تكاد تتزامن الذكرى السنوية الأولى لرحيل الشاعر سركون بولص مع تهجير أكثر من ألف عائلة مسيحية من الموصل، تحت وابل التهديد والعنف السياسي اللذين يجتاحان العراق، ومثلما رافق وفاة سركون بولص سيلٌ من المقالات، منها ماكان صادقاً ومنها لكُتّاب مراثٍ يشحذون أقلامهم كلما مات مبدعٌ، وتصبح لهم ذكريات معه وتواصل ومكالمات هاتفية من نسج خيالاتهم، رافق وما يزال سيل مقالات تشجب وتستنكر ما يجري لمسيحيي العراق، خصوصاً وأن إلغاء المادة 50 من قانون انتخابات مجالس المحافظات، قد سبق القتل والتهجير، الذي جاء بضغط واضح من جهات تريد الاستيلاء على كل شيء، بالروحية ذاتها التي كانت لدى سابقيهم في الحكم، ناهجة نهج الإقصاء والتهميش أولاً، ومن ثم توزيع الفضلات تحت تسميات المكرمة والدفاع عن مكونات الشعب العراقي، مثبتين أن العقلية التي اتهموها بتهميشهم، هي عقليتهم، لأنهم أبناء حاضنة ثقافية لا تؤمن بالتنوع إلا إذا كان حسب مقاساتهم.
سوف نستعرض بعض ماكتب عن رحيل سركون بولص، وعن إلغاء المادة 50، وإجبار المسيحيين على ترك الموصل، وكذلك بعض الحوادث الأخرى، وسوف يكون كلامنا أحياناً عن أدبيات ظهرت قبل هذا الوقت، وعن نقاشات وجدل في وسائل الاعلام، لِنُبَيّن وجهة نظرنا القائلة إن الشفاهية والإشاعة مع العقل البدوي الإقصائي ( بجناحيه السهلي والجبلي) ساهمت في بلورة نزوع ٍ إلغائي أناني لا وطنيّ، يحذو حذوَ ظالميه ومَن يشتكي منهم، حذو الحافر للحافر، ومَن يغرد خارج السرب، فهناك رزمة من تلفيقات واتهامات مهيأة لإلقائها عليه، حتى لو أعلنَ بين جملة وأخرى براءته مما ينسب له، بل وهجومه على ما يريد البعض إلباسه إياه، لأنه ببساطة لايؤمن بالعقلية التي يؤمنون بها ويرفض الحاضنة الثقافية التي تسببت في خرابنا المزري.
حين تصفحت ما كتب عن هذه الحوادث الثلاث (موت سركون، إلغاء المادة 50 من قانون المحافظات، التهديد والترحيل القسري للمسيحيين في الموصل) وجدت مع توافر النيات الصادقة في الكتابة أن ثمة إساءة حقيقية للعراق ككل ولغالبيته المطلقة، قد بثها الجميع دون دراية منهم وهذا هو نتيجة جهل فاضح بتاريخ العراق، بل إن بعض هذه السموم، إن صحت التسمية، سوف تأخذ حيزها في أعماق الوعي لدى غالبية العراقيين وربما جيرانهم، ثم قد يعتمدها كل مَن هبّ ودبّ كمراجع وقد يستشهد بها على أنها مصادر وتوثيق لكتاباته.
أصالة الناطقين بالعربية من أصالة جغرافية العراق
من يقرأ التاريخ جيداً سيلاحظ بدون أدنى عناء ( أعني القراءة الخلاقة المبدعة) أننا ننتمي للعراق بكل تاريخه، ابتداءً من اللغة العربية التي أثبتت الدراسات الحديثة انتماءها للأكدية، مروراً بعاداتنا وتقاليدنا التي أسهبت كتب التاريخ ، وبخاصة كتاب الحياة اليومية في بابل وآشور، وعقائد ما بعد الموت عند العراقيين القدماء، وغيرها من الكتب التي تناولت الناحية الثقافية، بكل شمولية كلمة ثقافة. كل هذه تدل على أننا ورثة أولئك الأسلاف بناة أولى المَدَنيات، أوليست العمارة العراقية قبل ولوج الكونكريت كانت موادها ذاتها التي أستخدمت لآلاف السنين، حتى طرزها ليست ببعيدة، بل هي امتداد للماضي وتطور له. ومطبخنا هو ذاته مطبخ الأسلاف، وما أكتشف من ألواح عرفت بألواح طباخ حمورابي، هي ذات أكلاتنا الشعبية التي نتناولها في بيوتنا مع تحوير وتجديد تفرضه سُنّة الحياة والاختلاط بشعوب شتى وبثقافاتهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلم يعد هناك وجود لأسطورة الغزو العربي للعراق تحت راية الإسلام، الاسطورة التي بثها البعض لأسباب عنصرية مقنعة، فقد بينت الاكتشافات الآثارية والحفريات بما لا يدع مجالاً للشك حقائق لم تكن معروفة من قبل، نورد بعضها للتدليل على الخطأ الفادح الذي وقع فيه أغلب كُتّابنا فكرسوا الخطأ، بل وكرسوا الخديعة والإساءة لأنفسهم وللعراق،وفي الوقت ذاته ننوه بأن إثبات الوجود العربي العريق في شمال العراق، لايعني إلغاء بقية ألوان الطيف العراقي الذي منح شمال وطننا صورة قوس قزح رائعة:
في القرن التاسع قبل الميلاد وصلت أول دفعة من العرب الى شمال العراق، وكان هؤلاء أسرى معارك خاضتها جيوش الأمبراطورية الآشورية، ثم تخبرنا المصادر بأن الآشوريين كانوا يستعينون بالعرب في بعض مهماتهم العسكرية، ومنها عبورهم سيناء (1)، ثم جاء دور العرب الكبير في التحالف مع الكلدانيين في عملية النزاع للسيطرة على كامل التراب العراقي الذي وَحّدَه قبل ذلك، ولأول مرة، جدنا الأعلى سرجون الأكدي، وهو ما أدى الى سقوط نينوى. وهنا كان الانتشار العربي كبيراً لدرجة أن الملك نبوخذ نُصر اضطر للسيطرة على نفوذهم المتعاظم ببناء حير (حصن) كبير، وضع فيه تجار العرب ورؤساءهم ليضمن السيطرة عليهم (2). وحين سقطت بابل، كان مَن في الحير قد كثروا فتحول الحصن الى مدينة ظلت تتعاظم وتتعاظم حتى أصبحت مملكة الحيرة الشهيرة، التي وجدت على قبر ثاني ملوكها امرؤ القيس بن عمرو بن عدي أول كتابة عربية، وذلك سنة 328 ميلادية حسبما ذكر العلامة جواد علي في مفصله (3)، ومنها خرج الخط الحيري الذي اعتمدته قريش في معاملاتها، بينما بقي النزوح العربي مستمراً نحو الشمال لدرجة أن أصبحت منطقة الموصل الكبرى تسمى في الأدبيات الآرامية بمنطقة بيث عربايا، وهو ما وثقته مصادر عدة. ولكن يبقى أقدم وأهم شاهد هو حجر بهستون الشهير في نهاية القرن السادس قبل الميلاد، أي قبل 2500 سنة تقريباً من الآن، الذي ذكرت فيه منطقة الموصل الكبرى ببيث عربايا، ثم كان نزوح قضاعة وجشعم من موطنهما في السماوة الى منطقة الموصل وتأسيس مملكة الحضر التي امتدت من نهاية القرن الثالث قبل الميلاد حتى سقوطها عام 241 ميلادية على يد الملك أدرشير مؤسس الامبراطورية الساسانية(4)، وأشهر ملوكها هو سنطرق الذي لُقبَ بملك العرب حسبما ذكر العلامة طه باقر، وهو ذات اللقب الذي أطلق على إمرئ القيس، الملك المشار إليه أعلاه، وننوه هنا بأن السماوة ليست في حضرموت، وإنما هي في العراق، ومنها خرجت أكبر ثورة عراقية في القرن العشرين.
في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي أصبحت الموصل مملكة عربية وملكها هو سابق بن مالك(4)، ويذكر عزيز سباهي في كتابه أصول الصابئة أن تنافساً قوياً بين المبشرين اليهود والمسيحيين والصابئة جرى لكسب القبائل العربية في جنوب العراق، حدث هذا بكل تأكيد قبل ولادة نبي الإسلام إن لم يكن قبل ولادة جده الأعلى قصي بن كلاب بعقود طويلة. وهناك مَن يذكر أن النبي ماني عند عودته من الهند راح يدعو القبائل العربية في الجنوب العراقي لدينه. وغني عن التعريف أن هذا حدث قبل الدعوة الإسلامية بما لا يقل عن سبعة أجيال.
يورد ابن خلدون في موسوعته أن جذور العرب تعود إلى العراق، حيث أنهم بقايا من نجا من الطوفان الذي عمّ العراق وبقي في الذاكرة بحيث تم تدوينه في ملحمة وكتب مقدسة. وقبل ذلك يذكر المؤرخ البيزنطي سوزومينوس الذي عاش في القرن الميلادي الخامس، أن اليهود هم الذين أشاعوا فكرة الأصل السامي للعرب (5)، وأن أول مَن تبنى الرواية التوراتية هذه كانت القبائل العربية التي تهودت أو تنصرت أو كانت لها علاقات بالعالم اليهودي– المسيحي(6). وبرغم تحفظاتنا على مصطلح السامية الذي نرى أن مصطلح الأكدية أدق تعبيراً منه وأشد واقعية، ذلك أن الناظر الى اللغات العربية والسريانية والمندائية والعبرية لا يجد أدنى صعوبة في تشابه آلاف المفردات والصيغ والقواعد النحوية، وهي مازالت حية بيننا. وفي العودة الى ما قاله ابن خلدون عن هروب العراقيين الى الصحراء والعيش في واحاتها وسواحل الجزيرة العربية وجبالها، فإننا نلمس ذلك واضحاً في المقدس الذي عادة ما يرمي كلامه رمزاً، ونعني بذلك قصة النبيين إبراهيم وإسماعيل، وكذلك ما ذكرته مصادر آثارية عن هروب الملك البابلي الأخير نبونائيد ومؤيديه الى تيماء فمكة، وتأكيدات الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس على أن جذورهما تعود الى نبط كوثى(7)، والأخيرة عراقية صرف على الرغم من وقوع المؤرخين المسلمين في تناقض بهذا الصدد، حين نسبوا ذات الاسم إلى مكة(، وهو تأكيد لما نُسب لنبي الإسلام من قوله" أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش". وفي حديث آخر يرفع الى عمر بن الخطاب أنه سأل النبي " يارسول الله مالكَ أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها ". وأما الحديث النبوي " ليست العربية منكم بأب وأم وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي" فليس سوى تدليل على ميزة العروبة، وهي أنها ليست عرقاً وقومية وإنما ثقافة. ما أورده العلامة جواد علي يدعونا إلى تأمل دلالته البالغة، إذ يقول : "هذا ويلاحظ أن عدداً من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بني إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه الأرضين، مع أنهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. ومن ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها، لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك أنها منهم."(9). تحيلنا هذه الفقرة الى حقيقتين، الأولى أن الوجود العربي في العراق قديم، سبق الإسلام بقرون طويلة، وأن هذا الوجود كان حتماً في منطقة آرامية كثيفة لدرجة أن قبائل عربية ذابت فيها وأصبحت هويتها آرامية ( سريانية )، وهذا الذوبان يحتاج الى فترة زمنية طويلة، وليس في منطقة، أكدت المصادر وجود العرب فيها، كالموصل والأنبار والحيرة وعموم الجنوب العراقي وحوض الفرات الأعلى، فهو إذن في حوض دجلة الأعلى وخصوصاً شرقه، حيث الكثافة الآرامية على أشدها في تلك الفترة. وثانياً نستدل على أن الناطقين بالآرامية مثلهم مثل أخوتهم الناطقين بالعربية، خليط من أقوام شتى.
المسيحيون ليسوا سرياناً فقط
يصرّ البعض على عدم وجود مسيحيين عرب، منكرين عشرات القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية منذ القرن الثالث الميلادي، وأن اللخميين في الحيرة وشيبان قادة معركة ذي قار الشهيرة، والنمر وتغلب وإياد ممن خاضوا معركة عين التمر بقيادة عقة بن أبي عقة ضد جيش الفتح بقيادة خالد بن الوليد، وكان الجيش كله عربياً، إذ كان مسيحياً بقيادة عقة وإسلامياً بقيادة خالد، وغيرها من القبائل العربية التي كانت تعيش في منطقة الفرات الأوسط وفي الجنوب العراقي. كما أن تغلب وبكر وربيعة وغيرها ممن كان يعيش في الشمال ،وبخاصة منطقة الموصل الكبرى وديار بكر وربيعة وغيرها، كانوا يعتنقون المسيحية، فعرب الحيرة وما حولها نساطرة، أما تغلب فدانت بالمونوفيسية إلا من كان منهم على مقربة من النساطرة فنساطرة، وبعضهم قَبلَ الأرثوذكسية أي الخلقيدونية(10)، وأن هؤلاء لم يسلموا جميعاً، بل إن البحوث الحديثة أثبتت أن ما يتباهى به البعض من المسلمين عن فتوحات سريعة، امتدت من جنوب فرنسا غرباً الى أجزاء من الصين شرقاً، في فترة زمنية وجيزة، ما هو إلا وهم وأسطورة، إذ تتحدث هذه الدراسات عن حقيقة مخالفة مفادها أن الذي انتشر وأصبح سيد الأمكنة هو اللغة العربية، وأن الناس بقوا على دياناتهم، ولكنهم تبنوا الثقافة العربية التي هي خلاصة إبداع الشرق القديم، كما يذهب انطونيو غالا أحد كبار أدباء إسبانيا بخصوص شبه الجزيرة الأيبرية، نافياً أسطورة الاحتلال العربي، ولا سيما أن أقدم الشواهد الآثارية والمخطوطات لا تذهب إلى أبعد من عصر عبد الرحمن الثالث الذي تولى عرش الخلافة عام 911 ميلادية. وأما إيران فأسلمتها لم تكتمل تماماً قبل مفتتح القرن الحادي عشر الميلادي، ولا يوجد من أثر كتابي عربي فيها قبل عام 955 ميلادية(11)، كما تبنت قبل ذلك الآرامية لغة رسمية للمخاطبة، بل إن الطراز المعماري قبل القرن العاشر الميلادي لا يشير الى منظومة إسلامية قطعاً.
من هنا فإن إلغاء صفة العروبة عن المسيحيين( أعني من يتكلمون بالعربية كما هم مسيحيّو الموصل الذين يؤمنون بعروبتهم الثقافية) هو نوع من أنواع العنصرية والشوفينية اللتين تكمنان في العقل الباطن القائل بأن المسيحية دين التحضر والعرب أبعد من أن يكونوا من أتباعها. وهي ذات العقلية التي ذكرها نلسون مانديلا في مذكراته عن المبشرين الذين كانوا يقولون لهم " إن أردت أن تكون متحضراً فكن مسيحياً " ولا ننسى أن في صالح هذه العقلية أن تشيع أسطورة دخول العرب للعراق أول مرة مع الإسلام، فهذه المغالطة تحقق لها- أي العقلية- مكاسب لا تستحقها. وهي لاتختلف عن العقلية العروبية التي حولت الناطقين بالعربية الى عدنان وقحطان، وجعلتهم خير أمة أخرجت للناس(12). وان أردنا الدقة فمسلمو اليوم هم أحفاد أولئك العراقيين القدماء من مسيحيين ويهود وصابئة وسواهم.
التزييف منبعه الجهل .. التزييف مذابح مؤجلة
حسب قراءاتي المتواضعة، لم أر أديباً مُهماً تعرفنا عليه من الثقافات الأخرى خصوصاً المركزية(الإنكليزية، الفرنسية، الاسبانية، الروسية، الألمانية..) لم يكن متضلعاً بتاريخ بلده وثقافته، بينما نحن نلمس فقراً عجيباً لدى أدبائنا، وسوف نستعرض بعض هذه الحالات لنرى إلى أي حد أسهم كُتابنا الكبار ومن يريدوننا أن ننظر إليهم على أنهم كبار، بتشويه الحقيقة، وهم يكتبون مثلاً عن سركون بولص بعد وفاته.
وعجبي ممن يتنطع بنرجسية عجيبة وإبداع يراه يضاهي روائع الأدب العالمي وهو لا يعلم مسائل بسيطة ينبغي لكل عضو في منظمة مجتمع مدني، ولا سيما اتحاد الكتاب العراقيين ونقابة الصحفيين، وكل مَن له إصدار ولو كان متواضعاً، أن يلمّ بها، وتحديدا أولئك الذين تجاوزوا الثلاثين بسنوات، باعتبار أن الغالبية العظمى من الأدباء في سني حياتهم الأدبية الأولى تركز على الإبداع قراءة وتمحيصاً، ولكن بعد سن الثلاثين يكون مفترضاً أو ربما لزاماً على كل مثقف أن يُنَوّع من قراءاته لعدة سنوات كي يركز بعدها على ما يميل إليه. وبكل تأكيد فإن معرفة تاريخ البلد هي من أوائل الأمور التي على كل مَن يرى نفسه مثقفاً أو أديباً أو شاعراً فطحلاً، أن يلمّ بها. ولكننا نرى أن واحداً من أهم الروائيين والقصاصين العراقيين والعرب، وهو من مجايلي سركون بولص يكتب في مجلة الجزيرة، مستذكراً رفيق الكلمة وابن جيله سركون بولص، بمغالطة لا يمكن أن تفوت على أديب متنوع وغزير العطاء، إذ المفروض أنه يعلم أن جد مجايله لم يولد في العراق، كما لم يولد في العراق أجداد جان دمو وصموئيل شمعون وكل من نطلق عليهم لفظة الآثوريين، فهذه الفقرة التي ندونها نصاً تُكرس تزويراً للتاريخ، فقوله: " ومن يقرأ اسم هذا الشاعر يعرف أنه آشوري (نسبة إلى آشور بانيبال) أو (آثوري) كما يقال في العراق، والآشوريون هم من الأقوام الأصلية في العراق ولم يفدوا عليه من خارجه رغم أن تعاقب القرون قد حولهم إلى أقلية في محيط عربي واسع."(13). رغم انهم ليسوا في محيط عربي واسع وانما في محيط تركي كردي أرمني شبكي يزيدي عربي فارسي. وكمثال آخر نأخذ ما كتبه روائي آخر يصغر الأول بربع قرن تقريباً، أي ممن ولدوا في النصف الأول من الستينات، حين يكرسُ تزويراً آخر واتهاماً مبطناً للغالبية العظمى كما المثال السابق، حيث يقول في مقاله المنشور في صحيفة الحياة اللندنية، إنه " في عام 1933 قررت الدولة العراقية قتل الآشوريين وتشريدهم وهم بناة العراق القديم"(14).
لو سألت أي آثوري "آشوري" من أين انتَ لأجابك أنه من حكاري أو تياري العليا أو السفلى، وهذه المناطق وسواها التي تقع في تركيا اليوم هي التي تم تفريغها في الحرب العالمية الأولى تماماً، فتم استقدام هذه الفئة للعراق في أيلول عام 1918 ووضعهم في معسكر في بعقوبة، إذ حاربت هذه الفئة الأتراك وحققت انتصارات جيدة، لكن إعلان الثورة البلشفية في روسيا تسبب في سحب الجيش الروسي الذي كان يدعمها، ما أضطرهم إلى الإنسحاب إلى أرومية ومن هناك جلبوا إلى العراق عن طريق إيران، وهذه الفئة سواء أكانت حقاً كما تؤمن بأصولها الآشورية، وهذا حقها الطبيعي، أو وقعت تحت إيهام رسخه المبشرون في أدمغتهم في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، فلا جدال حول عراقيتهم وحقهم التام بالمواطنة والحفاظ على خصوصيتهم وأنهم يشكلون مع بقية الفئات، الطيف العراقي الجميل، بل هم خدموا العراق والثقافة العراقية والعربية، ولكن أن يكتب كُتّابنا أن هؤلاء لم يفدوا عليه من خارجه وآخر يعتبرهم بناة العراق القديم، وكأننا نزحنا إلى العراق ولسنا بناته، ومن يتهم الدولة فقط بأنها قررت القضاء عليهم وتشريدهم نقول إن تلك مغالطات معيبة وأن على هؤلاء أن يقرأوا التاريخ جيداً، فأولاً لا يمكن لأي فئة نزحت قبل أقل من خمسة عشر عاماً إلى بلد ما بعينه أن ترفض تسليم سلاحها وتطالب بحكم ذاتي أو امتياز ما، لأن جيش الاحتلال الموجود في البلد وعدتهم حكومته بامتياز ما، فيرفض الانصياع لحكومة البلد المضيف– الجديد التي أجبرت حكومته من قبل المندوب السامي البريطاني أن يمنحهم الجنسية بدون شرط وقيد، وثانياً أي منصف يعلم أن الفريق بكر صدقي كان صارماً وقاسياً وأنه استعان بالقبائل الكردية التي ينتمي لها إثنياً، مستغلاً النعرات بينهما، إذ إن الأكراد كانوا سلاح الجريمة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق المسيحيين من الأرمن والسريان في أثناء الحرب العالمية الأولى. وما فعله بكر صدقي يفعله أي قائد عسكري يؤمن بأن تنفيذ الأوامر بشكل صارم دليل انضباط عسكري عالٍ بل واحترافية تنفعه في سجله الخدمي، كما أنه لا يوجد في قاموس العسكر وبخاصة في تلك الأيام، وفي هكذا مجتمعات أن يسبق الرمي الرحمة والتهديد والوعيد، فضلاً عن أن استعانة بكر صدقي بقبائل ينتمي لها، ليست مثلبة عليه وعلى القبائل الكردية؛ لأنه لو كان عربياً لفعل ذات الأمر واستعان بأقاربه والقبائل القريبة والمتحالفة مع قبيلته. وهذا ليس دفاعاً عن أحد وإنما هي ثقافة تلك الأيام، وهي الثقافة التي لا تزال سارية، وتسمى بالعرف العشائري (النخوة)، وثالثاً ما فعله بكر صدقي والحكومة العراقية بالفئة التي ينتمي لها الراحل الكبير سركون بولص، حدث مثله في مناطق الفرات الأوسط وسواها، وفي فترة متقاربة جداً. ولقد ثبت للجميع بما فيهم نحن الحالمين بدولة القانون والحرية والسلام وغيرها من الأحلام أن دولة بلا جيش قوي صارم لن تحترم في مجتمعاتنا، وما يفعله الجميع في كل شبر من العراق منذ خمس سنوات ونيف خير دليل على ما نقول. وهنا لابدّ من التذكير بأن عدد ضحايا العنف في الأشهر الاولى من عام 1991 من الناطقين بالعربية فقط هو أكثر، إن لم يكن ضعف ما قتل من غير الناطقين بالعربية في العراق مجتمعين، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى كتابة هذه السطور. أما لو أردنا أن نضيف إلى هؤلاء ضحايا العنف منذ الرابع عشر من تموز1958 وحتى يوم الناس هذا فإن أكثر من تسعين بالمئة هم من الناطقين بالعربية. وما نوهنا به أعلاه ليس دفاعاً عن عنف الدولة، وليس انتقاصاً من الضحايا الذين كم أتمنى أن يعود ذووهم ممن ترك العراق منذ السابع من آب 1933 وحتى يومنا هذا إلى أماكنهم، في نوهدرا وأربيل وكركوك وسواها، وإنما نقول هذا لتوضيح حقائق وملابسات يجهلها البعض ويفتي بها كما يشاء وهو الجاهل بالأمر(15).
إلغاء المادة 50 وعقدة الذنب- الوهم
في ردة فعل الكُتاب على إلغاء المادة 50 من قانون انتخابات مجالس المحافظات، تحكمت العاطفة الجياشة وحب شركاء الوطن، ليس على حساب الحقيقة وحدها بل أيضاً في ترسيخ المحاصصة وتكريسها ونشر إشاعات أطلقها عدد من المبشرين والمستشرقين، وهي إشاعات جعلت من غالبية الشعب يؤمن بها مع دخول عقدة الذنب إلى اللاوعي الجمعي، لجريمة وهمية لا أساس لها من الصحة، وذات الحال تكرر مع الأحداث المؤسفة التي تعرض لها مسيحيو الموصل، فاستحضر الكُتاب قاموس الإلغاء للنفس وجلد الذات وإلصاق تهم بها ما طاب لهم من إلصاق، وكأنما الدفاع عن مُكَوّن رائع من مكونات الأمة العراقية لا يتحقق إلا بتمزيق الوطن وغالبيته العظمى، إذ ما علاقة الناطقين بالعربية وهم بحدود ثلاثة أرباع العراقيين بإلغاء المادة 50، وبقتل المسيحيين وتهجيرهم إن كان في سميل آب 1933 أو على امتداد القرن العشرين أو ما جرى ويجري منذ خمسة أعوام، أو مأساة الموصل الجديدة، بل وكل التجاوزات والمآسي التي حصلت. نعم لا ذنب لأحد، إن كان من الناطقين بالعربية أو بغيرها، إنما المشكلة تكمن في الحاضنة الثقافية التي أنتجت لنا كل هذا العدد من الطغاة والدمويين والاستحواذيين الذين ينبع فهمهم للوطن من حرص على الطائفة (دينية، مذهبية، إثنية، مناطقية) دون مراعاة للطوائف الأخرى التي لا تقل شراكة عنهم، ودون مراعاة لحقوق الوطن وواجبات المواطنة(خير مثال هو الفيدرالية العنصرية الشوفينية الطائفية التي يطبل لها البعض، وبخاصة ممن يحسبون على اليسار والانتليجيسيا)، وهي فيدرالية لا وجود لها في العالم، بل راح البعض يتحدث عن محميات، كما في الولايات المتحدة وغيرها، ملغياً حقائق التاريخ، ومساهماً بشكل فعال في تدمير المواطنة، وفي اعتبار السكان الأصليين غزاة . ولا بد من التأكيد ثانية على أن الناطقين بالعربية هم نتاج تلاقح وتزاوج عشرات الأقوام التي سكنت العراق وهم بهذا سكان أصليون، وحتى لو افترضنا جزافاً أن الناطقين بالعربية عرب أقحاح وأن علم الأنساب الذي يفخر به العرب هو صحيح مائة بالمائة(16)، وليس أسطورة كما تثبت البحوث العلمية ووقائع التاريخ والمتواتر بين الناس عن تلفيقات لشجرة العائلة، فإن العرب مضى عليهم أكثر من خمسين جيلاً يشكلون نسبة لا بأس بها، أعني لا تقل عن ثلث السكان، وأكثر من أربعين جيلاً هم غالبية مطلقة، في حين أن سواهم، أي الناطقين بغير العربية والسريانية لا يوجد أي دليل علمي على أنه يرقى إلى ثلاثين جيلاً وأكثر، وإن ما يقارب من تسعين بالمائة منهم لا يرقى الى أكثر من بضعة عشر جيلاً قبل الحرب العالمية الأولى، باستثناء الشريط الحدودي الوعر؛ لأن النسق الثقافي الذي أنجبنا ساهم مساهمة فعالة في ظهور طروحات كهذه. أَلَمْ تتحول اليزيدية التي لا كتاب لها، ولم يذكرها أي مؤرخ ورحالة في العصر العباسي وما سبقه ولم تأت أدبيات اللغة السريانية على ذكرها ، الى ديانة أيزيدية عمرها أكثر من أربعة آلاف عام، على الرغم من أن معظمها عبارة عن تلاقح يهودي مسيحي إسلامي، في حين أن أبسط قواعد البحث العلمي لا تقرّ بإعطاء فترة زمنية ما، إن لم توجد وثائق وأدلة على ذلك، كما أن يزيديي سنجار( سنجارا: مركز مسيحي سرياني عربي )(17) إنما هم نتاج نزوح حديث نسبياً، لا يزيد على بضعة قرون خلت، إذ كانوا في الجانب الشرقي من دجلة في منطقة شهرزور، وكان سبب نزوحهم هو هطول القبائل الرعوية الكردية من إيران هروباً بمذهبهم من التشيع، في القرن السادس عشر وماتلاه. بل هناك مَن راح يبدي امتعاضه من عدم قيام المؤرخين والبلدانيين العرب وغيرهم بذكر اليزيدية، ليوحي للقراء أن ثمة مؤامرة عربية ضد وجود هذه الفئة، في عملية تزوير للتاريخ والحقيقة مكشوفة بسذاجتها، لأن المؤرخين والبلدانيين ذكروا لنا كل الأقوام التي كانت تعيش في زمانهم، وهكذا فعل السريان والأغريق والأرمن والفرس في مصنفاتهم. أما أكبر عملية تزوير يحاول البعض أن يشيعها ويثبتها حقيقة فهي مقولة " إن العراق وطن اصطنعه الإنكليز"، وهي مقولة تنافس مقولة الاحتلال العربي للعراق، ودائماً ما نقرأ أن العراق هو نتاج تجميع ثلاث ولايات قام بها مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو في معاهدتهما الشهيرة باسمهما ( سايكس بيكو). هذا التزوير يثبت أن مَن يردده، إما أن يكونوا أناساً جهلة فعلاً بتاريخ العراق لدرجة مريعة، أو أن شعورهم الحاد بعدم انتمائهم للعراق نتيجة لعدم وجود تراث وميراث وآثار لهم في معظم العراق وخصوصاً المناطق التي يطالبون بها والتي لم تكن يوماً على دين واحد ومذهب واحد ولسان واحد كلها، بل كانت ولا تزال متنوعة،وتنوعها ثراء لها وللعراق. مع كل هذا نقرأ ونسمع من يفتي بالتاريخ العراقي على هواه وهو لم يقرأ بضعة عشر كتاباً، بل هناك من لم يقرأ خمسة كتب، في بلد تسابق الجميع على إشاعة المعلومة الخطأ فيه، حتى أصبحنا بحاجة ماسة لنقرأ في الأقل ضعف سنوات عمرنا قبل البدء بالحديث عن أية مسألة عراقية، لكي لا نزيد الطين بلة، ولكن مع الأسف الشديد هذا هو ما يحصل، إذ كل راح يسهم في تزوير التاريخ وإلغاء الوطن والمواطن، تحت مسميات شتى(18).
في كتابه إلقوش عبر التاريخ، يذكر المطران يوسف بابانا (1915-1973) أن اللغة التي يتحدث بها أهل إلقوش هي الكلدانية. ويعدد اللغات التي أثرت في هذه اللغة فيذكر اللغات القديمة، إضافة إلى اليونانية واللاتينية. ولأهمية هذا الكلام الذي بثه نيافة المطران، وارتباطه المباشر بالقضية التي أناقشها، فسوف أناقشه بشكل مختصر، لأبين ما أؤمن به، وهو أن الجميع اشترك في إشاعة ثقافة التزوير والتهميش والإلغاء. فأول ما يلفت الانتباه إلى التسمية، إذ يذكرها المطران بأنها كلدانية، علماً بأنها سريانية. ولو تصفحت أي مقال أو دراسة أو كتاب كتبه دعاة الآشورية لوجدت أن التسمية تختلف تماماً، لتصبح اللغة الآشورية، ولكن المجامع العلمية تستعمل التسمية الصحيحة وهي السريانية، أما الإلغاء الذي مارسه المطران، وهو الإلغاء ذاته الذي مارسه غيره بشكل سافر، بخصوص اليزيدية، الذي سنتناوله في السطور القادمة، فهو تأثير العربية في السريانية، لأن السؤال الذي لابدّ أن يواجهنا، كيف أثرت اللاتينية واليونانية وغيرها في" الكلدانية" وهي لم تجاورها لقرون عدة، وبخاصة اللاتينية، في حين أن العربية التي تجاور أهل إلقوش منذ 2500 سنة، وفي الـ(14) قرناً الأخيرة تكاد تكون العربية سيدة الموقف، لكن مطراننا الكبير يلغيها تماماً ويقصيها بعيداً عن كتابه الذي لم يشعر بالخجل وهو يكتبه بالعربية. في الحوار الذي أجرته جريدة الزمان اللندنية مع الباحث مامو عثمان، في عددها الصادر في 20 تشرين الأول، عام 2000، وشغل نصف صفحة تقريباً (ص 18)، مارس فيه إقصاء وتزويراً يجعلنا نلمس مستوى الخراب الأخلاقي الذي وصله البعض. ولأنهم أبناء حاضنة الخراب فهم لا يتورعون عن قلب الحقائق أكثر مما يتقبله العقل، وإلا فمن ذا الذي يقبل لِوَعيهِ أن يهضم هذا التصريح المُنافي لأبسط قواعد البحث والدرس العلمي:" إن تسميتها (ويعني اليزيدية) متأتية من (يزدان) الفارسية.. وإنها فلسفة دينية جاءت مع مجموعة فلسفات أخرى أهمها المترائية (الإيرانية).. ويضيف، إن المؤرخين اتفقوا على أنها أصل الديانة الكردية وفلسفتها قدمت من الهند قبل ألفي عام قبل الميلاد.. وإنهم يقدسون العجل الذي هو عجل الإله مترا الذي هو الشمس". ثم يقول:" لا تنس بأن فلسفة الديانة اليزيدية تواجدت منذ آلاف السنين في وقت لم يكن هنالك مكان بإسم – عراق – في المنطقة ولا تنس أيضاً بأنه لا توجد حضارة باسم الحضارة العراقية في التاريخ، وكان الأجدى بك أن تتحدث عن حضارة وادي الرافدين ". هكذا يقدم هذا الباحث على قلب الحقائق بطريقة تبرر العنف الذي مارسته الأنظمة في العراق بحق سكانه وخصوصاً الأكراد. فهذا الباحث يتحدث في هذا الحوار وكأنه جالس في مقهى مليئة بالأميين، وهو الأفندي الوحيد بينهم(19) فكمية التزوير هنا ليست 20 بالمائة أو خمسين بالمائة، وإنما تزوير يقلب الحقائق رأساً على عقب، ويلغي وطناً موجوداً ومتفقاً عليه بين غالبية المؤرخين والبلدانيين، ليضع تاريخاً لفئة لم تكتشف بين المؤرخين الا في القرون الأخيرة، وبخاصة القرن التاسع عشر، ولم يكن لها أي وجود في كتب التاريخ والموسوعات والديانات والرحالة. ولابد هنا من ذكر أن أول مرة يصار فيها إلى إطلاق مصطلح كردستان التي كانت منطقة صغيرة جداً في إيران كان قبل نحو ألف سنة، أي بعد وفاة ابن رستة البلداني (ت 289ه) الذي ذكر حدود العراق، والمسعودي (ت 346 ه،957م) الشهير صاحب النص الذي لو حفظه كل عراقي عن ظهر قلب * لِما تجرأ مَن تجرأ. ولم يدخل أي شبر من كردستان داخل العراق حتى بضعة قرون خلت(20)، وهي منطقة السليمانية فقط، والسليمانية هي أول مدينة كردية وقد تأسست عام 1786م(21). ولهذا " هنا المسكوت عنه من قبل الجميع مما سبب تسيباً في الكلام والكتابة " لم تشمل كل المعاهدات والإتفاقيات والوعود الدولية بخصوص الأكراد، أي حق إن كان في الإدارة الذاتية أو الحقوق الثقافية خارج نطاق محافظة السليمانية وبعض مناطق الشريط الحدودي الوعرة، لأن أربيل ونوهدرا – الأسم الحقيقي والتاريخي لدهوك – وكل كركوك وديالى ونينوى وسواها لم يكن يشكل الأكراد فيها غالبية، بل إن هذه المناطق كانت بغالبية سريانية تركمانية عربية مطلقة، وفي بعضها تزيد عن تسعين بالمائة حتى بعد الحرب العالمية الأولى. وهذا الكلام لا يقلل من واجبنا الوطني الذي يرى في الأكراد واليزيدية شمعتين تزينان لوحة الفسيفساء العراقية، واعتزازنا بهم ليس مِنة منا، بل هو إعتزاز نابع من شعور حقيقي يرى أن العراق لكل العراقيين، وأن العراقي ليس مَن ولد حتى الجد الأربعين أو التسعين أو الألف فقط في العراق، بل كل مَن ولد في العراق ومن يؤمن بعراقيته ممن نزح مؤخراً، أي تماماً كما هو معمول به في الدول المتقدمة، لأن أساس الوطن المواطنة، وجمال الوطن في تنوعه، والعراق بدون أكراده وتركمانه وسريانه ويزيدييه وفيلييه وشبكه وصابئته وأرمنه لا يعود العراق الذي أحببناه ودافعنا عنه بدموعنا ونحن نرى شبابه يزج في السجون والمقابر الجماعية، ومكتباته تحرق وآثاره يتفق صهر الرئيس على نهبها مثلما يتفق الغريب والطارئ واللص وتجار الحروب ودعاة المشاريع القومية التي هي في حقيقتها مشاريع إلغائية إقصائية استحواذية. إن تنوع الآثار والميراث والتراث يقف حجر عثرة وشواهد على كذب ادعاءاتهم ونجاسة طموحاتهم، فنحن نفخر بنسيم بغدادي وفضولي التركمانيان كما نفخر بعبدالله كوران الكردي، ونفخر بأبي حنيفة النعمان السرياني الحيري الكوفي، وموسى بن نصير ومحمد بن سيرين والجاحظ وأبي نواس وسيبويه، ومئات الأسماء الأخرى التي تشكل قوس قزح ثقافتنا، بالقدر الذي نقف فيه ضد عمليات التزوير والإلغاء إنْ كانت بسيطة من قبيل اعتبار أبي حنيفة النعمان فارسياً، والإمام أحمد بن حنبل الشيباني والإمام الشافعي القريشي الذي يلتقي نسبه بالنبي محمد"ص" في عبد مناف، والإمام مالك الحميري اليمني أعاجم(22)، أو ممن نؤمن أنها جريمة لا تختلف عن جرائم العنف التي ارتكبتها الأنظمة المتتالية بحق الشعب العراقي؛ من قبيل مقولة العراق وطن اصطنعه الإنكليز والغزو العربي للعراق، موحين بأن لا عرب في العراق قبل الإسلام، ومتناسين أن العراق استقبل هجرات من جهاته الأربع كلها وأن ما دخله في القرون الخمسة الأخيرة التي سبقت القرن العشرين من الشرق والشمال شكلوا اليوم نسيجه المتنوع. وليس اعتباطا أننا لا نجد آثاراً لهم تمتد لقرون طويلة، مثلما كان بعض النازحين الجدد الى ماضٍ قريب قبائل بدوية رعوية تعيش في غالبيتها العظمى بعيداً عن بلدنا، أو في الأقل عن مدننا(23)، ولهذا بقوا شفاهيين حتى جاء الإنكليز والروس وسواهم منذ منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وقاموا بتعليمهم الكتابة لأسباب سياسية من أجل الانقضاض على الدولة العثمانية – الرجل المريض-. إن ما قاله السيد مامو عثمان من أن فلسفة اليزيدية تواجدت منذ آلاف السنين في وقت لم يكن فيه مكان باسم عراق في المنطقة، إنما ردة فعل ازاء التطرف القومي العروبي، الذي تَحَكمَ بالعراق بشكل مؤلم، فكانت ردة الفعل الأكثر بداوة ورعوية والأقل مدنية من العروبين أعنف. نعم تصريح السيد مامو عثمان، هو ردة فعل لمُضطَهَد على مُضْطَهِدين، متصوراً أن إلغاءهم هو إحياء له، بينما الحقيقة أنه موات له، فتسمية العراق معروفة قبل الإسلام لكل مَن له إلمام حقيقي بتاريخ العراق، وليس اعتباطا أن يقاتل أهل الموصل الكبرى والأنبار والكوفة الكبرى والبصرة الكبرى وغيرها من المناطق العراقية في الشرق والوسط مع الإمام علي بن أبي طالب باعتبارهم جيش العراق، لأنهم كانوا قبل الإسلام في غالبيتهم تحت حكم عاصمتهم الحيرة، وأصبحوا تحت حكم عاصمتهم الكوفة. ولقد ذكر كثير من المؤرخين والبلدانيين والنحويين اسم العراق وحدوده قبل قرون من ظهور أول ذكر لمصطلح كردستان واليزيدية، ولكن ماذا نقول للأنساق الثقافية التي لا تعرف التعددية والعيش المشترك ولا تؤمن بالتنوع، إن كان من قبل الحكومات التي بطشت بالآخر المختلف عقدياً أو بالمعارضة التي كان مشروعها هو مشروع الحكومات ذاته، الحكومات التي أرادت أن تجعل العراق تابعاً للغير تحت مسمى القومية والمصير المشترك، ورفعت شعار نفط العرب للعرب، في وقت كان أهله يتضورون جوعاً وبؤساً، ومعارضة عملت مع الجميع وتعلم أن الجميع لا يريد خير الوطن، لأن مَن يساعدك يريد مصلحة بلده أولاً. وبدل أن يصبح نفط العراق وخيراته وميراثه وتراثه ملك أهله جميعاً، أصبح لدينا نفط كردستان للأكراد، ونفط الشيعة وخيرات الشيعة للشيعة، ومقابل تصريح خير الله طلفاح (خال صدام حسين)، إن العراق بلد عربي ومؤسس في جامعة الدول العربية وثلاثة أرباع سكانه عرب وثقافتنا جميعاً عربية إذن كل العراقيين عرب وإن كانوا ليسوا عرباً، وجدنا ردة الفعل تتنامى في اللاوعي الجمعي للفئات الأخرى، فأصبحنا في السنوات الأخيرة نسمع أن الكردستاني ليس الكردي فقط وإنما هو كل مَن يسكن في كردستان، مَن يردد هذه المقولة يجهل أن أصلها جاء من تصريح خير الله طلفاح الشهير في السبعينات، حين استقبله المذيع إبراهيم الزبيدي، في تلفزيون بغداد(24)، فهبت الصحف الكردية معترضة اعتراضاً قوياً، وهو من حقها بكل تأكيد، لأنه ما ذنب غير العربي أن يصبح عربياً بقرار ومزاج سياسي أو مزاج "خال الحزب والثورة" على حد تعبير صحيفة التآخي في افتتاحيتها صباح اليوم التالي، فمن حق الكردي والتركماني والسرياني والشبكي واليزيدي والأرمني وغيرهم الاعتزاز بأرومتهم كما يعتز العربي، وهؤلاء الناس يشكلون زينة المجتمع العراقي، بل إن الكثير من العراقيين وأنا منهم، نفخر بهم ونؤمن بأن في عروقنا تجري دماء كردية وتركمانية وسريانية ..الخ، ونراهم نسيجاً واحداً، أو كما جاء في الأثر،" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ولكن ما يؤسف له أن الحاضنة واحدة لا تستطيع أن تنظر للآخرين بوصفهم مكملين وأنداداً رائعين، بل تراهم هامشيين، وتابعين يدورون في فلكها، وإلا هل وضع الآخر في حسبانه من فَكر بإطلاق تسميات قومية أو دينية على البلد أو على جزء منه، بالآخرين، خصوصاً الآخر الذي لا يمكن أن تمحى آثاره، وكان من الأحرى بنا أن نربأ بأنفسنا عن تزييف وعي الناس، من خلال تهميش بقية الطيف العراقي مهما صغر حجمه وقل عدده، وأن نلغي مصطلح أقليات كما نلغي كل منظومة الهياج القومي والديني، فاعتزاز كل فرد بطائفته لا يعني أن يلغي الآخرين، ويكون سابقاً في المنطقة على حساب وجود مصطلح العراق، في الوقت الذي لا نجده يملك بضعةَ عَشَرَ كتاباً مكتوباً بلغته لقرنين خليا. وكيف لي أن أتعاطف مع مَن ينهج نفس النهج الذي نهجه الأخ الأكبر حين جعل العراقيين كلهم عرباً، وهو يلغي العراق ويتغاضى عن عشرات المصادر المهمة التي لا ينكرها أي باحث، بل إن هذه المصادر تعد من أمهات الكتب وزينة نتاج العراقيين، أقول يتغاضى عن ذكرها وتوكيدها على حدود العراق، وذكرها لكل الأقوام التي سكنته من دون أن تذكر لنا ولو إشارة عابرة له، ليس بغياً ولا تجاهلاً، ولكن لأنه لم يكن موجوداً؟ ولو تخلينا عن المصادر كلها والآثار والميراث ...إلخ، فهل يعقل أن شعباً يسكن هذه الأرض وهذه المدن منذ أربعة آلاف سنة أو ستة آلاف 500 سنة أو ألف عام، لا يوجد لديه كتابة، وكل الشعوب الموجودة في منطقة الهلال الخصيب وفي العراق التاريخي حتى منابع دجلة والفرات لديها كتابة عمرها يزيد على ألف وخمسمائة سنة؟ ومَن يتبجح بالسلطة والقوة، فهو مزور ومزيف للوعي، لأن السريان لم يكن لديهم أي قوة وسلطة حين كتبوا وأصبح خطهم هو المعتمد، ولغتهم لغة المنطقة كلها، والأرمن لم يكن لديهم سلطان حين تنادى كُتابهم وابتدعوا الأبجدية الأرمنية، والعرب لم يظهر الإسلام بينهم ولم يكونوا إمبراطورية حين كتبوا على قبر إمرئ القيس الملك العراقي كتابتهم الشهيرة عام 328 ميلادية(25)، ثم اشتهر لديهم الخط الحيري(26) وغيره من الخطوط، بل إن المتتبع للتاريخ سوف يكتشف بكل سهولة أن ترجمة لأسفار وفصول من الكتب المقدسة قد تم قبل الإسلام. لست أشك في أن هؤلاء بل جميعنا ضحايا لمنظومة قائمة على القهر والغلبة والقوة، منظومة لا تجد نفسها إلا بإذلال المقابل، حين تكون قوية، ولكنها في موقف الضعف تبدي انتهازية ًجدّ مذلةٍ، لا يختلف حامل أعلى الشهادات فيها عن الأمي، والشاعر عن السياسي أو رجل الأعمال. فمنظومة عبادة الصنم الأقوى، هي وراء مشاريع إلغائية تأبى العيش المشترك تحت ذريعة الشعور بالمواطنة درجة ثانية، ولكنهم لا يتوانون عن معاملة غيرهم بدونية، فالمشروع القومي العربي في العراق، تَطَرّفَ بمشروعه متماهياً مع الأمة والوطن "الكبير"، بحيث أصبح للعربي البعيد حقوقاً أكبر من حقوق أبناء البلد، في سابقة مهدت الأرضية للآخرين لأن تتضخم أنواتهم (وهي ردة فعل طبيعية، ضد التهميش الذي أصابهم)، إذ أصبحت كل فئة في العراق هي الأصيلة والأهم والأكثر تحضراً، وأصبح الناطق بالعربية المسكين جراء خطاب الحكومة، بدوياً جلفاً عنصرياً وسخاً.... إلخ الألفاظ التي ألصقتْ به بحيث أن ملايين صدقوا ما تطلقه ردة فعل الشركاء في الوطن عليهم، وراح اللاوعي الجمعي العراقي ككل يتقبل هذه الأمور، ولهذا أصبح شتم العرب والعروبة والقوميين العرب ومن ورائهم الإسلاميين حالة مقبولة جداً في الوسط العراقي ، في حين ظل المساس بتجاوزات الشركاء في الوطن، يلقى سيلاً من الشتائم والاتهامات، إذ أصبحت جملة الشوفينيين العروبيين جاهزة للردّ، وبخاصة ممن لا آثار لهم في بلدنا ولا ميراث ولا تراث يذكر، ومعظمهم لم يولد جَدَّهم الثاني في غالبية المدن التي يدعون فيها وجوداً تاريخياً عريقاً. نعم هي المنظومة التي لا تعترف بشيء اسمه وطن، ودائماً عوراء. ففي العراق لا تحتاج أي قومية أو طائفة حكماً ذاتياً أو فيدرالية لأنها سوف تتحول إلى قامع لمن هو أقل منها عدداً، وفي الوقت ذاته تسجن نفسها فيها، فمن يسمي المنطقة التي تحول فيها الى غالبية قبل عقود قليلة على اسمه، برغم أن تاريخ المنطقة لا يشير إليه إلا لماماً، وأحياناً بصورة تتناقض مع ما يدعيه، ومن لا ينظر إلى ميراثها وتراثها وآثارها على أنه جزء منه ويفخر به ويتبناه، فكيف لنا أن نثق بادعاءاته عن تحقيق العدالة والمساواة. إن حفظ حقوق الجميع لا يتحقق إلا تحت دولة المواطنة التي تُعلمن الحياة وتبني هوية وطنية يلتقي فيها الجميع بثوابت أولها حرمة التراب العراقي والدم العراقي، وتساوي الفرص، وأن حرية التعبير لا تعني تمزيق النسيج الوطني من خلال خلق هولوكستات تريد من الآخر أن يبقى يعتذر، رافضة ما عاناه، فالعنف أصاب الجميع، ومَن يتحدث عن فئة سيطرت عليه، عليه أن يعترف أيضاً أن عدة آلاف من هذه الفئة لقيت حتفها وهي تعتبر من خيرة أدمغة العراق كفاءة. فالطغاة لا يعترفون بقريب أو ابن حي أو عشيرة، "فلو كان هذا الكرسي بين عينيك لفقأتُ عينيك واستخرجته"، والضحايا لا ينهي معاناتهم أن نرمي اللوم على جهة دون أخرى، أو أن نخلق لنا عدواً ونرمي عليه كل شيء، إن كان العدو فئة من الشعب العراقي، أي داخلياً أو كان عدواً خارجياً، وإنما علينا دراسة المنظومة الثقافية كلها ونقدها وتهشيمها إيجابياً من خلال إزاحة المسببات التي تلزمنا بإلغاء الآخر، كي نجد أنفسنا، وكأن رفاهية الطائفة( دينية، مذهبية، قومية) لا تتم إلا بالاستيلاء على كل أرض سكنتها حتى لو كانت قبل عدة عقود فقط، وتشويه تراث الآخرين، ومعاملتهم على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية. أليس المصطلح القومي العرقي الاثني يعني بشكل خفي أنه للقومية – الاثنية العرقية- دون سواها، وان بقية القوميات لا مكان لها فيه أو إن وجدوا فيه فهم مواطنو درجة ثانية تدور في فلكها؟ والحال نفسه تماماً ينطبق على المصطلحات الدينية والمذهبية. علينا أن نجد ثوابت لبناء هوية وطنية لا تمنع أي فئة من الاعتزاز بانتمائها الديني والمذهبي و "القومي" شريطة أن يظل الوطن أولاً، وأن يكون شعور الجميع للعراق أقرب من شعورهم لامتداداتهم الخارجية، وأن المصارحة والمكاشفة والاعتذار يجب ألا تشمل فئة دون أخرى، ولا يُحَمل الجميع أخطاء سياسيين وعسكريين، يعرف القاصي والداني أنهم شخص واحد في تفكيرهم، وإن تعددت أسماؤهم ولغاتهم ومعتقداتهم؛ لأن مَن يريد أن يكون العراق عربياً خالصاً ويمنع ربع سكانه من التعبير عن تنوعهم اللغوي لا يختلف عمن يريد أن يقتطع جزءاً من أرضه ويجبر الجميع على تسميتها بإسمه، أو يستخدم جملاً وتعابير في جزئها العلوي صادقة وفي أعماقها إلغاء للآخر، ويفرض مقولة: مَن لا يوافقني على كل مطاليبي فهو عدوي( شوفيني عروبي، وهابي، عميل، خائن، ناصبي، رافضي، إبن العلقمي، سلفي، أعرابي ....والى آخر القائمة ). نعم هذه المصطلحات لا تنم عن وعي حضاري وخطاب مَدني، وكذلك اتهام الآخرين بكلمات جارحة لمجرد الاختلاف في الرأي ونبذ الحاضنة الثقافية والنسق المعرفي الذي أنتج لنا الزعيم الأوحد والقائد الضرورة والقيادة التاريخية، في مقابل عملاء الأجنبي والجيب العميل، والعصاة، والطورانيين، والنصارى عملاء الغرب الكافر أبناء القردة والخنازير، وحق تقرير المصير، والفيدرالية على الطريقة العراقية، وكلنا مع القيادة والمعارضون بضعة أنفار طلبوا اللجوء، والدليل أن الجميع هنا يؤيد نهج القيادة (هذا كلام قالته جميع الأطراف). ألم تقرر القيادة العروبية البعثية أن المسيحيين عرب، والقيادة الكردية أن المسيحيين كردستانيون؟ ألم تضع استمارات البعث العروبي قوميتين فقط، هما العربية والكردية؟ وأصبح التركماني والآشوري الكلداني السرياني والشبكي واليزيدي عربياً، أو كردياً انتقاما من الحكومة(أعداد كبيرة من غير الأكراد سجلوا أنفسهم أكراداً والآن هم في ورطة)، وها هو الكردستاني يعلن أن الشبك أكراد وهم أصل الموصل(27)، بالرغم من أن كل الوثائق تقول إنهم وجميع الأكراد نزحوا لمدينة الموصل خلال القرون الأخيرة. وقد تطرقنا أعلاه لعروبة الموصل، ونضيف أن أكثر من تسعين بالمائة من ميراث الموصل وتراثها عربي سرياني، بينما تراثها وميراثها الكردي يكاد يقترب من الصفر، وأصبحت جذور غالبية التركمان كردية، ولكن نتيجة السيطرة العثمانية تحولوا الى تركمان. أما أتباع أهل البيت فطالما شكوا من التفرقة والمضايقات والتجاوزات والمظلومية، ولكنهم حين يجبرون المسيحيات والمندائيات على لبس الحجاب، فليس في هذا ظلم، وحين تمتلئ أدبياتهم بلعن الأمويين والعباسيين، بل أصبح حديث الكساء ومحاججة نصارى نجران وكيف حلت اللعنة عليهم "فمن حاجكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِن العلمِ فَقُلْ تَعالوا نَدعُ أبناءنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثم نَبتَهِلُ فَنَجعَل لعنة الله على الكاذبين. 61 سورة آل عمران"، منهاجاً للتلاميذ الأبرياء، لإدخال الحقد والكراهية في نفوسهم. والعيب ليس في الآية الكريمة، بل في عملية توظيفها، في بلد عانى أهله من التهميش والمظلومية فعلاًَ، فهل العهد الجديد والديمقراطية هما تفريغ البلد من الآخر المختلف مذهباً وديناً؟. كان الحديث يجري عن مظلومية الشيعة والأكراد، ولكن كليهما مارس ويمارس التهميش نفسه والتزوير والإلغاء والإقصاء للآخر. في الجنوب والوسط على الكل أن يندب الحسين وأهل البيت وإلا فهو ناصبي، وفي الشمال الويل لمن يقول المصطلح الحقيقي وهو شمال العراق، وإلا فقائمة الاتهامات لا حدود لها.
سوف نستعرض بعض ماكتب عن رحيل سركون بولص، وعن إلغاء المادة 50، وإجبار المسيحيين على ترك الموصل، وكذلك بعض الحوادث الأخرى، وسوف يكون كلامنا أحياناً عن أدبيات ظهرت قبل هذا الوقت، وعن نقاشات وجدل في وسائل الاعلام، لِنُبَيّن وجهة نظرنا القائلة إن الشفاهية والإشاعة مع العقل البدوي الإقصائي ( بجناحيه السهلي والجبلي) ساهمت في بلورة نزوع ٍ إلغائي أناني لا وطنيّ، يحذو حذوَ ظالميه ومَن يشتكي منهم، حذو الحافر للحافر، ومَن يغرد خارج السرب، فهناك رزمة من تلفيقات واتهامات مهيأة لإلقائها عليه، حتى لو أعلنَ بين جملة وأخرى براءته مما ينسب له، بل وهجومه على ما يريد البعض إلباسه إياه، لأنه ببساطة لايؤمن بالعقلية التي يؤمنون بها ويرفض الحاضنة الثقافية التي تسببت في خرابنا المزري.
حين تصفحت ما كتب عن هذه الحوادث الثلاث (موت سركون، إلغاء المادة 50 من قانون المحافظات، التهديد والترحيل القسري للمسيحيين في الموصل) وجدت مع توافر النيات الصادقة في الكتابة أن ثمة إساءة حقيقية للعراق ككل ولغالبيته المطلقة، قد بثها الجميع دون دراية منهم وهذا هو نتيجة جهل فاضح بتاريخ العراق، بل إن بعض هذه السموم، إن صحت التسمية، سوف تأخذ حيزها في أعماق الوعي لدى غالبية العراقيين وربما جيرانهم، ثم قد يعتمدها كل مَن هبّ ودبّ كمراجع وقد يستشهد بها على أنها مصادر وتوثيق لكتاباته.
أصالة الناطقين بالعربية من أصالة جغرافية العراق
من يقرأ التاريخ جيداً سيلاحظ بدون أدنى عناء ( أعني القراءة الخلاقة المبدعة) أننا ننتمي للعراق بكل تاريخه، ابتداءً من اللغة العربية التي أثبتت الدراسات الحديثة انتماءها للأكدية، مروراً بعاداتنا وتقاليدنا التي أسهبت كتب التاريخ ، وبخاصة كتاب الحياة اليومية في بابل وآشور، وعقائد ما بعد الموت عند العراقيين القدماء، وغيرها من الكتب التي تناولت الناحية الثقافية، بكل شمولية كلمة ثقافة. كل هذه تدل على أننا ورثة أولئك الأسلاف بناة أولى المَدَنيات، أوليست العمارة العراقية قبل ولوج الكونكريت كانت موادها ذاتها التي أستخدمت لآلاف السنين، حتى طرزها ليست ببعيدة، بل هي امتداد للماضي وتطور له. ومطبخنا هو ذاته مطبخ الأسلاف، وما أكتشف من ألواح عرفت بألواح طباخ حمورابي، هي ذات أكلاتنا الشعبية التي نتناولها في بيوتنا مع تحوير وتجديد تفرضه سُنّة الحياة والاختلاط بشعوب شتى وبثقافاتهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر فلم يعد هناك وجود لأسطورة الغزو العربي للعراق تحت راية الإسلام، الاسطورة التي بثها البعض لأسباب عنصرية مقنعة، فقد بينت الاكتشافات الآثارية والحفريات بما لا يدع مجالاً للشك حقائق لم تكن معروفة من قبل، نورد بعضها للتدليل على الخطأ الفادح الذي وقع فيه أغلب كُتّابنا فكرسوا الخطأ، بل وكرسوا الخديعة والإساءة لأنفسهم وللعراق،وفي الوقت ذاته ننوه بأن إثبات الوجود العربي العريق في شمال العراق، لايعني إلغاء بقية ألوان الطيف العراقي الذي منح شمال وطننا صورة قوس قزح رائعة:
في القرن التاسع قبل الميلاد وصلت أول دفعة من العرب الى شمال العراق، وكان هؤلاء أسرى معارك خاضتها جيوش الأمبراطورية الآشورية، ثم تخبرنا المصادر بأن الآشوريين كانوا يستعينون بالعرب في بعض مهماتهم العسكرية، ومنها عبورهم سيناء (1)، ثم جاء دور العرب الكبير في التحالف مع الكلدانيين في عملية النزاع للسيطرة على كامل التراب العراقي الذي وَحّدَه قبل ذلك، ولأول مرة، جدنا الأعلى سرجون الأكدي، وهو ما أدى الى سقوط نينوى. وهنا كان الانتشار العربي كبيراً لدرجة أن الملك نبوخذ نُصر اضطر للسيطرة على نفوذهم المتعاظم ببناء حير (حصن) كبير، وضع فيه تجار العرب ورؤساءهم ليضمن السيطرة عليهم (2). وحين سقطت بابل، كان مَن في الحير قد كثروا فتحول الحصن الى مدينة ظلت تتعاظم وتتعاظم حتى أصبحت مملكة الحيرة الشهيرة، التي وجدت على قبر ثاني ملوكها امرؤ القيس بن عمرو بن عدي أول كتابة عربية، وذلك سنة 328 ميلادية حسبما ذكر العلامة جواد علي في مفصله (3)، ومنها خرج الخط الحيري الذي اعتمدته قريش في معاملاتها، بينما بقي النزوح العربي مستمراً نحو الشمال لدرجة أن أصبحت منطقة الموصل الكبرى تسمى في الأدبيات الآرامية بمنطقة بيث عربايا، وهو ما وثقته مصادر عدة. ولكن يبقى أقدم وأهم شاهد هو حجر بهستون الشهير في نهاية القرن السادس قبل الميلاد، أي قبل 2500 سنة تقريباً من الآن، الذي ذكرت فيه منطقة الموصل الكبرى ببيث عربايا، ثم كان نزوح قضاعة وجشعم من موطنهما في السماوة الى منطقة الموصل وتأسيس مملكة الحضر التي امتدت من نهاية القرن الثالث قبل الميلاد حتى سقوطها عام 241 ميلادية على يد الملك أدرشير مؤسس الامبراطورية الساسانية(4)، وأشهر ملوكها هو سنطرق الذي لُقبَ بملك العرب حسبما ذكر العلامة طه باقر، وهو ذات اللقب الذي أطلق على إمرئ القيس، الملك المشار إليه أعلاه، وننوه هنا بأن السماوة ليست في حضرموت، وإنما هي في العراق، ومنها خرجت أكبر ثورة عراقية في القرن العشرين.
في النصف الأول من القرن الثالث الميلادي أصبحت الموصل مملكة عربية وملكها هو سابق بن مالك(4)، ويذكر عزيز سباهي في كتابه أصول الصابئة أن تنافساً قوياً بين المبشرين اليهود والمسيحيين والصابئة جرى لكسب القبائل العربية في جنوب العراق، حدث هذا بكل تأكيد قبل ولادة نبي الإسلام إن لم يكن قبل ولادة جده الأعلى قصي بن كلاب بعقود طويلة. وهناك مَن يذكر أن النبي ماني عند عودته من الهند راح يدعو القبائل العربية في الجنوب العراقي لدينه. وغني عن التعريف أن هذا حدث قبل الدعوة الإسلامية بما لا يقل عن سبعة أجيال.
يورد ابن خلدون في موسوعته أن جذور العرب تعود إلى العراق، حيث أنهم بقايا من نجا من الطوفان الذي عمّ العراق وبقي في الذاكرة بحيث تم تدوينه في ملحمة وكتب مقدسة. وقبل ذلك يذكر المؤرخ البيزنطي سوزومينوس الذي عاش في القرن الميلادي الخامس، أن اليهود هم الذين أشاعوا فكرة الأصل السامي للعرب (5)، وأن أول مَن تبنى الرواية التوراتية هذه كانت القبائل العربية التي تهودت أو تنصرت أو كانت لها علاقات بالعالم اليهودي– المسيحي(6). وبرغم تحفظاتنا على مصطلح السامية الذي نرى أن مصطلح الأكدية أدق تعبيراً منه وأشد واقعية، ذلك أن الناظر الى اللغات العربية والسريانية والمندائية والعبرية لا يجد أدنى صعوبة في تشابه آلاف المفردات والصيغ والقواعد النحوية، وهي مازالت حية بيننا. وفي العودة الى ما قاله ابن خلدون عن هروب العراقيين الى الصحراء والعيش في واحاتها وسواحل الجزيرة العربية وجبالها، فإننا نلمس ذلك واضحاً في المقدس الذي عادة ما يرمي كلامه رمزاً، ونعني بذلك قصة النبيين إبراهيم وإسماعيل، وكذلك ما ذكرته مصادر آثارية عن هروب الملك البابلي الأخير نبونائيد ومؤيديه الى تيماء فمكة، وتأكيدات الإمام علي بن أبي طالب وابن عباس على أن جذورهما تعود الى نبط كوثى(7)، والأخيرة عراقية صرف على الرغم من وقوع المؤرخين المسلمين في تناقض بهذا الصدد، حين نسبوا ذات الاسم إلى مكة(، وهو تأكيد لما نُسب لنبي الإسلام من قوله" أنا أفصح العرب، بيد أني من قريش". وفي حديث آخر يرفع الى عمر بن الخطاب أنه سأل النبي " يارسول الله مالكَ أفصحنا ولم تخرج من بين أظهرنا؟ قال: كانت لغة إسماعيل قد درست فجاء بها جبريل فحفظتها ". وأما الحديث النبوي " ليست العربية منكم بأب وأم وإنما هي اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي" فليس سوى تدليل على ميزة العروبة، وهي أنها ليست عرقاً وقومية وإنما ثقافة. ما أورده العلامة جواد علي يدعونا إلى تأمل دلالته البالغة، إذ يقول : "هذا ويلاحظ أن عدداً من القبائل العربية الضاربة في الشمال والساكنة في العراق وفي بلاد الشام، تأثرت بلغة بني إرم، فكتبت بها، كما فعل غيرهم من الناس الساكنين في هذه الأرضين، مع أنهم لم يكونوا من بني إرم. ولهذا حسبوا على بني إرم، مع أن أصلهم من جنس آخر. ومن ضمن هؤلاء قبائل عربية عديدة، ضاع أصلها، لأنها تثقفت بثقافة بني إرم، فظن لذلك أنها منهم."(9). تحيلنا هذه الفقرة الى حقيقتين، الأولى أن الوجود العربي في العراق قديم، سبق الإسلام بقرون طويلة، وأن هذا الوجود كان حتماً في منطقة آرامية كثيفة لدرجة أن قبائل عربية ذابت فيها وأصبحت هويتها آرامية ( سريانية )، وهذا الذوبان يحتاج الى فترة زمنية طويلة، وليس في منطقة، أكدت المصادر وجود العرب فيها، كالموصل والأنبار والحيرة وعموم الجنوب العراقي وحوض الفرات الأعلى، فهو إذن في حوض دجلة الأعلى وخصوصاً شرقه، حيث الكثافة الآرامية على أشدها في تلك الفترة. وثانياً نستدل على أن الناطقين بالآرامية مثلهم مثل أخوتهم الناطقين بالعربية، خليط من أقوام شتى.
المسيحيون ليسوا سرياناً فقط
يصرّ البعض على عدم وجود مسيحيين عرب، منكرين عشرات القبائل العربية التي اعتنقت المسيحية منذ القرن الثالث الميلادي، وأن اللخميين في الحيرة وشيبان قادة معركة ذي قار الشهيرة، والنمر وتغلب وإياد ممن خاضوا معركة عين التمر بقيادة عقة بن أبي عقة ضد جيش الفتح بقيادة خالد بن الوليد، وكان الجيش كله عربياً، إذ كان مسيحياً بقيادة عقة وإسلامياً بقيادة خالد، وغيرها من القبائل العربية التي كانت تعيش في منطقة الفرات الأوسط وفي الجنوب العراقي. كما أن تغلب وبكر وربيعة وغيرها ممن كان يعيش في الشمال ،وبخاصة منطقة الموصل الكبرى وديار بكر وربيعة وغيرها، كانوا يعتنقون المسيحية، فعرب الحيرة وما حولها نساطرة، أما تغلب فدانت بالمونوفيسية إلا من كان منهم على مقربة من النساطرة فنساطرة، وبعضهم قَبلَ الأرثوذكسية أي الخلقيدونية(10)، وأن هؤلاء لم يسلموا جميعاً، بل إن البحوث الحديثة أثبتت أن ما يتباهى به البعض من المسلمين عن فتوحات سريعة، امتدت من جنوب فرنسا غرباً الى أجزاء من الصين شرقاً، في فترة زمنية وجيزة، ما هو إلا وهم وأسطورة، إذ تتحدث هذه الدراسات عن حقيقة مخالفة مفادها أن الذي انتشر وأصبح سيد الأمكنة هو اللغة العربية، وأن الناس بقوا على دياناتهم، ولكنهم تبنوا الثقافة العربية التي هي خلاصة إبداع الشرق القديم، كما يذهب انطونيو غالا أحد كبار أدباء إسبانيا بخصوص شبه الجزيرة الأيبرية، نافياً أسطورة الاحتلال العربي، ولا سيما أن أقدم الشواهد الآثارية والمخطوطات لا تذهب إلى أبعد من عصر عبد الرحمن الثالث الذي تولى عرش الخلافة عام 911 ميلادية. وأما إيران فأسلمتها لم تكتمل تماماً قبل مفتتح القرن الحادي عشر الميلادي، ولا يوجد من أثر كتابي عربي فيها قبل عام 955 ميلادية(11)، كما تبنت قبل ذلك الآرامية لغة رسمية للمخاطبة، بل إن الطراز المعماري قبل القرن العاشر الميلادي لا يشير الى منظومة إسلامية قطعاً.
من هنا فإن إلغاء صفة العروبة عن المسيحيين( أعني من يتكلمون بالعربية كما هم مسيحيّو الموصل الذين يؤمنون بعروبتهم الثقافية) هو نوع من أنواع العنصرية والشوفينية اللتين تكمنان في العقل الباطن القائل بأن المسيحية دين التحضر والعرب أبعد من أن يكونوا من أتباعها. وهي ذات العقلية التي ذكرها نلسون مانديلا في مذكراته عن المبشرين الذين كانوا يقولون لهم " إن أردت أن تكون متحضراً فكن مسيحياً " ولا ننسى أن في صالح هذه العقلية أن تشيع أسطورة دخول العرب للعراق أول مرة مع الإسلام، فهذه المغالطة تحقق لها- أي العقلية- مكاسب لا تستحقها. وهي لاتختلف عن العقلية العروبية التي حولت الناطقين بالعربية الى عدنان وقحطان، وجعلتهم خير أمة أخرجت للناس(12). وان أردنا الدقة فمسلمو اليوم هم أحفاد أولئك العراقيين القدماء من مسيحيين ويهود وصابئة وسواهم.
التزييف منبعه الجهل .. التزييف مذابح مؤجلة
حسب قراءاتي المتواضعة، لم أر أديباً مُهماً تعرفنا عليه من الثقافات الأخرى خصوصاً المركزية(الإنكليزية، الفرنسية، الاسبانية، الروسية، الألمانية..) لم يكن متضلعاً بتاريخ بلده وثقافته، بينما نحن نلمس فقراً عجيباً لدى أدبائنا، وسوف نستعرض بعض هذه الحالات لنرى إلى أي حد أسهم كُتابنا الكبار ومن يريدوننا أن ننظر إليهم على أنهم كبار، بتشويه الحقيقة، وهم يكتبون مثلاً عن سركون بولص بعد وفاته.
وعجبي ممن يتنطع بنرجسية عجيبة وإبداع يراه يضاهي روائع الأدب العالمي وهو لا يعلم مسائل بسيطة ينبغي لكل عضو في منظمة مجتمع مدني، ولا سيما اتحاد الكتاب العراقيين ونقابة الصحفيين، وكل مَن له إصدار ولو كان متواضعاً، أن يلمّ بها، وتحديدا أولئك الذين تجاوزوا الثلاثين بسنوات، باعتبار أن الغالبية العظمى من الأدباء في سني حياتهم الأدبية الأولى تركز على الإبداع قراءة وتمحيصاً، ولكن بعد سن الثلاثين يكون مفترضاً أو ربما لزاماً على كل مثقف أن يُنَوّع من قراءاته لعدة سنوات كي يركز بعدها على ما يميل إليه. وبكل تأكيد فإن معرفة تاريخ البلد هي من أوائل الأمور التي على كل مَن يرى نفسه مثقفاً أو أديباً أو شاعراً فطحلاً، أن يلمّ بها. ولكننا نرى أن واحداً من أهم الروائيين والقصاصين العراقيين والعرب، وهو من مجايلي سركون بولص يكتب في مجلة الجزيرة، مستذكراً رفيق الكلمة وابن جيله سركون بولص، بمغالطة لا يمكن أن تفوت على أديب متنوع وغزير العطاء، إذ المفروض أنه يعلم أن جد مجايله لم يولد في العراق، كما لم يولد في العراق أجداد جان دمو وصموئيل شمعون وكل من نطلق عليهم لفظة الآثوريين، فهذه الفقرة التي ندونها نصاً تُكرس تزويراً للتاريخ، فقوله: " ومن يقرأ اسم هذا الشاعر يعرف أنه آشوري (نسبة إلى آشور بانيبال) أو (آثوري) كما يقال في العراق، والآشوريون هم من الأقوام الأصلية في العراق ولم يفدوا عليه من خارجه رغم أن تعاقب القرون قد حولهم إلى أقلية في محيط عربي واسع."(13). رغم انهم ليسوا في محيط عربي واسع وانما في محيط تركي كردي أرمني شبكي يزيدي عربي فارسي. وكمثال آخر نأخذ ما كتبه روائي آخر يصغر الأول بربع قرن تقريباً، أي ممن ولدوا في النصف الأول من الستينات، حين يكرسُ تزويراً آخر واتهاماً مبطناً للغالبية العظمى كما المثال السابق، حيث يقول في مقاله المنشور في صحيفة الحياة اللندنية، إنه " في عام 1933 قررت الدولة العراقية قتل الآشوريين وتشريدهم وهم بناة العراق القديم"(14).
لو سألت أي آثوري "آشوري" من أين انتَ لأجابك أنه من حكاري أو تياري العليا أو السفلى، وهذه المناطق وسواها التي تقع في تركيا اليوم هي التي تم تفريغها في الحرب العالمية الأولى تماماً، فتم استقدام هذه الفئة للعراق في أيلول عام 1918 ووضعهم في معسكر في بعقوبة، إذ حاربت هذه الفئة الأتراك وحققت انتصارات جيدة، لكن إعلان الثورة البلشفية في روسيا تسبب في سحب الجيش الروسي الذي كان يدعمها، ما أضطرهم إلى الإنسحاب إلى أرومية ومن هناك جلبوا إلى العراق عن طريق إيران، وهذه الفئة سواء أكانت حقاً كما تؤمن بأصولها الآشورية، وهذا حقها الطبيعي، أو وقعت تحت إيهام رسخه المبشرون في أدمغتهم في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً، فلا جدال حول عراقيتهم وحقهم التام بالمواطنة والحفاظ على خصوصيتهم وأنهم يشكلون مع بقية الفئات، الطيف العراقي الجميل، بل هم خدموا العراق والثقافة العراقية والعربية، ولكن أن يكتب كُتّابنا أن هؤلاء لم يفدوا عليه من خارجه وآخر يعتبرهم بناة العراق القديم، وكأننا نزحنا إلى العراق ولسنا بناته، ومن يتهم الدولة فقط بأنها قررت القضاء عليهم وتشريدهم نقول إن تلك مغالطات معيبة وأن على هؤلاء أن يقرأوا التاريخ جيداً، فأولاً لا يمكن لأي فئة نزحت قبل أقل من خمسة عشر عاماً إلى بلد ما بعينه أن ترفض تسليم سلاحها وتطالب بحكم ذاتي أو امتياز ما، لأن جيش الاحتلال الموجود في البلد وعدتهم حكومته بامتياز ما، فيرفض الانصياع لحكومة البلد المضيف– الجديد التي أجبرت حكومته من قبل المندوب السامي البريطاني أن يمنحهم الجنسية بدون شرط وقيد، وثانياً أي منصف يعلم أن الفريق بكر صدقي كان صارماً وقاسياً وأنه استعان بالقبائل الكردية التي ينتمي لها إثنياً، مستغلاً النعرات بينهما، إذ إن الأكراد كانوا سلاح الجريمة التي ارتكبتها الدولة العثمانية بحق المسيحيين من الأرمن والسريان في أثناء الحرب العالمية الأولى. وما فعله بكر صدقي يفعله أي قائد عسكري يؤمن بأن تنفيذ الأوامر بشكل صارم دليل انضباط عسكري عالٍ بل واحترافية تنفعه في سجله الخدمي، كما أنه لا يوجد في قاموس العسكر وبخاصة في تلك الأيام، وفي هكذا مجتمعات أن يسبق الرمي الرحمة والتهديد والوعيد، فضلاً عن أن استعانة بكر صدقي بقبائل ينتمي لها، ليست مثلبة عليه وعلى القبائل الكردية؛ لأنه لو كان عربياً لفعل ذات الأمر واستعان بأقاربه والقبائل القريبة والمتحالفة مع قبيلته. وهذا ليس دفاعاً عن أحد وإنما هي ثقافة تلك الأيام، وهي الثقافة التي لا تزال سارية، وتسمى بالعرف العشائري (النخوة)، وثالثاً ما فعله بكر صدقي والحكومة العراقية بالفئة التي ينتمي لها الراحل الكبير سركون بولص، حدث مثله في مناطق الفرات الأوسط وسواها، وفي فترة متقاربة جداً. ولقد ثبت للجميع بما فيهم نحن الحالمين بدولة القانون والحرية والسلام وغيرها من الأحلام أن دولة بلا جيش قوي صارم لن تحترم في مجتمعاتنا، وما يفعله الجميع في كل شبر من العراق منذ خمس سنوات ونيف خير دليل على ما نقول. وهنا لابدّ من التذكير بأن عدد ضحايا العنف في الأشهر الاولى من عام 1991 من الناطقين بالعربية فقط هو أكثر، إن لم يكن ضعف ما قتل من غير الناطقين بالعربية في العراق مجتمعين، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى كتابة هذه السطور. أما لو أردنا أن نضيف إلى هؤلاء ضحايا العنف منذ الرابع عشر من تموز1958 وحتى يوم الناس هذا فإن أكثر من تسعين بالمئة هم من الناطقين بالعربية. وما نوهنا به أعلاه ليس دفاعاً عن عنف الدولة، وليس انتقاصاً من الضحايا الذين كم أتمنى أن يعود ذووهم ممن ترك العراق منذ السابع من آب 1933 وحتى يومنا هذا إلى أماكنهم، في نوهدرا وأربيل وكركوك وسواها، وإنما نقول هذا لتوضيح حقائق وملابسات يجهلها البعض ويفتي بها كما يشاء وهو الجاهل بالأمر(15).
إلغاء المادة 50 وعقدة الذنب- الوهم
في ردة فعل الكُتاب على إلغاء المادة 50 من قانون انتخابات مجالس المحافظات، تحكمت العاطفة الجياشة وحب شركاء الوطن، ليس على حساب الحقيقة وحدها بل أيضاً في ترسيخ المحاصصة وتكريسها ونشر إشاعات أطلقها عدد من المبشرين والمستشرقين، وهي إشاعات جعلت من غالبية الشعب يؤمن بها مع دخول عقدة الذنب إلى اللاوعي الجمعي، لجريمة وهمية لا أساس لها من الصحة، وذات الحال تكرر مع الأحداث المؤسفة التي تعرض لها مسيحيو الموصل، فاستحضر الكُتاب قاموس الإلغاء للنفس وجلد الذات وإلصاق تهم بها ما طاب لهم من إلصاق، وكأنما الدفاع عن مُكَوّن رائع من مكونات الأمة العراقية لا يتحقق إلا بتمزيق الوطن وغالبيته العظمى، إذ ما علاقة الناطقين بالعربية وهم بحدود ثلاثة أرباع العراقيين بإلغاء المادة 50، وبقتل المسيحيين وتهجيرهم إن كان في سميل آب 1933 أو على امتداد القرن العشرين أو ما جرى ويجري منذ خمسة أعوام، أو مأساة الموصل الجديدة، بل وكل التجاوزات والمآسي التي حصلت. نعم لا ذنب لأحد، إن كان من الناطقين بالعربية أو بغيرها، إنما المشكلة تكمن في الحاضنة الثقافية التي أنتجت لنا كل هذا العدد من الطغاة والدمويين والاستحواذيين الذين ينبع فهمهم للوطن من حرص على الطائفة (دينية، مذهبية، إثنية، مناطقية) دون مراعاة للطوائف الأخرى التي لا تقل شراكة عنهم، ودون مراعاة لحقوق الوطن وواجبات المواطنة(خير مثال هو الفيدرالية العنصرية الشوفينية الطائفية التي يطبل لها البعض، وبخاصة ممن يحسبون على اليسار والانتليجيسيا)، وهي فيدرالية لا وجود لها في العالم، بل راح البعض يتحدث عن محميات، كما في الولايات المتحدة وغيرها، ملغياً حقائق التاريخ، ومساهماً بشكل فعال في تدمير المواطنة، وفي اعتبار السكان الأصليين غزاة . ولا بد من التأكيد ثانية على أن الناطقين بالعربية هم نتاج تلاقح وتزاوج عشرات الأقوام التي سكنت العراق وهم بهذا سكان أصليون، وحتى لو افترضنا جزافاً أن الناطقين بالعربية عرب أقحاح وأن علم الأنساب الذي يفخر به العرب هو صحيح مائة بالمائة(16)، وليس أسطورة كما تثبت البحوث العلمية ووقائع التاريخ والمتواتر بين الناس عن تلفيقات لشجرة العائلة، فإن العرب مضى عليهم أكثر من خمسين جيلاً يشكلون نسبة لا بأس بها، أعني لا تقل عن ثلث السكان، وأكثر من أربعين جيلاً هم غالبية مطلقة، في حين أن سواهم، أي الناطقين بغير العربية والسريانية لا يوجد أي دليل علمي على أنه يرقى إلى ثلاثين جيلاً وأكثر، وإن ما يقارب من تسعين بالمائة منهم لا يرقى الى أكثر من بضعة عشر جيلاً قبل الحرب العالمية الأولى، باستثناء الشريط الحدودي الوعر؛ لأن النسق الثقافي الذي أنجبنا ساهم مساهمة فعالة في ظهور طروحات كهذه. أَلَمْ تتحول اليزيدية التي لا كتاب لها، ولم يذكرها أي مؤرخ ورحالة في العصر العباسي وما سبقه ولم تأت أدبيات اللغة السريانية على ذكرها ، الى ديانة أيزيدية عمرها أكثر من أربعة آلاف عام، على الرغم من أن معظمها عبارة عن تلاقح يهودي مسيحي إسلامي، في حين أن أبسط قواعد البحث العلمي لا تقرّ بإعطاء فترة زمنية ما، إن لم توجد وثائق وأدلة على ذلك، كما أن يزيديي سنجار( سنجارا: مركز مسيحي سرياني عربي )(17) إنما هم نتاج نزوح حديث نسبياً، لا يزيد على بضعة قرون خلت، إذ كانوا في الجانب الشرقي من دجلة في منطقة شهرزور، وكان سبب نزوحهم هو هطول القبائل الرعوية الكردية من إيران هروباً بمذهبهم من التشيع، في القرن السادس عشر وماتلاه. بل هناك مَن راح يبدي امتعاضه من عدم قيام المؤرخين والبلدانيين العرب وغيرهم بذكر اليزيدية، ليوحي للقراء أن ثمة مؤامرة عربية ضد وجود هذه الفئة، في عملية تزوير للتاريخ والحقيقة مكشوفة بسذاجتها، لأن المؤرخين والبلدانيين ذكروا لنا كل الأقوام التي كانت تعيش في زمانهم، وهكذا فعل السريان والأغريق والأرمن والفرس في مصنفاتهم. أما أكبر عملية تزوير يحاول البعض أن يشيعها ويثبتها حقيقة فهي مقولة " إن العراق وطن اصطنعه الإنكليز"، وهي مقولة تنافس مقولة الاحتلال العربي للعراق، ودائماً ما نقرأ أن العراق هو نتاج تجميع ثلاث ولايات قام بها مارك سايكس وفرانسوا جورج بيكو في معاهدتهما الشهيرة باسمهما ( سايكس بيكو). هذا التزوير يثبت أن مَن يردده، إما أن يكونوا أناساً جهلة فعلاً بتاريخ العراق لدرجة مريعة، أو أن شعورهم الحاد بعدم انتمائهم للعراق نتيجة لعدم وجود تراث وميراث وآثار لهم في معظم العراق وخصوصاً المناطق التي يطالبون بها والتي لم تكن يوماً على دين واحد ومذهب واحد ولسان واحد كلها، بل كانت ولا تزال متنوعة،وتنوعها ثراء لها وللعراق. مع كل هذا نقرأ ونسمع من يفتي بالتاريخ العراقي على هواه وهو لم يقرأ بضعة عشر كتاباً، بل هناك من لم يقرأ خمسة كتب، في بلد تسابق الجميع على إشاعة المعلومة الخطأ فيه، حتى أصبحنا بحاجة ماسة لنقرأ في الأقل ضعف سنوات عمرنا قبل البدء بالحديث عن أية مسألة عراقية، لكي لا نزيد الطين بلة، ولكن مع الأسف الشديد هذا هو ما يحصل، إذ كل راح يسهم في تزوير التاريخ وإلغاء الوطن والمواطن، تحت مسميات شتى(18).
في كتابه إلقوش عبر التاريخ، يذكر المطران يوسف بابانا (1915-1973) أن اللغة التي يتحدث بها أهل إلقوش هي الكلدانية. ويعدد اللغات التي أثرت في هذه اللغة فيذكر اللغات القديمة، إضافة إلى اليونانية واللاتينية. ولأهمية هذا الكلام الذي بثه نيافة المطران، وارتباطه المباشر بالقضية التي أناقشها، فسوف أناقشه بشكل مختصر، لأبين ما أؤمن به، وهو أن الجميع اشترك في إشاعة ثقافة التزوير والتهميش والإلغاء. فأول ما يلفت الانتباه إلى التسمية، إذ يذكرها المطران بأنها كلدانية، علماً بأنها سريانية. ولو تصفحت أي مقال أو دراسة أو كتاب كتبه دعاة الآشورية لوجدت أن التسمية تختلف تماماً، لتصبح اللغة الآشورية، ولكن المجامع العلمية تستعمل التسمية الصحيحة وهي السريانية، أما الإلغاء الذي مارسه المطران، وهو الإلغاء ذاته الذي مارسه غيره بشكل سافر، بخصوص اليزيدية، الذي سنتناوله في السطور القادمة، فهو تأثير العربية في السريانية، لأن السؤال الذي لابدّ أن يواجهنا، كيف أثرت اللاتينية واليونانية وغيرها في" الكلدانية" وهي لم تجاورها لقرون عدة، وبخاصة اللاتينية، في حين أن العربية التي تجاور أهل إلقوش منذ 2500 سنة، وفي الـ(14) قرناً الأخيرة تكاد تكون العربية سيدة الموقف، لكن مطراننا الكبير يلغيها تماماً ويقصيها بعيداً عن كتابه الذي لم يشعر بالخجل وهو يكتبه بالعربية. في الحوار الذي أجرته جريدة الزمان اللندنية مع الباحث مامو عثمان، في عددها الصادر في 20 تشرين الأول، عام 2000، وشغل نصف صفحة تقريباً (ص 18)، مارس فيه إقصاء وتزويراً يجعلنا نلمس مستوى الخراب الأخلاقي الذي وصله البعض. ولأنهم أبناء حاضنة الخراب فهم لا يتورعون عن قلب الحقائق أكثر مما يتقبله العقل، وإلا فمن ذا الذي يقبل لِوَعيهِ أن يهضم هذا التصريح المُنافي لأبسط قواعد البحث والدرس العلمي:" إن تسميتها (ويعني اليزيدية) متأتية من (يزدان) الفارسية.. وإنها فلسفة دينية جاءت مع مجموعة فلسفات أخرى أهمها المترائية (الإيرانية).. ويضيف، إن المؤرخين اتفقوا على أنها أصل الديانة الكردية وفلسفتها قدمت من الهند قبل ألفي عام قبل الميلاد.. وإنهم يقدسون العجل الذي هو عجل الإله مترا الذي هو الشمس". ثم يقول:" لا تنس بأن فلسفة الديانة اليزيدية تواجدت منذ آلاف السنين في وقت لم يكن هنالك مكان بإسم – عراق – في المنطقة ولا تنس أيضاً بأنه لا توجد حضارة باسم الحضارة العراقية في التاريخ، وكان الأجدى بك أن تتحدث عن حضارة وادي الرافدين ". هكذا يقدم هذا الباحث على قلب الحقائق بطريقة تبرر العنف الذي مارسته الأنظمة في العراق بحق سكانه وخصوصاً الأكراد. فهذا الباحث يتحدث في هذا الحوار وكأنه جالس في مقهى مليئة بالأميين، وهو الأفندي الوحيد بينهم(19) فكمية التزوير هنا ليست 20 بالمائة أو خمسين بالمائة، وإنما تزوير يقلب الحقائق رأساً على عقب، ويلغي وطناً موجوداً ومتفقاً عليه بين غالبية المؤرخين والبلدانيين، ليضع تاريخاً لفئة لم تكتشف بين المؤرخين الا في القرون الأخيرة، وبخاصة القرن التاسع عشر، ولم يكن لها أي وجود في كتب التاريخ والموسوعات والديانات والرحالة. ولابد هنا من ذكر أن أول مرة يصار فيها إلى إطلاق مصطلح كردستان التي كانت منطقة صغيرة جداً في إيران كان قبل نحو ألف سنة، أي بعد وفاة ابن رستة البلداني (ت 289ه) الذي ذكر حدود العراق، والمسعودي (ت 346 ه،957م) الشهير صاحب النص الذي لو حفظه كل عراقي عن ظهر قلب * لِما تجرأ مَن تجرأ. ولم يدخل أي شبر من كردستان داخل العراق حتى بضعة قرون خلت(20)، وهي منطقة السليمانية فقط، والسليمانية هي أول مدينة كردية وقد تأسست عام 1786م(21). ولهذا " هنا المسكوت عنه من قبل الجميع مما سبب تسيباً في الكلام والكتابة " لم تشمل كل المعاهدات والإتفاقيات والوعود الدولية بخصوص الأكراد، أي حق إن كان في الإدارة الذاتية أو الحقوق الثقافية خارج نطاق محافظة السليمانية وبعض مناطق الشريط الحدودي الوعرة، لأن أربيل ونوهدرا – الأسم الحقيقي والتاريخي لدهوك – وكل كركوك وديالى ونينوى وسواها لم يكن يشكل الأكراد فيها غالبية، بل إن هذه المناطق كانت بغالبية سريانية تركمانية عربية مطلقة، وفي بعضها تزيد عن تسعين بالمائة حتى بعد الحرب العالمية الأولى. وهذا الكلام لا يقلل من واجبنا الوطني الذي يرى في الأكراد واليزيدية شمعتين تزينان لوحة الفسيفساء العراقية، واعتزازنا بهم ليس مِنة منا، بل هو إعتزاز نابع من شعور حقيقي يرى أن العراق لكل العراقيين، وأن العراقي ليس مَن ولد حتى الجد الأربعين أو التسعين أو الألف فقط في العراق، بل كل مَن ولد في العراق ومن يؤمن بعراقيته ممن نزح مؤخراً، أي تماماً كما هو معمول به في الدول المتقدمة، لأن أساس الوطن المواطنة، وجمال الوطن في تنوعه، والعراق بدون أكراده وتركمانه وسريانه ويزيدييه وفيلييه وشبكه وصابئته وأرمنه لا يعود العراق الذي أحببناه ودافعنا عنه بدموعنا ونحن نرى شبابه يزج في السجون والمقابر الجماعية، ومكتباته تحرق وآثاره يتفق صهر الرئيس على نهبها مثلما يتفق الغريب والطارئ واللص وتجار الحروب ودعاة المشاريع القومية التي هي في حقيقتها مشاريع إلغائية إقصائية استحواذية. إن تنوع الآثار والميراث والتراث يقف حجر عثرة وشواهد على كذب ادعاءاتهم ونجاسة طموحاتهم، فنحن نفخر بنسيم بغدادي وفضولي التركمانيان كما نفخر بعبدالله كوران الكردي، ونفخر بأبي حنيفة النعمان السرياني الحيري الكوفي، وموسى بن نصير ومحمد بن سيرين والجاحظ وأبي نواس وسيبويه، ومئات الأسماء الأخرى التي تشكل قوس قزح ثقافتنا، بالقدر الذي نقف فيه ضد عمليات التزوير والإلغاء إنْ كانت بسيطة من قبيل اعتبار أبي حنيفة النعمان فارسياً، والإمام أحمد بن حنبل الشيباني والإمام الشافعي القريشي الذي يلتقي نسبه بالنبي محمد"ص" في عبد مناف، والإمام مالك الحميري اليمني أعاجم(22)، أو ممن نؤمن أنها جريمة لا تختلف عن جرائم العنف التي ارتكبتها الأنظمة المتتالية بحق الشعب العراقي؛ من قبيل مقولة العراق وطن اصطنعه الإنكليز والغزو العربي للعراق، موحين بأن لا عرب في العراق قبل الإسلام، ومتناسين أن العراق استقبل هجرات من جهاته الأربع كلها وأن ما دخله في القرون الخمسة الأخيرة التي سبقت القرن العشرين من الشرق والشمال شكلوا اليوم نسيجه المتنوع. وليس اعتباطا أننا لا نجد آثاراً لهم تمتد لقرون طويلة، مثلما كان بعض النازحين الجدد الى ماضٍ قريب قبائل بدوية رعوية تعيش في غالبيتها العظمى بعيداً عن بلدنا، أو في الأقل عن مدننا(23)، ولهذا بقوا شفاهيين حتى جاء الإنكليز والروس وسواهم منذ منتصف ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وقاموا بتعليمهم الكتابة لأسباب سياسية من أجل الانقضاض على الدولة العثمانية – الرجل المريض-. إن ما قاله السيد مامو عثمان من أن فلسفة اليزيدية تواجدت منذ آلاف السنين في وقت لم يكن فيه مكان باسم عراق في المنطقة، إنما ردة فعل ازاء التطرف القومي العروبي، الذي تَحَكمَ بالعراق بشكل مؤلم، فكانت ردة الفعل الأكثر بداوة ورعوية والأقل مدنية من العروبين أعنف. نعم تصريح السيد مامو عثمان، هو ردة فعل لمُضطَهَد على مُضْطَهِدين، متصوراً أن إلغاءهم هو إحياء له، بينما الحقيقة أنه موات له، فتسمية العراق معروفة قبل الإسلام لكل مَن له إلمام حقيقي بتاريخ العراق، وليس اعتباطا أن يقاتل أهل الموصل الكبرى والأنبار والكوفة الكبرى والبصرة الكبرى وغيرها من المناطق العراقية في الشرق والوسط مع الإمام علي بن أبي طالب باعتبارهم جيش العراق، لأنهم كانوا قبل الإسلام في غالبيتهم تحت حكم عاصمتهم الحيرة، وأصبحوا تحت حكم عاصمتهم الكوفة. ولقد ذكر كثير من المؤرخين والبلدانيين والنحويين اسم العراق وحدوده قبل قرون من ظهور أول ذكر لمصطلح كردستان واليزيدية، ولكن ماذا نقول للأنساق الثقافية التي لا تعرف التعددية والعيش المشترك ولا تؤمن بالتنوع، إن كان من قبل الحكومات التي بطشت بالآخر المختلف عقدياً أو بالمعارضة التي كان مشروعها هو مشروع الحكومات ذاته، الحكومات التي أرادت أن تجعل العراق تابعاً للغير تحت مسمى القومية والمصير المشترك، ورفعت شعار نفط العرب للعرب، في وقت كان أهله يتضورون جوعاً وبؤساً، ومعارضة عملت مع الجميع وتعلم أن الجميع لا يريد خير الوطن، لأن مَن يساعدك يريد مصلحة بلده أولاً. وبدل أن يصبح نفط العراق وخيراته وميراثه وتراثه ملك أهله جميعاً، أصبح لدينا نفط كردستان للأكراد، ونفط الشيعة وخيرات الشيعة للشيعة، ومقابل تصريح خير الله طلفاح (خال صدام حسين)، إن العراق بلد عربي ومؤسس في جامعة الدول العربية وثلاثة أرباع سكانه عرب وثقافتنا جميعاً عربية إذن كل العراقيين عرب وإن كانوا ليسوا عرباً، وجدنا ردة الفعل تتنامى في اللاوعي الجمعي للفئات الأخرى، فأصبحنا في السنوات الأخيرة نسمع أن الكردستاني ليس الكردي فقط وإنما هو كل مَن يسكن في كردستان، مَن يردد هذه المقولة يجهل أن أصلها جاء من تصريح خير الله طلفاح الشهير في السبعينات، حين استقبله المذيع إبراهيم الزبيدي، في تلفزيون بغداد(24)، فهبت الصحف الكردية معترضة اعتراضاً قوياً، وهو من حقها بكل تأكيد، لأنه ما ذنب غير العربي أن يصبح عربياً بقرار ومزاج سياسي أو مزاج "خال الحزب والثورة" على حد تعبير صحيفة التآخي في افتتاحيتها صباح اليوم التالي، فمن حق الكردي والتركماني والسرياني والشبكي واليزيدي والأرمني وغيرهم الاعتزاز بأرومتهم كما يعتز العربي، وهؤلاء الناس يشكلون زينة المجتمع العراقي، بل إن الكثير من العراقيين وأنا منهم، نفخر بهم ونؤمن بأن في عروقنا تجري دماء كردية وتركمانية وسريانية ..الخ، ونراهم نسيجاً واحداً، أو كما جاء في الأثر،" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" ولكن ما يؤسف له أن الحاضنة واحدة لا تستطيع أن تنظر للآخرين بوصفهم مكملين وأنداداً رائعين، بل تراهم هامشيين، وتابعين يدورون في فلكها، وإلا هل وضع الآخر في حسبانه من فَكر بإطلاق تسميات قومية أو دينية على البلد أو على جزء منه، بالآخرين، خصوصاً الآخر الذي لا يمكن أن تمحى آثاره، وكان من الأحرى بنا أن نربأ بأنفسنا عن تزييف وعي الناس، من خلال تهميش بقية الطيف العراقي مهما صغر حجمه وقل عدده، وأن نلغي مصطلح أقليات كما نلغي كل منظومة الهياج القومي والديني، فاعتزاز كل فرد بطائفته لا يعني أن يلغي الآخرين، ويكون سابقاً في المنطقة على حساب وجود مصطلح العراق، في الوقت الذي لا نجده يملك بضعةَ عَشَرَ كتاباً مكتوباً بلغته لقرنين خليا. وكيف لي أن أتعاطف مع مَن ينهج نفس النهج الذي نهجه الأخ الأكبر حين جعل العراقيين كلهم عرباً، وهو يلغي العراق ويتغاضى عن عشرات المصادر المهمة التي لا ينكرها أي باحث، بل إن هذه المصادر تعد من أمهات الكتب وزينة نتاج العراقيين، أقول يتغاضى عن ذكرها وتوكيدها على حدود العراق، وذكرها لكل الأقوام التي سكنته من دون أن تذكر لنا ولو إشارة عابرة له، ليس بغياً ولا تجاهلاً، ولكن لأنه لم يكن موجوداً؟ ولو تخلينا عن المصادر كلها والآثار والميراث ...إلخ، فهل يعقل أن شعباً يسكن هذه الأرض وهذه المدن منذ أربعة آلاف سنة أو ستة آلاف 500 سنة أو ألف عام، لا يوجد لديه كتابة، وكل الشعوب الموجودة في منطقة الهلال الخصيب وفي العراق التاريخي حتى منابع دجلة والفرات لديها كتابة عمرها يزيد على ألف وخمسمائة سنة؟ ومَن يتبجح بالسلطة والقوة، فهو مزور ومزيف للوعي، لأن السريان لم يكن لديهم أي قوة وسلطة حين كتبوا وأصبح خطهم هو المعتمد، ولغتهم لغة المنطقة كلها، والأرمن لم يكن لديهم سلطان حين تنادى كُتابهم وابتدعوا الأبجدية الأرمنية، والعرب لم يظهر الإسلام بينهم ولم يكونوا إمبراطورية حين كتبوا على قبر إمرئ القيس الملك العراقي كتابتهم الشهيرة عام 328 ميلادية(25)، ثم اشتهر لديهم الخط الحيري(26) وغيره من الخطوط، بل إن المتتبع للتاريخ سوف يكتشف بكل سهولة أن ترجمة لأسفار وفصول من الكتب المقدسة قد تم قبل الإسلام. لست أشك في أن هؤلاء بل جميعنا ضحايا لمنظومة قائمة على القهر والغلبة والقوة، منظومة لا تجد نفسها إلا بإذلال المقابل، حين تكون قوية، ولكنها في موقف الضعف تبدي انتهازية ًجدّ مذلةٍ، لا يختلف حامل أعلى الشهادات فيها عن الأمي، والشاعر عن السياسي أو رجل الأعمال. فمنظومة عبادة الصنم الأقوى، هي وراء مشاريع إلغائية تأبى العيش المشترك تحت ذريعة الشعور بالمواطنة درجة ثانية، ولكنهم لا يتوانون عن معاملة غيرهم بدونية، فالمشروع القومي العربي في العراق، تَطَرّفَ بمشروعه متماهياً مع الأمة والوطن "الكبير"، بحيث أصبح للعربي البعيد حقوقاً أكبر من حقوق أبناء البلد، في سابقة مهدت الأرضية للآخرين لأن تتضخم أنواتهم (وهي ردة فعل طبيعية، ضد التهميش الذي أصابهم)، إذ أصبحت كل فئة في العراق هي الأصيلة والأهم والأكثر تحضراً، وأصبح الناطق بالعربية المسكين جراء خطاب الحكومة، بدوياً جلفاً عنصرياً وسخاً.... إلخ الألفاظ التي ألصقتْ به بحيث أن ملايين صدقوا ما تطلقه ردة فعل الشركاء في الوطن عليهم، وراح اللاوعي الجمعي العراقي ككل يتقبل هذه الأمور، ولهذا أصبح شتم العرب والعروبة والقوميين العرب ومن ورائهم الإسلاميين حالة مقبولة جداً في الوسط العراقي ، في حين ظل المساس بتجاوزات الشركاء في الوطن، يلقى سيلاً من الشتائم والاتهامات، إذ أصبحت جملة الشوفينيين العروبيين جاهزة للردّ، وبخاصة ممن لا آثار لهم في بلدنا ولا ميراث ولا تراث يذكر، ومعظمهم لم يولد جَدَّهم الثاني في غالبية المدن التي يدعون فيها وجوداً تاريخياً عريقاً. نعم هي المنظومة التي لا تعترف بشيء اسمه وطن، ودائماً عوراء. ففي العراق لا تحتاج أي قومية أو طائفة حكماً ذاتياً أو فيدرالية لأنها سوف تتحول إلى قامع لمن هو أقل منها عدداً، وفي الوقت ذاته تسجن نفسها فيها، فمن يسمي المنطقة التي تحول فيها الى غالبية قبل عقود قليلة على اسمه، برغم أن تاريخ المنطقة لا يشير إليه إلا لماماً، وأحياناً بصورة تتناقض مع ما يدعيه، ومن لا ينظر إلى ميراثها وتراثها وآثارها على أنه جزء منه ويفخر به ويتبناه، فكيف لنا أن نثق بادعاءاته عن تحقيق العدالة والمساواة. إن حفظ حقوق الجميع لا يتحقق إلا تحت دولة المواطنة التي تُعلمن الحياة وتبني هوية وطنية يلتقي فيها الجميع بثوابت أولها حرمة التراب العراقي والدم العراقي، وتساوي الفرص، وأن حرية التعبير لا تعني تمزيق النسيج الوطني من خلال خلق هولوكستات تريد من الآخر أن يبقى يعتذر، رافضة ما عاناه، فالعنف أصاب الجميع، ومَن يتحدث عن فئة سيطرت عليه، عليه أن يعترف أيضاً أن عدة آلاف من هذه الفئة لقيت حتفها وهي تعتبر من خيرة أدمغة العراق كفاءة. فالطغاة لا يعترفون بقريب أو ابن حي أو عشيرة، "فلو كان هذا الكرسي بين عينيك لفقأتُ عينيك واستخرجته"، والضحايا لا ينهي معاناتهم أن نرمي اللوم على جهة دون أخرى، أو أن نخلق لنا عدواً ونرمي عليه كل شيء، إن كان العدو فئة من الشعب العراقي، أي داخلياً أو كان عدواً خارجياً، وإنما علينا دراسة المنظومة الثقافية كلها ونقدها وتهشيمها إيجابياً من خلال إزاحة المسببات التي تلزمنا بإلغاء الآخر، كي نجد أنفسنا، وكأن رفاهية الطائفة( دينية، مذهبية، قومية) لا تتم إلا بالاستيلاء على كل أرض سكنتها حتى لو كانت قبل عدة عقود فقط، وتشويه تراث الآخرين، ومعاملتهم على أنهم مواطنين من الدرجة الثانية. أليس المصطلح القومي العرقي الاثني يعني بشكل خفي أنه للقومية – الاثنية العرقية- دون سواها، وان بقية القوميات لا مكان لها فيه أو إن وجدوا فيه فهم مواطنو درجة ثانية تدور في فلكها؟ والحال نفسه تماماً ينطبق على المصطلحات الدينية والمذهبية. علينا أن نجد ثوابت لبناء هوية وطنية لا تمنع أي فئة من الاعتزاز بانتمائها الديني والمذهبي و "القومي" شريطة أن يظل الوطن أولاً، وأن يكون شعور الجميع للعراق أقرب من شعورهم لامتداداتهم الخارجية، وأن المصارحة والمكاشفة والاعتذار يجب ألا تشمل فئة دون أخرى، ولا يُحَمل الجميع أخطاء سياسيين وعسكريين، يعرف القاصي والداني أنهم شخص واحد في تفكيرهم، وإن تعددت أسماؤهم ولغاتهم ومعتقداتهم؛ لأن مَن يريد أن يكون العراق عربياً خالصاً ويمنع ربع سكانه من التعبير عن تنوعهم اللغوي لا يختلف عمن يريد أن يقتطع جزءاً من أرضه ويجبر الجميع على تسميتها بإسمه، أو يستخدم جملاً وتعابير في جزئها العلوي صادقة وفي أعماقها إلغاء للآخر، ويفرض مقولة: مَن لا يوافقني على كل مطاليبي فهو عدوي( شوفيني عروبي، وهابي، عميل، خائن، ناصبي، رافضي، إبن العلقمي، سلفي، أعرابي ....والى آخر القائمة ). نعم هذه المصطلحات لا تنم عن وعي حضاري وخطاب مَدني، وكذلك اتهام الآخرين بكلمات جارحة لمجرد الاختلاف في الرأي ونبذ الحاضنة الثقافية والنسق المعرفي الذي أنتج لنا الزعيم الأوحد والقائد الضرورة والقيادة التاريخية، في مقابل عملاء الأجنبي والجيب العميل، والعصاة، والطورانيين، والنصارى عملاء الغرب الكافر أبناء القردة والخنازير، وحق تقرير المصير، والفيدرالية على الطريقة العراقية، وكلنا مع القيادة والمعارضون بضعة أنفار طلبوا اللجوء، والدليل أن الجميع هنا يؤيد نهج القيادة (هذا كلام قالته جميع الأطراف). ألم تقرر القيادة العروبية البعثية أن المسيحيين عرب، والقيادة الكردية أن المسيحيين كردستانيون؟ ألم تضع استمارات البعث العروبي قوميتين فقط، هما العربية والكردية؟ وأصبح التركماني والآشوري الكلداني السرياني والشبكي واليزيدي عربياً، أو كردياً انتقاما من الحكومة(أعداد كبيرة من غير الأكراد سجلوا أنفسهم أكراداً والآن هم في ورطة)، وها هو الكردستاني يعلن أن الشبك أكراد وهم أصل الموصل(27)، بالرغم من أن كل الوثائق تقول إنهم وجميع الأكراد نزحوا لمدينة الموصل خلال القرون الأخيرة. وقد تطرقنا أعلاه لعروبة الموصل، ونضيف أن أكثر من تسعين بالمائة من ميراث الموصل وتراثها عربي سرياني، بينما تراثها وميراثها الكردي يكاد يقترب من الصفر، وأصبحت جذور غالبية التركمان كردية، ولكن نتيجة السيطرة العثمانية تحولوا الى تركمان. أما أتباع أهل البيت فطالما شكوا من التفرقة والمضايقات والتجاوزات والمظلومية، ولكنهم حين يجبرون المسيحيات والمندائيات على لبس الحجاب، فليس في هذا ظلم، وحين تمتلئ أدبياتهم بلعن الأمويين والعباسيين، بل أصبح حديث الكساء ومحاججة نصارى نجران وكيف حلت اللعنة عليهم "فمن حاجكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِن العلمِ فَقُلْ تَعالوا نَدعُ أبناءنا وأبناءَكم ونساءَنا ونساءَكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثم نَبتَهِلُ فَنَجعَل لعنة الله على الكاذبين. 61 سورة آل عمران"، منهاجاً للتلاميذ الأبرياء، لإدخال الحقد والكراهية في نفوسهم. والعيب ليس في الآية الكريمة، بل في عملية توظيفها، في بلد عانى أهله من التهميش والمظلومية فعلاًَ، فهل العهد الجديد والديمقراطية هما تفريغ البلد من الآخر المختلف مذهباً وديناً؟. كان الحديث يجري عن مظلومية الشيعة والأكراد، ولكن كليهما مارس ويمارس التهميش نفسه والتزوير والإلغاء والإقصاء للآخر. في الجنوب والوسط على الكل أن يندب الحسين وأهل البيت وإلا فهو ناصبي، وفي الشمال الويل لمن يقول المصطلح الحقيقي وهو شمال العراق، وإلا فقائمة الاتهامات لا حدود لها.