يفضل المنفى الآسيوي على المنفى الأوروبي ولا يزال عاتباً على الأب القتيل
باسم فرات: العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي الضعيف لوقوعه بين بداوتين
بيروت- "القدس العربي"
من ناظم السيد
صدفة قادت الشاعر العراقي باسم فرات إلى منافٍ آسيوية، بعدما ترك العراق لاجئاً إلى الأردن سنة 1993، ليغادره إلى نيوزيلندا بعد أقل من أربع سنوات. لكنَّ الشاب الذي عاش حياته تحت فكرة الوالد القتيل، لم يجد في المنفى الأوروبي ضالته، فتركه إلى هيروشيما قبل أن يستقر اليوم في لاوس. تجربة المنفى الآسيوي كانت أكثر حضوراً في شعره، هو الذي نشر مجموعات شعرية شكلت معجماً للأسى من "أشد الهديل"، مروراً بـ "خريف المآذن" و"أنا ثانية"، وبانتهاء بـ "إلى لغة الضوء" الذي صدر هذه السنة. في مناسبة هذا الإصدار، وأثناء مرور الشاعر في بيروت، كان هذا الحوار.
• لم تعرف والدك في طفولتك، كما أنك تعرّفت إلى أمك في سن الخامسة عشرة. هل كان لهذين الأمرين أثر في تجربتك الشعرية؟
- أثرهما بالغ بكل تأكيد، أشعر أن هناك فراغاً كبيراً في حياتي، وإنْ بدأتُ أعي أنهما تسببا في أن تسكنني الطفولة حتى هذه اللحظة، وتأثيرهما واضح تماماً، فنصّ عواء ابن آوى، هو سيرة عائلية مُعشقة مع ما وصلنا من واقعة كربلاء، مع إشارة إلى الاعتقالات متمثلة بسجن السندي. ولا بدّ من ذكر أن أحد أسلافي حسبما تروي العائلة قد قطع رأسه وأرسل للأستانة. هناك مجموعة من النصوص يشغل فيها والدايَ إما مساحة كلية وإما جزئية، وأعتقد ان نصوصاً مثل "أبي وأنا" و"إلى لغة الضوء أقود القناديل" وسواهما خير شاهد.
• نلاحظ أن حضور الأب قوي في نصك، ولا سيما أنه مات قتلاً. هل لديك آباء شعريون معينون أيضاً كما تشي أحاديثك الصحفية؟
- أنا ابن الشعر العراقي والعربي والأجنبي، حيث يوجد شعر حقيقي فأنا ابنه،. آبائي هم جميع الشعراء الكبار. لا يوجد شاعر حقيقي قرأت له ومنحني متعة القراءة، إلا وتعلمت منه. هؤلاء آبائي جميعاً، وأتمنى أن يكونوا أخوتي، أي بمعنى أن أكون أهلاً لهذه العلاقة معهم. هناك شعراء تتجاوزهم بسرعة، وبعضهم لا يعلق في ذاكرتك سوى نصٍ أو عدة نصوص منهم، وهناك من يبقى فترة طويلة، والقلة القليلة تبقى معك، تتعلم منها، لكن تبقى هناك حقيقة بالنسبة إلي، وهي أنه لا وجود لشاعر كل ما كتبه يمتاز بالإدهاش والمتعة نفسيهما.
شعرية المنفى
• نشرت داخل العراق قصيدتين فقط قبل رحيلك عنه، وذلك في سنتي 1987 و1989. هل كان العزوف عن النشر مقصوداً؟
- النشر حق طبيعي لكل شاعر وكاتب، ولكن هناك مَن حاول التقليل من النشر، لكي يعطي فكرة أنه مقلّ، خشية التعرض للإحراج (الإحراج بمفهومه الفقهي) فلا يضطر للمشاركة في مهرجانات الحرب وتمجيد السلطة. وبالنسبة إلي كان العزوف مقصوداً وغير مقصود، لأني أولاً كنت في بداية البدايات، وثانياً بطبيعتي لا أستعجل نشر ما أكتب، فنصّ " يندلق الخراب .. فأتكئ عليه " كتبته في آذار 2000 ، ونشرته منتصف عام 2004 ، والآن في حوزتي نصوص عدة كتبتها في نيوزلندا، أي قبل منتصف عام 2005، ولم أنشرها بعد، كما لديّ نصوص كتبتها في هيروشيما ولم تنشر أيضاً. ثالثاً ما نشرته عام 1987 كان بإلحاح من الأصدقاء، أما ما نشر في عام 1989 فقد فوجئت به، إذ إن الذي أرسله هو عَرّاب شعراء كربلاء الشاعر محمد زمان، بل إن المرة الأولى التي أنشر فيها بشكل متواصل كان في جريدة "القدس العربي" عام 1996 تحت إصرار الصديق الشاعر وسام هاشم الذي كان يلحّ عليّ بإحضار نصوصي ونذهب معاً للبريد بعد أن يضعها بنفسه في الظرف ويتأكد من إرسالي إياها. ولا بدّ من التنويه بأن الشاعر أمجد ناصر، كان كريماً معي، فما أن يصله نص من نصوصي، حتى يباشر إلى نشره.
• تركت العراق سنة 1993 إلى عمّان، ثم إلى ولنغتن العاصمة النيوزلندية سنة 1997. مع ذلك لا نجد أثراً كبيراً للغرب في شعرك؟
- ربما لأني أُرغمت على العيش في نيوزلندا، أو ربما لأسباب أخرى، كما أن الفترة ليست طويلة، أعني أنها ليست عقدين أو أكثر. لم أتكيف مع العيش في نيوزلندا، فكان الحنين هاجسي الأول، وحين بدأت التكيّف، خصوصاً بعد النجاحات الأدبية التي حققتها في البلد، خرجت منها، ولكن رغم كل شيء، هناك شعور عميق بالخسارة، فإن كان غالبية اللاجئين يشعرون بالسعادة وهم على متن الطائرة التي سوف تقلهم إلى بلد اللجوء (لقد تم قبولي لاجئاً في 11 آب/ أغسطس 1996 من قِبل مكتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة) فحينها شعرت بالخسارة وأنا على متن الطائرة، حتى إنني بكيت، مما جعلني أحنّ إلى كل ما هو عراقي وعربي. المنافي التي حلمنا بها وخلناها فراديس تنقذنا تماماً، اتضحت غير ذلك. وما حسبناه أننا رميناه خلفنا وتخلصنا منه نهائياً، فإذا به يقتفي آثارنا، وأن الحروب مازالت تلاحقنا وتُغَيّر أشكالها.
• حتى مفردات مثل الإلهة النيوزلندية وطائر الكيوي وشجرة البوهو توكاوا، تبدو مفردات سياحية أكثر منها ذات دلالة على هضم ثقافة البلد. يعني بنية قصيتدك ومناخاتها ظلت كربلائية، حيث مسقط رأسك؟
- منذ ترنمت بقصائد السياب، رحت أتساءل، كيف لي أن أخلقَ من كربلاء أسطورة وهي الأسطورة الكبرى؟، هذا السؤال الذي طرحته على نفسي كان عفوياً، ولم تكن فيه حسابات أنوية، أو أية نرجسية ما، هكذا خرج لاإرادياً، وأيضاً لشعوري بأن الشعر قضية بحد ذاته. ما يميز كربلاء (رغم إيماني بأنها جزء يفقد قيمته خارج العراق) أنها ليست مدينتي فقط، وإنما هي مدينة الأسى والفجيعة. لقد اختزل الناس فجائعهم ومآسيهم فيها. كربلاء فرضت مناخاتها على البعيد فكيف بابنها الذي تمتد جذوره فيها بعمق تاريخها، فأنا من سلالة تعيش في منطقة بابل الكبرى (وكربلاء جزء من إقليم بابل) منذ عشرات القرون، لم ننزح من صحارى أو جبال، وتنقلنا كان في معظمه داخل بابل الكبرى نفسها، حتى استقرارنا في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي في كربلاء. والسلالة التي تنعى الإمام الحسين هي نفسها التي طالما بكت السيد المسيح وقبله كبير آلهة العراق مردوخ وقبل ذلك الإله القتيل تموز. أنا ابن سلالة الدموع والأسى، حفيد ذلك الشاعر العراقي العظيم الذي راح يرثي عراقه مردداً "لقد نفتنا الآلهة" وكان يعني خروج العراقيين الى الصحارى حين تهجم عليهم جيوش الهمجية الطامعة بخيرات بلادنا. ولكننا وبفضل التقدم العلمي، وإن خرج الكثير منا في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 1991 إلى الصحارى مقتفين آثار أجدادهم الذي كانوا يعودون بعد أن تتآكل الجيوش في العراق وتتحضر وتتبغدد، ما أوحى إلى المؤرخين أن جميع من دخلوا العراق من الغرب والجنوب الغربي هم بدو كابر عن كابر، وهم في ذلك على ضلال عظيم، أقول إن التقدم العلمي أسرع في توزيعنا على المنافي العابرة للمحيطات، ولكنه لم يستطع أن يزيح جبال الأسى عن كواهلنا، ولا طعم حليب أمهاتنا اللواتي أرضعننا كربلاء حين يرددن تنويمة هي الأغرب ربما في العالم.
• ماذا عن تجربة هيروشيما. أنت اخترت هذه المدينة بملء إرادتك بعكس ولنغتن التي كانت منفى. كيف تبدت هذه التجربة في شعرك؟ أين يمكن أن نجد الأثر الياباني في تجربتك؟
- تجده في "الساموراي"، و"البراق يصل إلى هيروشيما"، و"تلاميذ هُندوري" (وهو سوق مُسَقّف وسط هيروشيما، كان قبل إلقاء القنبلة الذريّة، الشارع الرئيسي في هيروشيما)، و"متحف السلام في هيروشيما"، و"قلعة هيروشيما"، و"تقريظ باشو"، و"الهيروشيمي"، و"هيروشيما ومدن أخرى"، و"المستقبل وهو يقفل راجعاً". فترة الثلاثة أعوام في هيروشيما أعدها الأخصب في حياتي، هي فترة استرخاء وقراءات وتأمل، وخصوصاً لما كتبته سابقاً، مما جعلني أكتب النصوص التي ذكرتها أعلاه. أنا ابن حضارة نهرية، وربما هذا أحد الأسباب التي جعلتني أتفاعل مع هيروشيما بينما لم أكتب شيئاً له علاقة بعمّان طوال أربع سنوات، رغم اعتزازي بعمّان، لدرجة أنني أجعلها أول وآخر محطة لي حين أزور المنطقة العربية، وأول مرة بدأت نيوزلندا تحضر في شعري كان بعد ستّ سنوات وبشكل خجول، بينما لم يمض ثلاثة أشهر على تواجدي في هيروشيما، حتى كتبت "الساموراي"، وصمتّ ما يقارب السنة، والسبب هو كلمة الغلاف التي كتبها الراحل الكبير سركون بولص، لمجموعتي " أنا ثانية"، ولكن بعد ذلك كتبت خلال أقل من عامين، نحو عشرة نصوص.
• (أسأله مداعباً): يبدو أنك اخترت هيروشيما بسبب كربلائيتك؟
- ربما، فبينهما تواشج كبير، والكربلائية التي أعنيها لا تعني مدينة كربلاء بل الجرح العراقي كله، وكربلاء جزء يستمد أهميته وقوته من الكل، وإن كان اليابانيون قد وضعوا مأساتهم أساساً للقفز عالياً، بينما نحن نلوك بمآسينا، وكم أتمنى أن نتعلم من اليابانيين كيف نجعل مما مرّ بنا دافعاً قوياً للارتقاء بسلوكنا ومفاهيمنا وأوضاعنا جميعاً. العيش في هيروشيما هو من أفضل قرارات حياتي.
• اليوم تعيش في لاوس. من الواضح أن لديك ميلاً آسيوياً بخلاف شعراء المنافي العربيين. هل هذا مقصود؟
- الميل لا أنكره، وهذا لا يعني أني أختار الأماكن كما يختار المرء ملابسه من السوق، تعرض عليه الماركات العالمية فيقبل ما يشاء ويردّ ما يشاء. هناك ظروف حتمت عليّ العيش في هذه المناطق فأحببتها لأني لا أحمل ضغينة للمدن التي أعيش فيها، وربما نتيجة لعزلتي وشعوري الحاد بالوحدة رحت أكيّف نفسي مع الأمكنة لدرجة أقنعت نفسي كي أعيش بسلام وبشكل منتج، أنني لا أحبذ المنافي التقليدية، المنافي المستهلكة، وأفضل العيش في مدن مجهولة إن من قبل الأدباء العراقيين والعرب، أو مجهولة من قبل الإعلام والخرائط، فمدينة بسيطة في العمق الآسيوي أو الأفريقي أو اللاتيني أو جزر المحيطات، أحبّ إليّ من العيش في لندن وباريس وأمستردام وسواها من المدن الغربية التي تعج بالأدباء والفنانين العراقيين والعرب والشرق أوسطيين. أحب المدن التي تسبح في عذريتها، ولو يقُدر لي أن أستمر بالتنقل بين البلدان الهامشية والنائية سوف أفعل.
تجميل الواقع
• يبدو شعرك واقعاً تحت تراجيديا جهدَ الشعر العراقي الحديث في الخروج منها. ما سبب هذه التراجيديا؟ وهل تظن أن الشعر الحديث يحتمل مثل هذه المأساة التي أتخمت الشعر عموماً؟
- لن أكرر ما انزلق من حبر على الورق بخصوص التراجيديا العراقية، وسبب هذه التراجيديا، ولكني سوف أشير إلى ما توصلت إليه، وهو أن في ضعف الشخصية العراقية، يكمن السبب، لأن هذا الضعف قد أبدله العراقي بالعنف، واستطاع لغاية هذه الساعة أن ينجح في مسعاه هذا، هذا العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي، وضعف شخصيته نتاج وقوعه بين بداوتين جبلية وسهلية. هل اعتباطاً أن العراق الذي أنجب كل هذا العدد الهائل من الشعراء والأدباء والفنانين وسواهم، هو من أقل البلدان إنتاجاً للمثقفين، وأعني بكلمة المثقف بمعناها الحقيقي، وهو الإنسان الموسوعي بالعقائد السماوية والأرضية والمتبحر بتاريخ بلده، والقارئ المحترف للفلسفة والفكر عموماً، والذي لكتاباته جمهورها العريض الذي ينظرإليها بشيء من الاحترام المشوب بالفخر، مثلما يغبطه عليها ذوو الاختصاص. باستثناء العلامة علي الوردي، لا يوجد لدينا هذا الكاتب، رغم منجزات حسين علي محفوظ وجواد علي وطه باقر وعبد الرزاق الحسني وأحمد سوسة وجلال الحنفي و كامل مصطفى الشيبي وسواهم. ولكن المواصفات التي تحدثت عنها آنفاً مع أسلوبية الوردي التي توجهت إلى جميع طبقات المجتمع حالت دون تمكن هؤلاء وسواهم من هذا الامتياز. نحن نُدون تراجيديانا التي صنعناها بأنفسنا، ومنها خلقنا هذه السمعة للشعر العراقي، الشعر يحتمل كل شيء، ولكن تبقى مهمة الشاعر إن كان في إمكانه أن يوجد مساحة شعرية عالية في مآسيه أم لا.
• التراجيديا لديك تظهر على أنها استدراج لعطف القارئ أكثر منها فناً. هل توافق؟
- كلامك هذا يشبه تماماً، ما كُنا نلاحظه على وجوه الآخرين في المنافي ونحن نشرح لهم معاناتنا، وكيف إننا ندفع للحكومة ثمن الرصاصات التي يُقتل بها أخوتنا، أو حين نخبرهم عن سلسلة مقالات كُتبت ضد نسبة كبيرة ربما تتجاوز نصف السكان، واتهامهم بأنهم جلبوا من الهند. مآسينا من الغرابة لدرجة أن الجميع يتصور أننا نستدرج عطف الآخر. هل أردد مع صموئيل شمعون "إنني أجمّل الواقع " أنا الرافض لكل الأبطال وبطولاتهم، لأنهم تسببوا في مآسينا، أبي الذي قتل دفاعاً عن جارته، كان بطلاً، ولكن الرصاصات التي اخترقته اخترقت حيواتنا، هل أقول إنه كان أنانياً، حين لم يفكر في زوجة عمرها لا يتعدى الـ 16 سنة وعشرة أشهر، وطفل في السنتين وطفلة كان يومها الثلاثين في هذه الدنيا. ربما حاولتُ في هذه التراجيديا أن أعلن هزيمة الأب، الذي هزمنا في العاشر من تموز/ يوليو سنة 1969 وتركنا عُزّلَ إلا من مآسينا، هل هو خلق حالة توازن وسلام مع النفس ؟ .. ربما .
• يبدو الشعر العراقي الحديث، منذ السياب والبياتي وبلند الحيدري، مروراً بسعدي يوسف وسركون بولص إلى الآن، واقعاً تحت ثنائية كبرى، هي ثنائية الحرب والمنفى. كيف أثر هذان العنصران في التجربة الشعرية العراقية الحديثة؟ وماذا عن هذه الثنائية عندك تحديداً كما يظهر من قصائدك في إصدارك الأخير "إلى لغة الضوء"؟
- أجدُ تعميماً لا أتفق به معك، فالشعر العراقي أكثر تشعباً وثراءً من أن يقع أسير هذه الثنائية التي لا أنكرها ولكني أراها جزءاً من المشهد، رغم أننا منذ ثلاثين عاماً ونحن نعيش هذه الثنائية مرغمين، فخروج أعداد كبيرة من الشعراء إلى المنافي، واضطرار الغالبية العيش في خضمّ الحروب والحصار، حولنا شعراء منفيين حتى من كان في بيته وحيّه ومدينته. لا يخلو ديوان صدر خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من هذه الثنائية، ولكن في درجات متفاوتة بحسب التجربة والهم والوعي ..إلخ، والتي أرى أنها منحت التجربة الشعرية العراقية آفاقاً رحبة. هذه الثنائية موجودة- وبقوة- في شعري، ولكنها بدأت تفسح المجال لعوالم أخرى آسيوية بالتحديد.
• على سيرة الضوء، أنت تمتهن التصوير الفوتوغرافي منذ سنة 1983. ما الأثر الذي تركته هذه المهنة في نصك الشعري؟
- تأثيره يقرره القارئ ولست أنا، وقد انتبه الناقد العراقي عدنان حسين أحمد والشاعرة النيوزلندية روبن فراي إلى المؤثرات الفوتوغرافية في نصيّ الشعري، ولكن علاقتي بالتصوير، تشبه الزواج التقليدي في مجتمعاتنا، وكيف إن الحب ينشأ بعد العشرة وبمرور الوقت، فبسبب الشعر الذي اجتاحني وأنا في الابتدائية، لم أعد أرى في العالم سواه، وحين عملت في التصوير، لم أكن أحبه أو لا أحبه، أي إن مشاعري كانت حيادية، ولكن مع مرور الزمن تطورت علاقتي بالتصوير وتحولت المهنة إلى هواية جديدة.
مخالفة الأثر الأوروبي
• تقول في حوار مع وديع شامخ نشر في كتاب "باسم فرات: في المرايا" إن العرب لم يكتبوا كثيراً قصيدة النثر بل كتبوا الشعر الحر، معتبراً أننا لا نميز كثيراً بين هذين النوعين من الشعر. كيف تشرح وجهة نظرك هذه وقد بلغت قصيدة النثر في العالم العربي نصف القرن؟
- قصيدة النثر بحسب سوزان برنار، غالبيتنا لم يكتبها، بل كتبنا القصيدة الحرة، وهي أقرب لتركيبتنا العربية. الموسيقى واضحة في ما نكتب، والتقطيع لا يختلف عن قصيدة التفعيلة، وحتى لو اختلف فلن يُغيّر في الأمر شيئاً. وهذا لا ينكر عدم كتابة قصيدة النثر، ولكنها جد قليلة قياساً بالوفرة من القصيدة الحرة. وأن تكون لدينا قصيدة حرة وقصيدة نثر، ونص مفتوح وقصيدة شَرَكية، فهذا أمر طبيعي وهو موجود في الشعرية الأوروبية. وليس ذنبنا إن أول من ترجم إلينا أشاع مصطلح قصيدة النثر، وسكت تماماً عن مصطلح القصيدة الحرة، قبل خمسين عاماً أكثر من 99% من الشعراء لم يعيشوا في بلدان اللجوء والهجرة، قياساً بما هو عليه اليوم، وأن نكتشف أموراً جديدة، كان من المسكوت عنها في الخمسينات والستينات، فليس عيباً، بل العيب أن نلوك ما ردده الأوائل دون تمحيص ودقة. وشخصياً ما أكتبه لا يمتّ إلى قصيدة النثر الفرنسية بل والأوربية بصلة، ولا تعنيني أن تكون نصوصي مطابقة لتعليمات الفراهيدي أو سوزان برنار، فالشعر أكبر منهما حتماً، رغم أنني أكثر الشعراء جهلاً بتعريف الشعر.
• كنت عضو هيئة التحرير في مجلة "جسور" (بالعربية والإنكليزية) التي أسسها مواطنك الشاعر غيلان في أستراليا. ما أهمية هذه التجربة؟
- كنت أتمنى للمجلة أن تستمر فهي لو استمرت لكان لها شأنها في استراليا على الأقل. كانت لدى الشاعر غيلان الكثير من الأحلام، ولكن هناك ظروف أكبر من الجميع، وأولها التمويل المالي والتفرغ التام، حالت دون أن تتحول مجلة "جسور" إلى جسر حقيقي يربط الأدب المكتوب بالعربية بالأدب المكتوب بالإنكليزية، ودون أن تقرب بين العالم العربي وأستراليا. "جسور" كانت تأمل أن تكون رسالة تعارف ومحبة وسلام بين الناطقين بالعربية والإنكليزية، نحن في أمس الحاجة إليه.
• كيف ترى إلى التجربة الشعرية العراقية لدى جيلكم، مقارنة بجيل الستينات الريادي؟
• في البدء، لا بدّ من التأكيد على أنني لا أنتمي أي جيل، أو فلنقل إنني أجهل إلى أي جيل أنتمي، لإيماني بأن الشعر خلاص فردي، وهو لا يحتاج إلى التعكز على الجماعة. أتفهم الناقد، حين يستعين بالتجييل، لكي تسهل عليه عملية الفرز وسواها، ولكني أستغرب من الشاعر أن يقبل بالتجييل، حد التماهي والتفاخر. أقول هذا لأن الأجيال في العراق، غلب عليها الطابع البدويّ، لدرجة أن نسمع أو نقرأ تبريرات للبعض، وتزوير حقائق، لأن الشخص أو الأشخاص المعنيين لا تهمهم الحقائق والجمال بل الانتقاص من الآخرين و تبرير أفعال مجموعتهم أو جيلهم. أما بخصوص التجربة الشعرية العراقية، لما بعد الستينيين، فهي وإن غلب عليها طابع الكثرة من الشعراء، بل قل الازدحام، ولكنها تمكنت من إنجاب عدد لا بأس به من الشعراء الجيدين، والذين بسبب ظروف العراق خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، لم يتسن لهم الانتشار عربياً، كما لا ننسى الطفرة التعليمية التي حدثت في العراق والعالم العربي، ما أنتج أعداداً هائلة من المتعلمين، برزوا مع تطور الاتصالات الخارق لجدار السرعة إن صح القول، وهو ما أوجد لدينا بدل مجلات الأقلام والآداب وشعر والكلمة، عشرات المجلات الورقية ومئات الافتراضية، ما يعني أفول عصر الشاعر النجم، وتوزيع دوره على عدد من الشعراء، قد يصل الى العشرات. لم يعد أحد في إمكانه متابعة السيل الهادر من النصوص التي تنشر بشكل يومي، وهو ما يجعل بروز عدة شعراء يسجلون حضوراً في الساحة الشعرية العربية فيه صعوبة كبيرة، فجيل الستينات كانت له ظروفه وما تلاه لهم ظروفهم، ولكننا لو تتبعنا مجاميع شعرية صدرت في العشرين عاماً الأخيرة، سوف نلاحظ تطور الشعرية العراقية بشكل مفرح حقاً، وعلى يد عدد كبير من الشعراء الذين يصعب عدهم وحصرهم، رغم ظروف العراق التي أجبرت أعداداً لا بأس بها منهم على ترك الشعر أو التواصل المتقطع معه. وقد لعبت المنافي دوراً سلبياً بالنسبة إلى بعضهم، عكس فئة تواصلت وأبدعت ونشرت رغم البعد عن الرحم والمنزل الأول.
صحيفة القدس العربي ، العدد 6364 ، الصفحة العاشرة،السنة 21 ، الجمعة [b]
باسم فرات: العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي الضعيف لوقوعه بين بداوتين
بيروت- "القدس العربي"
من ناظم السيد
صدفة قادت الشاعر العراقي باسم فرات إلى منافٍ آسيوية، بعدما ترك العراق لاجئاً إلى الأردن سنة 1993، ليغادره إلى نيوزيلندا بعد أقل من أربع سنوات. لكنَّ الشاب الذي عاش حياته تحت فكرة الوالد القتيل، لم يجد في المنفى الأوروبي ضالته، فتركه إلى هيروشيما قبل أن يستقر اليوم في لاوس. تجربة المنفى الآسيوي كانت أكثر حضوراً في شعره، هو الذي نشر مجموعات شعرية شكلت معجماً للأسى من "أشد الهديل"، مروراً بـ "خريف المآذن" و"أنا ثانية"، وبانتهاء بـ "إلى لغة الضوء" الذي صدر هذه السنة. في مناسبة هذا الإصدار، وأثناء مرور الشاعر في بيروت، كان هذا الحوار.
• لم تعرف والدك في طفولتك، كما أنك تعرّفت إلى أمك في سن الخامسة عشرة. هل كان لهذين الأمرين أثر في تجربتك الشعرية؟
- أثرهما بالغ بكل تأكيد، أشعر أن هناك فراغاً كبيراً في حياتي، وإنْ بدأتُ أعي أنهما تسببا في أن تسكنني الطفولة حتى هذه اللحظة، وتأثيرهما واضح تماماً، فنصّ عواء ابن آوى، هو سيرة عائلية مُعشقة مع ما وصلنا من واقعة كربلاء، مع إشارة إلى الاعتقالات متمثلة بسجن السندي. ولا بدّ من ذكر أن أحد أسلافي حسبما تروي العائلة قد قطع رأسه وأرسل للأستانة. هناك مجموعة من النصوص يشغل فيها والدايَ إما مساحة كلية وإما جزئية، وأعتقد ان نصوصاً مثل "أبي وأنا" و"إلى لغة الضوء أقود القناديل" وسواهما خير شاهد.
• نلاحظ أن حضور الأب قوي في نصك، ولا سيما أنه مات قتلاً. هل لديك آباء شعريون معينون أيضاً كما تشي أحاديثك الصحفية؟
- أنا ابن الشعر العراقي والعربي والأجنبي، حيث يوجد شعر حقيقي فأنا ابنه،. آبائي هم جميع الشعراء الكبار. لا يوجد شاعر حقيقي قرأت له ومنحني متعة القراءة، إلا وتعلمت منه. هؤلاء آبائي جميعاً، وأتمنى أن يكونوا أخوتي، أي بمعنى أن أكون أهلاً لهذه العلاقة معهم. هناك شعراء تتجاوزهم بسرعة، وبعضهم لا يعلق في ذاكرتك سوى نصٍ أو عدة نصوص منهم، وهناك من يبقى فترة طويلة، والقلة القليلة تبقى معك، تتعلم منها، لكن تبقى هناك حقيقة بالنسبة إلي، وهي أنه لا وجود لشاعر كل ما كتبه يمتاز بالإدهاش والمتعة نفسيهما.
شعرية المنفى
• نشرت داخل العراق قصيدتين فقط قبل رحيلك عنه، وذلك في سنتي 1987 و1989. هل كان العزوف عن النشر مقصوداً؟
- النشر حق طبيعي لكل شاعر وكاتب، ولكن هناك مَن حاول التقليل من النشر، لكي يعطي فكرة أنه مقلّ، خشية التعرض للإحراج (الإحراج بمفهومه الفقهي) فلا يضطر للمشاركة في مهرجانات الحرب وتمجيد السلطة. وبالنسبة إلي كان العزوف مقصوداً وغير مقصود، لأني أولاً كنت في بداية البدايات، وثانياً بطبيعتي لا أستعجل نشر ما أكتب، فنصّ " يندلق الخراب .. فأتكئ عليه " كتبته في آذار 2000 ، ونشرته منتصف عام 2004 ، والآن في حوزتي نصوص عدة كتبتها في نيوزلندا، أي قبل منتصف عام 2005، ولم أنشرها بعد، كما لديّ نصوص كتبتها في هيروشيما ولم تنشر أيضاً. ثالثاً ما نشرته عام 1987 كان بإلحاح من الأصدقاء، أما ما نشر في عام 1989 فقد فوجئت به، إذ إن الذي أرسله هو عَرّاب شعراء كربلاء الشاعر محمد زمان، بل إن المرة الأولى التي أنشر فيها بشكل متواصل كان في جريدة "القدس العربي" عام 1996 تحت إصرار الصديق الشاعر وسام هاشم الذي كان يلحّ عليّ بإحضار نصوصي ونذهب معاً للبريد بعد أن يضعها بنفسه في الظرف ويتأكد من إرسالي إياها. ولا بدّ من التنويه بأن الشاعر أمجد ناصر، كان كريماً معي، فما أن يصله نص من نصوصي، حتى يباشر إلى نشره.
• تركت العراق سنة 1993 إلى عمّان، ثم إلى ولنغتن العاصمة النيوزلندية سنة 1997. مع ذلك لا نجد أثراً كبيراً للغرب في شعرك؟
- ربما لأني أُرغمت على العيش في نيوزلندا، أو ربما لأسباب أخرى، كما أن الفترة ليست طويلة، أعني أنها ليست عقدين أو أكثر. لم أتكيف مع العيش في نيوزلندا، فكان الحنين هاجسي الأول، وحين بدأت التكيّف، خصوصاً بعد النجاحات الأدبية التي حققتها في البلد، خرجت منها، ولكن رغم كل شيء، هناك شعور عميق بالخسارة، فإن كان غالبية اللاجئين يشعرون بالسعادة وهم على متن الطائرة التي سوف تقلهم إلى بلد اللجوء (لقد تم قبولي لاجئاً في 11 آب/ أغسطس 1996 من قِبل مكتب المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة) فحينها شعرت بالخسارة وأنا على متن الطائرة، حتى إنني بكيت، مما جعلني أحنّ إلى كل ما هو عراقي وعربي. المنافي التي حلمنا بها وخلناها فراديس تنقذنا تماماً، اتضحت غير ذلك. وما حسبناه أننا رميناه خلفنا وتخلصنا منه نهائياً، فإذا به يقتفي آثارنا، وأن الحروب مازالت تلاحقنا وتُغَيّر أشكالها.
• حتى مفردات مثل الإلهة النيوزلندية وطائر الكيوي وشجرة البوهو توكاوا، تبدو مفردات سياحية أكثر منها ذات دلالة على هضم ثقافة البلد. يعني بنية قصيتدك ومناخاتها ظلت كربلائية، حيث مسقط رأسك؟
- منذ ترنمت بقصائد السياب، رحت أتساءل، كيف لي أن أخلقَ من كربلاء أسطورة وهي الأسطورة الكبرى؟، هذا السؤال الذي طرحته على نفسي كان عفوياً، ولم تكن فيه حسابات أنوية، أو أية نرجسية ما، هكذا خرج لاإرادياً، وأيضاً لشعوري بأن الشعر قضية بحد ذاته. ما يميز كربلاء (رغم إيماني بأنها جزء يفقد قيمته خارج العراق) أنها ليست مدينتي فقط، وإنما هي مدينة الأسى والفجيعة. لقد اختزل الناس فجائعهم ومآسيهم فيها. كربلاء فرضت مناخاتها على البعيد فكيف بابنها الذي تمتد جذوره فيها بعمق تاريخها، فأنا من سلالة تعيش في منطقة بابل الكبرى (وكربلاء جزء من إقليم بابل) منذ عشرات القرون، لم ننزح من صحارى أو جبال، وتنقلنا كان في معظمه داخل بابل الكبرى نفسها، حتى استقرارنا في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي في كربلاء. والسلالة التي تنعى الإمام الحسين هي نفسها التي طالما بكت السيد المسيح وقبله كبير آلهة العراق مردوخ وقبل ذلك الإله القتيل تموز. أنا ابن سلالة الدموع والأسى، حفيد ذلك الشاعر العراقي العظيم الذي راح يرثي عراقه مردداً "لقد نفتنا الآلهة" وكان يعني خروج العراقيين الى الصحارى حين تهجم عليهم جيوش الهمجية الطامعة بخيرات بلادنا. ولكننا وبفضل التقدم العلمي، وإن خرج الكثير منا في آذار/ مارس ونيسان/ أبريل 1991 إلى الصحارى مقتفين آثار أجدادهم الذي كانوا يعودون بعد أن تتآكل الجيوش في العراق وتتحضر وتتبغدد، ما أوحى إلى المؤرخين أن جميع من دخلوا العراق من الغرب والجنوب الغربي هم بدو كابر عن كابر، وهم في ذلك على ضلال عظيم، أقول إن التقدم العلمي أسرع في توزيعنا على المنافي العابرة للمحيطات، ولكنه لم يستطع أن يزيح جبال الأسى عن كواهلنا، ولا طعم حليب أمهاتنا اللواتي أرضعننا كربلاء حين يرددن تنويمة هي الأغرب ربما في العالم.
• ماذا عن تجربة هيروشيما. أنت اخترت هذه المدينة بملء إرادتك بعكس ولنغتن التي كانت منفى. كيف تبدت هذه التجربة في شعرك؟ أين يمكن أن نجد الأثر الياباني في تجربتك؟
- تجده في "الساموراي"، و"البراق يصل إلى هيروشيما"، و"تلاميذ هُندوري" (وهو سوق مُسَقّف وسط هيروشيما، كان قبل إلقاء القنبلة الذريّة، الشارع الرئيسي في هيروشيما)، و"متحف السلام في هيروشيما"، و"قلعة هيروشيما"، و"تقريظ باشو"، و"الهيروشيمي"، و"هيروشيما ومدن أخرى"، و"المستقبل وهو يقفل راجعاً". فترة الثلاثة أعوام في هيروشيما أعدها الأخصب في حياتي، هي فترة استرخاء وقراءات وتأمل، وخصوصاً لما كتبته سابقاً، مما جعلني أكتب النصوص التي ذكرتها أعلاه. أنا ابن حضارة نهرية، وربما هذا أحد الأسباب التي جعلتني أتفاعل مع هيروشيما بينما لم أكتب شيئاً له علاقة بعمّان طوال أربع سنوات، رغم اعتزازي بعمّان، لدرجة أنني أجعلها أول وآخر محطة لي حين أزور المنطقة العربية، وأول مرة بدأت نيوزلندا تحضر في شعري كان بعد ستّ سنوات وبشكل خجول، بينما لم يمض ثلاثة أشهر على تواجدي في هيروشيما، حتى كتبت "الساموراي"، وصمتّ ما يقارب السنة، والسبب هو كلمة الغلاف التي كتبها الراحل الكبير سركون بولص، لمجموعتي " أنا ثانية"، ولكن بعد ذلك كتبت خلال أقل من عامين، نحو عشرة نصوص.
• (أسأله مداعباً): يبدو أنك اخترت هيروشيما بسبب كربلائيتك؟
- ربما، فبينهما تواشج كبير، والكربلائية التي أعنيها لا تعني مدينة كربلاء بل الجرح العراقي كله، وكربلاء جزء يستمد أهميته وقوته من الكل، وإن كان اليابانيون قد وضعوا مأساتهم أساساً للقفز عالياً، بينما نحن نلوك بمآسينا، وكم أتمنى أن نتعلم من اليابانيين كيف نجعل مما مرّ بنا دافعاً قوياً للارتقاء بسلوكنا ومفاهيمنا وأوضاعنا جميعاً. العيش في هيروشيما هو من أفضل قرارات حياتي.
• اليوم تعيش في لاوس. من الواضح أن لديك ميلاً آسيوياً بخلاف شعراء المنافي العربيين. هل هذا مقصود؟
- الميل لا أنكره، وهذا لا يعني أني أختار الأماكن كما يختار المرء ملابسه من السوق، تعرض عليه الماركات العالمية فيقبل ما يشاء ويردّ ما يشاء. هناك ظروف حتمت عليّ العيش في هذه المناطق فأحببتها لأني لا أحمل ضغينة للمدن التي أعيش فيها، وربما نتيجة لعزلتي وشعوري الحاد بالوحدة رحت أكيّف نفسي مع الأمكنة لدرجة أقنعت نفسي كي أعيش بسلام وبشكل منتج، أنني لا أحبذ المنافي التقليدية، المنافي المستهلكة، وأفضل العيش في مدن مجهولة إن من قبل الأدباء العراقيين والعرب، أو مجهولة من قبل الإعلام والخرائط، فمدينة بسيطة في العمق الآسيوي أو الأفريقي أو اللاتيني أو جزر المحيطات، أحبّ إليّ من العيش في لندن وباريس وأمستردام وسواها من المدن الغربية التي تعج بالأدباء والفنانين العراقيين والعرب والشرق أوسطيين. أحب المدن التي تسبح في عذريتها، ولو يقُدر لي أن أستمر بالتنقل بين البلدان الهامشية والنائية سوف أفعل.
تجميل الواقع
• يبدو شعرك واقعاً تحت تراجيديا جهدَ الشعر العراقي الحديث في الخروج منها. ما سبب هذه التراجيديا؟ وهل تظن أن الشعر الحديث يحتمل مثل هذه المأساة التي أتخمت الشعر عموماً؟
- لن أكرر ما انزلق من حبر على الورق بخصوص التراجيديا العراقية، وسبب هذه التراجيديا، ولكني سوف أشير إلى ما توصلت إليه، وهو أن في ضعف الشخصية العراقية، يكمن السبب، لأن هذا الضعف قد أبدله العراقي بالعنف، واستطاع لغاية هذه الساعة أن ينجح في مسعاه هذا، هذا العنف خلق تراجيديا الإنسان العراقي، وضعف شخصيته نتاج وقوعه بين بداوتين جبلية وسهلية. هل اعتباطاً أن العراق الذي أنجب كل هذا العدد الهائل من الشعراء والأدباء والفنانين وسواهم، هو من أقل البلدان إنتاجاً للمثقفين، وأعني بكلمة المثقف بمعناها الحقيقي، وهو الإنسان الموسوعي بالعقائد السماوية والأرضية والمتبحر بتاريخ بلده، والقارئ المحترف للفلسفة والفكر عموماً، والذي لكتاباته جمهورها العريض الذي ينظرإليها بشيء من الاحترام المشوب بالفخر، مثلما يغبطه عليها ذوو الاختصاص. باستثناء العلامة علي الوردي، لا يوجد لدينا هذا الكاتب، رغم منجزات حسين علي محفوظ وجواد علي وطه باقر وعبد الرزاق الحسني وأحمد سوسة وجلال الحنفي و كامل مصطفى الشيبي وسواهم. ولكن المواصفات التي تحدثت عنها آنفاً مع أسلوبية الوردي التي توجهت إلى جميع طبقات المجتمع حالت دون تمكن هؤلاء وسواهم من هذا الامتياز. نحن نُدون تراجيديانا التي صنعناها بأنفسنا، ومنها خلقنا هذه السمعة للشعر العراقي، الشعر يحتمل كل شيء، ولكن تبقى مهمة الشاعر إن كان في إمكانه أن يوجد مساحة شعرية عالية في مآسيه أم لا.
• التراجيديا لديك تظهر على أنها استدراج لعطف القارئ أكثر منها فناً. هل توافق؟
- كلامك هذا يشبه تماماً، ما كُنا نلاحظه على وجوه الآخرين في المنافي ونحن نشرح لهم معاناتنا، وكيف إننا ندفع للحكومة ثمن الرصاصات التي يُقتل بها أخوتنا، أو حين نخبرهم عن سلسلة مقالات كُتبت ضد نسبة كبيرة ربما تتجاوز نصف السكان، واتهامهم بأنهم جلبوا من الهند. مآسينا من الغرابة لدرجة أن الجميع يتصور أننا نستدرج عطف الآخر. هل أردد مع صموئيل شمعون "إنني أجمّل الواقع " أنا الرافض لكل الأبطال وبطولاتهم، لأنهم تسببوا في مآسينا، أبي الذي قتل دفاعاً عن جارته، كان بطلاً، ولكن الرصاصات التي اخترقته اخترقت حيواتنا، هل أقول إنه كان أنانياً، حين لم يفكر في زوجة عمرها لا يتعدى الـ 16 سنة وعشرة أشهر، وطفل في السنتين وطفلة كان يومها الثلاثين في هذه الدنيا. ربما حاولتُ في هذه التراجيديا أن أعلن هزيمة الأب، الذي هزمنا في العاشر من تموز/ يوليو سنة 1969 وتركنا عُزّلَ إلا من مآسينا، هل هو خلق حالة توازن وسلام مع النفس ؟ .. ربما .
• يبدو الشعر العراقي الحديث، منذ السياب والبياتي وبلند الحيدري، مروراً بسعدي يوسف وسركون بولص إلى الآن، واقعاً تحت ثنائية كبرى، هي ثنائية الحرب والمنفى. كيف أثر هذان العنصران في التجربة الشعرية العراقية الحديثة؟ وماذا عن هذه الثنائية عندك تحديداً كما يظهر من قصائدك في إصدارك الأخير "إلى لغة الضوء"؟
- أجدُ تعميماً لا أتفق به معك، فالشعر العراقي أكثر تشعباً وثراءً من أن يقع أسير هذه الثنائية التي لا أنكرها ولكني أراها جزءاً من المشهد، رغم أننا منذ ثلاثين عاماً ونحن نعيش هذه الثنائية مرغمين، فخروج أعداد كبيرة من الشعراء إلى المنافي، واضطرار الغالبية العيش في خضمّ الحروب والحصار، حولنا شعراء منفيين حتى من كان في بيته وحيّه ومدينته. لا يخلو ديوان صدر خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من هذه الثنائية، ولكن في درجات متفاوتة بحسب التجربة والهم والوعي ..إلخ، والتي أرى أنها منحت التجربة الشعرية العراقية آفاقاً رحبة. هذه الثنائية موجودة- وبقوة- في شعري، ولكنها بدأت تفسح المجال لعوالم أخرى آسيوية بالتحديد.
• على سيرة الضوء، أنت تمتهن التصوير الفوتوغرافي منذ سنة 1983. ما الأثر الذي تركته هذه المهنة في نصك الشعري؟
- تأثيره يقرره القارئ ولست أنا، وقد انتبه الناقد العراقي عدنان حسين أحمد والشاعرة النيوزلندية روبن فراي إلى المؤثرات الفوتوغرافية في نصيّ الشعري، ولكن علاقتي بالتصوير، تشبه الزواج التقليدي في مجتمعاتنا، وكيف إن الحب ينشأ بعد العشرة وبمرور الوقت، فبسبب الشعر الذي اجتاحني وأنا في الابتدائية، لم أعد أرى في العالم سواه، وحين عملت في التصوير، لم أكن أحبه أو لا أحبه، أي إن مشاعري كانت حيادية، ولكن مع مرور الزمن تطورت علاقتي بالتصوير وتحولت المهنة إلى هواية جديدة.
مخالفة الأثر الأوروبي
• تقول في حوار مع وديع شامخ نشر في كتاب "باسم فرات: في المرايا" إن العرب لم يكتبوا كثيراً قصيدة النثر بل كتبوا الشعر الحر، معتبراً أننا لا نميز كثيراً بين هذين النوعين من الشعر. كيف تشرح وجهة نظرك هذه وقد بلغت قصيدة النثر في العالم العربي نصف القرن؟
- قصيدة النثر بحسب سوزان برنار، غالبيتنا لم يكتبها، بل كتبنا القصيدة الحرة، وهي أقرب لتركيبتنا العربية. الموسيقى واضحة في ما نكتب، والتقطيع لا يختلف عن قصيدة التفعيلة، وحتى لو اختلف فلن يُغيّر في الأمر شيئاً. وهذا لا ينكر عدم كتابة قصيدة النثر، ولكنها جد قليلة قياساً بالوفرة من القصيدة الحرة. وأن تكون لدينا قصيدة حرة وقصيدة نثر، ونص مفتوح وقصيدة شَرَكية، فهذا أمر طبيعي وهو موجود في الشعرية الأوروبية. وليس ذنبنا إن أول من ترجم إلينا أشاع مصطلح قصيدة النثر، وسكت تماماً عن مصطلح القصيدة الحرة، قبل خمسين عاماً أكثر من 99% من الشعراء لم يعيشوا في بلدان اللجوء والهجرة، قياساً بما هو عليه اليوم، وأن نكتشف أموراً جديدة، كان من المسكوت عنها في الخمسينات والستينات، فليس عيباً، بل العيب أن نلوك ما ردده الأوائل دون تمحيص ودقة. وشخصياً ما أكتبه لا يمتّ إلى قصيدة النثر الفرنسية بل والأوربية بصلة، ولا تعنيني أن تكون نصوصي مطابقة لتعليمات الفراهيدي أو سوزان برنار، فالشعر أكبر منهما حتماً، رغم أنني أكثر الشعراء جهلاً بتعريف الشعر.
• كنت عضو هيئة التحرير في مجلة "جسور" (بالعربية والإنكليزية) التي أسسها مواطنك الشاعر غيلان في أستراليا. ما أهمية هذه التجربة؟
- كنت أتمنى للمجلة أن تستمر فهي لو استمرت لكان لها شأنها في استراليا على الأقل. كانت لدى الشاعر غيلان الكثير من الأحلام، ولكن هناك ظروف أكبر من الجميع، وأولها التمويل المالي والتفرغ التام، حالت دون أن تتحول مجلة "جسور" إلى جسر حقيقي يربط الأدب المكتوب بالعربية بالأدب المكتوب بالإنكليزية، ودون أن تقرب بين العالم العربي وأستراليا. "جسور" كانت تأمل أن تكون رسالة تعارف ومحبة وسلام بين الناطقين بالعربية والإنكليزية، نحن في أمس الحاجة إليه.
• كيف ترى إلى التجربة الشعرية العراقية لدى جيلكم، مقارنة بجيل الستينات الريادي؟
• في البدء، لا بدّ من التأكيد على أنني لا أنتمي أي جيل، أو فلنقل إنني أجهل إلى أي جيل أنتمي، لإيماني بأن الشعر خلاص فردي، وهو لا يحتاج إلى التعكز على الجماعة. أتفهم الناقد، حين يستعين بالتجييل، لكي تسهل عليه عملية الفرز وسواها، ولكني أستغرب من الشاعر أن يقبل بالتجييل، حد التماهي والتفاخر. أقول هذا لأن الأجيال في العراق، غلب عليها الطابع البدويّ، لدرجة أن نسمع أو نقرأ تبريرات للبعض، وتزوير حقائق، لأن الشخص أو الأشخاص المعنيين لا تهمهم الحقائق والجمال بل الانتقاص من الآخرين و تبرير أفعال مجموعتهم أو جيلهم. أما بخصوص التجربة الشعرية العراقية، لما بعد الستينيين، فهي وإن غلب عليها طابع الكثرة من الشعراء، بل قل الازدحام، ولكنها تمكنت من إنجاب عدد لا بأس به من الشعراء الجيدين، والذين بسبب ظروف العراق خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، لم يتسن لهم الانتشار عربياً، كما لا ننسى الطفرة التعليمية التي حدثت في العراق والعالم العربي، ما أنتج أعداداً هائلة من المتعلمين، برزوا مع تطور الاتصالات الخارق لجدار السرعة إن صح القول، وهو ما أوجد لدينا بدل مجلات الأقلام والآداب وشعر والكلمة، عشرات المجلات الورقية ومئات الافتراضية، ما يعني أفول عصر الشاعر النجم، وتوزيع دوره على عدد من الشعراء، قد يصل الى العشرات. لم يعد أحد في إمكانه متابعة السيل الهادر من النصوص التي تنشر بشكل يومي، وهو ما يجعل بروز عدة شعراء يسجلون حضوراً في الساحة الشعرية العربية فيه صعوبة كبيرة، فجيل الستينات كانت له ظروفه وما تلاه لهم ظروفهم، ولكننا لو تتبعنا مجاميع شعرية صدرت في العشرين عاماً الأخيرة، سوف نلاحظ تطور الشعرية العراقية بشكل مفرح حقاً، وعلى يد عدد كبير من الشعراء الذين يصعب عدهم وحصرهم، رغم ظروف العراق التي أجبرت أعداداً لا بأس بها منهم على ترك الشعر أو التواصل المتقطع معه. وقد لعبت المنافي دوراً سلبياً بالنسبة إلى بعضهم، عكس فئة تواصلت وأبدعت ونشرت رغم البعد عن الرحم والمنزل الأول.
صحيفة القدس العربي ، العدد 6364 ، الصفحة العاشرة،السنة 21 ، الجمعة [b]