الموت البطيء الذي يلازم الانسان في حياته , الحرب وويلاتها , الزمن الغابر في وقت الفجيعة , القباب ومآذنها الشامخة شموخ الجبال ,الاحلام الضائعة في الزمن الصعب , الحنين الى الوطن ومآسيه الموجعة في طرقات الغربة ,. كل هذه المسميات الكارثية تجعل من الانسان العادي ان يتأمل ويفكر كثيراً ريثما يجد ظالته في العالم المملوء بالويلات , , , فكيف اذا سيكون الحال مع الشاعر ! الشاعر صاحب ا لحس والتوجس الغير طبيعيين , انه الاحساس المفرط بتلك المسميات والاشياء التي تدور من حوله .ان الشاعر والشعر هما الولوج المفرط الى هذا العالم ومسمياته , انهما الانتماء الحقيقي الى الارض والانسان بكل التفاصيل المتشضية من تلك المفردتين والتي على أساسهما تقوم الحياة ويحيى الجميع , ..
هنا في " خريف المآذن " المجموعة الشعرية الثانية للشاعر العراقي باسم فرات المقيم منذ اكثر من خمس سنوات في نيوزيلندا والصادرة عام 2002 عن دار ازمة في عمان , يفاجئنا بنصوص شعرية تقترب بحيثياتها الى الموت الذي كان مخيماً منذ عقود على وطنه العراق بمآذنه وقبابه واهله وارضه , حيث كل شيء لم يسلم في تلك البلاد حتى الماء, فهم قاموا بتجفيفه وحتى الهواء اصبح حكرا على الناس في هذا الموطن العريق بانتمائه الى تلك الارض , فالشاعر هنا وفي هذه المجموعة يبدو متشائماً بدرجة كبيرة من كل ما هو حوله ,
ففي قصيدة " الى لغة الضوء اقود القناديل " ص 9 يقول فرات :
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الاخير في القافلة العزلة
صهيلي يتكيء على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
كيف لي أن اترك نسياني
يوزع ذكرياته بأتجاه الالم
ولا يصرخ : يا بلاد استرجعين
البراءة عزلاء إلا من السواد
وأنا أتلمس دمي ....
في هذا المقطع من القصيدة ,, الظلام الدامس يخيم على الشاعر وهو غير مكترث لشيء سوى ان يتلمس دمه في لجة المحنة وهاجسه المربك بالمسميات التي هي ديمومة وحياة الروح في داخل نص الشاعر , كما وان الشاعر باسم فرات يمتاز بنصوصه المعروفة لدى القاريء المتابع لشعره بلغة صافية وخالية من الشوائب, تماماً تحيلك تلك اللغة الى الهدوء الذي تسبقه العاصفة , فهدوء اللغة داخل النص نقيض كبير للفواجع داخل سياقات النص الممزج باللوعة والموت والالم .
وكما نلاحظ ايضاً في قصيدة ارسم بغداد ص17 :
يتلوى العمر على الورقة
أو
يتبختر – يالرعونته – تحت نزيف الطائرات
جسدي أدمنته الشظايا فلاذ بقهوة المنفى
أنا بلا متع بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلا في اقصى الضياع
ترثيني فاجعتي
ويقودني حطامي ...
هذا المقطع من القصيدة يرمي بنا الى كثرة الطائرات التي قصفت تلك العاصمة التاريخية منذ عقدين ونيف , حيث لم يمر عام الا والطائرات تغير على سماء هذه المدينة العباسية الاصيلة , وكم تحملتَ من القنابل والانفلاقات المحتوية على ملايين الشظايا , وبرغم ذلك كله ظلت مدينة الرشيد شامخة عالية لا احد يستطيع اذلالها عدا حكامها الذين كانوا اول الهاربين بعد ان حكموا الشعب بالحديد والنار منذ عقود ...
ويواصل الشاعر فرات ماسآة البلاد عبر نصوصه اللاحقة كما في قصيدة " عانقة برجاً خلته مئذنة " ص22 , و " دلني أيها السواد " ص28 , و" آهلون بالنزيف " ص30 , و"عبرت الحدود مصادفة " و " وعناق لا يقطعه سوى القصف " ص36 ,.
ومن ثم يبدأ التنقل شيءً فشيئاً الى امكنة الطفولة والصبا في مدينته كربلاء والتي اطلق احتجاجه البكر فيها عام 1967 , وبعد سنتين من هذا الميلاد اطلق ابيه احتجاجه الاخير وهو في سن الخامسة والعشرين دفاعاً عن جارته !
وقد عاش الشاعر يتيم الاب , فيما ظل متمسكاً بامه التي بقيت اليه , وهي رآيته الاولى ولكن من دون امل ,
كما نلاحظ هنا في قصيدة " اقول أنثى ... ولا اعني كربلاء " ص41
كلهم ظلالي
أستدرج أحلامي الى موقد
تترنح فيه أصابعي
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الازمان خطواتي
يتآكل الحنين في لساني
ومن لاذ بالصمت لا يستبيح ظلّي
ويحرز غاباتي برمله ...
وفي قصيدة " عواء ابن آوى " ص47 حيث مشهد الام التي ثكلت زوجها وهو
في بداية شبابه :
امي آيات حناء يغلبها العشق
فترملت !
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول فرات:
وإذ يقتل أبي ويحزّ رأسه
يمسح العلقمي دموعي ويتوارى
حاملاً كفين باسقتين يتوهجان خضرة وندماً
تصعد التل لتشهد عواء ابن آوى في المدينة
على يد آخر القتلة
وحين طافوا برأسه في المدن
زينت أمي وجه الخليفة ببصاقها
وأطفأت قناديله الداعرة ......
كذلك الحال في اجواء القصائد الاخيرة من الديوان والتي هي " خريف المآذن ..ربيع السواد .. دمنا " ,و " جنوب مطلق " , و" 1/3/1967 " وهذه القصيدة المرقمة هي عبارة عن تاريخ ميلاد الشاعر .
مجموعة خريف المآذن جاءت ب67 صفحة من القطع المتوسط ويا للمفارقة فعدد صفحات المجموعة هو ذاته ميلاد الشاعر .
تسجل خريف المآذن حضوراً ملفت للنظر في تاريخ قصيدة النثر العراقية اولاً والعربية ثانياً على حد سواء , ذلك ان الشعر العراقي هو المتفرد في الساحة الشعرية منذ عصور , . وقد بزغ العديد من الشعراء العراقيين خاصة في العشرين سنة الاخيرة , وخصوصاً في المنفى القسري الذي اختاروه مرغمين نتيجة لدكتاتورية النظام البائد في العراق الذي جعل الكل رماداً للحروب تلك الحروب التي كان يفتعلها ذاك النظام المعتوه , والذي ظل طوال عقود من الزمان يبدد بثروات العراق يميناً وشمالاً دون ان يلتفت ولو لولهة واحدة الى الشعب وما كان يعاني منه , مخلفاً وراءه الآلاف من المشردين واللاجئين والعوائل المنكوبة والامهات الثكالى والمقابر الجماعية التي ملئة ارض العراق بابنائه الذين لم يقترفوا ذنباً يوؤهلهم الى الموت بتلك الطريقة البشعة , وما خفيه كان اعظم وافظع .....
ان مجموعة خريف المآذن هي التعبير الاحق لكل تلك التفاصيل الدموية التي عاشتها البلاد في زمن الفجيعة وزمن المؤامرة السوداء , ولهذا فقد دون الشعراء تلك الحقبة الزمنية بطريقة فنية عالية تكاد تكون فريدة بنوعها وبصدقها وبانصافها للأمور المستوحات من تلك الظروف القاسية والتي كان وقعها اشد على الفقراء من البشر وخاصة الشعراء منهم , انه شجى الحنين المعتق بالغربة .
ولذا فان الشاعر باسم فرات قد دون حقبة عصيبة عبر خريف المآذن , كما انه قد ابدع في مجموعته الاولى " أشد الهديل " والتي صدرت عن دار ألواح بأسبانيا عام 1999
اوسلو/ النرويج
هنا في " خريف المآذن " المجموعة الشعرية الثانية للشاعر العراقي باسم فرات المقيم منذ اكثر من خمس سنوات في نيوزيلندا والصادرة عام 2002 عن دار ازمة في عمان , يفاجئنا بنصوص شعرية تقترب بحيثياتها الى الموت الذي كان مخيماً منذ عقود على وطنه العراق بمآذنه وقبابه واهله وارضه , حيث كل شيء لم يسلم في تلك البلاد حتى الماء, فهم قاموا بتجفيفه وحتى الهواء اصبح حكرا على الناس في هذا الموطن العريق بانتمائه الى تلك الارض , فالشاعر هنا وفي هذه المجموعة يبدو متشائماً بدرجة كبيرة من كل ما هو حوله ,
ففي قصيدة " الى لغة الضوء اقود القناديل " ص 9 يقول فرات :
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الاخير في القافلة العزلة
صهيلي يتكيء على صحراء فاض حدادها
ويهرول بين الامطار وبين الشظايا
كيف لي أن اترك نسياني
يوزع ذكرياته بأتجاه الالم
ولا يصرخ : يا بلاد استرجعين
البراءة عزلاء إلا من السواد
وأنا أتلمس دمي ....
في هذا المقطع من القصيدة ,, الظلام الدامس يخيم على الشاعر وهو غير مكترث لشيء سوى ان يتلمس دمه في لجة المحنة وهاجسه المربك بالمسميات التي هي ديمومة وحياة الروح في داخل نص الشاعر , كما وان الشاعر باسم فرات يمتاز بنصوصه المعروفة لدى القاريء المتابع لشعره بلغة صافية وخالية من الشوائب, تماماً تحيلك تلك اللغة الى الهدوء الذي تسبقه العاصفة , فهدوء اللغة داخل النص نقيض كبير للفواجع داخل سياقات النص الممزج باللوعة والموت والالم .
وكما نلاحظ ايضاً في قصيدة ارسم بغداد ص17 :
يتلوى العمر على الورقة
أو
يتبختر – يالرعونته – تحت نزيف الطائرات
جسدي أدمنته الشظايا فلاذ بقهوة المنفى
أنا بلا متع بلا أمجاد
خذلتني أحلامي
منعزلا في اقصى الضياع
ترثيني فاجعتي
ويقودني حطامي ...
هذا المقطع من القصيدة يرمي بنا الى كثرة الطائرات التي قصفت تلك العاصمة التاريخية منذ عقدين ونيف , حيث لم يمر عام الا والطائرات تغير على سماء هذه المدينة العباسية الاصيلة , وكم تحملتَ من القنابل والانفلاقات المحتوية على ملايين الشظايا , وبرغم ذلك كله ظلت مدينة الرشيد شامخة عالية لا احد يستطيع اذلالها عدا حكامها الذين كانوا اول الهاربين بعد ان حكموا الشعب بالحديد والنار منذ عقود ...
ويواصل الشاعر فرات ماسآة البلاد عبر نصوصه اللاحقة كما في قصيدة " عانقة برجاً خلته مئذنة " ص22 , و " دلني أيها السواد " ص28 , و" آهلون بالنزيف " ص30 , و"عبرت الحدود مصادفة " و " وعناق لا يقطعه سوى القصف " ص36 ,.
ومن ثم يبدأ التنقل شيءً فشيئاً الى امكنة الطفولة والصبا في مدينته كربلاء والتي اطلق احتجاجه البكر فيها عام 1967 , وبعد سنتين من هذا الميلاد اطلق ابيه احتجاجه الاخير وهو في سن الخامسة والعشرين دفاعاً عن جارته !
وقد عاش الشاعر يتيم الاب , فيما ظل متمسكاً بامه التي بقيت اليه , وهي رآيته الاولى ولكن من دون امل ,
كما نلاحظ هنا في قصيدة " اقول أنثى ... ولا اعني كربلاء " ص41
كلهم ظلالي
أستدرج أحلامي الى موقد
تترنح فيه أصابعي
مرهقة أبواب الدار من الصراخ
وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
وبلا أمل ستجوب الازمان خطواتي
يتآكل الحنين في لساني
ومن لاذ بالصمت لا يستبيح ظلّي
ويحرز غاباتي برمله ...
وفي قصيدة " عواء ابن آوى " ص47 حيث مشهد الام التي ثكلت زوجها وهو
في بداية شبابه :
امي آيات حناء يغلبها العشق
فترملت !
وفي مقطع آخر من نفس القصيدة يقول فرات:
وإذ يقتل أبي ويحزّ رأسه
يمسح العلقمي دموعي ويتوارى
حاملاً كفين باسقتين يتوهجان خضرة وندماً
تصعد التل لتشهد عواء ابن آوى في المدينة
على يد آخر القتلة
وحين طافوا برأسه في المدن
زينت أمي وجه الخليفة ببصاقها
وأطفأت قناديله الداعرة ......
كذلك الحال في اجواء القصائد الاخيرة من الديوان والتي هي " خريف المآذن ..ربيع السواد .. دمنا " ,و " جنوب مطلق " , و" 1/3/1967 " وهذه القصيدة المرقمة هي عبارة عن تاريخ ميلاد الشاعر .
مجموعة خريف المآذن جاءت ب67 صفحة من القطع المتوسط ويا للمفارقة فعدد صفحات المجموعة هو ذاته ميلاد الشاعر .
تسجل خريف المآذن حضوراً ملفت للنظر في تاريخ قصيدة النثر العراقية اولاً والعربية ثانياً على حد سواء , ذلك ان الشعر العراقي هو المتفرد في الساحة الشعرية منذ عصور , . وقد بزغ العديد من الشعراء العراقيين خاصة في العشرين سنة الاخيرة , وخصوصاً في المنفى القسري الذي اختاروه مرغمين نتيجة لدكتاتورية النظام البائد في العراق الذي جعل الكل رماداً للحروب تلك الحروب التي كان يفتعلها ذاك النظام المعتوه , والذي ظل طوال عقود من الزمان يبدد بثروات العراق يميناً وشمالاً دون ان يلتفت ولو لولهة واحدة الى الشعب وما كان يعاني منه , مخلفاً وراءه الآلاف من المشردين واللاجئين والعوائل المنكوبة والامهات الثكالى والمقابر الجماعية التي ملئة ارض العراق بابنائه الذين لم يقترفوا ذنباً يوؤهلهم الى الموت بتلك الطريقة البشعة , وما خفيه كان اعظم وافظع .....
ان مجموعة خريف المآذن هي التعبير الاحق لكل تلك التفاصيل الدموية التي عاشتها البلاد في زمن الفجيعة وزمن المؤامرة السوداء , ولهذا فقد دون الشعراء تلك الحقبة الزمنية بطريقة فنية عالية تكاد تكون فريدة بنوعها وبصدقها وبانصافها للأمور المستوحات من تلك الظروف القاسية والتي كان وقعها اشد على الفقراء من البشر وخاصة الشعراء منهم , انه شجى الحنين المعتق بالغربة .
ولذا فان الشاعر باسم فرات قد دون حقبة عصيبة عبر خريف المآذن , كما انه قد ابدع في مجموعته الاولى " أشد الهديل " والتي صدرت عن دار ألواح بأسبانيا عام 1999
اوسلو/ النرويج