الحزن في العراق يتوزع شمالاً وجنوباً وشرقاً، أما أحزانه غرباً فقد قالها الشاعر باسم فرات في ديوانه المنمنم الصغير (خريف المآذن) فهو الأخير في قافلة العزلة وليس من حلم يجفف طفولته أو يشق صباحاته الموجعة، وما دامت البراءة عزلاء إلا من السواد ــ كما يقول ــ فهو يتلمس دمه من أجل لغة تقوده إلي القناديل.
في قصيدته المتميزة( أرسم بغداد) يكتب تاريخ الجنوب فوق عباءة أمه، وعبثاً يمسح أكفان أيامه المنسدلة من شعرها ذلك أن مقبرة السنوات ــ بحسب ما أراد باسم فرات ــ تتمدد فوق أسفلت الذاكرة المليئة بندوب الحروب ولا يجد بعد ذاك الخراب غير انكساره الذي يشع بين الأطلال.
لغة الشاعر تتوهج في المنفي، وخلف الكلام هوامش وعيون تحدق في عالمه السحري الذي يأخذه تارة إلي (جواد سليم) بينما الوقت يطرز منفي آخر لعباءات النخيل، وتارة يمضي به إلي (ضابط الجوازات) الذي تلكأ في الخروج من ذاكرته وما بين جواد سليم النحات الشهير وضابط الجوازات المخيف نتلمس بهرجه الندامي وصهيل الخطيئة واحتراق الفراشات وعويل المساء العراقي المنكوب حيث يقشر الضباب رئتيه ويستيقظ البردي علي أغنية المشاحيف.
شاعر هو باسم فرات، يحكي عن حياة خربوها ولم يبق منها غير عصفور تائه في سماء البصرة ووردة ذابلة علي شاطئ دجلة، فأحلامه تنمو علي الشرفات وتموت هناك أيضاً، وأمه العجوز ترمم النجوم بعد أن اختلطت بشعرها وهي تشرب الشاي المغمس بالهيل والآهات.
أجل، بغداد حزينة جداً، وفي (خريف المآذن) يتماهي الشاعر مع أحزانها، فما بين رائحة الشظايا والهزائم المتكررة يصهل الخراب علي كتفيه وتلسعه الصباحات الموحشة، ياله من جنون يختزل القصيدة ــ هو الذي قالها ــ فالزنازين جعلت قميصه متهرئاً وعل يديه تسيل المنافي أوي ترنح الشتات، لا شيء في هذا العالم غير كومة أحزان علي موعد مع كومة أحزان، وهكذا يكون للحرب نشيدها ويعني بذلك الحروب التي بللت أحضان الأمهات حيث لا شيء غير البكاء والنحيب والترقب، أبواب أكلتها الحسرة وأحلام تسحل في الشوارع الخلفية:
أري دمي يتدحرج بين الحدود
أتوسل بالكلمات أن تجمعه
علي الورقة.
وتنهمر الأحزان، كما لو أن البلاد قدرها ذاك النحيب الأبدي منذ ولادة القصائد حتي مطافها اليوم علي كومة ثالثة من دموع الثكالي والأرامل والقوارير المستباحة في ليل مبهم ومعتم ولا شموع ولا قناديل ولا أمل في الخروج من المتاهة، حتي أنه من شدة اليأس راح يقول:
أخشي علي الله من الطوفان
فليس ثمة نبي ينقذ ما تبقي
وباسم فرات يكتب القصائد علي ضوء الذكريات المعتقة في صندوق الرأس، ليس من شاعر أصيل إلا وأكلته الذكريات في ساعة من زمن الغربة والمنافي ــ يعيش منذ أعوام في نيوزيلندة ــ فكيف إذا كان الوطن علي بعد ثلاثين ألفاً من الأوجاع والأميال والمحيطات حيث لا أحد ينطق العربية إلا في أحلام اليقظة!
لهذا تسمعه وهو يحكي في ديوانه الحزين عن (مقامات القبانجي) وعن الملا عثمان الموصلي وهو من كبار الموسيقيين العرب في القرن العشرين، كما يقص الحكايا عن ساحة الحرمين وباب القبلة، وكذلك شارع العباس والعلقمي (وهو نهر يجري في مدينة كربلاء وغير مجراه احتجاجاً علي مقتل الحسين) بل يصل الشوق به إلي آخر المطاف بحيث يتذكر (سجن السندي) و(باب السلالمة) وهي إحدي أعرق المناطق السكنية في كربلاء.
وباسم فرات مزحوم إلي رأسه بأسئلة فات أوان الجواب عليها بعد أن كثرت حول منزله الحروب واحترقت أوراقه التي كتب فيها أجمل أوجاعه وأعذب سعاداته فهو عادة ما يسأل نفسه عن مصير كربلاء الثانية وكربلاء الثالثة وكربلاء الرابعة، يرسم الطرقات في قلب البلاد ويحاول طرد الأشجار عن رأسه لكن زقزقة العصافير ستبقي حتي إ ذا اختفت الشجرة ودعونا نقرأ في سؤالاته التي تصحو وتنام علي فراشه الكئيب:
أين سأحفظ قبلات النهر؟
كيف أرسم بروقي؟
هل أطلق الرصاص علي شاهدتي؟
كيف طوقني الرازقي؟
أيتها الشوارع متي أشيع حزني علي الأرصفة؟
كيف أرسلوك إلي الحرب وأنت مصفد بالحب؟
من أعطي المدينة هذا الفم لتبتلع القصائد والحقول؟
نصف ديوانه أسئلة، ونصفه الثاني جروح مطعمة بملح الجنوب الذي يبقيه موجوعاً وصاحياً إلي آخر العمر، فما من أحد يحرث البحر أو السماء، وأمام دهشة الغيوم يتلوي زمانه علي ورقة أو يتبخر تحت أزير الطائرات ونزيفها، حتي أدمن جسده الشظايا منعزلاً معها إلي أقصي الضياع ولا أحد يرثيه غير الفواجع وما من أحد يشفع له غي ذاك الحطام الذي اقتفي آثاره منذ الطفولة وحتي مجيء المجنزرات وأناشيد الحرب ونحيب المآذن وهي تذكر أسماء القتلة وأين ماتوا مع توفير التوابيت لهم في كل مكان.
رغم تورط الحفيف بمصاهرة الندي
أضع نظارات الوقت فوق فسحة الأمنيات
فيرتشفني الصمت من بين ثنايا الوداع
خشية أن أوقظ الياسمين أمرر يدي فوق جسده بتؤدة
أسمالي تهزأ بالطائرات.
خريف المآذن، هو نفسه خريف البلاد التي غادرها الأمان وتبرأ منها السلام وتركتها الطمأنينة بعد أن شبعت من الخوف بين أسلاكها ثم تنهمر القصائد من معطف الشاعر وهو يحكي عن الرايات السود وطقوس القتل ونجاسة الحروب، بل يحكي عمن رقص وزغرد فيها وكتب أغانيها وأناشيدها دون وازع من ضمير ودون أن يتذكر من راح ضحيتها مقطوعاً إلي نصفين أو مهملاً بين أنياب الذئاب والكلاب في طريق الموت ما بين صفوان والبصرة، وحتي لا تصدأ الذاكرة بمرور الوقت أو يصدأ الكلام تحت اللسان نسمعه يكرر وراء الصدي:
الحروب التي كنت خاسرها الوحيد
علقتها علي مضض
ومضيت أبحث عني
وها هي أمواج الرعب تتدلي من ثيابه بينما تتساقط النجوم من راحتيه وغابات الجنوب تبتعد وهي تتحاشي أن تراها الشمس فتفضح سر دموعها، فلا شيء في اليدين بعد هذا المطر الرمادي الذي هطل علي شعاب العراق من شماله إلي جنوبه غير أن يقول الشاعر وهو معجون بالحسرات والندم والخسارة:
بغداد..
ليلٌ يجفف عتمته بضيائي
سلاماً مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار
سلاماً عباءات الدموع التي هي
تاريخنا..
أنت وحدك تملاً الأنهار أغانٍ وذكريات
وهذا، كما أري، ما فعله باسم فرات في (خريف المآذن) فقد جاءنا بالكثير من الغناء الموجع وأرغمنا علي أن نتذكر ما جري.
خريف المآذن.. باسم فرات، سلسلة إبداعات عربية، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان ــ الأردن، الطبعة الأولي 2002.
في قصيدته المتميزة( أرسم بغداد) يكتب تاريخ الجنوب فوق عباءة أمه، وعبثاً يمسح أكفان أيامه المنسدلة من شعرها ذلك أن مقبرة السنوات ــ بحسب ما أراد باسم فرات ــ تتمدد فوق أسفلت الذاكرة المليئة بندوب الحروب ولا يجد بعد ذاك الخراب غير انكساره الذي يشع بين الأطلال.
لغة الشاعر تتوهج في المنفي، وخلف الكلام هوامش وعيون تحدق في عالمه السحري الذي يأخذه تارة إلي (جواد سليم) بينما الوقت يطرز منفي آخر لعباءات النخيل، وتارة يمضي به إلي (ضابط الجوازات) الذي تلكأ في الخروج من ذاكرته وما بين جواد سليم النحات الشهير وضابط الجوازات المخيف نتلمس بهرجه الندامي وصهيل الخطيئة واحتراق الفراشات وعويل المساء العراقي المنكوب حيث يقشر الضباب رئتيه ويستيقظ البردي علي أغنية المشاحيف.
شاعر هو باسم فرات، يحكي عن حياة خربوها ولم يبق منها غير عصفور تائه في سماء البصرة ووردة ذابلة علي شاطئ دجلة، فأحلامه تنمو علي الشرفات وتموت هناك أيضاً، وأمه العجوز ترمم النجوم بعد أن اختلطت بشعرها وهي تشرب الشاي المغمس بالهيل والآهات.
أجل، بغداد حزينة جداً، وفي (خريف المآذن) يتماهي الشاعر مع أحزانها، فما بين رائحة الشظايا والهزائم المتكررة يصهل الخراب علي كتفيه وتلسعه الصباحات الموحشة، ياله من جنون يختزل القصيدة ــ هو الذي قالها ــ فالزنازين جعلت قميصه متهرئاً وعل يديه تسيل المنافي أوي ترنح الشتات، لا شيء في هذا العالم غير كومة أحزان علي موعد مع كومة أحزان، وهكذا يكون للحرب نشيدها ويعني بذلك الحروب التي بللت أحضان الأمهات حيث لا شيء غير البكاء والنحيب والترقب، أبواب أكلتها الحسرة وأحلام تسحل في الشوارع الخلفية:
أري دمي يتدحرج بين الحدود
أتوسل بالكلمات أن تجمعه
علي الورقة.
وتنهمر الأحزان، كما لو أن البلاد قدرها ذاك النحيب الأبدي منذ ولادة القصائد حتي مطافها اليوم علي كومة ثالثة من دموع الثكالي والأرامل والقوارير المستباحة في ليل مبهم ومعتم ولا شموع ولا قناديل ولا أمل في الخروج من المتاهة، حتي أنه من شدة اليأس راح يقول:
أخشي علي الله من الطوفان
فليس ثمة نبي ينقذ ما تبقي
وباسم فرات يكتب القصائد علي ضوء الذكريات المعتقة في صندوق الرأس، ليس من شاعر أصيل إلا وأكلته الذكريات في ساعة من زمن الغربة والمنافي ــ يعيش منذ أعوام في نيوزيلندة ــ فكيف إذا كان الوطن علي بعد ثلاثين ألفاً من الأوجاع والأميال والمحيطات حيث لا أحد ينطق العربية إلا في أحلام اليقظة!
لهذا تسمعه وهو يحكي في ديوانه الحزين عن (مقامات القبانجي) وعن الملا عثمان الموصلي وهو من كبار الموسيقيين العرب في القرن العشرين، كما يقص الحكايا عن ساحة الحرمين وباب القبلة، وكذلك شارع العباس والعلقمي (وهو نهر يجري في مدينة كربلاء وغير مجراه احتجاجاً علي مقتل الحسين) بل يصل الشوق به إلي آخر المطاف بحيث يتذكر (سجن السندي) و(باب السلالمة) وهي إحدي أعرق المناطق السكنية في كربلاء.
وباسم فرات مزحوم إلي رأسه بأسئلة فات أوان الجواب عليها بعد أن كثرت حول منزله الحروب واحترقت أوراقه التي كتب فيها أجمل أوجاعه وأعذب سعاداته فهو عادة ما يسأل نفسه عن مصير كربلاء الثانية وكربلاء الثالثة وكربلاء الرابعة، يرسم الطرقات في قلب البلاد ويحاول طرد الأشجار عن رأسه لكن زقزقة العصافير ستبقي حتي إ ذا اختفت الشجرة ودعونا نقرأ في سؤالاته التي تصحو وتنام علي فراشه الكئيب:
أين سأحفظ قبلات النهر؟
كيف أرسم بروقي؟
هل أطلق الرصاص علي شاهدتي؟
كيف طوقني الرازقي؟
أيتها الشوارع متي أشيع حزني علي الأرصفة؟
كيف أرسلوك إلي الحرب وأنت مصفد بالحب؟
من أعطي المدينة هذا الفم لتبتلع القصائد والحقول؟
نصف ديوانه أسئلة، ونصفه الثاني جروح مطعمة بملح الجنوب الذي يبقيه موجوعاً وصاحياً إلي آخر العمر، فما من أحد يحرث البحر أو السماء، وأمام دهشة الغيوم يتلوي زمانه علي ورقة أو يتبخر تحت أزير الطائرات ونزيفها، حتي أدمن جسده الشظايا منعزلاً معها إلي أقصي الضياع ولا أحد يرثيه غير الفواجع وما من أحد يشفع له غي ذاك الحطام الذي اقتفي آثاره منذ الطفولة وحتي مجيء المجنزرات وأناشيد الحرب ونحيب المآذن وهي تذكر أسماء القتلة وأين ماتوا مع توفير التوابيت لهم في كل مكان.
رغم تورط الحفيف بمصاهرة الندي
أضع نظارات الوقت فوق فسحة الأمنيات
فيرتشفني الصمت من بين ثنايا الوداع
خشية أن أوقظ الياسمين أمرر يدي فوق جسده بتؤدة
أسمالي تهزأ بالطائرات.
خريف المآذن، هو نفسه خريف البلاد التي غادرها الأمان وتبرأ منها السلام وتركتها الطمأنينة بعد أن شبعت من الخوف بين أسلاكها ثم تنهمر القصائد من معطف الشاعر وهو يحكي عن الرايات السود وطقوس القتل ونجاسة الحروب، بل يحكي عمن رقص وزغرد فيها وكتب أغانيها وأناشيدها دون وازع من ضمير ودون أن يتذكر من راح ضحيتها مقطوعاً إلي نصفين أو مهملاً بين أنياب الذئاب والكلاب في طريق الموت ما بين صفوان والبصرة، وحتي لا تصدأ الذاكرة بمرور الوقت أو يصدأ الكلام تحت اللسان نسمعه يكرر وراء الصدي:
الحروب التي كنت خاسرها الوحيد
علقتها علي مضض
ومضيت أبحث عني
وها هي أمواج الرعب تتدلي من ثيابه بينما تتساقط النجوم من راحتيه وغابات الجنوب تبتعد وهي تتحاشي أن تراها الشمس فتفضح سر دموعها، فلا شيء في اليدين بعد هذا المطر الرمادي الذي هطل علي شعاب العراق من شماله إلي جنوبه غير أن يقول الشاعر وهو معجون بالحسرات والندم والخسارة:
بغداد..
ليلٌ يجفف عتمته بضيائي
سلاماً مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار
سلاماً عباءات الدموع التي هي
تاريخنا..
أنت وحدك تملاً الأنهار أغانٍ وذكريات
وهذا، كما أري، ما فعله باسم فرات في (خريف المآذن) فقد جاءنا بالكثير من الغناء الموجع وأرغمنا علي أن نتذكر ما جري.
خريف المآذن.. باسم فرات، سلسلة إبداعات عربية، أزمنة للنشر والتوزيع، عمان ــ الأردن، الطبعة الأولي 2002.