نتحدث عن الطغاة وجهلهم بالتاريخ، ونعجب لمثقفين يديرون ظهر المجن لتاريخ بلادهم، لكن أن يصل الأمر إلى أن يشترك المثقف بتزوير التاريخ، وصياغة سردية مبنية على مغالطات لا حصر لها، فهذا يقود إلى سؤال: كيف يمكننا أن ننتقد الآخر المختلف إثنيًّا أو دينيًّا، وهو يبني سرديته في الإساءة للأكثرية العربية والإسلامية، بينما المثقف العربي نفسه يُسهم في تشكيل وعيٍ زائف؟
أنموذجان أود الاستشهاد بهما، لعل هناك مَن يُسهم في وقف عجلة التخريب في النسق الثقافي العربي، الأنموذج الأول هو الحديث عن الفتوحات وكأن لا وجود لعرب في العراق وبلاد الشام ومصر قبل الإسلام، وأن هذا الفتح لم يجلب معه سوى الخراب والدمار، وفي هذين الأنموذجين سنرى البؤس الذي كان يعيشه السكان المحليون، وكيف أن مؤرخًا وراهبًا معاصرًا للأحداث أبدى شهادته باللغة السريانية عن الفتوحات الفتوحات الإسلامية.
يسأل أستاذ جامعي يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي؛ وما بعدها من ترقيات علمية: ما الذي كان ينقص العراق ومصر؟ فيجيبه شاعر وكاتب أكبر منه سنًّا بأنهما" كانت تنقصهما الفوضى والموت والقتل الجاهز، وأَسْـلِمْ تَسْلَم"، هكذا وبكل راحة ضمير واستقالة للعقل، يتم بناء سردية تُشيطن الذات من الداخل (العربي) وليس من الخارج (غير العربي).
إن المثقف لو أتعب نفسه قليلاً وقرأ تاريخ المنطقة جيدًا قبل الإسلام؛فسيجد أن النزاع الساساني والبيزنطي قد أهلك الحرث والنسل، وأصبحت هذه الشعوب مثقلة بالهموم والخوف والرعب والجوع، حتى شهدت المدونة السريانية المسيحية بهذه الشهادة المعاصرة لأحداث الفتوحات وكيف تعامل المسلمون الفاتحون مع المسيحيين.
"عاد الروم واحتلوا مصرَ وطردوا الفرسَ، وأثار قورس اضطهادًا على المؤمنين هناك. وعلى مؤمني سورية للسبب نفسه. وبعد أن زال نفوذ الفرس وحَكَمَ الرومُ واحتلوا مُدنًا في سورية وبين النهرين، جاء الملك هرقل إلى سورية... وكتب إلى كافة أنحاء المملكة يقول (هرقل): كل مَن لا يقبل مجمع خلقيدونية يُقطع أنفه وآذانه وينهب بيته. واستمر هذا الاضطهاد مدة غير يسيرة... ولم يسمح هرقل لأحد من الأرثوذكس بزيارته، ولم يقبل شكواهم بصدد اغتصاب كنائسهم".
"وأن الله إله النقمة الذي وحده له السلطان على كل شيءٍ، هو الذي يغير الملك كما يشاء ويعطيه لمن يشاء، ويقيم عليه الضعفاء، إذ رأى خيانة الروم الذين كانوا ينهبون كنائسنا وأديرتنا كلما اشتدّ ساعدهم في الحكم، ويقاضوننا بلا رحمة، جاء من الجنوب بأبناء إسماعيل، لكي يكون لنا الخلاص من أيدي الروم بواسطتهم. أما الكنائس التي كنا قد فقدناها باغتصاب الخلقيدونيين إياها، فبقيت بيدهم، لأن العرب؛ لدى دخولهم المدينة؛ أبقوا لكل طائفة ما بحوزتها من الكنائس. وقد فقدنا في هذه "الفترة" كنيسة الرها الكبرى وكنيسة حران، غير أن فائدتنا لم تكن يسيرة، حيث إننا تحررنا من خبث الروم ومن شرهم وبطشهم وحقدهم المرير علينا، وتمتعنا بالطمأنينة" (تاريخ مار ميخائيل السرياني ج2، ص301- 302).
هذا ما كان عليه حال المنطقة العربية- السريانية- القبطية على يد الروم والساسانيين قبيل الإسلام، وهكذا صار العرب يمثلون الخلاص للمسيحيين الذين تمتعوا بالطمأنينة، وليس هناك "أسلم تسلم". وهذا لا يعني أن الفاتحين الجدد كانوا ملائكة، بل هم بشر ولكنهم لم يكونوا بتلك الصورة التي بولغ فيها كثيرًا، صورة رسمت لهم بعد قرون من الزمن على يد أهواء غير محايدة تمامًا.
صحيفة العرب اللندنية
[نُشر في 2017/10/08، العدد: 10775، ص(11)]
http://www.alarab.co.uk/article/Opinion/120784/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AB%D9%82%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%BA%D9%80%D8%A7%D8%AA