انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (2-6)

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (2-6) Empty الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (2-6)

    مُساهمة  Admin الخميس أكتوبر 28, 2010 4:46 am

    س19: يقول عنك الناقد عدنان حسين أحمد" ولكون الشاعر باسم فرات مصوراً فوتوغرافياً محترفاً نرى دور العدسة واضحاً في تصوير الكثير من المشاهد البصرية النادرة التي تسعى فعلاً إلى تجسيد الحركة الأفقية للزمن المحكوم بالتقدم إلى أمام". كما تضيف الشاعرة النيوزلندية روبن فراي بالقول" إن باسم فرات مصور فوتوغرافي كذلك، ولديه نزعة للتعمق في التفاصيل والطبيعة؛ لذلك فهو يرى أن ما حوله من طبيعة مليئة بأحلام من الماضي."
    وأنا أعرف انكَ مصور محترف، فما أثر مهنتك كمصور على كتابتك الشعرية .. وهل تعتقد إن التصوير أضاف لك شيئاً أم أَكَلَ من جرف اهتمامك الشعريّ والإبداعيّ عموماً ؟


    أعمل في مجال التصوير الفوتوغرافي منذ عام 1983 فهو العمل الذي يجنبني حاجة السؤال والإستجداء من الآخرين، وكنت عملت في العراق والأردن ونيوزلندا، وفي نيوزلندا واليابان اتيحت لي فرصة لتصوير الطبيعة والمدن، بل قل تصوير الحياة، فقد صَوَّرْتُ الأزهار مثلما صَورتُ المشردين، وصَورتُ النساء والأطفال مثلما صَورتُ البنايات والطرق والجسور والاثار، وصورت الإحتفالات ...إلخ.
    التصوير منحني عيناً ثاقبة للإشياء وللبشر، فكل شيء أصبح موضوعاً بالنسبة لي، وهل يصلح للتصوير أم لا، وكم اختلفت مع أصدقاء مثلاً بخصوص جمال فتاة أو امرأة تمرّ أمامنا فهم لا يرونها جميلة، ولكن عيني التي تعودت أن ترى كل شيء موضوعاً كما أسلفت، وكل موضوع يحوي زوايا، وهناك زاوية لا تصلح للتصوير، بينما هناك زوايا تتفاوت في درجة صلاحيتها للتصوير، تجعلني مع الخبرة الممتدة لربع قرن، لا يستغرق لديّ التقاط الزاوية المثلى للتصوير وقتاً، وهو ما يجعلني على خلاف معهم.
    الموهبة وحدها لا تخلق شاعراً مهماً، والقراءة وحدها لا تصنع شاعراً مميزاً، فالشاعر يجب أن يستند الى موهبة وقراءة واعية، وتجربة، والتجربة واسعة، كالسفر والحب والعمل وعشرات الأمور الأخرى تكَوّن كلها التجربة، وأنظر للتصوير على أنه تجربة وثقافة لي، إختلاطي بنوعيات وجنسيات ومعتنقي ديانات مختلفة، ليس فقط ثقافات مختلفة، بل مَنَحَني أن أختلط بمستويات مختلفة لأبناء ثقافة واحدة وبيئة واحدة.

    س20: مجلة جسور، التي أشرف على أصدارها الشاعر العراقي غيلان من أُستراليا ـ الذي يعد آخر الصعاليك في جماعة "الرصيف" ــ ، ساهمتْ بشكل جاد في تجسير الهوة بين أدباء الداخل والخارج، وكانت تنتصر للمشهد الإبداعي العراقي الجدي دون تمييز. هل من شهادة على دور هذا المطبوع الذي توارى الآن، علما أنك من المساهمين في هذه المجلة ؟

    إبتدأت علاقتي بمجلة جسور، حين وصلت الى نيوزلندا، وبما إني كنت قد قرأت نصاً جميلاً للشاعر غيلان، في مجلة عيون، حينما كنت في عَمّان، فقد راسلته، والرجل أغدق عليّ بأعداد من مجلة جسور بنسختيها العربية والإنكليزية، ومما لاحظته إن المجلة جيدة ولكن أحد عيوبها هو أن كل مساهم فيها له ما يقارب من خمسة مواضيع، إن لم يكن أكثر، فاتفقت مع الشاعر غيلان، على مراسلة الأدباء في العراق وفي المنافي، والرجل رحبَ بالفكرة، وشكرني كثيراً، بل بادر الى وضع إسمي من ضمن هيئة التحرير، وبدوري راسلتُ الصديقين الأديبين عبد الهادي سعدون ومحسن الرملي، الذَيْن تكرما وأرسلا لي عناوين أدباء في العراق، ممن لم يتلوثوا بتمجيد الحروب والعنف والطغيان، فانهالت الرسائل عليّ من الأدباء الشباب بنصوصهم الحداثوية، ومن حينها تغيرت المجلة، فنشرت للكثير من أدباء العراق، في محاولة لكسر الحصار المفروض عليهم، وبدوري كنت أرسل نسخاً للعراق وبطرق شتى، منها إرسال المجلة في طرد، ونسخة أخرى في طردين، وثالثة هو تقسيم المجلة الى عدة رسائل، وهكذا، كل هذا لكي تصل للأدباء في العراق، وفعلا وصلتهم عدة أعداد، علماً إن نسبة ما وصل للأصدقاء هو عُشْر ما أرسلت، حيث كان يرسل لي الشاعر غيلان أكثر من عشرين نسخةٍ من كل عدد عربي، ونصف هذا من العدد الأنكليزي، وبما إن المجلة تصدر عدداً باللغة العربية والذي يليه باللغة الانكليزية، فقد أخبرت الأصدقاء في العراق وفي المنافي أن يرسلوا مواداً لهم مترجمة للانكليزية، وفعلا هناك مَن أرسل مواداً ونشرناها لهم، ولم ينحصر نشاطي مع مجلة جسور مع العراقيين والعرب، بل تعداه الى نيوزلندا حيث كنت أقيم، ونشرتُ ملفاً عن الأدب النيوزلندي فيها، وأقمنا أمسية رائعة في العاصمة النيوزلندية، حين وصلنا العدد المذكور، قرأ كل من له مساهمة مساهمته، فكانت أمسية مميزة حقاً، وإن مشاركات النيوزلنديين إستمرت حتى آخر عدد من المجلة، وكنت آمل أن نعدّ عدداً خاصاً بالعربية للأدب النيوزلندي ولكن كل مجلة لاتلقى دعماً مادياً كافياً إضافة للدعم المعنوي والتفرغ، أنّى لها الإستمرار.
    كانت جسور مشروعاً يمكن له أن يتطور ويكبر، ويقدم أضعاف ما قدمَ، وتكون حقاً واحدة من أهم جسور التواصل والتعارف بين الثقافتين العربية والانكلوسكسونية، لو قُدّرَ لها الاستمرار والتطور.

    س21: لكل حقبة مجلة ثقافية ترعى وتحتضن المبدعين كتابة ونقدا وتبشّر بهم، يساهم في تأسيسها وتحريرها وإدارتها غالباً نخبة من مبدعي تلك الحقبة، كما حصل مع مجلة شعر، والآداب والفكر العربي في بيروت، والكلمة وشعر 69 في العراق. في عراق الثمانينيات والتسعينات كانت تصدر مجلات ثقافية مثل الأقلام، الثقافة الأجنبية، والثقافة والطليعة الأدبية وأسفار وغيرها. ما أهمية وجود مجلة ثقافية رصينة لإحتضان المبدعين، وهل ساهمت مجلة ما في إحتضان كتاباتك؟

    شخصياً لا يمكن لي نكران فضل مجلات الأقلام والطليعة الأدبية والثقافة الأجنبية والمورد والتراث الشعبي وآفاق عربية والأديب المعاصر وأسفار عليّ، هذه مجلات حين نرفع بعض المواد التي كانت مفروضة من قبل النظام عنها، تكون مجلات جادة فعلاً، وأساطين الثقافة العراقية كتبوا فيها، وكذلك العربية ونقل لنا مترجموها روائع أدبية، بل من خلال نبشي بين مكتبات بغداد وغيرها وجدت أعداداً قديمة لمجلات الأقلام والطليعة الادبية، هذه المجلات مع ما كان يصلنا رغم ندرته من البلدان الناطقة بالعربية، أفادتني كثيراً (لا يعني هذا التقليل من أهمية الكتب)، ورغم عدم نشري في أي منها، ولكني تربيت عليها، وأعترف إن لا وجود لمجلة احتضنتني لأني لم أنشر سوى مرتين في العراق وذلك عامي 1987 و1989، وتركت العراق في نيسان عام 1993.

    س22: هل من نبذة عن حياتك ومراحل تنقلك بين العواصم والمدن، وما أهم الإنعطافات في مسيرتك نحو الإبداع الشعري؟

    عشت طفولة بائسة مليئة بالحرمان، ومازالت صور الحرمان تلاحقني، وأما تناقضاتها فما زالت آثارها باقية، مازلت أفتقد كلمة "أبي" وحتى والدتي التي إنتقلت للسكن معها كان إنتقالي وأنا في الخامسة عشرة من عمري، والعمل الشاق والتجارب والقراءات أنضجتني قبل الأوان، ولهذا لم أشعر بها كأم شعوراً تاماً، بالرغم من كونها كأي أم عراقية تنضح محبة وحناناً وعاطفة أمومية كريمة، ولكني ربما أستطيع أن أعد عدد المرات التي تلفظت فيها بكلمة "ماما" قبل أن أعيش معها، لأني قضيت كل طفولتي وجزءاً بسيطاً من مراهقتي بعيداً عنها، ولكن إنتقالي للعيش مع والدتي فتح لي أبواباً منها إني إبتدأت الإتصال بمثقفي كربلاء، وعملي في مجال التصوير بعد إنتقالي بعام وبضعة أشهر، هذا العمل الذي رافقني منذ ذلك الوقت وليتحول الى هواية أخرى لي، بل إن محل التصوير الذي عملت فيه وهو عائد لزوج خالتي، تحول الى ملتقى للأصدقاء ممن تملكهم الأدب وأغواهم الكتاب، وصار ديدنهم القراءة، فاستوديو الفنون وهو إسم محل التصوير الذي عملت فيه كان بالنسبة لي بحق خير معين على القراءة ولقاء الأصدقاء وما يتخلل اللقاءات من نقاشات لا تنتهي بل إن هذه النقاشات واللقاءات كانت تغوينا للقراءة والبحث والمتابعة أكثر وأكثر.
    كنت أزور بغداد بين مدة وأخرى ولبغداد مكانة خاصة في روحي، إنها بحق عاصمتي الثقافية والروحية والوطنية، وربما لا أبالغ إن قلت إنني أحببت بغداد بذات القدر الذي أحببت مدينتي كربلاء، وقبل خروجي من العراق بأيام ذهبت إليها وتسكعت بشوارعها وزرت مقهى حسن عجمي وشارع المتنبي وغيرها من الأماكن، ربما هو الإحساس بأني مفارقها لزمن طويل، وها أنا منذ أن غادرتها في الثالث والعشرين من نيسان 1993 وللآن لم تغادرني إنها وكربلاء جنباً الى جنبٍ تتبختران في فراديس روحي.
    في عَمّان التي وصلتها فجر الرابع والعشرين من نيسان 1993 وغادرتها ظهر التاسع عشر من آيار1997 قضيتها غالباً في العمل، وكنت أعمل أكثر من تسعين ساعة في الإسبوع، حالت دون أن أشارك في أي نشاط ثقافي، سوى النشر، نعم نشرت في عدد من الصحف والمجلات الصادرة في لندن وسواها.
    حين وصلت الى نيوزلندا في الحادي والعشرين من آيار1997 وبعد أن استقرت بي الأمور بدأت نشاطي الشعري فيها وبالأخص في العاصمة ولنغتن التي عشت فيها، وأصبحت فاعلاً في وسطها الثقافي، بل إن حقبة ولنغتن كانت الأكثر إشراقاً في حياتي الشعرية من ناحية التفاعل والنشاط، مما حدا بالجماعات التي تدافع عن المهاجرين واللاجئين في نيوزلندا وعلى رأسهم وزير الهجرة النيوزلندي أن يعتبروني المثال الذي يفاخرون به كنموذج للاجئ الذي يجلب ثقافته معه ويضيفها الى ثقافات نيوزلندا فتصبح نيوزلندا بلداً متعدد الثقافات حقاً، رغم إني لست من دعاة تعددية الثقافات بل تزاوج الثقافات، وأعتبره المصطلح الأكثر دقة وإنسانية وخدمة للوطن الواحد، ورغم ما عانيته من إستغلال ماديّ بشع في العمل مع الشركة التي عملت فيها، ولكن تبقى نيوزلندا لها مكانة رائعة في روحي، لا أستطيع أن أقول إني نيوزلندي تماماً فأنا عراقي ومشكلة العراقية إنها في الدم تجري وليست وطناً فقط، ولكني فعلاً أعشق نيوزلندا بل ممتن لها ولكل أدبائها ومن ساعدني ودعمني فيها وبالذات الشاعر والناشر النيوزلندي الرائع مارك بيري، والشاعر الامريكي لويس سكوت، فالآخير قدمني للوسط ودعمني، والأول دعمني كثيرا ومازال دعمه وتعضيده مستمراً لي.
    أما هيروشيما، فهي أول مدينة أختارها بمحض إرادتي، وبدأت علاقتي بها منذ البداية، شعرت فيها بروحية مختلفة، هذه الروحية أثرت على تجربتي الشعرية، فكتبت نصوصاً أعتبرها أفضل إنعطافة شعرية للآن، ربما نتيجة للعلاقة الحميمة التي تربطني بالمدينة، فهيروشيما ومعناها الجزيرة الواسعة أو العريضة، عبارة عن دلتا فيها ستة أنهار.وكذلك ألتقي بمجموعة كل إسبوعين مرة نقرأ شعراً ولنا صفحة في موقع هيروشيما.

    س23: البعض يرى إشكالية حقيقية في الإزدواجية التي يعاني منها المبدع العراقي المغترب، ومنها إزدواجية الجنسية واللغة والبيئة وكيفية تمثّل الوافد الجديد لثقافات ضاربة في عمق أوطانها، وأنت تقول بأنك من أنصار تزواج الثقافات لا تعددها، هل ترى أن إستلهام أو الإشارة الى بيئتك الثانية هو مجرد تثاقف وإستعراض، أم هو فعلاً نتاج تجربة روحية وعملية أثرت في حياتك وأردت أن تنقلها بشكل عفوي ؟
    هي فعلاً إشكالية حقيقية، والدليل إن مئات المبدعين قد هزمهم المنفى أو المكان الجديد، مئات كانوا مشاركين فعالين في الثقافة العراقية، ولكن وصولهم لبلدان اللجوء والهجرة، سلب منهم هذه الفعالية، وعلى العكس من هؤلاء، الفئة التي أنتمي إليها، حيث آمنت إن "بلدي الجديد" أما أن يكون مقبرة لطموحي الثقافي، أو أن يتحول الى محطة إنطلاق لهذا الطموح.
    إيماني بأن الحفاظ على عراقيتي لم يكن يتنافى أبداً مع دعوتي لتزاوج الثقافات، إذ إنني إبن ثقافة مختلطة متزاوجة، وإنغمست بفاعلية في الوسط الثقافي النيوزلندي، دون أن أنسى مساهمتي في الوسط الثقافي العربي، من خلال نشري في وسائل الإعلام الناطقة بالعربية في العالم العربي وفي المهاجر.
    لم أكتب قصيدة أو مقطعاً واحداً عن نيوزلندا حال وصولي أليها، بل إن المتتبع لما كتبت سوف يلمس إن السنوات الاولى كانت تجربة مريرة فيها الحنين الجارف، وهي نتيجة طبيعية لعدم تأقلمي مع المكان الجديد، ولكن بفعل ما كانت تحققه مشاركاتي الشعرية نشراً وأماسيَ، وتوطد علاقاتي بالوسط الثقافي، الأمر الذي أسس لي عالماً خاصاً، بكل ما يحويه من صداقات وذكريات، بدأ يشعرني بعلاقة مع المكان بل مع تاريخ نيوزلندا نفسه، بما في ذلك أساطيرها الماورية، وهنا أصبحت مفردات نيوزلندية خاصة تتسلل الى نصوصي، مثل الالهة الماوْرية والأمكنة ورموز أخرى مثل طائر الكيوي، وشجرة البوهوتوكاوا، وإوي وغير ذلك، وتجدها واضحة في "هنا حماقات هناك...هناك تبختر هنا"و"شيء ما عنك..شيء ما عني"و"أنا ثانيةً".
    إذا كنت قد إحتجت الى أكثر من خمس سنوات لكي أزاوج بين ثقافتي والثقافة النيوزلندية، فاليابان لم تأخذ مني سوى بضعة أشهر، حتى كانت أول قصيدة لي وهي "الساموراي"، ربما لأن هيروشيما هي أول مدينة أختارها، ولم أجبر على العيش فيها.
    في أحد مهرجانات الشعر النيوزلندية، التي اشتركت فيها، عجبت لشاعر ضيف، قرأ قصيدة عن المدينة التي أُقيمَ فيها مهرجان الشعر، وهو لم يمض أكثر من ثلاثة أيام فيها وفي البلد ككل، شخصياً أعيش تجربة روحية وحياتية مع كل مدينة أو ثقافة أو موضوع أكتب عنه، حتى قصيدتي "هيروشيما ومُدُن أخرى" التي صدرتها بعبارة "لمناسبة هيروشيما، ناغازاكي، كيوتا، كوبه ونارا"، كانت في غالبيتها عن هيروشيما، التي أخذت مساحة تزيد عن تسعين بالمئة من القصيدة.
    أما قصائد مثل "قلعة هيروشيما، تلاميذ هُندوري، متحف السلام في هيروشيما" وغيرها فقد كتبت عن تجربة روحية وحياتية عشتها في هذه الأماكن الثلاثة، إذ إن هُندوري هو سوق مُسَقّف يشبه أسواق العراق القديمة، وكتبتها بعد عامين وثلاثة أشهر من وجودي في هيروشيما، والسوق لا يبعد عن بيتي سوى 18 دقيقة مشياً على الأقدام.
    الشعر الذي يفقد تلقائيته يتحول الى صنعة فقط، وهذا هو شعر العلماء كما اصطلح عليه نقادنا القدامى، وأظن إن القارئ المحترف يفرق بين الإستعراض وبين العفوية في العمل الإبداعي.

    س24: هناك شجن خاص يقترب من القنوط أحياناً في نصوصك، هل للبيئة التي نشأت فيها وعلاقتك الأسرية أثر في هذا البوح الساخن؟
    كربلاء التي ولدت وعشت وأهلي بها غنية عن التعريف، فهي مملكة الدموع بحقّ، وحياتي مثل حيوات ملايين العراقيين، ممن شاء حظهم العاثر أن يولدوا أو يعيشوا في زمن العنف، وصعود الروح البدوية للتسلط على مقدرات المدينة، لا أحد له أن يفهم ما عانيناه إلا من عاش جحيمنا، نحن الناجين من المحرقة، من دوامة العنف، من أكلة لحوم البشر، كيف نكتب عما عشناه، نحن أحفاد ذلك الشاعر العراقي الذي وقف يرثي البلاد قبل عدة آلاف من السنين، حين كتب لنا "لقد نفتنا الآلهة" نعم نفتنا الالهة، وأرض سومر وأكد وبابل وآشور ما زالت تلعق جراحها وما زال البدو يحكمون، فليس أمامنا الا الشجن الذي يقترب من القنوط، العراق ضحية تاريخه وجغرافيته، ضحية بداوتين سهلية وجبلية تَنقَضّانِ عليه، وإنْ كانت ميزته إنه رغم ما يعاني منهما، ولكنه يروضهما ويصهرهما في بوتقته الحضارية، لأنه أرض العبقرية حسب الكاتب غالب الشابندر، ولكن ما أن يتسلق الوهن إليه حتى تعود دورة العنف مرة أخرى ويكون محرقة لأبنائه، بسبب موجات البداوة التي تجتاحه من صحرائه وجباله.

    س25: البعض يصمك بإنتفاخ أنوي، هل ترى الشعر يحتاج الى هذه النرجسية والأنوية؟

    لم أكن يوماً نرجسياً، بل أنا من يلوم ويشفق على ذوي الأنا المنتفخة، وإن كان البعض فسرَ كثرة ترداد مفردة "أنا" ابتداءاً من أول قصيدة في ديواني الأول "أشدّ الهديل" والتي عنوانها "رمادكِ ياأناي تعويذة " وليس إنتهاء بعنوان ديواني الثالث "أنا ثانية " فهو في حقيقته نقيض للأنا المنتفخة، "وها أنت حولت الحوار الى بوحٍ "، إنه الضعف الانسانيّ، وقلق الأنا المربك.الإكثار من إستخدام مفردة "أنا" لا تعني بالضرورة إنتفاخها أو نرجسية عالية، بل شخصياً أراها العكس، خصوصاً حين لا يرافق هذا الإستخدام، تبجح وإستعلاء على الآخرين، ووهم وداء العظمة الذي يستفحل في السلوك اليومي.
    الأنا هنا صرخة منكسر، يواجه الظلام أعزلَ إلا من أناه.

    س26: هناك فجوة ماثلة في المشهد الشعري العراقي تحديداً، بين ما أصطلح عليه بالأجيال، فالستينيون يرون إنهم البداية والنهاية وكذا السبعينيون والثمانينيون والتسعينيون؟ هل هذه قطيعة معرفية صحية، أم هو الداء العضال الذي أصاب المجتمع العراقي بتكرار البدايات وأنتقل الى حقل الإبداع؟
    التنوع والإختلاف، التجاوز والمنافسة، إلغاء الآخر أثناء الكتابة فقط، والقطيعة المعرفية، كلها تحمل الوجهين، فحين يتم الإستخدام الأمثل لها، تكون ثراءً للمشهد الشعري العراقي، ولكن حين تتحول الى مماحكات إجتماعية، والإلغاء يتعدى لحظة الكتابة بل إنه يبتعد عن لحظة الكتابة الى سلوك إجتماعي للآخر، فهو الداء العضال، ومما يؤسف له إن الكثيرين أدخلوا الوجه الساذج والمتخلف والسلبي والسطحي لهذه المفردات أو المصطلحات، وصار تهميش الآخرين وإلغاؤهم الوسيلة الوحيدة للصعود والبروز والتفوق، وكأنما لا يمكن أن يحقق البعض ذاته الا بالحط من الآخرين إبداعاً وإنسانيةً.
    لا أحد بإمكانه إلغاء الآخر وتهميشه مهما أوتي من قوة، باستثناء قوة الإبداع الخلاّق، وما حدث هو تراكم معرفي وشعري، كلنا استفدنا منه، ولا يمكن أن نغفل عشرات الأسماء الشعرية المهمة التي ظهرت في العراق بعد تأسيس الجمهورية، وهؤلاء في غالبيتهم العظمى ممن ولد بعد عام 1948م.
    الإبداع الحقيقي بقدر ما هو إبن الزمكان، بقدر ما هو خارج نطاقهما، ومَن يرى إنهم البداية والنهاية، إنما هم أوفياء لمراهقة ثقافية.
    قلت في موضع آخر من هذا الحوار، إن العشائرية والريفية اللتين أصيب بهما المجتمع العراقي، لم ينجُ منهما الوسط الثقافي العراقي، حيث ألقتا بظلالهما الكئيبة عليه، وهو ما جعل ما يسمى بالأجيال تلغي من سبقها ومن أتى بعدها.

    س27: اللغة بوصفها وعاء للمقدس المسكوب في أوعية أدمغة كما الأواني المستطرقة، أو اللغة التداولية والإستعمالية والنفعية؟ أو اللغة العلة والمعلول معاً؟ أو اللغة بوصفها الغاية والوسيلة معاً، اللغة كأداة لفضّ الإشتباك بين العقل ومنطقه وبين الشارع وجهله؟ كيف رأيت حاجتنا الى لسان آخر للتعبير عن أنفسنا في ظل محيط لا أثر ماثل به للغتك؟
    يجب التفريق بين اللغة الأم واللغة الأولى، حيث يُخلط كثيراً بينهما، فقد تكون اللغة الأم هي الأولى أيضاً كما في حالة الناطقين بالعربية في البلدان الناطقة بالعربية، بينما نجد إن غير الناطقين بالعربية في هذه البلدان، تكون العربية أما لغةً أولى أو وفي حالات قليلة ثانية، ومثالنا هم بعض جماعة كركوك، الذين أبدعوا بالعربية رغم إنها ليست اللغة الأم بل هي لغتهم الأولى، كما ان هناك الكثير من النماذج في البلدان الأخرى الناطقة بالعربية.
    وفي الجانب الآخر نجد إن هناك أدباء، نتيجة للاحتلال الفرنسي مثلاً كتبوا بلغة فرنسية وأبدعوا فيها، ومنهم من كان يعتبر نفسه منفياً في اللغة التي يكتب بها، وبكل تأكيد لا يمكن أن يردد هذا الكلام غير الناطق بالعربية في العراق وبلاد الشام، حين يكتب باللغة العربية، لأن الوضع يختلف تماماً، وهنا سوف أستشهد بما نقلته لنا كتب التاريخ والتراث، لأن له دلالة بالغة تؤكد ما أذهب إليه، وهي "إن مَرامر بن مرَّة، وأسلم بن جَدْرة، وهما من أهل الأنبار. وقيل: أول من كتب بالعربية حرب بن أمية بن عبد شمس، تعلَّم من أهل الحيرة، وتعلَّم أهل الحيرة من أهل الأنبار.." وهو ما يذهب اليه الإمام الشعبيّ وأما إبن دريد في أماليه فيقول"عن عوانة قال: أول من كتب بخطِّنا هذا وهو الجزم مَرامر بن مرَّة وأسلم بن جَدْرة الطائيان، ثم علَّموه أهل الأنبار، فتعلَّمه بشر بن عبد الملك أخو أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة الجندل، وخرج إلى مكة فتزوج الصهباء بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان، فعلَّم جماعةً من أهل مكة، فلذلك كَثُرَ من يكتب بمكة..." وللعلم فأن دومة الجندل وهي تقع اليوم شمال المملكة العربية السعودية، وقد ذكرتها المصادر الآشورية في القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد تحت اسم أدوماتو أو أدمو، وفيها موقع التحكيم بين الامام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
    مما تقدم نستشف أن اللغة العربية إبنة بارة لمنطقة الهلال الخصيب، وقد أبدعت فيها كل مكونات الهلال الخصيب حتى إن الشعر الهلال خصيبي المكتوب بالعربية من وجهة نظري هو الأغزر والأهم فيما دُوّنَ بالعربية من شعر، وليس إعتباطاً أن نجد معظم حركات التجديد في الشعرية العربية ـ إن لم تكن كلها ـ خرجت من منطقة الهلال الخصيب، بما في ذلك الموشح الذي لأبي نؤاس وغيره تجارب فيه، وليس مروراً بالبند وقصيدة التفعيلة والقصيدة الحرة وقصيدة النثر، بل إن النص المفتوح الذي يعتبر الشاعر فاضل العزاوي أول من مارسه ربما في العالم كله وليس على مستوى اللغة العربية، وكذلك نصوص الأديبة لطفية الدليمي المفتوحة والتي ابتدأت مع نص موسم الماء، وتم نشره في مجلة الأقلام عام 1978، ولكن مع شديد الأسف لم يتم الإحتفاء بهما كعادتنا نحن العراقيين في عدم الإحتفاء بمبدعينا إلا بعد الموت ربما، على عكس إحتفائنا بالبعيد والغريب، ودور مجلة شعر البيروتية، ومجلات أخرى في العراق وبقية مناطق الهلال الخصيب، ودور سعدي يوسف في كتابة قصيدة تعتمد لغة النثر مرجعاً ونسقاً لها، وما أنجزه سركون بولص في القصيدة الشَرَكية التي أشرت لها في موضع آخر من هذا الحوار، والقصيدة المدورة، وتجارب شعراء رائعين لايمكن حصرهم جميعاً في هذا الحوار.
    أما الآن وقد امتلأت المنافي بأدباء العالم العربي، وإنفتحت أمامهم آفاقٌ رحبة، فتعلم اللغة لابد منه لأنه الخطوة الأولى للاندماج بالمجتمع الجديد، وأنا شخصياً من المؤمنين إن الفرد أو الجماعة مهما كانت خلفياتهم الثقافية عليهم الإندماج بمجتمعهم إن كانوا أقلية في وطنهم الأم أو كانوا في وطن جديد هاجروا إليه، والإندماج لا يعني الذوبان ونسيان ثقافتهم ولكن أن تعتبر هذا المجتمع مجتمعاً لك، وتعتز به وبتنوعه، وألاّ تشعر بلغته الرسمية على أنها لغة غازية وتعلمها يعني نفياً لنا، بل هي لغة وطنية شقيقة للغتنا الأم.

    س28: يذهب خزعل الماجدي الى أنه من الأوائل الذين كتبوا النص المفتوح في ديوانه خزائيل، فكيف يتفق هذا وزعمك إن فاضل العزاوي ولطفية الدليمي هما من رواد النص المفتوح؟

    نعم هو من الأوائل، والرجل لم يدع أنه أولَ مَن كتب النص المفتوح، وبهذا لا يتناقض وما ذكرته أعلاه بخصوص فاضل العزاوي ولطفية الدليمي، ورغم هذا فالثلاثة أحياء يرزقون، كما إن نتاجاتهم وتاريخ نشرها متوفرة، وليست بعيدة عن أي باحث، وهو لا يقلل من منجز الشاعر خزعل الماجدي، الذي نفسه لا يمكن له أن يغفل منجزات الآخرين، ومنهم المصري أدور الخراط الذي كتب النص المفتوح في ثمانينات القرن العشرين، وديوان خزائيل، محصلة طبيعية لتطور كتابة النص المفتوح، ولهذا جاء النص المفتوح لدى خزعل أقرب للشعر منه للسرد، عكس فاضل العزاوي.

    س29: القراءة هي إحدى أهم مكونات الكائن البشري وهي بعد الذاكرة، تقع في الخندق المتقدم لحصانة العقل وزينة الرؤية، بل إنها الفعل الحتمي لإنتصاب الإنسان عقليا بعد أن حرره العقل من التقوس والإنحناء بيولوجياً كما يقال "العمل خالق الإنسان ومحرره، وهو الكفيل بإنتقاله من مرحلة القردية الى الإنسانية؟ ولو اختلفنا على مراحل تطور الإنسان وإنتصاب قامته، وما دور العمل في ذاك، فهل لك أن تقصّ علينا حكايتك مع القراءة، ودورها في إنتصاب الكائن الإنساني والإبداعي فيك؟

    القراءة هواية وحاجة وسلوك، ومثلما وجدت نفسي أعشق الشعر وأكتبه وأنا في الابتدائية، كذلك وجدتني أقرأ بِنَهْمٍ كل ما يقع تحت نظري، وما زلت أتذكر كيف كنت أغتنم فرصة، إرسالي لشراء جريدة "طريق الشعب" فأقضي طريق العودة للمحل الذي كنت أعمل فيه، قارئاً الجريدة، وكم إصطدمت بالناس، والإشياء أثناء ذلك، وشكراً للحظ الذي أسعفني، برب عمل ليس صديق والدي فقط وإنما كان الرجل يرسلني في الوقت الذي يزوره أصدقاؤه، مما يعني إنه ينهمك بالحديث معهم وهذه فرصة لي، آمنتني من عقابٍ بسبب التأخير.
    وأما جاري الذي التهمته حرب السنوات الثمانِي فصوته الغاضب مزمجراً لم تمحه الأعوام رغم مرور أكثر من ثلاثين عاماً ربما، بعد أن ساعدني في الحصول على كتابٍ كان يتهادى وسط النهر، فابتلّ هو كما الكتاب، مطلقاً دعاءه الذي يعبر عن وضع سياسي مأزوم في البلاد خصوصاً وكنت لا أترك ورقة في الارض إلا وحملتها متفحصاً ما تحوي " يارب في يوم تلتقط منشوراً شيوعياً وتُمسك، لكي تترك هذه العادة للأبد".
    ولي مع القراءة والكتاب الكثير من النوادر، مثلاً كنت أذهب إسبوعياً لبغداد منتصف ثمانينات القرن العشرين، حاملاً ما تجمع في ثلاث محال للتصوير الفوتوغرافيّ، من طلبات تكبير بحجوم غير متوفرة لدينا، وكانوا يمنحونني مبلغ خمسة دنانير، ثمن الرحلة ووجبة طعام، وكنت غالباً ما اقضي وقتاً في مكتبات شارع السعدون، وأقتني بعض الكتب، وأحياناً بعض المجلات الأدبية التي لا تصل لكربلاء لأنها مستوردة أصلاً بكميات قليلة، وفي يوم صرفتُ كل ما معي من مالٍ على الكتب، معللاً النفس، إن أجرة الطريق تكفي ولست بحاجة لطعام أو شراب، وما هي إلا ساعتان وأصل إلى البيت وبعد الأكل والشرب يصبح الجوع والعطش ماضياً بينما الكتب تبقى، ولكني عانيت من جفاف وجوع أربكني لدرجة أنه قبل وصولي للبيت بعدة مئات من الأمتار، شاهدني أحد الأصدقاء فظن إني أسرفت في احتساء الخمر، ولم يخفف قوة الصداع والوهن شيء ما طوال اليوم.
    منذ البداية كنت أنوّع قراءاتي، ولم أقرأ الإبداع فقط كالشعر والقصة والرواية والمسرحية بل قرأت الكتب الدينية إسلامية ومسيحية وبعض الشيء عن اليهودية، إضافة الى التاريخ والفلسفة والميثولوجيا.
    تتبعي لمرجعيات الشعراء والأدباء الذين احببتهم كما أسلفت في موضع سابق من الحوار، نفعني كثيراً في تنوع قراءاتي، كذلك كنت وما زلت حين اقرأ كتاباً جيداً أحاول قدر الإمكان الحصول على بعض مصادره المعتمدة.
    أحببت التاريخ منذ طفولتي، ولم أجد يوماً صعوبة في حصصه المدرسية، وأؤمن إنه أُس المعرفة، وقد لاحظت وجوده في كل مكان، فلا وجود لمن دَرَسَ الشعر والأدب عموماً وكل أنواع الفنون والعلوم إن لم يدرس شيئاً عن تاريخها.
    هناك مجموعة كبيرة من الكتب التي تعد دراسات علمية وليست سرداً تاريخياً، كما في مقدمة في تاريخ الحضارات، والحياة اليومية في بابل وآشور، ولمحات اجتماعية، والعراق الطبقات الاجتماعية، ومشكلة الموصل، المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، والكرد لباسيلي نيكيتين، علما إن أغلب هذه الكتب لا تخلو من الأدب والميثولوجيا وغير ذلك.
    ولو أخذنا مشروع محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" ونقد جورج طرابيشي له، سوف نجد التاريخ والفلسفة والأدب واللغة والدين، جنباً الى جنب، في عملين مهمين رغم الكثير من تحفظاتي على عمل الجابري، بينما أجد إن جورج طرابيشي قد كتب كتاب عمره في نقد نقد العقل العربي، هذا السِفر الذي علمني الكثير مع ما قرأت لطه باقر وعلي جواد الطاهر وجواد علي وعلي الوردي وعباس العزاوي وعبدالرزاق الحسني ومحمد الحسين كاشف الغطاء وعبدالجبار عباس وحاتم الصكر وعبدالجبار داود البصري وفاضل ثامر ومحمد مبارك ورضا الطيار وطراد الكبيسي وفاضل حسين وسيار الجميل ورشيد الخيون ومحمد الجزائري وطه حسين ونصر حامد ابوزيد وسيد محمود القمني ومحمد جواد مغنية ومحمد حسين فضل الله وخليل عبدالكريم وأبكار السقاف وكمال أبو ديب وحسين مروة وهادي العلوي وأسد حيدر وعشرات آخرين من النقاد والمؤرخين والمترجمين والباحثين عرباً وغير عرب.
    أول عهدي بالقراءة كان الشعر القديم بكل عصوره، وأذهلني طرفة بن العبد بمعلقته وسيرته وكذلك الأعشى ووفاء أصدقائه له، من العباسيين ثلاثة كانوا الأثيرين الى نفسي شعراً وثقافة وهم "أبو نؤاس، المتنبي، المعري"، التقطت من السياب ترداده لحلمه بقراءة الفلسفة التي أعتبرها مشروعه، ومن الجواهري تصريحه إنه يقرأ كل ما يقع تحت ناظره من الكتب المترجمة، أحببت المعتزلة كثيراً وأراهم العقل المفكر في حضارتنا، لو قدر لهم الإستمرار والتطور لما وصلنا الى ما نحن فيه من إنتكاسة، تعاطفت لفترة طويلة مع القرامطة، بينما المتصوفة سلبوا لُبّي بنصوصهم.
    جماعة كركوك أقرب إليّ من جماعة شعر، وكان الجواهري والسياب والبياتي وسعدي يوسف وبلند الحيدري وحسين مردان وأدونيس وحسب الشيخ جعفر ويوسف الصائغ وعيسى حسن الياسري ومئات الشعراء الاخرين ممن ظهروا بين نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب العراقية الايرانية، قد شكلوا وعيي، وإن لم يبق من غالبيتهم سوى حقيقة إني قرأت لهم في يوم ما، ولكني لا أنكر دورهم، مثلما لا أنكر إن منهم من ما تزال بعض نصوصه مشعة في الذاكرة بشعريتها العالية.
    لفترة قصيرة تعاطفت مع شعر المقاومة، ولكن إستنساخ بعضهم بعضاً وخطابيتهم وقاموسهم الضيق، ولعدم كتابة أي من شعرائها للقصيدة التي تتفق وفهمي للشعر، فقد اعتبرت تلك الفترة على قصرها هي نزوة لا غير.
    قرأت كثيراً من الأدب المترجم، إضافة الى عشرات الكتب المترجمة في النقد والفلسفة والتاريخ والمعتقدات والميثولوجيا ..إلخ، وأحببتُ الأرض اليباب ل تِ أس إليوت، بشكل خاص، مثلما أحببت الكثير مما دونه يسينين والكسندر بلوك ورامبو وبودلير وأراغون وسان جون بيرس ووالت وايتمان وناظم حكمت ولوركا وبابلو نيرودا وكافافي وريتسوس وجاك بريفير وإيلوار وأبولينير وسواهم.
    وإذا كان كتاب الشاعرة نازك الملائكة "قضايا الشعر المعاصر" أول كتاب نقدي وتنظيري للشعر الحديث أقرأه، وكنت في المتوسطة، فقد توالت الكتب النقدية لنقاد عراقيين وعرب، وكذلك مجموعة من الكتب المترجمة من لغات عالمية عديدة.
    ديوان السياب هو أول ديوان أقرأه كاملاً وذلك عندما كنت في السابعة عشر من عمري، مع مجموعة من الكتب النقدية عنه لعبدالجبار داود البصري وعيسى بلاطة وعبدالجبار عباس وحسن توفيق، وما وقع تحت يدي من دراسات على شكل فصول في كتب أخرى ـو في مجلات أدبية، أي بمعنى قراءة منجز الشاعر وبعدها مباشرة قراءة كل ما كتب عن الشاعر وتوصلتُ إليه.
    من الأمور التي تعلمتها من أساتذتي المباشرين وغير المباشرين، أعني من درّسَني فعلاً أو أشرف على كتاباتي الأولى، وغير المباشرين ممن قرأت كتبهم، إن الكتابة مسؤولية كبرى، وكل كلمة تحسب على كاتبها، الكتابة عملٌ خلاقٌ وأخلاقي، والقراءة لا تقل مسؤولية عنها، لأن القراءة الصحيحة هي عملية خلْقٍ أخرى، وهذا ما خَلَقَ لديّ ذائقة نقدية صارمة في القراءة والكتابة معاً.

    س30: في الوسط الادبي دائماً يشاع عن فلان بأنه صعلوك، ومن الصعلوك تندرج تصانيف تقترب حيناً وتبتعد أحياناً من التوصيف الحقيقي لمفردة صعلوك قاموسياً وواقعياً. لفت نظري أنك مستعد لسرقة كتاب وتصفها "بأنبل السرقات" فهل هذا إقتراب من الصعاليك، أم تعكز على ما فشلت أن تكونه في الحياة والادب؟
    لا أظن إن في وسطنا الأدبي صعاليك بالمعنى الدقيق للكلمة، وإنما غالبيتهم أو غالبية سلوكهم، سلوك مدمنين وشحاذين، وقد استفادوا من المطاطية التي يتمتع بها مصطلح الصعلكة كما جميع المصطلحات، وانحدروا في سلوكهم وأخلاقياتهم.
    ولهذا السرقة حادثة عابرة ما زالت عالقة في بالي، وقصتها إني ذهبت الى معرض بغداد الدولي للكتاب منتصف الثمانينات، وقد إخترت حوالي خمسة عشر كتاباً جلها في النقد، ووقفت منتظراً دوري لكي أدفع، وخلفي كان شابٌ يكبرني بحوالي عشر سنوات (هو الشاعر أردال حسن إسماعيل)، سألني ماذا إخترت فأريته ورحنا نتحدث، وإذا بموظف الدفع، يعلن إنها فترة غدائه، وأغلق المكتب، فاحترنا حقيقة، كانت إحدى بوابات المعرض بقربنا، وسألت موظفة ما أين أذهب، فإذا بها تقول من هنا وأشارت الى البوابة، مع كلمات لعن للمعرض وللقائمين عليه، فقال الشاعر أردال حسن إسماعيل، هيا بنا، ومن الطريف لم يفتشنا أحد، وخرجنا، كانت هذه أكبر صفقة لي، هذه هي سرقتي الكبرى.
    لكني مثلي مثل غالبية المهتمين بالقراءة,طالما دخلت مكتباتنا الخاصة كتبٌ لأصدقاء نسيناها أو انهم سافروا، أو حدث إنهم لم يرجعوا ما استعاروه فبقي ما استعرته منهم في مكتبتي.
    ولقد أضعت كتباً كثيرة، بل إنني مرة شاهدت كتاباً يباع في السوق، وحين تصفحته قرأت إسمي عليه وتاريخ الإقتناء، ومازلت أتذكر كتباً استعارها الأصدقاء ولم يرجعوها.

    س31: يقول الفيسوف الألماني فريدريك نيتشة: "كثير من الناس يفشل في أن يكون مفكراً أصيلاً وذلك لأن ذاكرته متفوقة".ما دور الذاكرة في حياة الشاعر إنساناً ومبدعاً؟ وما دور مرجعياتك الفكرية والحياتية في تشذيب شجرة الشعر لديك، وتسميدها بما هو صالح للبقاء والنمو؟
    عندما كنت في المتوسطة قرأت ديوان أبي نؤاس وحياته، ومما تعلمته من هذا الشاعر، جملة قالها له أستاذه بعد أن حفظ لعدد كبير من الشعراء وقرأ بكل تأكيد عشرات المرات أضعاف ما قرأ، "انسَ ما حفظت" هذه الجملة لا تعني أن تلغي ثقافتك، بل إنه حين تكتب عليك أن تكون أنت لا سواك.
    الذاكرة جد مهمة لكل شاعر كما لغيره، فآفة العلماء النسيان كما جاء في الأثر، وتنقسم الى قسمين، ذاكرة متلقية فقط أو ببغائية، تهلك صاحبها، لأنها ترسل له جملاً ونصوصاً ومصطلحاتٍ كلما تكلم أو كتب، ولهذا لا نجد له شخصية إبداعية خلاقة في كتابته أو حديثه.
    فلا تخلو جملة أو فقرة من إستشهاد بالآخرين لدرجة اننا نلاحظ بكل سهولة أنه لا يستطيع أن يربط كلامه إلا بمقولات الاخرين، وهو حتى لو كتب عن التراث أو عن شاعر ما قبل الإسلام، فلا بد للمصطلحات الغربية وجمل نقاد وفلاسفة الغرب أن تتسللَ الى كتابته.
    وذاكرة هاضمة أو منتجة، وهي التي لا تخزن لكي تجتر، وإنما تهضم وتتفاعل فيها كل القراءات، والمشاهدات والتجارب والإنصات والأحلام، لتنتج نصاً إبداعياً لا يشبه سوى منتجهِ.
    الشاعر الذي لا يملك ذاكرةً حيويةً، لن يتمكن من كتابة نصوص خلاّقة، وسوف يبقى يدور في فلك الآخرين، أو على الأقل يبقى في الهامش السلبي، لأن الهامش الإيجابي معناه التغريد خارج السرب مما يلفت الانظار إليك.

    س32: أعني هل مارست عملياً قطيعة معرفية مع ما سبق، أم إنك إمتداد للآخرين؟

    القطيعة المعرفية، عمل وإنجاز جماعي، تتوضح صورتها ببطء من خلال تراكم إبداعي يصرّ على التجاوز، وتتفاوت خطوات التجاوز من شاعر الى آخر.
    أحاول مثلي مثل عشرات الشعراء الآخرين، ممن أصبحت الحداثة همهم الأول، أن نخلق قطيعة معرفية مع ما سبق، وبكل تأكيد لكل مفهومه للقطيعة، وشخصياً أفهمها على أنها تَمَثلٌ وهضم للمنجز الشعري ككل، ومحاولة تجاوزه، لخلق نسق شعري بقدر ما هو إمتداد بقدر ما هو تجديد في البنى الإسلوبية، وماهية الشعر.هي تراكم إيجابي وليس تراكماً إنشائياً. لا أجرؤ على القول إني مارست قطيعة معرفية مع ما سبق، فهذا ادعاء لستُ من أهله، والحكم فيه للقراء.

    س33: لقد مرّ الشعر العربي بمراحل تطور متعددة بدءا من شعر العمود الذي إمتد عمر إنتاجه من معلقات العصر الجاهلي ومروراً بكل جهود الشعراء أفرادا وجماعات في التجديد في المشرق العربي ومغربه وفي الأندلس كما جاء في الموشحات، وعبر جهود المبدعين الكبار كأبي نؤاس وبشار بن برد وأبي تمام والمتنبي وأبي العلاء المعري وغيرهم. الى أواخر القرن التاسع عشر بظهور محاولات جديدة في صياغة الشعر بشكل التفعيلة، والخروج من أصفاد البيت العربي القديم بتفعيلات شطره وعجزه المكررة وحرف الروي الى فضاء ابتدأ بمحاولا ت خجولة كمحاولات علي أحمد باكثير وجماعة أبولو والمهجريين، حتى وصولها الى فضاء تعبيري أرحب على يد السياب ونازك أولا ثم جاء البياتي وبلند الحيدري ومحمود البريكان، وغيرهم من شعراء العربية في مختلف الأقطار والأمصار، وفي ستينيات القرن العشرين بدأت شرارة التحرر الفعلي من الوزن والقافية، وجاء الوليد الجديد المختلف على توصيفه وشرعيته في إكتساب البنوة لآلهة الشعر العربية وأعني ما سمي بقصيدة النثر وصولاً الى المقترحات المتعددة في كتابة الشعر كالنص المفتوح والومضة ...إلخ ؟ أنت شاعر نثر أي أنك تستخدم حرية النثر لكتابة الشعر، كيف تنظر الى إشكاليات وجود عدة أنماط للبوح الشعري وهل تعدها ظاهرة إبداع طبيعية أم هي تنكر لسيرة السلف الصالح ونتاجهم العقلي والأدبي ؟
    لا تنكر البتة، وإنما هي محاولات ومشاريع أبداعية خلاّقة تريد أن تضيف للمنجز الثر للشعرية العربية، وتعدد الأنماط والأشكال، إنما تدل على غنىً، فكل تنوع هو ثراء للثقافة.
    التنكر الحقيقي للتراث، بل الإساءة له، حين ننسج على منواله، الاف الصفحات، التي هي عبارة عن إنشاء ممل لكثرة تكراره.
    كثيراً ما تساءلت مع نفسي: "ماذا لو أن جمرة الترجمة زمن المأمون لم يخفت وهجها، واستمرت بالتوهج والتوسع لقرون تلت زمن الإنطلاقة الكبرى" حتماً كنا سنجد كل شيء في نسقنا الثقافي مختلفاً جداً، ولكان من المضحك النقاش بخصوص قصيدة النثر كما يطلق عليها، هل هي ضمن الشعر أم لا.
    التنوع في الكتابة الشعرية، دليل عافية الخطاب الشعري، وإن كان أغلب ما يكتب هو مجرد إنشاء، لا أجد فيه شعراً ولو بنسبة ضئيلة، ولكن لابد من التنوع، لأنه الظاهرة الصحية والطبيعية لهذا التاريخ الشعري الطويل الذي تحفل به اللغة العربية.
    أن يرى البعض استخدام حرية النثر لكتابة الشعر، أو تعدد أنواع الكتابة الشعرية، مروقاً وتنكراً لسيرة السلف الصالح، فهذا شيء طبيعي، ولكن مسيرة التطور البشري هي التي تقول كلمتها في النهاية، لأن هذه المسيرة ماضية في طريقها، ولن تلتفت للوراء، وما الإعتراضات الا لصعوبة هضم الجديد والغريب، والإستئناس بما تعودت عليه الذائقة وألفته الأذن، وأما الإتهامات ضد دعاة التجديد وحاملي لواء الحداثة، التي تأخذ أحياناً مع شديد الأسف سمة دينية فهي نتيجة لضعف منجز مدعيها أمام ما يحققه الشعر الحديث بانواعه؛ التفعيلة والحر وقصيدة النثر والنص المفتوح وقصيدة الومضة..الخ من تَسّيد للمشهد الشعري المكتوب بالعربية.
    بفضل هذا التنوع والإنفتاح على ثقافات اللغات الأخرى، أصبح لدينا في القرن العشرين من الشعراء الكبار ما لم نحظَ به خلال قرون طويلة، فان كان القرن التاسع عشر أعطى فرنسا شعراءَ كباراً يتجاوز عددهم العشرة، مثل بودلير، رامبو، لوتريامون، مالارميه، فيكتور هيغو، والفريد دوموسيه، ولامارتين، فان القرن الذي تلاه أعطى اللغة العربية أضعاف هؤلاء عدداً، نعم التنوع الكتابي والحداثة من خلال الإنفتاح على تجارب أخرى منحتنا عدداً كبيراً من الشعراء المهمين، فوجود أكثر من عشرين أو ثلاثين شاعراً مهماً، ليس بالأمر الهَيّن، بل هو معجزة حقيقية، عدا عشرات الشعراء الذين تنمو الآن تجاربهم ومواهبهم ربما خلال العشرين سنة القادمة تنضج تماماً حلقاتهم الإبداعية.

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 16, 2024 7:26 pm