انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    لؤي قاسم عباس: باسم فرات يَشهقُ بِأَسلافِهِ وَيبتَسِم ُ

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    لؤي قاسم عباس:  باسم فرات يَشهقُ بِأَسلافِهِ وَيبتَسِم ُ  Empty لؤي قاسم عباس: باسم فرات يَشهقُ بِأَسلافِهِ وَيبتَسِم ُ

    مُساهمة  Admin الأربعاء يناير 27, 2021 7:37 am

    باسم فرات يَشهقُ بِأَسلافِهِ وَيبتَسِم ُ

    لــُؤي قاســم عبــاس

    من أزقة ِ كربلاء الضيقة إذ الأبنية القديمة التي تحيط بالمرقدِ المقدس، تتقارب البيوت حتى يخيل إلى الناظر أنها ترتكز على بعضها البعض ولو سقط إحداها سقط الآخر من تلقاء نفسه, أرض كربلاء التي تتسمُ بالرخاوة تجعل البيوت تغرز بالأرض وتتدانى فيما بينها ولعل صغر حجمها ينشأ أُلفة وعلاقة حميمية بين الجيران لذلك ترى الجار يدافع عن حرمة جاره حد الموت وهذا ما جعل والد شاعرنا باسم فرات يقدم نفسهُ قربانًا وهو يدافع عن أمراة جاره تاركًا ابنه الوحيد يتيمًا يدفع ثمن تلك الشهامة.
    لم تكُن هذه المدينة قد خبِرت ويلات الحروب ولم تألف صور الدمار فكان اليُتم ُ حالة نادرة، لذلك فقد غمرته المحبة وتلاقفتهُ الأيدي لا سيما وأن أباه قتل في موقف رجولي، فكان لزامًا على أبناء تلك المدينة أن يردوا الدين بوافر من المحبة لولدهِ الرضيع، وفعلت هذه الظروف فعلها في ذاكرته وهو ينتقل مع والدته إلى الأضرحة المقدسة ويدخل البيوتات الكربلائية التي أغلبها هي مجالس دينية لا تخلو من بث الثقافة العامة. الذاكرة مزدحمة في رأسه لاسيما وأنه احْتَرفَ فن التصوير الفوتوغرافي منذ صباه ليعيل عائلته. فنشأت علاقة حميمية بينه وبين الصورة وما أثرى ذاكرته هو قراءته التي أدمن عليها منذ صباه فكان مثابراً في مطالعة الشعر العربي. وربما كانت رغبتهُ في تكثيف الصور الشعرية هي التي حملته على أن يوغل في قصيدة النثر ويتمرد على بحور الخليل وتفعيلات الشعر الحر ليبقى معتمداً على جرس موسيقي خاص به وبما يمتلكه من لغة شفيفة عالية تجعل القارئ يقترب من أنه يقرأ قصيدة النثر بأبهى صورها.
    وفي حقيقة الأمر أن كثافة الصورة الشعرية هي نتاج طبيعي من تلاقح الذاكرة والمخيلة وربما هناك تفاعلاً كيميائياً فيما بينهما فلا يمكن للنص الأدبي أن يستغني عنهما فيتفاعلان كلاهما في بودقة الفكر لينتجا اللوحة الفنية والأدبية على حد سواء وأن أي فعل إبداعي هو نتاج ذلك الخزين المرتبط بهما وهذا ما سنحاول أن تطرق إليه.
    في مجموعته الشعرية الموسومة "أَشهقُ بِأَسلافي وأَبتَسمُ" والصادرة من دار الحضارة للنشر في القاهرة، يعكس لنا الشاعرُ صورًا شعرية تجعل القارئ يتأمل وكأنه أمام لوحة فنية واضحة المعالم، حتى تكاد تؤمن بأن الشاعر قد استبدل قلمه بفرشاة وراح يبدع في تصوير ما يجول في خاطره، وتستطيع أن تتلمس أثر الطفولة، وذكرياتها المريرة المتصلة بحالة اليتم المبكر التي عصفت بحياته، وصيرته شاعرًا مثقلاً بالهموم حد الوجع، وتكاد تتكرر تلك الصورة في مناسبات عديدة حتى إذا ما حاول الشاعر أن يمارس الحب تذكر ذلك الدرس الذي حفظه عن ظاهر القلب ( أبي / قتلته ُ امْرأَةُ / هكذا / رددتُ و أنا أحاولُ بِلا جدوى / أَن أُزيحكِ من مُخَيَّلَتي ) (1) ويعود يئن من وجع ذلك الإحساس المرير ( أنا يَتيمٌ أيضًا ..هكذا أُرددُ للتخفيف ِ عَنْ خسارتي / أَنتِ أفجعُ خساراتي ) وأدعو القارئ أن يتأمل ذلك الطباق الجميل الذي وظّفه الشاعر في قصيدته "مددتُ يدي" بين أعوامك البيض وسخام سنواتي، فهو يوحي بطفولة ٍ معذبة تخلو من المرح والفرح ( مَدَدْتُ يَدِي / كانَ يُتمي يسبقُني / خَشِيتُ أنْ يَبْتَلَّ دَلالُكِ / بِدُموع طفُولَتي / أن ترتبك َ أعوامكِ البيضُ / بسخامِ سَنَواتي ). وتكون الصورة مكثفة وأكثر وضوحًا حين قال ( كانت خُطاي َ تتعثَّرُ في " عقد السادةِ" / وَفَقري يُنشبُ آهاتهِ في " حي الحسين " / أَتَأَرجحُ باليُتْمِ والمحبة ِ / وبلهفتي أتبعثرُ / طفلٌ لا جيوب َ في ثيابه / ينظرُ لأقراطك ِوالحلوى / التي طالما هَجَمَ عَلَيها بِنَظراتهِ فقطْ ... كلما تعثرتُ بقبر أبي / طرقتُ بابكم وهربت ُ) قد تكون الذاكره مؤلمة حين تتعلق باليتم والفقر المرافق له في معظم الأحيان ( كنتِ حُلمًا أستعيذ به من كوابيسي / وأمني أسمالي بكلِّ خيالِ من أوجعهُ اليُتْمُ والأفلاسُ / حُلمًا حاولتُ أنْ أهزمَ بهِ طفولتي وصفعات المعلم ِ / أعلى عَتَبةِ دارِكم وما ترك َ ماءُ النارِ على أيامي).
    وكأي شاعرٍ ترتبط ذاكرته بالمكان المحيط به، من الملاحظ أن صور الطفولة لديه قد اقترنت بالمزار المقدس وما يدور حوله من مشاهد حمل الجنائز والبكاء الذي يرافقه ولا يخفى على القارئ ما هي مدلولات المزار وما توحيه من حالة الحزن التي تنسجم مع نفسية الشاعر باسم فرات الذي يعاني الفقد ( المزارُ المُبتلُّ بِأنينِ الأرامل / حيث طفولتي تُسابق اللهوَ, / والجنائزُ تَمُرُّ/ نشيجٌ يخترق براءَتي ,... بكاءٌ مَكتومٌ لكنَّه شامخٌ , أُحييهِ بِانتباهةِ طِفل ) ( المزارُ الذي عاشوراؤهُ تتنفسني / في باحاته يرقدُ أسلافي / وبطولاتهم حَكايا تُجيدُ تزييَنها النساءُ بالدموع )
    وفي صورة تحمل في ملامحها الكثير من التضادات بين الحب والحزن التي تتوشح فيه المدينة ليركن بعيدًا تحت شجرة السدر التي تكثر زراعتها في كربلاء حتى إن شارعًا يحمل اسم تلك الشجرة، وفيه يقع بيت أسرة الشاعر، إذ المحبون تواروا بعيدًا تحت شجرة السدر ( سأجمعُ الكلماتِ القديمة َ / تلكَ التي عتَّقها الفقدُ / أجلُّلها بالسواد / وأضع عليها آساً وزهوراً أعطرها بماء الوردِ / ثُمَّ أُغلفها بالنهرِ / لعلّ موجة ٍ نَزِقةً تحملُها / حيث مُحبونَ تواروا بعيداً تحت شجرةِ السدرِ / يطفئون َ ناراً وقودها طينُ أيامي )
    لقد حمل باسم فرات ذكرياته وهو يشد الرحال إلى منافي الغربة، ينتقل من وطن إلى وطن، لذلك نراه يكرر في ديوانه عبارة الذكرى التي ترتبط بجملتها بالحنين إلى الوطن وصوت الحبيبة وآلام الطفولة الموجعة و المتشحة بسواد اليتم المبكر الذي يعاني منه لذلك نراه يستعين بمفردات الذاكرة وتصريفاتها ليتكئ عليها فقد تكررت كلمة الذكرى في العديد من أبياته فهو يقول:
    ( أتكئُ على حائِطٍ قديمٍ تَرَكَ ضحايا زنازين ذكرياتِهم ) (رحتُ أحمل هذه الذكرى ) ( أتذكرُ مرةً خرجتُ أتفقد أحلامي ) ( أمر بذكرياتنا ) ( صوتك ِ هو ذكرياتي الوحيدة ) ( وبالحنين أوقد ذكرياتي ) ( شاعرٌ يتوجع لذِكرِكِ ) ( عادَةً ألوذُ بذكرى بَعيدةٍ ) ( المنافي تنتجُ ذكرياتٍ ملونة ٌ) ( تتنزهينَ في ذاكرتي وأنا اُحصي فؤوسَ الغُربة ِ) ( في قاعِهِ ذكرياتٌ وقُبَلٌ وبقيةُ عتاب ) ( أدفأْتُ الذكرياتِ والقُبَلَ وبقية العتابِ ) ( على حلم ٍ اصبح ذِكرى ) ( سرَقْقتُكِ من ذاكرتي ) ( لم يَكُن ثمة َ قبرٌ يتَّسعُ للذكرياتِ ) ( أُحصي خَسائري وأغسلُ بالمطر ذاكرتي ).
    الديوان في حقيقته شهقة مليئة بالجراح وحنين إلى الأهل ومدينته الأم وحتمًا هناك صرخة موجعة مثقلة بالآهات مرسلة صوب أمرأة كانت وراء ذلك الأبداع، ومهما حاول الشاعر أن يُخبئ صورتها فهي تخرج من بين الحروف وتتسلل إلى فضاء القصيدة فتكون واضحة المعالم في صورٍ شعرية بليغة، وعلى الرغم من كتمان ذلك الأمر فهو واضح وجلي أنني أكاد أجزم بأن الشاعر في هذا الديوان، قد نجح في المزج بين امرأة فقدها ومدينة لم تعد مثلما كانت قبل اضطراره إلى مغادرتها ومغادرة الوطن وعلى امتداد عشرين سنة، وكانت عودته ليودّع أمه ثرى كربلاء فيكون الفقد متعددًا، فهو ديوان فقد بامتياز، هل هو رثاء للوطن في صورة امرأة فقدها؟ وفقده لمعالم مدينته كربلاء التي قضى فيها حياته الأولى حتى منتصف العشرينات من عمره، وما تعنيه مأساة كربلاء في الضمير الجمعي عراقيًّا وعربيًّا وإسلاميًّا.



      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد مايو 19, 2024 7:13 am