انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    عبد الناصر عيسوي: النص الاغـترابي

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    عبد الناصر عيسوي: النص الاغـترابي Empty عبد الناصر عيسوي: النص الاغـترابي

    مُساهمة  Admin الأحد أكتوبر 24, 2010 11:26 pm

    قـراءة في قصيدة "سليل" لباسم فرات
    إذا كانت القصيدة الافتتاحية لمجموعة باسم فرات "إلى لغة الضوء" تستدعي كل هذه الآلام منذ بداية المجموعة، فماذا نتوقع في نهايتها؟
    لقد التقطت القصيدة مشهد المشاهد، بل أشدّ المشاهد إبكاءً وإيلامًا، ولو سكت المؤرخون عند استشهاد سيدنا الحسين لأراحونا من تلك الآلام، لكنهم أبوا إلاَّ أن تنخلع قلوبنا وأرواحُنا إشفاقًا على رأسه الشريف، فرووا القصة بحذافيرها، ورووا إمعان أهل الفسق في فسقهم، فكأن أهل الفسق استراحوا برفع رأسه الشريف على الرمح راحة ما بعدها راحة، فتعذَّبنا نحن من هذه الرواية عذابًا ما بعده عذاب. وراح الشاعر يلتقط منها أشدَّها إيلامًا، ليُسقطها على ذاته، ويسرد في كلمات قليلة امتداد تلك الأوجاع عصرًا بعد عصر، بدءًا من العنوان الكاشف "سليل"، فقد خدعتنا تلك المفردة التي توحي بمدلولها المتعارف عليه منذ البداية، فكأن الشاعر سيضع المفردة في حقلها الدلالي ليذكر لنا انتسابه لبيت النبوة، لكنَّه تحوَّل بها عن حقلها في مباغتة، أتت تلك المباغتة من التقاط صورة شخصية تاريخية سريعة، واختزال الأحزان في لقطة هي أمُّ اللقطات، ومشهد هو أبو المشاهد، وحزن هو مجمع الأحزان، وقصيدة قصيرة خاطفة أرى أنها أم القصائد:
    "عندما رأيتُ رأسي
    بلحيةٍ وشَعرٍ مُنسَدلٍ
    مرفوعًا على رُمحٍ
    حَلقتُ لِحيتي
    وَقَصَصْتُ شَعري
    تَعَطّرتُ
    وَرحتُ أُغازلُ نِسْوةَ المدينةِ
    هل أوهِمُ نفسي
    أنني لستُ الذي في الصورةِ :
    محمـولاً رأسُـهُ
    على رُمح؟!"
    هي لحظة الوعي الفلسفي بالذات، عن طريق تكنيك النظر في صورة، أو النظر في مرآة، مع اختزال الصورة أو المرآة، فالرائي هو المرئي، لكنه ينظر إلى ذاته باعتباره آخر، وبينهما مسافة الرؤية والتفكُّر أو التوهم، ليتأمَّل ما في الصورة، بل لم يذكر لنا في بداية النص هل ينظر في مرآة أو صورة، بل ربما كانت صورة سينمائية تتساوى فلسفيًّا مع المرآة.
    لقد وجد رأسه بلحية وشعر منسدل مرفوعًا على رُمح، فتركنا الشاعر نظن المرآة، أو مشهدًا حقيقيًّا ثابتًا في الذاكرة البصرية. وقد بلغ ذروة اتحاده بالمشهد منذ الجملة الأولى، بلفظ (رأسي) فأضاف الرأس إلى ياء المتكلم، فكأنَّ الشخصية التاريخية هبطت فيه، فجاءت الذروة في بداية القصيدة، ليبدأ التوتر الدرامي منذ قوله (مرفوعًا على رُمح). فبدأ قصيدته بالصورة وبالدراما، اللذيْن هما شرط أي عمل فني.
    في النظر الفلسفي للصورة أو للمرآة أو للمشهد العالق بالذاكرة البصرية، تكون هناك مسافة بين الرائي والمرئي هي التي تفصل بينهما باعتبار أحدهما (الأنا) والثاني (الآخر) قد تكون متوهَّمة، وقد تكون مقصودة لإتاحة النظر إلى الذات، ثم تتلاشى تلك المسافة شيئًا فشيئًا بعد البوح بما يريد الرائي أن يقوله، لكن الشاعر هنا أفصح بطريقة معكوسة، فالحقيقة أنه الآخَر المرئي، أمَّا الوهم فهو ألا يكون هو، والوهم أيضًا صورته العصرية التي تتغير فيها الملامح. وما ذلك إلاَّ لأن تلك الرؤية هي رؤية الباطن، لم يُفلح معها الظاهر بأفعاله الظاهرية (حلقتُ لحيتي وقصصتُ شعري وتعطَّرتُ ورُحتُ أغازلُ نسوة المدينة) فكان الظاهر هو (الوهم)، وكانت الحقيقة ما يراه الشاعر العارف ببواطنه المدرك لحقيقته، أنه هو. فلماذا حلق الشاعر لحيته وقصَّ شعره؟ تبيَّن لنا ببساطة أنه يريد أن يُوهم نفسه أنه ليس المرفوع على الرمح، فهل أفلح معه ذلك الوهم؟ لقد استنكر في لحظة كاشفة أن يكون غير ما يرى أنه حقيقته.
    لقد راح الشاعر يقوم بأفعال تتنافى مع تلك الصورة القديمة التي لا يليق بها- لما لها من جلال- ما فعَل: (تعطَّرتُ ورحتُ أغازلُ نسوة المدينة)، بما في غَزَله لنسوة المدينة من ابتذال لا يليق بالمشهد القديم، المشهد التاريخي، لكنه سرعان ما اكتشف أنه يتوهَّم، واكتشف حقيقته (محمولاً رأسُه على رمح)، وأن هذا هو المدلول الجديد للفظة (سليل)، فهو السليل التاريخي، سليل أشدِّ الأحداث إيلامًا، بل إنه الحدث الذي تبلورت فيه كل أوجاع الأمَّة، وقد نسب الشاعر إلى ذاته كل هذه الأوجاع، في نقلات قليلة من الصور الغنية بالدلالة.
    قام الشاعر بوضع بعض اللمسات العصرية على ذاته، فلم يصبح السليل الجمالي (بلحية وشعر منسدل)، وهو الجمال التاريخي لصاحب اللحية والشعر المنسدل، بل استبدله بالجمال العصري (حلقتُ لحيتي وقصصتُ شَعري وتعطَّرتُ)، ولم يكن سليلاً مجاهدًا ينقل خطواته في سبيل الله، بل استبدل بالجهاد وظيفة أخرى عاطلة (ورُحتُ أغازل نسوة المدينة)، ففرَّغ الشاعر السلالة من مضمونها ومن جمالياتها التاريخية، لكنه لم يستطع أن يُفرِّغها من النتيجة التاريخية الحتمية، التي تجعله وريث الآلام التي تنخلع لها القلوب.
    وبقوله في نهاية هذا النص: (هل أوهِمُ نفسي أنني لستُ الذي في الصورةِ: محمولاً رأسُه على رُمح؟!) عكس الشاعر جدلية الحقيقة والوهم، فخرج بنتيجة اغترابية هائلة، وترك اغترابه لنا ومضى مُنهيًا القصيدة، ليتركنا نحن نواجه الاغتراب، بدلاً من وجود ما يقضي على الاغتراب في القصيدة. لقد ترك الشاعر النص مفتوحًا للقارئ ليواجه الاغتراب بنفسه، وإذا اختبرنا تلك النهاية المفتوحة من خلال ثنائية (اليأس- الأمل) فقد تركنا الشاعر ومضى، لأنه لم يُرجِّح الأمل، ولم يدفع إليه، بل تركنا أمام مسئولياتنا التاريخية وكأننا سننقذ رأس أبي عبد الله الحسين، من أيدي العابثين المارقين.
    وإذا اختبرنا تلك القصيدة من خلال ثنائية (الأصالة- المعاصرة) لرأينا أن مفاهيمه المعاصرة التي طرحها بديلاً عصريًّا للجمال التاريخي، لم تفلح لأن تكون بديلاً مُقنعًا، بل إنه قال بعدها (هل أوهم نفسي)، مما يجعلنا نراه مغتربًا عن عصره.
    وإذا اختبرناها من خلال ثنائية (الحب- الحرب)- لأنه استدعى الشخصية المحاربة- لرأينا طرفًا فلسفيًّا عصريًّا آخَر للحرب- وهو الحب- من خلال (رحتُ أغازل نسوة المدينة)، ليكون طرفًا في ثنائية (الحب- الحرب) ولم تفلح تلك الجدلية في إنقاذ الشاعر من الوهم.
    وإذا اختبرناها من خلال ثنائية (الفاعل- المفعول به) لرأينا أن قيامه ببعض الأفعال لم يُفلح في إنقاذه من رؤية الفعل العبثي به.
    وهكذا لم تُفلح السبل المعاصرة لإنقاذ الرؤية الحتمية المتشائمة، التي طرحت هذا الاغتراب الذي هو الموضوع الأعظم للفن كله، لتضعنا أمام مسئولياتنا وأمام الإنسان ذاته، لنرى بأنفسنا ما آل إليه، ولتضعنا نحن في علاقة جدلية مستمرة مع اليأس والحرب، وكان الشاعر هو المحرِّض لنا على القيام بمسئولياتنا لنقوم نحن بالفعل الذي يقضي على اغتراب الإنسان. وهي رؤية شديدة اللهجة، حيث يسلمنا الشاعر مفاتيح القضايا ويُعلن الحقيقة أمام ضمائرنا، ويضع المسئوليات على عواتقنا.
    والقصيدة تمثل أقصر فيلم سينمائي ممكن، جاء في مشاهد قليلة ليُعبِّر بلقطات موجزة بليغة عما يحدث للإنسان المعاصر حين لم تفلح معه الوسائل العصرية في التخفيف من آلامه. كما أن الشاعر ذكر الرأس (مرفوعًا) مرة، ومرةً (محمولاً) لكنه لم يذكر لنا (الرافع) ولا (الحامل) ليدلَّ المشهدُ على العموم، بل إن القصيدة بذلك تصبح معادلاً لوضع الإنسان المعاصر، سليل الآلام، وكأنَّ التاريخ يُعيد نفسه، لتكون القصيدة في مجملها إدانة للعصر وأهله.

      الوقت/التاريخ الآن هو الأحد سبتمبر 29, 2024 12:27 am