الشاعر الذي يؤمن بأن ما يقوم به هو تأكيد أن مهمته الأساسية كشاعر ، هي الوصول إلى منبع ومصدر الشعر ..
الفرنسي دوكاس*
لقد مضى الخريف .. هل مضى الخريف ؟
هذا ما يقدمه لنا سؤال الشعر لدى الشاعر العراقي المقيم في هيروشيما باسم فرات من خلال مجموعته الشعرية الثانية الصادرة عن دار أزمنة في عمان ـ الأردن والمسبوقة بمجموعته الأولى ( أشدّ الهديل ) الصادرة عن دار ألواح ـ مدريد في العام 1999 ، وقد كتبت قصائد المجموعة ( خريف المآذن ) بين الأعوام 92 ـ 99 في العراق والأردن ونيوزلندا كما أشار الشاعر بذلك .
ماذا تتوقع القراءة الأولى لهذه القصائد من شاعر أعطى أوامره الشعرية لغربته بالنوم على خريف مآذنه ، بهذا المعنى تشكل هذه المجموعة بداية صريحة لتحالف البناء الجمالي لقصيدته مع البناء اللغوي الذي لا يتوسل النص حتى آخر شهقة يطلقها الشاعر وهو في عزلته هناك حيث الطفولة التي تجففها الأحلام والأمنيات المتراكمة النائمة في آخر كلمة من كلمات القصيدة ، وهذا ما نراه جلياً في المقطع التالي من قصيدة ( إلى لغة الضوء أقود القناديل ):
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الأخير في قافلة العزلة
تلك إذن رؤية الشاعر لمبادرة الخريف المدهشة باتجاه هذا الشعر وهي سرعان ما تنكرت لتلك المبادرة وأندفعت بعيداً مع المعنى المراد لها غير عابئة بما تسببه من خيانات لمآذن الشاعر رغم كل ما قدمه من محاولات جديدة منحته في نهاية الأمر زخماً جمالياً مضاعفاً لا سيما وإنه يهتم بتكرار المحاولات التي قد تسنح له بمعانقة الهواجس حين تكون عصية على الأختباء وتتركه هكذا .. حائراً في العراء ، هذه الحالة يفسرها لنا هذا المقطع من قصيدة ( أرسم بغداد ) إذ يقول :
رغم أني حاولت ألف مرة أن أخبئ الفرات
لكنني عانقته
أو في المقطع التالي من ذات القصيدة أعلاه :
اومأت للأشجار : أن أحمي ظلي من نزق الخطوات
فتراشقني العراء
ينقلنا الشاعر إلى نقطة أعلى من شراسة الخريف .. إنه الإنتظار الذي يجعلنا ننخرط ثانية بمحض إرادتنا هذه المرة مع لعبة الإنتظار تلك ، حيث المزيد من التأزم الروحي والنفسي قبل أن نجد الدليل الذي سيؤكد لنا لاحقاً أن الطريق باتت سالكة للرحيل أمام هذه الذكريات الصدئة .. إنه أستسلام شعري كامل لايستطيع الشاعر البقاء أمامه وهو لايحمل معه إلا قصيدة تترقب أو تحلم بالخروج من النافذة ، هذه الفقرة المتعلقة بالإنتظار تحديداً يصوغها لنا باسم من خلال هذه العبارات الشعرية المكثفة من نصه الذي يحمل عنوان ( عانقت برجاً خلته مئذنة ) :
لسنا سوى خيبات صدئت ذكرياتها
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أشعلت ما تبقى للرحيل
يطرح الشاعر موضوع الحزن بصورة تكاد تكون إنتقائية وحادة بحيث يستدرج مفرداته الشعرية مفردة إثر أخرى للالتحاق بنصه مما يحقق ازالة عقبة التظلم من شكل المفردة التي يستخدمها لوصف ذلك الحزن وبهذا يتوفر للقارئ حالة جديدة يعيد من خلالها الأعتبار لمفهوم الحزن ونُبله وللوصول إلى هذه النتيجة يمكن لنا أن نشرك القارئ رؤيتنا هذه التي اوصلنا إليها النص المعنون ( دلني أيها السواد ) الذي يسهل لنا انتقال هذا التنويه العلني المغلف بالسواد فيقول :
مزدحماً بانشغال الياس
يلوح بأصابعه للذين يمضون
ولا بد ثانياً وبالترافق مع هذه الصورة الجذابة يهيأ لنا الشاعر احتمالات إضافية لجمال اللمحة الخاطفة التي يتصاعد من خلالها موضع الحزن أمام دهشة التصوير، ثم ينتقل بنا إلى صورة لا تقل جمالاً من سابقتها في إطار يتزايد فيه الشجن بكثافة متواصلة تلقي بظلالها الفنية والجمالية على النص وتعزز لدى الشاعر مثلما القارئ المشاركة الوجدانية وأن يضع الاثنان هواجسهما المشتركة في خدمة موجبات الشعركي لانربك تلقائية النص الذي بدوره سيشل حركية المفردات وبهذا يحقق الشاعر باسم فرات نبؤة أستاذي الراحل الناقد الدكتور محسن اطيمش حين قال ذات مرة : ( ان مظاهر الحزن في القصيدة أقدر على الاقناع من الحزن نفسه ) لنقرأ معاً هذا الشطر من القصيدة المعنونة ( آهلون بالنزيف ) :
مثلما نسيت أيامك تحرس خطواتهم
علمت الحناء الرقص في اصابعهم
مما يثير العجب حقاً أن الشاعر لا يجهل السبب الأساسي الذي جعله يختار هذه الجملة ( عبرت الحدود مصادفة ) عنواناً لقصيدته من حيث هو عراقي وشاعر والفرد العراقي خاصة يعرف جيداً ماذا تعني كلمة الحدود التي بدأت منها عذاباته /هم اللانهائية ، فيبدو لي أن الشاعر حين خلط كلمتي الحدود والصدفة كان يريد لنا الانتباه لظاهرة الخروج ، الهروب والطرد الجماعي والمفرد باعتباره نزوحاً صوب الخلاص لأن الحياة في البلاد باتت مستحيلة ومحكومة بواقع الموت والخراب والحرب ، وبعد ذلك يستعرض لنا المتبقي من تلك المرحلة ببعض التفاصيل التي يتحدث عنها الشاعر وما زالت آثارها باقية تحت نفوذ ذلك الشعور القسري الذي أسسته تلك المرحلة العصيبة كما أراد أن يُبين هذه الحقيقة التي يحاول ان يُخفي آثارها البرابرة الجدد ، وهذا ما نراه واضحاً في قصيدته المشار إليها سلفاً :
أصابعي .. بقايا مدن غابرة
وختم الموتى خطواتي
ويقول أيضاً في نفس القصيدة :
البلاد التي فرت من أصابعي
عبرت الحدود مصادفة
أوسمتي علامات أستفهام
مهما يكتب الشاعر من أعتراضاته ويعبر عن رفضه الحاد الذي يوجهه للحرب لم يصل إلى نقطة الاكتفاء لذلك يرصد شاعرنا ويكتب بنرته الكربلائية الحزينة التي تكاد تصل إلى ذروتها ملاحظاته ومواقفه من الحرب مع الأخذ بنظر الأعتبار موضوع الرفض الذي يلبي حاجات القصيدة المعارضة للحرب خصوصاً وهو يقيم في مدينة تعرف معنى الحرب وشكل الموت هيروشيما التي تثير الكثير من مصداقية التصوير ـ التعبير الشعري المرتبطة بالرمز إضافة إلى ان للمكان حضور طاغ وتأثير واضح لمضمون النص ومن اللافت للنظر أيضاً ان الشاعر يحاول جاهداً أن لايكثر من نبرة الحزن ذات السمة المفتعلة التي نراها في كثير من الكتابات المستهلكة التي تتعامل بطريقة تقليدية بعيدة كل البعد عن دموية الحرب وحقيقة بشاعتها ، إن نظرة نقدية دقيقة لقصيدة الحرب اليوم ترينا انقاسامات على مختلف الصعد ، إلا أنه يمكن لوحدة القصيدة وفنيتها أن تأخذ محتوى يتلائم مع واقع الحرب المؤلم والمخيف ولكن في هذا النص المعنون ( عناق لايقطعه سوى القصف ) نكتشف شكلاً جديداً يتلائم مع ما نريده من الشعر والشاعر وهما يواجهان قسوة الحرب .. فيقول :
أتذكر انني بلا وطن
وإن الحروب ما زالت تلاحقني
وتغير أشكالها
والشظايا سعالي المزمن
بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي
كل ما في راحتي رماد
أين سأحفظ قبلات النهر
الذي دخل المدينة ذات يوم متنكراً بهيئة صبي
فاغتصبه الجنود
لا ريب عندي من ان الشاعر الذي لا ذاكرة له ولا ماضي يفيء إليه هو شاعر مضطرب ، طعين الروح وقد رأيت هذا الرأي لا ينطبق على الشاعر باسم فرات فلقد تكونت لديه من خلال نصه ( أقول انثى .. ولا أعني كربلاء ) انطباعات مثيرة ومركزة وحدتها ذهنيته المشدودة إلى ملاعب صباه وتذكاراته وانتسابه المكاني ، فبعد إضافة (ياء) النسب لاسم مدينته (كربلاء) يصبح هو ومدينته صنوان ، هذه هي تقاليد الذاكرة وموسيقى المكان التي تهز اوتار الشوق ليستعيد علائق الناس بعضهم ببعض ويبحث في نفس الوقت وهو في منفاه عن سبل جديدة لمقارعة النسيان ومقاومة الوحشة عبر نصه هذا فلا يمكن أن يخرج الشاعر بسهولة من أسر المكان وانزياحاته التي تتأرجح بين هذيان الشاعر وصرامة الذكرى وكأنه يجلس على متن مركب (آرثر رامبو) السكران ، ولا أعرف ما الذي جعلني أتخيل هذه القصيدة بالذات وكأنها قمراً أصطناعياً أطلقه الشاعر في سماء المخيلة ليتابع حركة الأشياء في مدينته عن كثب كنوع من التواصل الروحي والوجداني بينما هو جالساً في غرفته المنعزلة في هيروشيما يترقب الأشياء وربما محدثاً نفسه بطريقة سرية قائلاً : أيتها الذكرى لقد أحسنت التسديد فها هي القصيدة قادمة، لنقرأ هذا المقطع من القصيدة اعلاه :
كيف لي أن أجعل الآس
لا يشير إلى اسراري وفي يمينه
ما ينهش الرؤيا
وفي موضع آخر من نفس القصيدة نقرأ أيضاً :
كيف لي أن أطرد الأشجار
من رأسي
ولا تتبعني الزقزقة
ليس في قصيدتي ( جنوب مطلق / عواء إبن آوى ) كما يتبين للوهلة الأولى ، ما يثير أحساساً مفاجئاً بالعالم وعلى العكس فأن حركة تلك القصيدتين تبدو أستمراراً عميقاً لحركة الواقع الدرامي الذي يعيشه الشاعر ، فالألم الذي يمسنا اثناء القراءة لا يرتبط بانبعاث مفاجئ لعلاقات مفاجئة ، لكنه نوع من التفاعل ، من التأثير ـ التأثر الذي ينشأ في الملامح التفصيلية للتجربة ، ففي قصيدة ( جنوب مطلق ) التي يطالعنا بها نستطيع أن نتبين الابعاد المعرفية المتداخلة في حركة القصيدة بالرغم من الدلالات المتعددة التي نقع عليها تحديداً في هذا الشطر :
أنا الجنوب المطلق
عُدتي تاريخ طويل من الحرب والانكسارات
وفي قصيدته ( عواء إبن آوى ) يتعدى التجربة التي تقوم غالباً من داخل العالم المحيط بالشاعر الذي يتبنى فيه رؤيته الخاصة ومعاينته الصارمة للواقع بحيث ترتبط التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي تؤلف عالم القصيدة تلك ليسهم تالياً في تطوير نظرته التي تتجلى في معاناة الواقع دون أن يتوقف عن محاكاته ، لغة الشاعر تخترق معاناة الواقع ولكها تتكون من خلالها .. لنقرأ معاً :
على القباب المذهبة تراتيل الملائكة السلام
ولكي لا يصدأ على لسانك الكلام الفردوسي
ترجل عن صرح اللغة
غالبية الشعر الذي نقرأه اليوم كلام مرصوف وعاطفة ضائعة ولكن ثمة من يكتب الشعر راقصاً على جمال الكلمة وحيويتها والقها التعبيري الذي ياتلف مع المعنى في عناق شعري حميم ويبدو لي أن الشاعر (بول فاليري) قد أصاب المعنى في تعبيره الذي حدد من خلاله .. الشعر بالرقص ، ولكن الشعر الذي هو رقص جميل مع الكلمة قليل ونادر ، قد يتسأل البعض : وما شان الرقص بالشعر ؟ سأضحك .. لا لبلادة السؤال بل لطريقة صياغته فالشاعر الذي لا يجيد التعامل مع كلمات القصيدة ليس بشاعر ، إنها أداته المذهلة للتعبير وكم كبيرة هذه العبارة القائلة : ( في البدء كانت الكلمة ) بها يسمو الشاعر إلى معارج القصيدة ، ثم كيف نتمكن من كتابة الشعر من غير لغة ؟ هذه الملاحظات التي أوردتها هنا كانت قد أستدعتها قصيدة باسم المعنونة هكذا .. ( 1/3/1967 ) ولا أعرف حقيقة ماذا يعني هذا التاريخ ؟ .. هل هو تاريخ ميلاد الشاعر ام تاريخ له صلة ما بذاتية .. بموقف .. بحادثة ؟ لا أعرف .. ولكن ما أستدرجني لتلك الملاحظات ما قراته في هذا الشطر من القصيدة ـ التاريخ :
وأعلى من غيم مسراتنا
رايات مخذولين
العبق المنتشر كدبيب فوق ساقيك
الحروف في بيتي
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
لا تستقيم القصيدة إلا بمسألتين : اللغة ( صاحبة الشان ) والشاعر ( صاحب الشأن ) الأول .. وسيلته عقل كفؤ والثاني .. ينظمه فكر ـ معرفة كفؤ ومع هذا يمتلئ فم التاريخ بالأسئلة مثلما تتحول المدينة إلى فم تبتلع الشاعر ، الأسئلة والحقول ولكن القصيدة لا .. هذا هو الشئ الوحيد الذي لايمكن للمدينة او أي شئ آخر أن يبتلعه .. القصيدة ميراث الشاعر مثلما هي ميراث للقارئ .
يبقى السؤال القادم قائماً .. ما هو محتوى قصيدة باسم فرات القادمة ؟
نحن بانتظار إجابة الشاعر من خلال نتاجاته القادمة .
* دوكاس : هو ايزادور دوكاس الذي أطلق على نفسه الكونت لوتريامون ، أصدر كتابه الشعري الوحيد ( أغاني مالادورور ) .
20ـ مايو ـ 2006
مدينة شتوتغارت
الفرنسي دوكاس*
لقد مضى الخريف .. هل مضى الخريف ؟
هذا ما يقدمه لنا سؤال الشعر لدى الشاعر العراقي المقيم في هيروشيما باسم فرات من خلال مجموعته الشعرية الثانية الصادرة عن دار أزمنة في عمان ـ الأردن والمسبوقة بمجموعته الأولى ( أشدّ الهديل ) الصادرة عن دار ألواح ـ مدريد في العام 1999 ، وقد كتبت قصائد المجموعة ( خريف المآذن ) بين الأعوام 92 ـ 99 في العراق والأردن ونيوزلندا كما أشار الشاعر بذلك .
ماذا تتوقع القراءة الأولى لهذه القصائد من شاعر أعطى أوامره الشعرية لغربته بالنوم على خريف مآذنه ، بهذا المعنى تشكل هذه المجموعة بداية صريحة لتحالف البناء الجمالي لقصيدته مع البناء اللغوي الذي لا يتوسل النص حتى آخر شهقة يطلقها الشاعر وهو في عزلته هناك حيث الطفولة التي تجففها الأحلام والأمنيات المتراكمة النائمة في آخر كلمة من كلمات القصيدة ، وهذا ما نراه جلياً في المقطع التالي من قصيدة ( إلى لغة الضوء أقود القناديل ):
أي حلم يجفف طفولتي
أي حلم يشق صباحاتي
أنا الأخير في قافلة العزلة
تلك إذن رؤية الشاعر لمبادرة الخريف المدهشة باتجاه هذا الشعر وهي سرعان ما تنكرت لتلك المبادرة وأندفعت بعيداً مع المعنى المراد لها غير عابئة بما تسببه من خيانات لمآذن الشاعر رغم كل ما قدمه من محاولات جديدة منحته في نهاية الأمر زخماً جمالياً مضاعفاً لا سيما وإنه يهتم بتكرار المحاولات التي قد تسنح له بمعانقة الهواجس حين تكون عصية على الأختباء وتتركه هكذا .. حائراً في العراء ، هذه الحالة يفسرها لنا هذا المقطع من قصيدة ( أرسم بغداد ) إذ يقول :
رغم أني حاولت ألف مرة أن أخبئ الفرات
لكنني عانقته
أو في المقطع التالي من ذات القصيدة أعلاه :
اومأت للأشجار : أن أحمي ظلي من نزق الخطوات
فتراشقني العراء
ينقلنا الشاعر إلى نقطة أعلى من شراسة الخريف .. إنه الإنتظار الذي يجعلنا ننخرط ثانية بمحض إرادتنا هذه المرة مع لعبة الإنتظار تلك ، حيث المزيد من التأزم الروحي والنفسي قبل أن نجد الدليل الذي سيؤكد لنا لاحقاً أن الطريق باتت سالكة للرحيل أمام هذه الذكريات الصدئة .. إنه أستسلام شعري كامل لايستطيع الشاعر البقاء أمامه وهو لايحمل معه إلا قصيدة تترقب أو تحلم بالخروج من النافذة ، هذه الفقرة المتعلقة بالإنتظار تحديداً يصوغها لنا باسم من خلال هذه العبارات الشعرية المكثفة من نصه الذي يحمل عنوان ( عانقت برجاً خلته مئذنة ) :
لسنا سوى خيبات صدئت ذكرياتها
وعندما شاخت النوافذ بترقبها
أشعلت ما تبقى للرحيل
يطرح الشاعر موضوع الحزن بصورة تكاد تكون إنتقائية وحادة بحيث يستدرج مفرداته الشعرية مفردة إثر أخرى للالتحاق بنصه مما يحقق ازالة عقبة التظلم من شكل المفردة التي يستخدمها لوصف ذلك الحزن وبهذا يتوفر للقارئ حالة جديدة يعيد من خلالها الأعتبار لمفهوم الحزن ونُبله وللوصول إلى هذه النتيجة يمكن لنا أن نشرك القارئ رؤيتنا هذه التي اوصلنا إليها النص المعنون ( دلني أيها السواد ) الذي يسهل لنا انتقال هذا التنويه العلني المغلف بالسواد فيقول :
مزدحماً بانشغال الياس
يلوح بأصابعه للذين يمضون
ولا بد ثانياً وبالترافق مع هذه الصورة الجذابة يهيأ لنا الشاعر احتمالات إضافية لجمال اللمحة الخاطفة التي يتصاعد من خلالها موضع الحزن أمام دهشة التصوير، ثم ينتقل بنا إلى صورة لا تقل جمالاً من سابقتها في إطار يتزايد فيه الشجن بكثافة متواصلة تلقي بظلالها الفنية والجمالية على النص وتعزز لدى الشاعر مثلما القارئ المشاركة الوجدانية وأن يضع الاثنان هواجسهما المشتركة في خدمة موجبات الشعركي لانربك تلقائية النص الذي بدوره سيشل حركية المفردات وبهذا يحقق الشاعر باسم فرات نبؤة أستاذي الراحل الناقد الدكتور محسن اطيمش حين قال ذات مرة : ( ان مظاهر الحزن في القصيدة أقدر على الاقناع من الحزن نفسه ) لنقرأ معاً هذا الشطر من القصيدة المعنونة ( آهلون بالنزيف ) :
مثلما نسيت أيامك تحرس خطواتهم
علمت الحناء الرقص في اصابعهم
مما يثير العجب حقاً أن الشاعر لا يجهل السبب الأساسي الذي جعله يختار هذه الجملة ( عبرت الحدود مصادفة ) عنواناً لقصيدته من حيث هو عراقي وشاعر والفرد العراقي خاصة يعرف جيداً ماذا تعني كلمة الحدود التي بدأت منها عذاباته /هم اللانهائية ، فيبدو لي أن الشاعر حين خلط كلمتي الحدود والصدفة كان يريد لنا الانتباه لظاهرة الخروج ، الهروب والطرد الجماعي والمفرد باعتباره نزوحاً صوب الخلاص لأن الحياة في البلاد باتت مستحيلة ومحكومة بواقع الموت والخراب والحرب ، وبعد ذلك يستعرض لنا المتبقي من تلك المرحلة ببعض التفاصيل التي يتحدث عنها الشاعر وما زالت آثارها باقية تحت نفوذ ذلك الشعور القسري الذي أسسته تلك المرحلة العصيبة كما أراد أن يُبين هذه الحقيقة التي يحاول ان يُخفي آثارها البرابرة الجدد ، وهذا ما نراه واضحاً في قصيدته المشار إليها سلفاً :
أصابعي .. بقايا مدن غابرة
وختم الموتى خطواتي
ويقول أيضاً في نفس القصيدة :
البلاد التي فرت من أصابعي
عبرت الحدود مصادفة
أوسمتي علامات أستفهام
مهما يكتب الشاعر من أعتراضاته ويعبر عن رفضه الحاد الذي يوجهه للحرب لم يصل إلى نقطة الاكتفاء لذلك يرصد شاعرنا ويكتب بنرته الكربلائية الحزينة التي تكاد تصل إلى ذروتها ملاحظاته ومواقفه من الحرب مع الأخذ بنظر الأعتبار موضوع الرفض الذي يلبي حاجات القصيدة المعارضة للحرب خصوصاً وهو يقيم في مدينة تعرف معنى الحرب وشكل الموت هيروشيما التي تثير الكثير من مصداقية التصوير ـ التعبير الشعري المرتبطة بالرمز إضافة إلى ان للمكان حضور طاغ وتأثير واضح لمضمون النص ومن اللافت للنظر أيضاً ان الشاعر يحاول جاهداً أن لايكثر من نبرة الحزن ذات السمة المفتعلة التي نراها في كثير من الكتابات المستهلكة التي تتعامل بطريقة تقليدية بعيدة كل البعد عن دموية الحرب وحقيقة بشاعتها ، إن نظرة نقدية دقيقة لقصيدة الحرب اليوم ترينا انقاسامات على مختلف الصعد ، إلا أنه يمكن لوحدة القصيدة وفنيتها أن تأخذ محتوى يتلائم مع واقع الحرب المؤلم والمخيف ولكن في هذا النص المعنون ( عناق لايقطعه سوى القصف ) نكتشف شكلاً جديداً يتلائم مع ما نريده من الشعر والشاعر وهما يواجهان قسوة الحرب .. فيقول :
أتذكر انني بلا وطن
وإن الحروب ما زالت تلاحقني
وتغير أشكالها
والشظايا سعالي المزمن
بساطيل الحرس مسخت ذكرياتي
كل ما في راحتي رماد
أين سأحفظ قبلات النهر
الذي دخل المدينة ذات يوم متنكراً بهيئة صبي
فاغتصبه الجنود
لا ريب عندي من ان الشاعر الذي لا ذاكرة له ولا ماضي يفيء إليه هو شاعر مضطرب ، طعين الروح وقد رأيت هذا الرأي لا ينطبق على الشاعر باسم فرات فلقد تكونت لديه من خلال نصه ( أقول انثى .. ولا أعني كربلاء ) انطباعات مثيرة ومركزة وحدتها ذهنيته المشدودة إلى ملاعب صباه وتذكاراته وانتسابه المكاني ، فبعد إضافة (ياء) النسب لاسم مدينته (كربلاء) يصبح هو ومدينته صنوان ، هذه هي تقاليد الذاكرة وموسيقى المكان التي تهز اوتار الشوق ليستعيد علائق الناس بعضهم ببعض ويبحث في نفس الوقت وهو في منفاه عن سبل جديدة لمقارعة النسيان ومقاومة الوحشة عبر نصه هذا فلا يمكن أن يخرج الشاعر بسهولة من أسر المكان وانزياحاته التي تتأرجح بين هذيان الشاعر وصرامة الذكرى وكأنه يجلس على متن مركب (آرثر رامبو) السكران ، ولا أعرف ما الذي جعلني أتخيل هذه القصيدة بالذات وكأنها قمراً أصطناعياً أطلقه الشاعر في سماء المخيلة ليتابع حركة الأشياء في مدينته عن كثب كنوع من التواصل الروحي والوجداني بينما هو جالساً في غرفته المنعزلة في هيروشيما يترقب الأشياء وربما محدثاً نفسه بطريقة سرية قائلاً : أيتها الذكرى لقد أحسنت التسديد فها هي القصيدة قادمة، لنقرأ هذا المقطع من القصيدة اعلاه :
كيف لي أن أجعل الآس
لا يشير إلى اسراري وفي يمينه
ما ينهش الرؤيا
وفي موضع آخر من نفس القصيدة نقرأ أيضاً :
كيف لي أن أطرد الأشجار
من رأسي
ولا تتبعني الزقزقة
ليس في قصيدتي ( جنوب مطلق / عواء إبن آوى ) كما يتبين للوهلة الأولى ، ما يثير أحساساً مفاجئاً بالعالم وعلى العكس فأن حركة تلك القصيدتين تبدو أستمراراً عميقاً لحركة الواقع الدرامي الذي يعيشه الشاعر ، فالألم الذي يمسنا اثناء القراءة لا يرتبط بانبعاث مفاجئ لعلاقات مفاجئة ، لكنه نوع من التفاعل ، من التأثير ـ التأثر الذي ينشأ في الملامح التفصيلية للتجربة ، ففي قصيدة ( جنوب مطلق ) التي يطالعنا بها نستطيع أن نتبين الابعاد المعرفية المتداخلة في حركة القصيدة بالرغم من الدلالات المتعددة التي نقع عليها تحديداً في هذا الشطر :
أنا الجنوب المطلق
عُدتي تاريخ طويل من الحرب والانكسارات
وفي قصيدته ( عواء إبن آوى ) يتعدى التجربة التي تقوم غالباً من داخل العالم المحيط بالشاعر الذي يتبنى فيه رؤيته الخاصة ومعاينته الصارمة للواقع بحيث ترتبط التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي تؤلف عالم القصيدة تلك ليسهم تالياً في تطوير نظرته التي تتجلى في معاناة الواقع دون أن يتوقف عن محاكاته ، لغة الشاعر تخترق معاناة الواقع ولكها تتكون من خلالها .. لنقرأ معاً :
على القباب المذهبة تراتيل الملائكة السلام
ولكي لا يصدأ على لسانك الكلام الفردوسي
ترجل عن صرح اللغة
غالبية الشعر الذي نقرأه اليوم كلام مرصوف وعاطفة ضائعة ولكن ثمة من يكتب الشعر راقصاً على جمال الكلمة وحيويتها والقها التعبيري الذي ياتلف مع المعنى في عناق شعري حميم ويبدو لي أن الشاعر (بول فاليري) قد أصاب المعنى في تعبيره الذي حدد من خلاله .. الشعر بالرقص ، ولكن الشعر الذي هو رقص جميل مع الكلمة قليل ونادر ، قد يتسأل البعض : وما شان الرقص بالشعر ؟ سأضحك .. لا لبلادة السؤال بل لطريقة صياغته فالشاعر الذي لا يجيد التعامل مع كلمات القصيدة ليس بشاعر ، إنها أداته المذهلة للتعبير وكم كبيرة هذه العبارة القائلة : ( في البدء كانت الكلمة ) بها يسمو الشاعر إلى معارج القصيدة ، ثم كيف نتمكن من كتابة الشعر من غير لغة ؟ هذه الملاحظات التي أوردتها هنا كانت قد أستدعتها قصيدة باسم المعنونة هكذا .. ( 1/3/1967 ) ولا أعرف حقيقة ماذا يعني هذا التاريخ ؟ .. هل هو تاريخ ميلاد الشاعر ام تاريخ له صلة ما بذاتية .. بموقف .. بحادثة ؟ لا أعرف .. ولكن ما أستدرجني لتلك الملاحظات ما قراته في هذا الشطر من القصيدة ـ التاريخ :
وأعلى من غيم مسراتنا
رايات مخذولين
العبق المنتشر كدبيب فوق ساقيك
الحروف في بيتي
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
لا تستقيم القصيدة إلا بمسألتين : اللغة ( صاحبة الشان ) والشاعر ( صاحب الشأن ) الأول .. وسيلته عقل كفؤ والثاني .. ينظمه فكر ـ معرفة كفؤ ومع هذا يمتلئ فم التاريخ بالأسئلة مثلما تتحول المدينة إلى فم تبتلع الشاعر ، الأسئلة والحقول ولكن القصيدة لا .. هذا هو الشئ الوحيد الذي لايمكن للمدينة او أي شئ آخر أن يبتلعه .. القصيدة ميراث الشاعر مثلما هي ميراث للقارئ .
يبقى السؤال القادم قائماً .. ما هو محتوى قصيدة باسم فرات القادمة ؟
نحن بانتظار إجابة الشاعر من خلال نتاجاته القادمة .
* دوكاس : هو ايزادور دوكاس الذي أطلق على نفسه الكونت لوتريامون ، أصدر كتابه الشعري الوحيد ( أغاني مالادورور ) .
20ـ مايو ـ 2006
مدينة شتوتغارت