خريف المآذن للشاعر العراقي باسم فرات
تكتسب مفردات الوطن/ لمنفى / الإنسان صوراً ودلالات جديدة ، في الشعر العراقي اليوم، وتفترض لنفسها نظاماً علائقياً خاصاً مزوداً باَليات وتقنيات جديدة تسهم في القراءة والمقارنة والربط والمعالجة. ومع تحول الرؤية المعرفية إلى قاسم مشترك يجمع بين الأدباء والمحدثين وملمح مبرز لإبداعهم ، فإنما يمثل كذلك خطوة على طريق الاقتراب من المكان والتوغل فيه إلى درجة الذوبان والتوحد الشعري والمادي. هذه العلاقة بالمكان تتجاوز المفهوم السطحي للنوستاليجا إلى إعادة إنتاج مفهوم جديد للوطن يتولى تنظيـم علاقة الذات / الإنسان مع الأرض / الوجود.
هذه البنية المعرفية تستند إلى بعد جغرافي وكيان مادي ذات يتمل بالعلاقة بين الشاعر ووطنه؛ والناتجة أساساً من الشعور المتواصل بتهديدات الفقد والضياع الذي وضعها بالمرصاد على حد سواء. وهو يكتشف ويبرر(معا) اشتغال الشعرية الجديدة
أو إمكانية تصويرها من خلال بعدي المكان(الكيان المادي) والذات الإنسانية ممتزجين وذائبين في صورة الطفولة الغنية بالدلالات،والتي استلبت معانيها سنوات
الحرب والحصار.
وتمثل ثيمة الطفولة وتشعباتهاودلالاتها والاحتمالات التي تواجهها اوواجهتها، محور
اشتغال مجموعة(خريف المآذن) للشاعر باسم فرات وبالشكل الذي يجعل منها أغنية
حزينة مبثوثة للوطن اوالأم اوكربلاء المدينة. الطفولة هي محور قصيدته ومن خلال
الطفولة يقوم باستنطاق المكان- الواقع منظورا إليه عبر رؤية معرفية متداخلة ومتراكبة. فالطفولة دالة بيئية غير مفصولة عن الزمان والمكان وبالشكل الذي جعل
من المجموعة احتفالية خالصة معلقة بين نقطتين..
أولا: طفولة الشاعر
أي حلم يجفف طفولتي/ 9
وبحطامك تفرك عن طفولتك الطائرات والخنادق/ 12
أفكّ أزراره أقرأ: الطفولة أسئلة لا تنتهي - تتشعب / 17 أتتبع أثار الطفولة وأرتق أمانٍ دهستها المجنزرات / 17
فألمح طفولة الجمرة تلهو مع القداح/ 24
وجفف طفولتي عند الباب/ 33
أنا لم أخبئ طفولتي في قميصي/ 46
طفولتي أ دونها في ساحة الحرمين/ 54 تركت على خارطة الطفولة
براءة ثقبتها عفونة العسكر/ 58 ش
فيلهو بها العشاق والأطفال/60
1 / 3 / 1967 : ص 64 يوم ميلاده الذي اتخذه عنوانا لآخر قصائد المجموعة.
بيد أن حضور الطفولة في النص يتعدى المفردة إلى خلال مسميات ودلالات وصورلا تنتهي،ممثلا في صورة الأم المكثفة في المجموعة أو الأب أو الحلم أو الذاكرة أو السنوات..
أبي خطأ يتناسل
أمي خطأ ينتظر خطأ من أجل خطأ
أنا خطأ يعد الخطى فيخطئ/12
أو قوله:
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثا أمسح أكفان الأيام المندسلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد فوق إسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب/16
أبي يا أبي أوكلما توغلت في موتك
أهلت التراب على أحلامي./18
أمي أشعلت ثلاثة عشر قنديلا
تؤثث لانتظاري /24
ولا يذكر هذا الرقم بالشؤم فقط وإنما يمثل عمر الشاعر عندما رفعت الحرب عقيرتها
عام ( 1980 ) ولذلك يستطرد الشاعر..
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أنا أشعلت ما تبقى للرحيل
على كل باب راية سوداء تشق فحولة النهار
كفى تناسلا أيها الخراب/ 24
ولاجرم أن للذات حضوراً فائقاً في القصيدة الحديثة، إلى حد أن يلغى اختزال هذه الذات منها كيان القصيدة ذاتها. إن حضور الذات هنا إنما يمثل رداً منطقيا ووجودياعلى الكارثة التي تستهدف إلغاء الإنسان واقتلاعه من جذوره بالموت أو المسخ أو النفي. والشاعر الذي يتكلم هنا إنما يعبر عن ذات جمعية شمولية كانت ومازالت مهددة بالزوال عبر الحروب والكوارث التي تلاحق أرض السواد حتى اليوم. الأنا هي تتويج للمأساة الإنسانية التي خلفتها الكارثة..
حداد يغلف حيواتنا
أحاول- دون جدوى- أن أفتح كوّة فيه
لا أجدني الاانكسارا يشعّ/ 16
أو صورة ألذات عبر تصوير ما آلت إليه الطفولة المقطوعة أو المفطومة قبل الأوان..
لست إلا الأخير في قافلة العزلة
ولأني بلا أمجاد ترصع حياتي
تركتني أحلامي ومضت
على الشبابيك تركت تلهفي
والأبواب تركت عليها خيباتي/ 14-15
جسدي أدمته الشظايا فلا ذ بقهوة المنفى
أنا بلا متع بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
ترثيني فاجعتي ويقودني حطامي
أتتبع آثار طفولة وأرتق أمانٍ دهستها المجنزرات/ 17
فالأمنية والحلم والمرأة والمجد والحياة والأمان وغيرها الكثير ليست سوى مشاريع مؤجلة حكمت عليها الكارثة بالإلغاء.
- الحروب التي كنت خاسرها الوحيد-
علقتها على مضض
ومضيت أبحث عني
.. أعلق عمري على رصاصة
تدلت من سماء بعيدة
أصابعي بقايا مدن غابرة
وختم الموتى خطواتي
انتظريني أيتها الشمس/ 32- 33
القصيدة الحديثة قصيدة ذات، قصيدة موضوع، قصيدة أفكار،قصيدة أسئلة لا تنتهي، قصيدة بلا فراغات، بلا حشو، قصيدة تأتي من ذاتها ولا يبحث عنها الشاعر أو يسعى إليها أو يصعد إلى عليين لاستنزالها. قد تكون قصيدة الخراب أو اليأس والقنوط أو الفوضى والدمار ولكنها في كل ذلك ليست سوى إفراز ونتيجة للخراب واليأس والقنوط والفوضى والدمار الذي ما يزال يتناسل بفعل الكارثة. ولكن القصيدة بالمقابل ترقى على الكارثة وتتجاوزها ببعدها الإنساني. فالكارثة لاتقدم ولا تملك غير الخراب والدمار بيد إن القصيدة لا تنقطع عن الحلم والإصرار على الابتسام رغم إن الأجيال التي اكتوت بالحرب والحصار واختزلت أجمل سنوات شبابها افتقدت كل ذلك من اجل الموت أو من اجل شيخوخة مبكرة حفرت السنوات نتوءاتها العميقة في قيعانها. وكما يشير إليه أحد شعراء هذا الجيل حسن النصّار بالقول:
" احتاج أشياء كثيرة.. أولها أنا " ، يقول باسم فرات..
أنا السومري..
المدجج بالأحلام والأسئلة/ 13
..
أنا جنة نفسي وقيامتها
بتؤدة أشير للرياحين..
بتؤدة تنساب الحقول فوق سريري
تنضح الضفاف عويلها بقربي/ 14
وتمثل قصيدة المجموعة الأخيرة التي عنونها بتاريخ ميلاده/ 64 قمة انثيالاته لتجميع ماتشظى من تلك الطفولة وإعادة بروزتها في فاترينة الذاكرة. قصيدة الأسئلة التي لا تنتهي والصور التي لا تكتمل..
عيناي تسهبان
وعلى شفتي انكسارات
أمجاد حروب لغيري
لا أدنو ، لكن قلبي يجف
السر فات سحقت ذاكرتي
والزنازين جعلتني قميصاً متهرئا
على كتفي تسيل المنافي
وفي الشبابيك أسئلة الغائب
في سلة الألم تنكسر شموسي
وصهيلي يسيل هو الآخر قبل أن يصل
أنا باسم محمد...يا الله... أتعرفني؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس معاً فوق صباحي
بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
كانت تكنس الطائرات
لترسمني كما تشتهي
ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
البلاد خريف طويل
سيل من الغثيان
نهار يختبئ تحت القبعة
وعلى صدرك تتفتح الأسئلة/66 - 64
ثانياً : ذاكرة المكان
وبقدر تمثل القصيدة للطفولة المستلبة تتمثل بنفس القدر لدالة المكان المستلب هو الآخر عبر جملة من الرموز والدلالات .. الوطن / النهران/ البلاد خريف طويل/ السواد/ الحروب والطائرات والسر فات/ الزنازين والمخافر والمنافي/ الحروب بالنيابة/الغائب والذاكرة والشظايا.. فالطفولة بحد ذاتها إنما هي إحالة مباشرة على المكان/البيئة/ العائلة التي تمثل مشخصات بارزة في قصائد المجموعة.. والشاعر باسم فرات ضمن اهتمامه بالتكثيف العالي للغة يمكن الاستدلال إلى عالمه عبر مفاتيح قصائده أي العناوين.. بدءاً من الغنى الدلالي الذي يحفل به عنوان المجموعة المقترض من عنوان قصيدة [ خريف المآذن ] إلى عناوين القصائد الأخرى والتي تقدم بمجملها صورة بانورامية لعالم كربلاء المدينة الغارقة في الضوء والحزن والسؤال الجريح .. إلى لغة الضوء أقود القناديل / عانقت برجاً خلته مئذنة/ دلني أيها السواد/ آهلون بالنزيف / أقول أنثى ولا أعني كربلاء/ عواء ابن آوى/ خريف المآذن..ربيع السواد.. دمنا/ جنوب مطلق. أن ثمة شعوراً يستثيره صف العناوين هذاليتحول إلى موكب حسيني حافل من مواكب عاشوراء الملهمة، كما لو أنها هي منطلق الشاعر الذي يرانا عبره.
أبوابك صدئت أكفها
ومازالت على العتبة
مستيقظة تلويحتهاالباهتة
ثقبوا قميصك بالآس
ونسوا على الطاولة جرحك
مثلما نسيت أيامك تحرس خطواتهم
علمت الحناء الرقص في أصابعهم../ 30- 31
والى جانب الحناء والآس والشمع والكف والعتبة تتخذ الأبواب والشبابيك والشرفات مكانة من المشهد العاشوري..
الذين أوقدوا شمعتك ناحل رحيلهم/ 30
ويستبدل الشموع بالهزائم والحناء بالشظايا في قصيدته[عبرت الحدود مصادفة]..
رائحة الشظايا
غثيان يستطيل
أجرُّ هزائم متكررة
أصفها على الطاولة/ 32
رمادها-هذه الحروب- أغلق روحي
وجفَّف زيت طفولتي عند الباب
الأبواب أطلقتني/ 33
وغباري يفترش الشبابيك والأسئلة/ 34
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الأزمان خطواتي/ 41
بينما يرفع حزن أمه المترملة إلى صورة المشهد التراثي العميق لمأساة ألطف في قصيدته [ عواء أبن آوى ] عبر مداخلة ومقارنة حية بين زمنين وحالتين ليستا في واقع الحال إلا زمناَهيوليا مفتوحاَ وحالة لا تكف عن التناسل..
(قتيل بالطفو ف أطال نوحي
وأسلمني إلى الحزن الطويل)
تحمل كتباَ من الزعفران وتخفي أخريات من العقيق
إلى سجن ألسندي حيث يرقد أبي
أبي الذي خاض مائة حرب منذ ميلا د الخطيئة البكر
حتى جنوح القبائل النويية في الحكم
كانت تحمل له الشمس والقمر وإحدى عشرة رغبة
لتشد من أزره
وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
يمسح العلقمي دمعه ويتوارى
حاملين كفين باسقتين تتوهجان خضرة وندماَ
تصعد التل لتشهد عواء ابن آوى في المدينة
على يد آخر القتلة
وحين طافوا برأسه في المدن
زينت أمي وجه الخليفة ببصاقها/ 48
ويمكن الانتباه هنا إلى قصيدة الشاعر المراوغة في استخدام الفعل الماضي(زينت) وحالة الجناس الموحية أو الدالة على اسم العلم لتظهر العبارة كما لو كانت (زينت أمي) لدى القارئ والمتداخلتين نصاَ داخل القصيدة .
لقد استثمر الشاعر البنية الدلالية لمسرح ألطف وفتحها على الحاضر والراهن بكل فجائعه وتشظياته موحداَ من ناحية أخرى بين الحالة الذاتية والموضوع العام وبالشكل الذي جعل من [ خريف المآذن] صورة حية ناطقة بقدر عالٍ من العمق والمصداقية، من التكثيف والسعة، من الألم والحلم المجروح. خريف المآذن، قراءة الشاعر باسم فرات للكارثة التي أحنت الجبل،هي حبل تعلقه بالطفولة المستلبة والوطن المستلب،بالأم والمدينة والأحلام المقتلعة من جذورها. وهي مجموعته الثانية التي أصدرها في الغربة بعد مجموعته الأولى [أشد الهديل]/ 1999.
______________________________
0 باسم فرات: شاعر عراقي ( 1967 - كربلاء) مقيم في المنفى . له مجموعتان شعريتان .
0 وديع العبيدي: شاعر وكاتب عراقي مقيم في النمسا، له عدة إصدارات شعرية ونقدية ويصدر مجلة ثقافية فصلية باسم [ ضفاف].
تكتسب مفردات الوطن/ لمنفى / الإنسان صوراً ودلالات جديدة ، في الشعر العراقي اليوم، وتفترض لنفسها نظاماً علائقياً خاصاً مزوداً باَليات وتقنيات جديدة تسهم في القراءة والمقارنة والربط والمعالجة. ومع تحول الرؤية المعرفية إلى قاسم مشترك يجمع بين الأدباء والمحدثين وملمح مبرز لإبداعهم ، فإنما يمثل كذلك خطوة على طريق الاقتراب من المكان والتوغل فيه إلى درجة الذوبان والتوحد الشعري والمادي. هذه العلاقة بالمكان تتجاوز المفهوم السطحي للنوستاليجا إلى إعادة إنتاج مفهوم جديد للوطن يتولى تنظيـم علاقة الذات / الإنسان مع الأرض / الوجود.
هذه البنية المعرفية تستند إلى بعد جغرافي وكيان مادي ذات يتمل بالعلاقة بين الشاعر ووطنه؛ والناتجة أساساً من الشعور المتواصل بتهديدات الفقد والضياع الذي وضعها بالمرصاد على حد سواء. وهو يكتشف ويبرر(معا) اشتغال الشعرية الجديدة
أو إمكانية تصويرها من خلال بعدي المكان(الكيان المادي) والذات الإنسانية ممتزجين وذائبين في صورة الطفولة الغنية بالدلالات،والتي استلبت معانيها سنوات
الحرب والحصار.
وتمثل ثيمة الطفولة وتشعباتهاودلالاتها والاحتمالات التي تواجهها اوواجهتها، محور
اشتغال مجموعة(خريف المآذن) للشاعر باسم فرات وبالشكل الذي يجعل منها أغنية
حزينة مبثوثة للوطن اوالأم اوكربلاء المدينة. الطفولة هي محور قصيدته ومن خلال
الطفولة يقوم باستنطاق المكان- الواقع منظورا إليه عبر رؤية معرفية متداخلة ومتراكبة. فالطفولة دالة بيئية غير مفصولة عن الزمان والمكان وبالشكل الذي جعل
من المجموعة احتفالية خالصة معلقة بين نقطتين..
أولا: طفولة الشاعر
أي حلم يجفف طفولتي/ 9
وبحطامك تفرك عن طفولتك الطائرات والخنادق/ 12
أفكّ أزراره أقرأ: الطفولة أسئلة لا تنتهي - تتشعب / 17 أتتبع أثار الطفولة وأرتق أمانٍ دهستها المجنزرات / 17
فألمح طفولة الجمرة تلهو مع القداح/ 24
وجفف طفولتي عند الباب/ 33
أنا لم أخبئ طفولتي في قميصي/ 46
طفولتي أ دونها في ساحة الحرمين/ 54 تركت على خارطة الطفولة
براءة ثقبتها عفونة العسكر/ 58 ش
فيلهو بها العشاق والأطفال/60
1 / 3 / 1967 : ص 64 يوم ميلاده الذي اتخذه عنوانا لآخر قصائد المجموعة.
بيد أن حضور الطفولة في النص يتعدى المفردة إلى خلال مسميات ودلالات وصورلا تنتهي،ممثلا في صورة الأم المكثفة في المجموعة أو الأب أو الحلم أو الذاكرة أو السنوات..
أبي خطأ يتناسل
أمي خطأ ينتظر خطأ من أجل خطأ
أنا خطأ يعد الخطى فيخطئ/12
أو قوله:
أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي
وعبثا أمسح أكفان الأيام المندسلة من شعرها
مقبرة السنوات تتمدد فوق إسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب/16
أبي يا أبي أوكلما توغلت في موتك
أهلت التراب على أحلامي./18
أمي أشعلت ثلاثة عشر قنديلا
تؤثث لانتظاري /24
ولا يذكر هذا الرقم بالشؤم فقط وإنما يمثل عمر الشاعر عندما رفعت الحرب عقيرتها
عام ( 1980 ) ولذلك يستطرد الشاعر..
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أنا أشعلت ما تبقى للرحيل
على كل باب راية سوداء تشق فحولة النهار
كفى تناسلا أيها الخراب/ 24
ولاجرم أن للذات حضوراً فائقاً في القصيدة الحديثة، إلى حد أن يلغى اختزال هذه الذات منها كيان القصيدة ذاتها. إن حضور الذات هنا إنما يمثل رداً منطقيا ووجودياعلى الكارثة التي تستهدف إلغاء الإنسان واقتلاعه من جذوره بالموت أو المسخ أو النفي. والشاعر الذي يتكلم هنا إنما يعبر عن ذات جمعية شمولية كانت ومازالت مهددة بالزوال عبر الحروب والكوارث التي تلاحق أرض السواد حتى اليوم. الأنا هي تتويج للمأساة الإنسانية التي خلفتها الكارثة..
حداد يغلف حيواتنا
أحاول- دون جدوى- أن أفتح كوّة فيه
لا أجدني الاانكسارا يشعّ/ 16
أو صورة ألذات عبر تصوير ما آلت إليه الطفولة المقطوعة أو المفطومة قبل الأوان..
لست إلا الأخير في قافلة العزلة
ولأني بلا أمجاد ترصع حياتي
تركتني أحلامي ومضت
على الشبابيك تركت تلهفي
والأبواب تركت عليها خيباتي/ 14-15
جسدي أدمته الشظايا فلا ذ بقهوة المنفى
أنا بلا متع بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلاً في أقصى الضياع
ترثيني فاجعتي ويقودني حطامي
أتتبع آثار طفولة وأرتق أمانٍ دهستها المجنزرات/ 17
فالأمنية والحلم والمرأة والمجد والحياة والأمان وغيرها الكثير ليست سوى مشاريع مؤجلة حكمت عليها الكارثة بالإلغاء.
- الحروب التي كنت خاسرها الوحيد-
علقتها على مضض
ومضيت أبحث عني
.. أعلق عمري على رصاصة
تدلت من سماء بعيدة
أصابعي بقايا مدن غابرة
وختم الموتى خطواتي
انتظريني أيتها الشمس/ 32- 33
القصيدة الحديثة قصيدة ذات، قصيدة موضوع، قصيدة أفكار،قصيدة أسئلة لا تنتهي، قصيدة بلا فراغات، بلا حشو، قصيدة تأتي من ذاتها ولا يبحث عنها الشاعر أو يسعى إليها أو يصعد إلى عليين لاستنزالها. قد تكون قصيدة الخراب أو اليأس والقنوط أو الفوضى والدمار ولكنها في كل ذلك ليست سوى إفراز ونتيجة للخراب واليأس والقنوط والفوضى والدمار الذي ما يزال يتناسل بفعل الكارثة. ولكن القصيدة بالمقابل ترقى على الكارثة وتتجاوزها ببعدها الإنساني. فالكارثة لاتقدم ولا تملك غير الخراب والدمار بيد إن القصيدة لا تنقطع عن الحلم والإصرار على الابتسام رغم إن الأجيال التي اكتوت بالحرب والحصار واختزلت أجمل سنوات شبابها افتقدت كل ذلك من اجل الموت أو من اجل شيخوخة مبكرة حفرت السنوات نتوءاتها العميقة في قيعانها. وكما يشير إليه أحد شعراء هذا الجيل حسن النصّار بالقول:
" احتاج أشياء كثيرة.. أولها أنا " ، يقول باسم فرات..
أنا السومري..
المدجج بالأحلام والأسئلة/ 13
..
أنا جنة نفسي وقيامتها
بتؤدة أشير للرياحين..
بتؤدة تنساب الحقول فوق سريري
تنضح الضفاف عويلها بقربي/ 14
وتمثل قصيدة المجموعة الأخيرة التي عنونها بتاريخ ميلاده/ 64 قمة انثيالاته لتجميع ماتشظى من تلك الطفولة وإعادة بروزتها في فاترينة الذاكرة. قصيدة الأسئلة التي لا تنتهي والصور التي لا تكتمل..
عيناي تسهبان
وعلى شفتي انكسارات
أمجاد حروب لغيري
لا أدنو ، لكن قلبي يجف
السر فات سحقت ذاكرتي
والزنازين جعلتني قميصاً متهرئا
على كتفي تسيل المنافي
وفي الشبابيك أسئلة الغائب
في سلة الألم تنكسر شموسي
وصهيلي يسيل هو الآخر قبل أن يصل
أنا باسم محمد...يا الله... أتعرفني؟!
المخافر موشومة على جلدي
وأمي لم تلتفت للشظايا
حين مشطت صباي
فأهالت الشمع والآس معاً فوق صباحي
بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
كانت تكنس الطائرات
لترسمني كما تشتهي
ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
وتحت لساني نهران يهدران
أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
البلاد خريف طويل
سيل من الغثيان
نهار يختبئ تحت القبعة
وعلى صدرك تتفتح الأسئلة/66 - 64
ثانياً : ذاكرة المكان
وبقدر تمثل القصيدة للطفولة المستلبة تتمثل بنفس القدر لدالة المكان المستلب هو الآخر عبر جملة من الرموز والدلالات .. الوطن / النهران/ البلاد خريف طويل/ السواد/ الحروب والطائرات والسر فات/ الزنازين والمخافر والمنافي/ الحروب بالنيابة/الغائب والذاكرة والشظايا.. فالطفولة بحد ذاتها إنما هي إحالة مباشرة على المكان/البيئة/ العائلة التي تمثل مشخصات بارزة في قصائد المجموعة.. والشاعر باسم فرات ضمن اهتمامه بالتكثيف العالي للغة يمكن الاستدلال إلى عالمه عبر مفاتيح قصائده أي العناوين.. بدءاً من الغنى الدلالي الذي يحفل به عنوان المجموعة المقترض من عنوان قصيدة [ خريف المآذن ] إلى عناوين القصائد الأخرى والتي تقدم بمجملها صورة بانورامية لعالم كربلاء المدينة الغارقة في الضوء والحزن والسؤال الجريح .. إلى لغة الضوء أقود القناديل / عانقت برجاً خلته مئذنة/ دلني أيها السواد/ آهلون بالنزيف / أقول أنثى ولا أعني كربلاء/ عواء ابن آوى/ خريف المآذن..ربيع السواد.. دمنا/ جنوب مطلق. أن ثمة شعوراً يستثيره صف العناوين هذاليتحول إلى موكب حسيني حافل من مواكب عاشوراء الملهمة، كما لو أنها هي منطلق الشاعر الذي يرانا عبره.
أبوابك صدئت أكفها
ومازالت على العتبة
مستيقظة تلويحتهاالباهتة
ثقبوا قميصك بالآس
ونسوا على الطاولة جرحك
مثلما نسيت أيامك تحرس خطواتهم
علمت الحناء الرقص في أصابعهم../ 30- 31
والى جانب الحناء والآس والشمع والكف والعتبة تتخذ الأبواب والشبابيك والشرفات مكانة من المشهد العاشوري..
الذين أوقدوا شمعتك ناحل رحيلهم/ 30
ويستبدل الشموع بالهزائم والحناء بالشظايا في قصيدته[عبرت الحدود مصادفة]..
رائحة الشظايا
غثيان يستطيل
أجرُّ هزائم متكررة
أصفها على الطاولة/ 32
رمادها-هذه الحروب- أغلق روحي
وجفَّف زيت طفولتي عند الباب
الأبواب أطلقتني/ 33
وغباري يفترش الشبابيك والأسئلة/ 34
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الأزمان خطواتي/ 41
بينما يرفع حزن أمه المترملة إلى صورة المشهد التراثي العميق لمأساة ألطف في قصيدته [ عواء أبن آوى ] عبر مداخلة ومقارنة حية بين زمنين وحالتين ليستا في واقع الحال إلا زمناَهيوليا مفتوحاَ وحالة لا تكف عن التناسل..
(قتيل بالطفو ف أطال نوحي
وأسلمني إلى الحزن الطويل)
تحمل كتباَ من الزعفران وتخفي أخريات من العقيق
إلى سجن ألسندي حيث يرقد أبي
أبي الذي خاض مائة حرب منذ ميلا د الخطيئة البكر
حتى جنوح القبائل النويية في الحكم
كانت تحمل له الشمس والقمر وإحدى عشرة رغبة
لتشد من أزره
وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
يمسح العلقمي دمعه ويتوارى
حاملين كفين باسقتين تتوهجان خضرة وندماَ
تصعد التل لتشهد عواء ابن آوى في المدينة
على يد آخر القتلة
وحين طافوا برأسه في المدن
زينت أمي وجه الخليفة ببصاقها/ 48
ويمكن الانتباه هنا إلى قصيدة الشاعر المراوغة في استخدام الفعل الماضي(زينت) وحالة الجناس الموحية أو الدالة على اسم العلم لتظهر العبارة كما لو كانت (زينت أمي) لدى القارئ والمتداخلتين نصاَ داخل القصيدة .
لقد استثمر الشاعر البنية الدلالية لمسرح ألطف وفتحها على الحاضر والراهن بكل فجائعه وتشظياته موحداَ من ناحية أخرى بين الحالة الذاتية والموضوع العام وبالشكل الذي جعل من [ خريف المآذن] صورة حية ناطقة بقدر عالٍ من العمق والمصداقية، من التكثيف والسعة، من الألم والحلم المجروح. خريف المآذن، قراءة الشاعر باسم فرات للكارثة التي أحنت الجبل،هي حبل تعلقه بالطفولة المستلبة والوطن المستلب،بالأم والمدينة والأحلام المقتلعة من جذورها. وهي مجموعته الثانية التي أصدرها في الغربة بعد مجموعته الأولى [أشد الهديل]/ 1999.
______________________________
0 باسم فرات: شاعر عراقي ( 1967 - كربلاء) مقيم في المنفى . له مجموعتان شعريتان .
0 وديع العبيدي: شاعر وكاتب عراقي مقيم في النمسا، له عدة إصدارات شعرية ونقدية ويصدر مجلة ثقافية فصلية باسم [ ضفاف].