إيقاع الاستسلام الجامح لوصايا النزوح
أتخيل نفسي وأنا اكتب عن باسم فرات أنها تسكن ظرف الحلم، حب فيه تباريح التسليم إلى البقاء قرب مرافئ ليل تغير نداؤه بصرخة من امرؤ القيس ، ليل الشاعر الطويل الذي يقطع الجمال بطريقة القيد وسلاسله ويفتش فينا عن وقت أسير لبيان النص القادم من جوهر ذلك الكربلائي المقيم في أقصى الجنوب .اعترف أن الكتابة عن باسم تقودني إلى اكتشاف الأشياء غير المسماة التي تقبع في مدينة ( أين ) وأسمائها لكن حتى تلك الاكتشافات لا تخلو من متعة المطاردة والاستسلام لقلب يتحرر من ثقل الكلمات المغيبة إلى حقل اخضر من الشعر هكذا انظر إلى شاعر مثل باسم فرات يوقد لنا الليل كله عسى أن نراه في بياض الشعر بينما تتغنى نصوصه بنجاة الإنسان من المدى الميت والخريف الشرس مع إنني هنا لا اعني الذات الكامنة فيه كوني لم ألتقيه ولم اسعد بحوار أو رؤية له لكن تعرفت عليه من خلال النص الشعري وهذا الأمر يكشف مدى اهتمامي بالكتابة عنه .يستودع هذا الكائن التمردي مهد الشمس وضياءها ويشوش علينا بوح الرؤيا لكن كلما اقتربنا منه نتحسس أن شهوة نصوصه تتنبأ بالقادم من الحلم والحقيقة كأنها تتنكر لشيء لا نعرفه، لهذا أردت في هذا الحوار أن استشف نبض حدود غربته وقفص وحدته فوجدت فيه تبددا غريبا من اجل عطر الحياة ونظامها الداخلي ولهذا الشيء بقيت أصغى لنوح كلمات نصوصه فهي تقف على أطلال قصيدة مخنوقة من عصر السومريين والاكديين والبابليين فيها تطويع الشرق وانكسار جدرانه المؤتمرة بسلطة التاريخ ونهد كسول لامرأة ترعى أغنام العرق المتساقط من آلهة العراقيين القدامى ولعل هذا السياق هو من أسهم في إثبات باسم فرات شاعرا قبل أن يجعل من يديه الغريبتين تلوح لنا بمناديل الهجرة وما وراءها من لذة وألم وحنين لمكان يستحسن أن نتنحى منه اليوم قبل غد ، في ذات باسم فرات شاعرية تلتهم المكان من اجل أن تنحره على قبلة تتقارب من خطوات الغيب كلما تسنى لها أن تنأى وتوغل إلى فجيعة الغربة وما يصيب التاريخ الشخصي والإنساني معا. وعليّ إن أتتساءل هل نجح باسم فرات في توظيف ذلك الرهان الذي أتحدث عنه كغيري ممن يؤولون عليه ؟ تلك نصوصه تؤكد الحقيقة وهي نسيج يمتص الروح وطفولتها من اجل نجاح الشعر ورسالته فبقدر ما يتدفق الماء من ينابيعه تتسارع الأشجار العالية للاقتراب من صفائه هذا ما صنعه شاعر عراقي يقيم في اليابان اسمه (باسم فرات) خاصية الشعر لديه تتعالى باغواءات الصياغات البنائية المتحكمة في الشكل الخارجي للمتن الشعري أولا ولمحمولها التعبيري المستند هو الآخر على خطاب المعمارية والأسلوبية ودائما ثمة هاجس وجودي تضمره النصوص كأنها مرثية لبيئة تجلب بألفتها ( الخفاء المعني به باسم فرات )والذي تتعاظم فيه حزمة الطقوس ومفردات البساطة والتلاعب الحر بالحسيات التي تزخر به نصوصه وكأن المخيلة التي تورقنا شعرا لها موضع الرهان الرابح في تحديد تجليات الألفة والموضوع والطراز وهذه من ثوابت ودعائم رصيده البيئي وولائه ذات النزوع الشرقي .لم اقرأ كل ما كتبه هذه الشاعر الميال للمواقف الأخلاقية والجمالية البحتة وذات النزعة النغمية الداخلة جراء إيقاع الاستسلام الجامح لوصايا النزوع الذاتي لم اقرأه إلا برموزه ومظاهره ورغبته التي تتجه لزرع بذرة المعنى الجاد فينا نعم لم يكتمل لدي مشهده لكنى لا أنكر أن ما قرأت من نصوصه الشعرية جعلتني أتلهف لمعرفة هذا الكائن أولا ولقراءة الجديد منه ثانيا وربما ابتعاد المكان هو السبب الذي لم يجعلني متواصلا معه لكني أتمنى في هذه الورقة أن أكون قد أعطيت حقا له حتى وان كان بسيطا
** لنتحدث عن أهمية وجود الشعر وما يحمله من دلالات روحية ووجدانية في عالم الغرب الذي تسكنه، إلا ترى ثمة تناقض تعيشه من حيث وجود العالم الغربي المحمل بالتطورات التكنولوجية والرجل القادم من أقصى الشرق المليء بالأساطير والتبعات الاجتماعية والسياسية وكيف يمكن لك أن تستمر فيه وتستثمر هذا التناقض لصالح ( الشعر )؟
جغرافياً،ودون الغالبية العظمى من الشعراء لم أذهب غرباً ولا شمالاً،بل ذهبت جنوباً،بل الى جنوب الجنوب،حيث نيوزلندا آخر بلد في العالم،وحيث أقرب نقطة يابسة لا تقل عن ألفي كيلومتراً،في هذا البلد الجميل،والذي مازالت ملكة بريطانيا هي ملكته،وقوانينه نفس القوانين البريطانية تقريباً،نسبة كبيرة من سكانه جذورهم بريطانية أو أوربية،إضافة إلى عشرات الجاليات الأخرى،وبضمنها العراقية،أما سكانه الأقدم فهم الماوريون،وهم قبائل،لهم أساطيرهم ومعتقداتهم،وثقافتهم الخاصة.في نيوزلندا تعلمت الكثير،فهذا البلد الذي تعود جذور سكانه الى ثقافات شتى،يحتفي بالشعر،وتمتلئ عاصمته وضواحيها بالمقاهي الأدبية،والأماسي الشعرية تتجاوز العشر أمسيات شهرياً،للشعر جمهوره،ولكن مشكلتنا أننا نريد أن يكون هذا الجمهور مثلما كان عليه قبل ألف سنة،أو أن يكون كجمهور الموسيقى والغناء،جمهور الشعر نخبوي جداً.نيوزلندا،بلد مليء بالأساطير،وفي قانونه الأساسي،والذي نسميه خطأ بالدستور،أن نيوزلندا بلد ثنائي الثقافة،إي الثقافة الماورية والانكلوسكسونية،ولكن لبقية الفئات حرية الحفاظ على ثقافتها على شرط إجادة اللغة الانكليزية لأنها اللغة الرسمية في البلد،ومعرفة القوانين.وان كنت مليئاً بأساطير بلادي،فنيوزلندا فيها أساطيرها الخاصة والتي عملت على الجمع بينهما وتزاوجهما أو الاستفادة منهما في قصائدي،وهي استفادتي من بيئتي الجديدة،مثلما عملت ذات الشيء في هيروشيما.
** في نصوصك الشعرية ثمة خصوصية أثيرة لك وهي استدعاء التمسك بوجود تأويل ينبثق من فيض الشعر وليس من ظاهرة النص .أود هنا ان أتعرف على فهمك الفكري والوجداني لقيمة النص الشعري ؟
هناك نصٌ شعريّ وقصيدة،القصيدة كل شاعر حقيقي يبحث عنها،يُكرّس حياته لها،وغالبية الشعراء عدد القصائد التي كتبوها لم تتجاوز العشرين ربما،القصيدة من الصعب الإمساك بها،والنص الشعري قد يكون قصيدة حين يبلغ أعلى مراحله.لا شعر بدون تأويل،بدون قراءات متعددة،وإلا يكون خاطرة،أو أغنية،ولهذا لا استسيغ أغلب ما يسمى بالشعر السياسي الخطابي،وما يسمى بشعر المقاومة،لأنه خطب حماسية أكثر منها انتماءا للشعر.
**ما زالت قصائدك تحمل سمات الرجوع إلى الأسى الإنساني، هل تعتقد أن وطأة الاغتراب عن المكان ( الأم ) هو السبب وراء ذلك التأجيج ؟
الطفولة بكل مآسيها وبراءتها مازالت تلاحقني،والخروج من العراق لم يكن ترفاً،وهنا بكل تأكيد أشترك مع الملايين ممن خرجوا هروباً من جحيم العقلية الاقصائية التي مازالت تتحكم في العراق،لأنها نسق ثقافي تربينا عليه.خرجتُ وأمنيتي أن أعود يوماً إلى عراق لا أصفق لأحد فيه مضطراً،ولا أجد فيه ثقافة الصورة،ولا رئيس حزب على رئاسة حزبه أكثر من عشرين عاماً،أو أن يكون ورثها عن أبيه أو أخيه أو عمه أو قريب له وكل مراكز الحزب الحساسة بيد العائلة.ولكن هل تحقق هذا،بكل تأكيد لم يتحقق رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على خروجي من وطني،فكيف لا يوجعني الاغتراب،ولا يخرج الحنين من قمقمه حين اكتب،صحيح إنني في نصوص كثيرة،حاولت الاشتغال على الهم الإنساني المشترك،وليس الهم العراقي فقط،ولكن في كل الحالات،الأسى واضح تماماً في تجربتي الشعرية،لأني شاعر حالم بعالم أكثر جمالاً وكمالاً،رغم يقيني إني لست قادراً على تغيير العالم كما علموني،وهنا الفرق بين الحلم والوهم.
**ثمة مناخ من الحرية أراه لامعا ومميزا في اغلب نصوصك ،أيمكن ان نعدها نمطا من ( الحلمية لتعزيز الرؤية الشعرية في النص ) ام ان الأمر يتعدى مفهوم الحلم إلى حقيقة ووجود يعاش ليمكن استثماره عبر تطويع اللغة في المتن الشعري ؟
الحرية شرط من شروط الإبداع،وهناك من يعيشها وهناك من يسعى لها،ومن يتمثلها سلوكياً أو فكرياً،والإقامة في بلدان تعتمد نظام المؤسسات،وحرية التعبير المكفولة قانونياً،بكل تأكيد منحتني فرصة ان أزيح الشرَطيّ الذي زرعته النظم والأنساق المعرفية والثقافية في مجتمع النشأة الأولى،وهذا لا يعني إني لم اسع للحرية وأنا في العراق،إذ ان لي عدة نصوص تقترب من حجم مجموعة شعرية،فيها الجرأة واضحة جداً،كتبتها بعد الانتفاضة مباشرة ومنها نص"عواء ابن آوى"الذي نشر في ديوان"خريف المآذن".لا إبداع حقيقي وكبير بدون حرية.
**باسم فرات أنت تمتلك قدرا كبيرا من التنوع والتغيير في بنية النصوص لديك ما هي القوة التي يمتلكها هذا الخيال الذي يقف وراء هذه الميزة ؟
القراءة،والموهبة والتجربة،والإصرار على التجاوز،وهو متأتٍ من الشعور بالمسؤولية أمام هيبة الشعر وملكوته،وعدم الرضا عن النفس،فحين تؤمن أن الشعر لا يمكن إدراكه،مثلما لا احد يدرك صعوبته،وانك مهما فعلت فأنت في الخطوة الأولى،ولكن لا سبيل لك سوى المواصلة والمجاهدة والإصرار،وان الشعر قدركَ ومتعتك القصوى وانه غاية الغايات،حتماً تتجاوز كتابتك ذاتها.شخصياً اشعر بالإحراج أمام ملكوت الشعر،حين أصف نفسي شاعراً،وحتى حين أطلق هذه الصفة على نفسي،فاني اعتذر للشعر،واعتذاري لا يختلف عن اعتذار مؤمن أساء لمقدس له.
**أود معرفة تأثير النظريات الأدبية والفكرية عليك ،أيمكن عدها تعزيزا لثقافتك السابقة أيمكن أن تسلب الشاعر المحمل بالحلم والوجدان سلطته على النص وتبدو في تأثيراتها واضحة على كتابة نص شعري قريب من الوجدان ؟
الشاعر عليه أن يقرأ كل شيء،أي أن يكون معرفياً،ولكن حين يأتي للكتابة ينسى ما قرأ،فالتلقائية في النص جد مهمة،والشاعر الفذّ هو الذي يوازن بدقةٍ بين تلقائيته ومعارفه بحيث تلمس سيطرته على النص،زمن الشاعر الفطريّ انتهى،انه زمن الشاعر المعرفيّ،وأهم شعراء العربية كانوا يملكون قدراً هائلاً من المعرفة،وكذلك جميع الشعراء العالميين الذين قرأنا لهم.هناك من يحاول أن يُحمل النص الشعري،فكراً ويحسب نفسه قد بلغَ أشواطاً،ولكن في الحقيقة ما هي إلا جُمَلاً وَعَرَة تشعر بها وقد حشاها حشواً في نصّه،فأصبح كغابة مليئة بالحديد والاسمنت أكثر مما هي مليئة بالأشجار،حتى سواقيها مُعبدة،ومازال صاحبها يدعي أنها غابة تأخذك بعيدا عن ضجيج المَدنية والتكنولوجيا.
** اسمح لي ان أتساءل عن أهمية وجود أجيال وتعدد تنوع إنتاجها الأسلوبي في الشعر العراقي ؟
لست مع الأجيال،ولا أراها ضرورة ملحة،الشعر إبداع فردي،أي انت ووَعيكَ(موهبتك وقراءاتك وتجربتك)،اعزلَ تصارع أمام الورقة،ومسألة الأجيال فعلا تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم،وهناك عشرات الأسماء ظُلمتْ بسببها،لأن تفكيرنا مازال قبلياً،وشعارنا الأقربون أولى بالمعروف،بينما الإبداع لا قبيلة له ولا قربى.تنوع الإنتاج الأسلوبي لا علاقة له بالأجيال،بل هو نتيجة تنوع المواهب ورؤاها وفهمها للشعر.
** ومن الأسماء الفعالة في المشهد السابق واليوم ؟
الأسماء الفعالة نسبية،فما كان فعالاً قبل عشرين عاماً بالنسبة لي،الآن لم يعد يثيرني،ولم اعد أجد متعة في قراءة شعره،ولستُ ممن تخدعه نجومية الآخرين،حتى لو اجتمع الإنس والجن على اعتبارهم شعراء كباراً،كما أن كثرة النشر لا تعني أن صاحبها فعالّ في المشهد الشعري،الكثرة أو القلة لا علاقة لهما بالفاعلية،أهمية المنجز وتنوعه وأصالته هي التي تمنحه الفاعلية في المشهد الشعري.
نشر الحوار في أكثر من مكان، وأخيراً في كتاب " جدل في إثبات اليقين " الذي جمع فيه المحاور حواراته مع شعراء وقصاصين ومسرحيين.
أتخيل نفسي وأنا اكتب عن باسم فرات أنها تسكن ظرف الحلم، حب فيه تباريح التسليم إلى البقاء قرب مرافئ ليل تغير نداؤه بصرخة من امرؤ القيس ، ليل الشاعر الطويل الذي يقطع الجمال بطريقة القيد وسلاسله ويفتش فينا عن وقت أسير لبيان النص القادم من جوهر ذلك الكربلائي المقيم في أقصى الجنوب .اعترف أن الكتابة عن باسم تقودني إلى اكتشاف الأشياء غير المسماة التي تقبع في مدينة ( أين ) وأسمائها لكن حتى تلك الاكتشافات لا تخلو من متعة المطاردة والاستسلام لقلب يتحرر من ثقل الكلمات المغيبة إلى حقل اخضر من الشعر هكذا انظر إلى شاعر مثل باسم فرات يوقد لنا الليل كله عسى أن نراه في بياض الشعر بينما تتغنى نصوصه بنجاة الإنسان من المدى الميت والخريف الشرس مع إنني هنا لا اعني الذات الكامنة فيه كوني لم ألتقيه ولم اسعد بحوار أو رؤية له لكن تعرفت عليه من خلال النص الشعري وهذا الأمر يكشف مدى اهتمامي بالكتابة عنه .يستودع هذا الكائن التمردي مهد الشمس وضياءها ويشوش علينا بوح الرؤيا لكن كلما اقتربنا منه نتحسس أن شهوة نصوصه تتنبأ بالقادم من الحلم والحقيقة كأنها تتنكر لشيء لا نعرفه، لهذا أردت في هذا الحوار أن استشف نبض حدود غربته وقفص وحدته فوجدت فيه تبددا غريبا من اجل عطر الحياة ونظامها الداخلي ولهذا الشيء بقيت أصغى لنوح كلمات نصوصه فهي تقف على أطلال قصيدة مخنوقة من عصر السومريين والاكديين والبابليين فيها تطويع الشرق وانكسار جدرانه المؤتمرة بسلطة التاريخ ونهد كسول لامرأة ترعى أغنام العرق المتساقط من آلهة العراقيين القدامى ولعل هذا السياق هو من أسهم في إثبات باسم فرات شاعرا قبل أن يجعل من يديه الغريبتين تلوح لنا بمناديل الهجرة وما وراءها من لذة وألم وحنين لمكان يستحسن أن نتنحى منه اليوم قبل غد ، في ذات باسم فرات شاعرية تلتهم المكان من اجل أن تنحره على قبلة تتقارب من خطوات الغيب كلما تسنى لها أن تنأى وتوغل إلى فجيعة الغربة وما يصيب التاريخ الشخصي والإنساني معا. وعليّ إن أتتساءل هل نجح باسم فرات في توظيف ذلك الرهان الذي أتحدث عنه كغيري ممن يؤولون عليه ؟ تلك نصوصه تؤكد الحقيقة وهي نسيج يمتص الروح وطفولتها من اجل نجاح الشعر ورسالته فبقدر ما يتدفق الماء من ينابيعه تتسارع الأشجار العالية للاقتراب من صفائه هذا ما صنعه شاعر عراقي يقيم في اليابان اسمه (باسم فرات) خاصية الشعر لديه تتعالى باغواءات الصياغات البنائية المتحكمة في الشكل الخارجي للمتن الشعري أولا ولمحمولها التعبيري المستند هو الآخر على خطاب المعمارية والأسلوبية ودائما ثمة هاجس وجودي تضمره النصوص كأنها مرثية لبيئة تجلب بألفتها ( الخفاء المعني به باسم فرات )والذي تتعاظم فيه حزمة الطقوس ومفردات البساطة والتلاعب الحر بالحسيات التي تزخر به نصوصه وكأن المخيلة التي تورقنا شعرا لها موضع الرهان الرابح في تحديد تجليات الألفة والموضوع والطراز وهذه من ثوابت ودعائم رصيده البيئي وولائه ذات النزوع الشرقي .لم اقرأ كل ما كتبه هذه الشاعر الميال للمواقف الأخلاقية والجمالية البحتة وذات النزعة النغمية الداخلة جراء إيقاع الاستسلام الجامح لوصايا النزوع الذاتي لم اقرأه إلا برموزه ومظاهره ورغبته التي تتجه لزرع بذرة المعنى الجاد فينا نعم لم يكتمل لدي مشهده لكنى لا أنكر أن ما قرأت من نصوصه الشعرية جعلتني أتلهف لمعرفة هذا الكائن أولا ولقراءة الجديد منه ثانيا وربما ابتعاد المكان هو السبب الذي لم يجعلني متواصلا معه لكني أتمنى في هذه الورقة أن أكون قد أعطيت حقا له حتى وان كان بسيطا
** لنتحدث عن أهمية وجود الشعر وما يحمله من دلالات روحية ووجدانية في عالم الغرب الذي تسكنه، إلا ترى ثمة تناقض تعيشه من حيث وجود العالم الغربي المحمل بالتطورات التكنولوجية والرجل القادم من أقصى الشرق المليء بالأساطير والتبعات الاجتماعية والسياسية وكيف يمكن لك أن تستمر فيه وتستثمر هذا التناقض لصالح ( الشعر )؟
جغرافياً،ودون الغالبية العظمى من الشعراء لم أذهب غرباً ولا شمالاً،بل ذهبت جنوباً،بل الى جنوب الجنوب،حيث نيوزلندا آخر بلد في العالم،وحيث أقرب نقطة يابسة لا تقل عن ألفي كيلومتراً،في هذا البلد الجميل،والذي مازالت ملكة بريطانيا هي ملكته،وقوانينه نفس القوانين البريطانية تقريباً،نسبة كبيرة من سكانه جذورهم بريطانية أو أوربية،إضافة إلى عشرات الجاليات الأخرى،وبضمنها العراقية،أما سكانه الأقدم فهم الماوريون،وهم قبائل،لهم أساطيرهم ومعتقداتهم،وثقافتهم الخاصة.في نيوزلندا تعلمت الكثير،فهذا البلد الذي تعود جذور سكانه الى ثقافات شتى،يحتفي بالشعر،وتمتلئ عاصمته وضواحيها بالمقاهي الأدبية،والأماسي الشعرية تتجاوز العشر أمسيات شهرياً،للشعر جمهوره،ولكن مشكلتنا أننا نريد أن يكون هذا الجمهور مثلما كان عليه قبل ألف سنة،أو أن يكون كجمهور الموسيقى والغناء،جمهور الشعر نخبوي جداً.نيوزلندا،بلد مليء بالأساطير،وفي قانونه الأساسي،والذي نسميه خطأ بالدستور،أن نيوزلندا بلد ثنائي الثقافة،إي الثقافة الماورية والانكلوسكسونية،ولكن لبقية الفئات حرية الحفاظ على ثقافتها على شرط إجادة اللغة الانكليزية لأنها اللغة الرسمية في البلد،ومعرفة القوانين.وان كنت مليئاً بأساطير بلادي،فنيوزلندا فيها أساطيرها الخاصة والتي عملت على الجمع بينهما وتزاوجهما أو الاستفادة منهما في قصائدي،وهي استفادتي من بيئتي الجديدة،مثلما عملت ذات الشيء في هيروشيما.
** في نصوصك الشعرية ثمة خصوصية أثيرة لك وهي استدعاء التمسك بوجود تأويل ينبثق من فيض الشعر وليس من ظاهرة النص .أود هنا ان أتعرف على فهمك الفكري والوجداني لقيمة النص الشعري ؟
هناك نصٌ شعريّ وقصيدة،القصيدة كل شاعر حقيقي يبحث عنها،يُكرّس حياته لها،وغالبية الشعراء عدد القصائد التي كتبوها لم تتجاوز العشرين ربما،القصيدة من الصعب الإمساك بها،والنص الشعري قد يكون قصيدة حين يبلغ أعلى مراحله.لا شعر بدون تأويل،بدون قراءات متعددة،وإلا يكون خاطرة،أو أغنية،ولهذا لا استسيغ أغلب ما يسمى بالشعر السياسي الخطابي،وما يسمى بشعر المقاومة،لأنه خطب حماسية أكثر منها انتماءا للشعر.
**ما زالت قصائدك تحمل سمات الرجوع إلى الأسى الإنساني، هل تعتقد أن وطأة الاغتراب عن المكان ( الأم ) هو السبب وراء ذلك التأجيج ؟
الطفولة بكل مآسيها وبراءتها مازالت تلاحقني،والخروج من العراق لم يكن ترفاً،وهنا بكل تأكيد أشترك مع الملايين ممن خرجوا هروباً من جحيم العقلية الاقصائية التي مازالت تتحكم في العراق،لأنها نسق ثقافي تربينا عليه.خرجتُ وأمنيتي أن أعود يوماً إلى عراق لا أصفق لأحد فيه مضطراً،ولا أجد فيه ثقافة الصورة،ولا رئيس حزب على رئاسة حزبه أكثر من عشرين عاماً،أو أن يكون ورثها عن أبيه أو أخيه أو عمه أو قريب له وكل مراكز الحزب الحساسة بيد العائلة.ولكن هل تحقق هذا،بكل تأكيد لم يتحقق رغم مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على خروجي من وطني،فكيف لا يوجعني الاغتراب،ولا يخرج الحنين من قمقمه حين اكتب،صحيح إنني في نصوص كثيرة،حاولت الاشتغال على الهم الإنساني المشترك،وليس الهم العراقي فقط،ولكن في كل الحالات،الأسى واضح تماماً في تجربتي الشعرية،لأني شاعر حالم بعالم أكثر جمالاً وكمالاً،رغم يقيني إني لست قادراً على تغيير العالم كما علموني،وهنا الفرق بين الحلم والوهم.
**ثمة مناخ من الحرية أراه لامعا ومميزا في اغلب نصوصك ،أيمكن ان نعدها نمطا من ( الحلمية لتعزيز الرؤية الشعرية في النص ) ام ان الأمر يتعدى مفهوم الحلم إلى حقيقة ووجود يعاش ليمكن استثماره عبر تطويع اللغة في المتن الشعري ؟
الحرية شرط من شروط الإبداع،وهناك من يعيشها وهناك من يسعى لها،ومن يتمثلها سلوكياً أو فكرياً،والإقامة في بلدان تعتمد نظام المؤسسات،وحرية التعبير المكفولة قانونياً،بكل تأكيد منحتني فرصة ان أزيح الشرَطيّ الذي زرعته النظم والأنساق المعرفية والثقافية في مجتمع النشأة الأولى،وهذا لا يعني إني لم اسع للحرية وأنا في العراق،إذ ان لي عدة نصوص تقترب من حجم مجموعة شعرية،فيها الجرأة واضحة جداً،كتبتها بعد الانتفاضة مباشرة ومنها نص"عواء ابن آوى"الذي نشر في ديوان"خريف المآذن".لا إبداع حقيقي وكبير بدون حرية.
**باسم فرات أنت تمتلك قدرا كبيرا من التنوع والتغيير في بنية النصوص لديك ما هي القوة التي يمتلكها هذا الخيال الذي يقف وراء هذه الميزة ؟
القراءة،والموهبة والتجربة،والإصرار على التجاوز،وهو متأتٍ من الشعور بالمسؤولية أمام هيبة الشعر وملكوته،وعدم الرضا عن النفس،فحين تؤمن أن الشعر لا يمكن إدراكه،مثلما لا احد يدرك صعوبته،وانك مهما فعلت فأنت في الخطوة الأولى،ولكن لا سبيل لك سوى المواصلة والمجاهدة والإصرار،وان الشعر قدركَ ومتعتك القصوى وانه غاية الغايات،حتماً تتجاوز كتابتك ذاتها.شخصياً اشعر بالإحراج أمام ملكوت الشعر،حين أصف نفسي شاعراً،وحتى حين أطلق هذه الصفة على نفسي،فاني اعتذر للشعر،واعتذاري لا يختلف عن اعتذار مؤمن أساء لمقدس له.
**أود معرفة تأثير النظريات الأدبية والفكرية عليك ،أيمكن عدها تعزيزا لثقافتك السابقة أيمكن أن تسلب الشاعر المحمل بالحلم والوجدان سلطته على النص وتبدو في تأثيراتها واضحة على كتابة نص شعري قريب من الوجدان ؟
الشاعر عليه أن يقرأ كل شيء،أي أن يكون معرفياً،ولكن حين يأتي للكتابة ينسى ما قرأ،فالتلقائية في النص جد مهمة،والشاعر الفذّ هو الذي يوازن بدقةٍ بين تلقائيته ومعارفه بحيث تلمس سيطرته على النص،زمن الشاعر الفطريّ انتهى،انه زمن الشاعر المعرفيّ،وأهم شعراء العربية كانوا يملكون قدراً هائلاً من المعرفة،وكذلك جميع الشعراء العالميين الذين قرأنا لهم.هناك من يحاول أن يُحمل النص الشعري،فكراً ويحسب نفسه قد بلغَ أشواطاً،ولكن في الحقيقة ما هي إلا جُمَلاً وَعَرَة تشعر بها وقد حشاها حشواً في نصّه،فأصبح كغابة مليئة بالحديد والاسمنت أكثر مما هي مليئة بالأشجار،حتى سواقيها مُعبدة،ومازال صاحبها يدعي أنها غابة تأخذك بعيدا عن ضجيج المَدنية والتكنولوجيا.
** اسمح لي ان أتساءل عن أهمية وجود أجيال وتعدد تنوع إنتاجها الأسلوبي في الشعر العراقي ؟
لست مع الأجيال،ولا أراها ضرورة ملحة،الشعر إبداع فردي،أي انت ووَعيكَ(موهبتك وقراءاتك وتجربتك)،اعزلَ تصارع أمام الورقة،ومسألة الأجيال فعلا تحتاج إلى إعادة نظر وتقييم،وهناك عشرات الأسماء ظُلمتْ بسببها،لأن تفكيرنا مازال قبلياً،وشعارنا الأقربون أولى بالمعروف،بينما الإبداع لا قبيلة له ولا قربى.تنوع الإنتاج الأسلوبي لا علاقة له بالأجيال،بل هو نتيجة تنوع المواهب ورؤاها وفهمها للشعر.
** ومن الأسماء الفعالة في المشهد السابق واليوم ؟
الأسماء الفعالة نسبية،فما كان فعالاً قبل عشرين عاماً بالنسبة لي،الآن لم يعد يثيرني،ولم اعد أجد متعة في قراءة شعره،ولستُ ممن تخدعه نجومية الآخرين،حتى لو اجتمع الإنس والجن على اعتبارهم شعراء كباراً،كما أن كثرة النشر لا تعني أن صاحبها فعالّ في المشهد الشعري،الكثرة أو القلة لا علاقة لهما بالفاعلية،أهمية المنجز وتنوعه وأصالته هي التي تمنحه الفاعلية في المشهد الشعري.
نشر الحوار في أكثر من مكان، وأخيراً في كتاب " جدل في إثبات اليقين " الذي جمع فيه المحاور حواراته مع شعراء وقصاصين ومسرحيين.