قراءة في مجموعة ( محبرة الرعاة ) لباسم فرات
هادي الحسيني
يواصل الشاعر العراقي ( باسم فرات ) المولود في كربلاء عام 1967 ، المدينة التي كان لها الفضل الأول في تكوينه ، فأجواء كربلاء تختلف كلياً عن كل مدن العالم فهي حالة استثنائية ، وقد استطاع باسم فرات أن يسير بخطى واثقة ليجعل من تجربته الشعرية تجربة فريدة ومختلفة بتاريخ الشعرية العراقية وكذلك العربية خاصة عندما أضاف لها من سفره وترحاله الذي تفوق كثيراً على الرحالة القدماء ممن قرأنا عنهم مثل ابن بطوطه وابن فضلان وغيرهم ، فإذا كان ابن بطوطة قد كتب لنا عن شمال افريقيا وبلاد فارس وشبه الجزيرة العربية والصومال وابن فضلان كتب لنا عن اسكندنافيا والصقالبة والروس ، فأن باسم فرات قد كتب لنا عن أماكن لم يعرفها العرب ولم يسمعوا بها حتى اليوم في هذا العالم ، أماكن بعيدة جداً وفيها من الخطورة الكبيرة على حياة زائرها ، ولا ينفصل الشعر عن الرحالة فالشعر ايضا هو رحالة وينتقل بنا من خلال الجغرافية . وبالإضافة للشعر وكتاباته الممتعة برحلاته التي في الغالب فيها عنصر التشويق لأماكن لم نعرفها ولم نحلم بزيارتها يوماً في هذا العالم المترامي الأطراف ولم تأتِ اعطباطاً إلا من خلال قراءاته العميقة في التاريخ وبخاصة التاريخ القديم لوادي الرافدين ووادي النيل .
في كتب باسم فرات الشعرية السابقة ومنذ كتابه الأول (أشد الهديل) الصادر عام 1999 في اسبانيا عن دار ألواح ، مروراً بديوانه الثاني خريف المآذن وانا ثانية وكتب أخرى وحتى كتابه الأخير ( أهز النسيان ) عام 2017 فهو يقدم لنا مادة مختلفة عما يكتب من شعر ضمن سياق قصيدة النثر التي يعتبر باسم احد كتابها منذ فترة التسعينيات ،
نقرأ اليوم في ( محبرة الرعاة) وهي المجموعة الشعرية الثامنة لباسم والتي كتبت أغلب قصائدها في السوداني حيث يقييم الشاعر منذ فترة قاربت على الخمس سنوات وكذلك زياراته المستمرة الى مصر سواء كانت الى القاهرة او الاسكندرية ومدن أخرى ومعرفتة الجيدة بتفاصيل حضارة وادي النيل ، فكتب الشاعر قصائده عن السودان ومصر وعن نيلها العظيم ،والنيل هو النهر الوحيد في العالم الذي يجري عكس أنهار العالم ! ففي قصيدة أولى بعنوان (مفتتح) يعرّف الشاعر بنفسه بانه ابن حضارة من أقدم الحضارات بالتاريخ تمتلك نهرين عظيمين هما دجلة والفرات ويطلق عليهما بالفراتين ، ولقد بدأت هجرة وترحال الشاعر منذ عام 1993 عندما وضع خطاه الأولى داخل العاصمة الأردنية عمّان ومنها أنطلق الى نيوزلندا واليابان وعاش في مدينة هيروشيما التي دمرتها قنبلة امريكا الذرية ! والأكوادور ودول كثيرة أخرى إلى أن استقر به المطاف في السودان حيث ملتقى النيل الأبيض والأزرق ، وكما قلت سلفاً ان نهر النيل ينبع عكس كل أنهار العالم فهو ينبع من الجنوب الى الشمال بينما كل الأنهار بما فيها دجلة والفرات تنبع من الشمال الى الجنوب ! ولعل المنافي التي قادته الى هذا الملتقى هي التي جعلت من الشاعر ان يكون شجاعاً فطناً طيباً متسامحاً كريماً ، وهذه حقيقة الشاعر باسم فرات الذي عرفته عن كثب منذ بداية التسعينيات وواكبت تجربته الشعرية وتطورها منذ مجموعته الأولى وما قبلها عندما كان ينشر قصائده في بعض الصحف والمجلات العراقية والعربية ، وبالرغم من اننا افترقنا اوخر العقد التسعيني عندما هاجر الى نيوزلندا وانا الى النرويج إلا اننا بقينا على تواصل مستمر في الشعر والثقافة ولم ننقطع ابداً حتى عندما ألتقيته في القاهرة على هامش معرض القاهرة للكتاب قبل شهور قليلة كانت الفرحة كبيرة به وبنتاجه الإبداعي . يقول الشاعر فرات في قصيدته مفتتح ص 7
سليل الفراتين أنا
قادتني المنافي إلى ملتقى النيلين الأبيض والأزرق
أصبحتُ ( زولاً)
في قارورتي ، عبق الأسلافِ
عشبتي المحبة ، والرحيل نايي . .
ومن القصيدة الأولى يحاول الشاعر أن يدخلنا إلى عالم جميل هو وادي النيل الذي ينبع من السودان عبر دلتاه ليجري عبر الأراضي المصرية التي تسمى بوادي النيل ، ولطالما قرأنا الكثير عن ذلك النهر وحضارته العظيمة لكنا لم نعرفه بالطريقة التي قدمها لنا باسم فرات وهو يعيش في أحضان تلك الحضارة بعد أن ولد في أرض الرافدين . تنقسم قصائد مجموعة ( محبرة الرعاة ) الى قسمين ، الأول هو القصائد السودانية إذا جاز لي تسميتها: وتحتوي على أرض وحضارة السودان ومشاهداته للغابات والبساطة التي تلف المدن داخل البلد الهاديء والجميل الذي فيه الكثير من التقارب والمشتركات ما بين السودان ومصر وحتى أهرامات فرعونية موجودة في السودان لكنها بشكل صغير أقل بكثير من أهرامات الجيزة التي تعبر من عجائب الدنيا السبع ، فالحضارة واحدة والمشتركات حتما تكون كثيرة . ويحدثنا الشاعر باسم فرات عن هوسه بالهامشي والمهمل وبالمدن البسيطة التي يعشقها ولا يحب المدن التي تشعره بالملل والمنغصات الكثيرة التي تتعبه ففي ص 8 وقصيدة بعنوان ( هوس الشاعر يقول :
لا أجيد اتباع خطوات غيري
مهووس بالهامشي والمهمل ، نداءات الأطراف تغريني
فأشعر بالملل من مدن ببذلة وبربطة عنق !
لا أجدني إلا عاشقاً ، وثب نسراً على قمم أشجار عملاقة ..
ثم يقول عن الأشجار الطويلة التي تلفت أنظار الفقراء وأبناء السبيل الذين ينامون على ظلالها ، ويصفها بمخيلة جميلة وبإلتقاطة شاعر نبيه عبر قصيدة تحمل عنوان الأشجاء ص10:
الأشجار العالية في الطرقات المكتظة بالبشر
لا منافذ لحنينها إلى الغابات البعيدة
إذ تحتضن طيوراً وأفاعي ،ورياح مشبعة بروائح النباتات
تلك الأشجار البعيدة
صارت مصانع وعمارات وطرقاً
تتخللها أشجار عالية ، تشعر باليتم
تحتها ينام العابرون
أو يستظل أبناءُ السبيل ..
وفي قصيدة بعنوان (عشبة وناي) يكتب الشاعر عن الغابات وفؤوس الحطابين وعن المد والجزر والخليج ونفطه والعتالين ويتداخل في تلك القصيدة الماضي والحاضر عندما يلتقي بالفيلة التي يقدم لها قصب سومر ويستذكر كلكامش وانكيدو ، فيقول الشاعر فرات ص 15 :
صوت بعيد يسحبني
وتجاذبني حكايا غابات ، تئن من فؤوس حطابين
رحت أنصت وأدون أنينها ، لأنقذ غوايتي مني
وأسوق الريح إلى مستودع الأحلام
جزر تشكو اليتم ، ثمارها غرقى
عتالون يحتسون عرق مراراتهم
وعلى ظهورهم سياط ملوك عابرين
نادمتهم بثياب مضرجة بشموع الأربعاء .
ثم نقرأ قصائد رائعة ضمن القصائد التي تحدث فيها عن مناطق وتاريخ السودان فنعرف ان قصيدة ( طهارقا ) وهو أسم أهم وأعظم ملوك السودان الذي وصلت جيوشه الى مشارف فلسطين لكنه انكسر وخسر جيشه أمام الجيش الآشوري للدولة الآشورية داخل العراق وفي تلك الخسارة كانت نهاية امبراطورية طهارقا ! فيقول الشاعر ص 29 :
كهنة آمون رعْ في البركل
أفاقوا على صوت اشرأب من نهر النيل
يعلن أن طهارقا الملك لن يغادره العطش
إلا حين يضع العراقي نظره على قلبه
غلامته نهران دافقان على يمينه وشماله
في جبينه تراتيل معابد بابلية تسري الرياح تحت قدميه
معبأة بمواويل القرى ، يوم استنجد بها الملوك فطردتهم
خشية على عذارى النخيل
أنا العراقي الذي استظلتْ بظلهِ .
الشعر وصوره الحاضرة في عيون المكان وعيون التاريخ الذي يستعيده الشاعر ويوظفه بطريقة العارف داخل أغلب قصائد المجموعة التي تستحضر زمنيين ماضي – حاضر ، في نفس الأماكن التي يقطنها اليوم ويسقط عليها الزمنيين فتبدو القصائد حاملة لدفء الماضي وأمجاده وحضارته المشرقة والحاضر الذي نتنفسه اليوم .
نقرأ ايضا قصيدة بعنوان (النيل الأبيض )الذين يمر بمسافة مئات الكيلو مترات داخل الاراضي السوداني ، وقد سميّ بالنيل الأبيض كما يشرح الشاعر في هامش القصيدة فيقول عن نهر السوباط الذي هو الأقصى جنوباً بين روافد النيل الأبيض ، وفي اندفاع عظيم يحمل معه الغرين أبيض اللون ، وهو الذي يعطي النيل الأبيض اسمه .
فيقول الشاعر في قصيدة النيل الأبيض ص 34 :
على مهلٍ يسير
يترك جزراً تطفو على غابات
وعلى الجهات يتمدد ، تحت إبطيه السوباط والزراف
وعلى سفوح الجبل وقمته
يخبُ غزالٌ يتيم يغرق في النهر
يتلو ما تيسر من تراتيل
لعل آمون رع يغسل منجله فيه ..
ثم في قصائد أخرى يكتب الشاعر حول عدة أمكنة داخل مدينة الخرطوم السودانية وقصائد عن غربة الشاعر ورؤيته وهواجسه ففي قصيدة مؤلمة بعنوان ( اغتراب ) يقول الشاعر ص52 :
صيفٌ أطول من عاشوراء
يتكىء على أنفاسنا
يقول لي باعة الأرصفة :
يا غريب ، أحمل إلى دارك ضحكة أطفالنا
ذكرى تدفئك في شتائك الموعود
أبتسم
وأحمل التذكارات معي إلى النهر
حتى لا تتهشم دموعي ..
ومن خلال زيارات الشاعر باسم فرات المستمرة الى القاهرة ومدن مصرية أخرى مثل الاسكندرية لم يترك مشاهداته اليومية ان تمرّ سدى فكان قد كتب العديد من القصائد عن الأمكنة داخل مدينة القاهرة والاسكندرية ليؤرشف لمرحلة مهمة من حياته وتجربته الشعرية التي تزداد تألقاً من خلال ترحاله والتعمق في تاريخ المكان فيذهب ويجازف بشجاعة كبيرة ليرى كل شيء على طريقة جدنا كلكامش ( هو الذي رأى كل شيء ) والشاعر لابد له أن يرى كل شيء حتى يستطيع الكتابة ويبدع فيها ، نقرأ في القسم الثاني من كتاب فرات ( محبرة الرعاة ) والذي هو القصائد المصرية : أطلقت عليها هذا الأسم لانها كتبت عن مصر فالقسم الأول كان عن السودان اسميناها بالسودانية . ففي قصيدة بعنوان ( ميدان طلعت حرب ) وهو ميدان قريب جدا من ميدان التحرير ويعتبر رئة القاهرة وسنترها فيقول ص 60 :
في ميدان طلعت حرب
ليس سوى السلام
محاربون يتنكبون ابتساماتهم
ليعبر العشاق فرادى بلا قبلات
الفقراء يحتسون قلوبهم
ثمة فيض يسيل من النوافذ
نقوش تؤرخ لمجد ، أهالوا عليه الشفق
بناؤون ملأوا التاريخ مواويل فلاحين
فأنهمرت خزائن الإمبراطوريات
حباً مصرياً ..
وهكذا يصف بدقة وبجمال الشاعر تلك الأمكنة التي هي تاريخ مصر الحديث فطلعت حرب هو اقتصادي ومفكر مصري ، كان عضواً في مجلس الشيوخ المصري بداية القرن العشرين . ويستمر الشاعر فرات بقصائده مثل الشواربي وميدان التحرير وشارع المعز ومقاهي الكسبة وشارع قصر النيل ثم يختتم المجموعة بقصيدة عن مدينة الاسكندرية والتي يقول في مطلعها ص 73 :
بلا جيوش ، وبلا أوسمة وبلا أمجاد
دخلت الإسكندرية ، في محطة القطار
كان الفقراء والعتالون والباعة والعشاق بنتظاري
غريب برتبة عاشق
تعرَّفتْ على الاإسكندرية ..
الكتاب : محبرة الرعاة
المؤلف : باسم فرات
دار صهيل للانباء والنشر / القاهرة 2017
لغلاف للفنانة : ميس السراي
اوسلو 25/05/2018