم، دار الحضارة للنشر، 2014
    3. أهُزُّ النسيان، دار صهيل للأنباء والنشر، 2017
    4. خريف المآذن، دار صهيل للنشر والأنباء، القاهرة، 2017،
    5. فأسٌ تطعن الصباح، دار صهيل للنشر والأنباء، القاهرة، 2016
    6. مبكرا في صباح بعيد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سليلة "الإبداع العربي" 2019
    7. مَحبرة الرُّعاة، دار صهيل للأنباء والنشر، القاهرة، 2017

    ثانيا - المراجع
    1. إدغار موران، النهج، إنسانية البشرية الهوية البشرية، ترجمة، هناء صبحي، هيئة أبو ظبي، كلمة، 2009،
    2. بختي بن عدوة، ظاهرة الكتابة في النقد الجديد، دار صفحات، دمشق، 2013
    3. جوديت بتلر، الذات تصف نفسها، ترجمة فلاح رحيم، دار التنوير للطباعة والنشروالتوزيع، 2014
    4. حنَّة أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس، دار الساقي، 1992
    5. ديفيد هارفي، حالة ما بعد الحداثة ـ بحث في أصول التغيير الثقافي، المنظمة العربية للترجمة، 2005
    6. طه باقر، تعريف بأدب وحضارة وادي الرافدين، أفاق عربية، ع 6
    7. عبد القادر فيدوح، الاتجاه النفسي في نقد الشعر العربي، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1992
     إراءة التأويل، دار صفحات، دمشق، 2009
     معارج المعنى في الشعر العربي الحديث، دار صفحات، سوريا، 2012
    8. محمود درويش، سميح القاسم، الرسائل، دار العودة، بيروت، 1990
    9. Bill Ashcroft, Gareth Griffiths and Helen Tiffin, Key Concepts in PostColonial Studies, London and New York: Routledge, 1998





      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 9:07 am