انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (6-6)

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (6-6) Empty الشاعر وديع شامخ يحاور باسم فرات (حوار في كتاب تقديم الدكتور حاتم الصكر) (6-6)

    مُساهمة  Admin الخميس أكتوبر 28, 2010 11:28 pm

    ثرثرة فوق جثة الموت . . .
    حوار لـ" سركون بولص" لمناسبة رحيله الى مدينة أين .
    مهاد


    بعد أن إنحسرت مياه الطوفان ... طار الرجل الساكن في سفينة نوح الى" مدينة أين" .. طالبا النوم الأبدي والعميق بعد رحلة زمنية تجاوزت ستة عقود بقليل. مرّ خلالها بقار المدن ونفطها .. بعبيرها ودهشتها.. من كركوك الى بغداد .. ومن بيروت الى أمريكا .. ومن هناك من برلين كان لابد للموت أن يقف دقيقة حداد على الراهب العراقي .... سركون، الذي رحل في أوانه تماماً كما أرى .. بعد أن طوّق عنقه طائر الشعر وأنهكه نزيف المصائر البشرية وهي تترى الى ذات الجب .. بموت هذا الطائر .. كثر النوح على جنازته، وعلا دويّ الصراخ على "لحافه الدافئ كثيراً". أرادوا أن يمطوا أرجلهم ودموعهم بهذا الكائن الإنساني، الوسيم، الخجول، بهذا الشاعر الذي لم يحتفل بالمراثي ..
    وما بين صادق في الحزن ومجامل وكاتب عزاءات، وما بين سركون ومعنى الإحتفاء بقامته، وما بين حاملي مباخر الموتى دائماً .. أردنا أن نحتفي بسركون بطريقة مختلفة .. باسم فرات وأنا ..
    كانت دموع باسم فرات تنهمر من هيروشيما مشيّعة شاعراً عراقياًً عاش في سان فرانسيسكو ومات في برلين!.
    كنّا على "الماسنجر"، باسم يبكي.. وأنا رفعت كأسَ نبيذٍ أحمرَ يليق بصحة سركون، وثرثرنا على جثة الموت .. وثرثرنا على قامة سركون شعراً وهمسنا بأحاديثه الشخصية .. وقد غرزتُ سنارتي في ذكريات باسم مع سركون، فكنتُ أطارد بوحهما .. وأحتفي بشاعر يستحق الحياة والموت معا .


    س48: شاع في المشهد الثقافي العراقي – وياللأسف ــ طقس تذكّر الموتى من الادباء والشعراء والمثقفين، وليس موت سركون سوى حلقة من هذه المأساة أو الملهاة..لقد قيل الكثير بعد موت الراحل وتبارى الجميع"بدون استثناء "لترسيخ" ثقافة المراثي"! وليس آخرهم سعدي يوسف في شهادته عن سركون الذي يقول عنه ــ الشاعر العراقي الوحيد ــ هل لديك ماتقوله بهذا الخصوص ؟

    هذا هو حالنا، فنحن نتجاهل بعضنا بعضاً بل ربما لانلتفت أو نحارب الآخر ولكن حين يموت يصبح الكل مرتبطاً بصداقة وبذكريات مع الراحل والذي يتحول فجأة الى كبير وفقيد الادب، وأنا واثق أن بعض من كتب عن سركون لم يقرأوه جيداً بل بعضهم كتب إن اسمه الوثني المسيحي يثير الخيال وهناك من قال إن ملبسه وإناقته وعدم جديته المصطنعة في الصور هي ما أثارتهم، ولكن أين سركون من هذا؟ بكل تأكيد لست أعني من يرتبط بعلاقة ثقافية وإجتماعية أو ثقافية فقط مع سركون ولكني أعني من لم يكن يرى فيه سوى شاعر بسيط يقلد الشعر الأنكلوسكسوني عموماً والأمريكي خصوصاً، وكانوا يرددون هذا في حياته وإذا بهم يكتبون عنه بحميمية بعد وفاته ولنترك للقرّاء أن يضعوا مصطلحاً يليق بهؤلاء، وكم كنت أتمنى أن ينتبه النقد لهذا الشاعر ويعطيه حقه في حياته.
    أما عن الشاعر سعدي يوسف فالأمر يختلف هنا، حيث تربطه علاقة حميمة بسركون ولهم ذكريات كثيرة وطالما حدثني سركون عن سعدي الشاعر والإنسان، بحميمية، بل إن أحد مشاريع سركون المستقبلية كانت دراسة عن السياب وسعدي وقد ذكر لي هذا أكثر من مرة وحين أخبرته برأيي بالسياب وسعدي، شعرت بفرحه وعبر لي عن سعادته بلهجته العراقية المحببة ولازمته التي يكررها دائماً: "لا..ما معقول..ما معقول..جميل جميل" وحين أغلقت الهاتف ورحت أستعرض المكالمة وجدت نفسي أردد: "كم أنت عظيم ياسركون فانت تكبرني بربع قرن تقريباً وتركت العراق حين ولادتي وحققتَ منجزاً يغبطك عليه كل شاعر، وحين أخبرك إني أنظر لتجربتيْ السياب وسعدي كما تنظر لهما، تفرح وكأنك أصغر مني سناً، ووجدت فيّ متفقاً مع رأيك وذائقتك، فعلا أنت عميق وعميق جدا ياسركون"، أما إذا كان سعدي وصف سركون بالشاعر العراقي الوحيد، فهذا رأيه الشخصي، وأناً لا أؤمن بالإطلاقات فلا يوجد الشاعر الأوحد وأمير الشعراء وشاعر العرب الأكبر وعميد الادب وعميد المسرح.. الخ، هذه إطلاقات لا تتفق وفهمي للثقافة.

    س49: لاحظنا شهادة مهمة لسركون عن تجربتك الشعرية عبر كتابة كلمة الغلاف لمجموعتك الثالثة "أنا ثانية "، والمعروف أن سركون لم يكتب مثل هذه الشهادة عن شاعر شاب، كيف حصل هذا، هل من إضاءة لعلاقتك بسركون إنسانياً وإبداعياً؟
    ترجع علاقتي بأسد آشور (هكذا كان صحبه ينادونه وبالذات مؤيد الراوي وأنور الغساني)، الى النصف الأول من الثمانينات، حين تعرفت عن طريق الكتب والمجلات الأدبية على جماعة كركوك، وإن قيل رب ضارة نافعة، فهي تنطبق هنا على سوء إدارة الدار الوطنية للنشر والتوزيع، فبفضل سوء توزيعها تنام الكتب والمجلات في مخازنها، وفي معارض الكتب التي كانت تقيمها الدار تستخرج ما في مستودعاتها من كتب ومجلات، وهي التي منحتني الفرصة لإقتناء كتب ومجلات قديمة كانت قد طبعت في السبعينات ومطلع الثمانينات، وهنا تعرفت إلى الشاعر سركون بولص من ضمن جماعة كركوك والتي أراها مجموعة كبيرة العدد ولكن مثلها مثل أي جماعة لايمكن أن يبرز جميع اعضائها، فمنهم من يغيّر مساره ومنهم من يتعبه الطريق، فيفضل أن يكون أباً ناجحاً بمقاييس المجتمع، ومنهم من لا تساعده موهبته لأنها لا تنمو معه، ثم كانت زيارته للعراق عام 1986 إن لم تخني الذاكرة لحضور مهرجان المربد، فكان الراحل حديثنا في كربلاء (الأصدقاء وأنا) مع عتب على زيارته حيث كنّا نرى أن النظام السابق يستفيد من الذين يدعوهم اعلامياً، وهكذا بقيت صلتي به من خلال متابعتي لجماعة كركوك وازداد اهتمامي به في نيوزلندا لسببين، الأول: حين تعرفت على الصديق الشاعر صباح خطاب ووجدت عنده "الأول والتالي"، وإنفرادات الشعر العراقي الجديد"، وكان قد جلبهما معه من باكستان مع كتب أخرى كان قد ارسلها له الشاعر والناشر خالد المعالي، وهذا ما سمح لي أن أكوّن فكرة أفضل عن شعر سركون بولص من خلال هذين الكتابين، والسبب الثاني: هو نتيجة لمشروع قراءتي لتاريخ العراق بكل عصوره وتنوعه اللغوي والديني والمذهبي والمناطقي، مما منحني تفهماً أكثر لإبداع سركون بولص وخلفياته، هذه المعرفة التي إزدادت كثيراً من خلال مكالماتنا الهاتفية التي تجاوزت الثلاثين ساعة، في عامين.

    س50: تكلمت عن الجانب الإبداعي في علاقتك بسركون، هل تتذكر أول مكالمة شخصية معه وما مناسبتها، وما شعورك بهذه المهاتفة؟

    نعم أتذكر... فقد كانت أول مرة هاتفت فيها سركون بولص، يوم الأحد 15 /4/2001 حين اتصلت هاتفياً بالروائي العراقي ومحرر موقع كيكا صموئيل شمعون وكان في برلين، فقال لي بجانبي سركون بولص هل تريد أن تتحدث معه؟ فتحدثنا وشعرت من نبرة كلامه بتواضع جم، وطفولة توضحت عندي أكثر حين بدأت سلسلة اتصالاتنا الهاتفية. ولم أكلّمه حتى خريف 2005 حين زودني صموئيل شمعون مشكوراً برقم هاتفه وعنوانه، وكم كانت مفاجأتي كبيرة حين عرفني مباشرة ولم يكتف بهذا بل كان هو من بادر ذاكراً مكالمتنا الهاتفية الأولى قبل أكثر من أربعة أعوام ونصف، كما وجدته متابعاً جيداً لما ينشر، مما سهّل عليّ أن أسأله عن إمكانية كتابة كلمة لغلاف ديواني "أنا ثانية "وإني سوف أرسله له فإن وجد فيه ما يستحق أن يضع سركون بولص اسمه وكلمته عليه فهذا يسعدني، مؤكداً له إني لا أخلط بين الإجتماعي والشعري، فما كان من الرجل إلا أن قال لي: إنني متابع للساحة الشعرية بشكل جيد وأقرأ للجميع ومتابع لما تنشر، إرسلها يا باسم، وسوف أطّلع عليها، شعرت أنها ليست موافقة نهائية وأن الرجل يريد الإطلاع على المخطوطة لكي يقرر وفعلاً أرسلتها عبر البريد الإفتراضي (الأيميل) وفي ذات اليوم أرسلت له نسخة من "خريف المآذن" ونسخة من المجموعة الانكليزية الأولى "هنا وهناك"، وبعد سبعة أيام هاتفته ــ وكان الوقت عندنا ظهراً وعندهم ليلاً ــ للتأكد من وصول الطرد، ويالها من صدفة جميلة حين أخبرني إن المجموعتين وصلتا اليوم، وإنه قضى يومه هذا مستمتعاً بقراءتهما وأثنى على الترجمة، لا سيما أن معظم نصوص خريف المآذن موجودة في "هنا وهناك" وهذا ما دفعه للمقارنة بين النصين العربي والانكليزي كما قال وشكرني كثيراً، إذ إن وصول "خريف المآذن" ورقياً وقبلها "أنا ثانية " افتراضياً منحته الفرصة للإطلاع على التجربة بشكل جيد وحينها وعدني أنه سوف يكتب، وفي بضعة أيام يرسل لي كلمة الغلاف.
    تصور قامة شعرية كسركون بولص يشكرك قائلا بالحرف الواحد: "أشكرك ..لقد قضيت اليوم كله مستمتعاً بقراءة شعرك"، وإذا عبرت عن إعجابك بشعره يشعر بالإحراج والخجل حتى إني كنت أشعر به من خلال الهاتف، حين أخبرته برأيي في شعره، وأكرره الآن بعد أن غاب عن عالمنا، فأنا أرى فيه قامة شعرية عالمية وشعره الأقرب الى نفسي من الآخرين.

    س51: ما تقديرك لدور جماعة كركوك في المشهد الإبداعي العراقي عامة؟ وما دور سركون بولص تحديدا في حركة التحديث الشعري العراقي، ومن ثم ما تأثيره على تجربتك شخصياً...؟

    جماعة كركوك مهمة عربياً وليس عراقياً فقط، وهي تضّم فعلاً خيرة الأسماء الأدبية عربياً، كما علينا ألا نغفل أن للجماعة دوراً وطنيّاً كبيراً ربما أكبر من دور الكثير من الأحزاب السياسية ألا وهو كونهم الدليل القاطع على أن الأحزاب القومية في العراق بجميع لغاتها ما هي إلا أحزاب شوفينية عنصرية إلغائية، لا سيما تلك التي تدعي أحقيتها بكركوك، بينما كركوك هي عراق مصغر جميل وجماعة كركوك هي البرهان الواقعي والأدبي والعلمي على أن كركوك ليست لأحد، وما كتابتهم بالعربية رغم تنوع خلفياتهم اللغوية إلا التأكيد على ما نذهب إليه، ومما يؤسف له أن السياسيين العراقيين لم ينتبهوا لهذه النقطة لجهلهم بالتاريخ والأدب، أما الأدباء فلجهلهم بالتاريخ.
    بكل تأكيد إن سركون بولص هو أحد أهم مبدعي هذه الجماعة ولقد استطاع أن يُطوّر من إمكانياته الشعرية بالقراءة والسفر والتأمل وسوف أختصر لك دوره بحكاية جرت له شخصياً رواها لي، وهي: حين وصل الى بيروت وفي جلسة ضمّته مع يوسف الخال وأدونيس واخرين قال لأدونيس: "إن في العراق شعراء يقلدونك ولقد اقترحت عليهم بدل أن يتعبوا أنفسهم بالكتابة أن يقصوا قصائدك ويلصقوها على أوراقهم"، انتهى ما أخبرني به سركون، وهذه الحادثة أو الحكاية تدلّ على وعي سركون المُبكر للحداثة، فهو لم يكن صدى لغيره، ولقد حفر بعيداً في تحديث القصيدة الحرة، وأقول القصيدة الحرة ولا أقول قصيدة النثر، لأنه كان يرفض تسمية ما يكتب بقصيدة النثر، ويدعوها بالقصيدة الحرة، هذه القصيدة الخالية من البلاغة العربية وفخامة الجملة، وتحمل أوزانها الخاصة المتحررة من هيمنة أوزان الخليل والتي تستحق أن نطلق عليها "بالشَرَكية"، فهي تنصب الفخاخ لمن لايعي الحداثة وعياً ناضجاً وعميقاً، ولهذا ليس من المستغرب أن ينظر له البعض على أنه مجرّد حكّاء بينما أرى أن دوره من أكبر الأدوار أهمية في فتح آفاق واسعة أمام الحداثة الشعرية العربية، فهو أحد الذين هبطوا بالشعر العربي من أبراجه العاجية وأزال عنه أصباغه الرديئة، فسركون بولص مع قلة قليلة ممن سبقه وجايله ولحقه فتحوا لنا أبواب الحداثة والتجديد ولكنه لم يكن الوحيد والأوحد، حيث لا يوجد في الشعر من يحمل مشعل الحداثة لوحده.

    س52: لم يعط "كافكا" أية أهمية للنقاش الدائر في حقبته حول الشكل الأدبي الذي يجب أن يتخذه الإبداع ... فلم يكتب بأنه يفضل الرواية على القصة القصيرة أو القصة القصيرة على الشعر.. بل كان يكتب وكان يتوقف عندما يرى أن الأسطر التي كتبها كافية، وأن ما مكتوب أمامه أخذ إستقلاليته؛ بمناسبة حديثك عن رفض سركون لمصطلح قصيدة النثر ــ وهو ما يشاركه فيه آخرون كثر وأنا واحد منهم ــ ، تعرضت الى ذكر" القصيدة الشركية" هل لك أن توضح أكثر ما تعنيه بهذا التوصيف الجديد؟

    عنيت بالقصيدة الشَرَكية، هي التي يظنها البعض مجرد حكي وإن كاتبها حكّاء أو حكواتي، ولكنها في الحقيقية عميقة جداً، هي التي تصطاد القارئ وتربكه قبل أن يصطادها، قصيدة خالية من بهرجة البلاغة العربية القديمة ولكنها تصنع بلاغتها كما تصنع موسيقاها وأوزانها الخاصة، وإذا عدنا الى المركز والهامش في ثقافتنا العربية، فهي بكل تأكيد تنتمي للهامش الذي يأبى اللاوعي العربي المرتكز على الفحولة والفروسية وسلسلة النسب أن يهضمه ويتقبله لأنه أي الهامش يخدش المقدس الذي تستند عليه البلاغة العربية. وأول من مَثلَ هذا النموذج هو سعدي يوسف وإن كان سعدي إلتزم أوزان الخليل، ولكن سركون بولص ذهب الى مديات أبعد وأعمق في عالم هذه القصيدة لا سيما أن قصيدته استطاعت إيجاد أوزانها الخاصة، وهي ميزة سركونية كما يذهب الى ذلك كاظم جهاد، ولكن يبقى الإبداع الشعري هو الأهم بغض النظر عن التسميات، وللتذكير فأن القصيدة الشَرَكية تزداد منزلقاتها لأن الكثير من القراء يتصورونها سهلة للغاية والحقيقة عكس هذا، ولقد قرأت لشعراء كثيرين يكتبون بهذه الطريقة ونصوص بعضهم فعلاً تستحق الشفقة ولكن الأدهى إن هؤلاء جميعاً نسبوا الى شعراء اخرين وليس الى سركون بولص، أعني قُدموا على أنهم متأثرون بشاعر اخر أو أكثر غير سركون وأرى ان هذه القصيدة عراقية بامتياز.

    س53: أرى أن تجربة سركون الشعرية تختلف كلياً عن مسارِكَ الشعري في مجموعَتيكَ، كيف تفهم موضوع العلاقة بين شاعر وأخر على مستوى التأثير، وهل أن التشابه الشكلي بينكما بوصفكما تركتما العراق وخضتما غمار المغامرات من بلد الى آخر، أنتَ استوطنت في هيروشيما وسركون في سان فرانسيسكو؟ هل كانت علاقتكما موسومة بهذا التشابه الشكلي فقط؟

    هناك نقاط اختلاف ونقاط التقاء كانت بيننا ..فأنا فعلا أهتم بتجربته كثيراً وأراها واحدة من أهم التجارب الشعرية في اللغة العربية، ولكن بكل تأكيد لي مساري الشعري الخاص، وإهتمامي بتجربته الشعرية لا يعني تقليدي لها، بالإضافة إلى تجربته هناك تجارب شعرية عربية أحترمها كثيراً، أصحاب بعض هذه التجارب ما زال على قيد الحياة، وبعض أصحابها لايكبرونني سناً إلا قليلاً، وغالبيتهم يختلفون معي في مسارهم الشعري، ولكن هناك علاقة تنشأ بين شاعر وآخر بغض النظر عن العمر ولأسباب عديدة لن أتطرق لها ولكني سوف أتحدث عن علاقتي الخاصة بسركون بولص ولماذا قويت هذه العلاقة.
    شخصياً أعزوها الى عدة أسباب منها إيماننا المشترك بأننا ننتمي لأبعد نقطة في تاريخ العراق، وإننا ورثة سومر وأكد وبابل وآشور ونينوى وأربيل وحدياب والحيرة والحضر والأنبار والكوفة والبصرة وواسط وبغداد، وكنت دائماً أردد على مسامعه ما رددته في كل حواراتي ولقاءاتي ونقاشاتي، ألا وهو إننا نحن الناطقين بالعربية (وهي التسمية العلمية كما أراها لمن يطلق عليهم بالعرب) والسريانية خليط من جميع الأقوام التي سكنت المنطقة ولاسيما الهلال الخصيب والعراق خاصة، فكان الراحل الكبير يجد لكلامي هذا صدى في نفسه، فهو قد سبقني بأعوام طويلة بلا شك في هذا التفكير ربما، وفي حوار معه سألته المحاورة عن اللغة العربية ولماذا لم يكتب بلغته الأم الآشورية (وهنا نقطة خلافي معه فأنا لا أومن بوجود لغة آشورية أو كلدانية أو بابلية، لأن العراقيين تكلموا وحسب التسلسل الزمني اللغات السومرية والاكادية والآرامية، وقبل الاسلام كانت السريانية والعربية تتقاسمان العراق، وإن كانت السريانية {وهي إبنة الآرامية البارّة جداً} أكبر مساحة حيث تمتد من الجنوب الى أعالي دجلة والفرات وباستثناء الموصل وبعض المناطق الاخرى، التي تشكّل بيث عربايا أي أقليم أو أرض العرب حسب أدبيات اللغة الآرامية، فإن مناطق شاسعة كانت السريانية فيها اللغة الوحيدة أو الاولى، بينما العربية لم تستطع أن تكون الوحيدة حتى في عواصمها وهي الموصل والحيرة والانبار، ولكن مع الإسلام سيطرت العربية)، أقول حين سألته السيدة مارغريت بانك رئيسة تحرير مجلة بانيبال المختصة بترجمة الأدب العربي الحديث للانكليزية وتصدر في لندن!! أجابها بأنه حين يكتب بالعربية كأنما يكتب بكل لغات العراق والمنطقة وهذا جواب علميّ لأن حقيقة اللغة العربية هي، إنها الوريث الذكي لكل ميراث المنطقة، وقد أخبرني إن حقبة نهوض وبروز العربية كانت فترة خمول وذبول وموات بقية اللغات، وهذه شهادة من مثقفٍ يؤمن بآشوريتِهِ ومسيحيته وتقف بالضدِ تماماً من دعاوى البعض المفرطة بعدائيتها لكلّ ما هو عربي، وتستحق التأمل.

    س54: يصف الشاعر غيلان اللغة العربية بكونها اللقيط العبقري، المعجزة؟

    أنا أعترض على مفردة اللقيط وأرى أن مفردة الوريث هي الأكثر علمية وواقعية فالعربية إبنة شرعية لكل لغات المنطقة، كما نحن الناطقين بها ورثة ميراث المنطقة الحضاري.
    ومن الأمور الأخرى التي نتشابه بها هي ولعنا بتاريخ العراق، ونبشنا في هذا التاريخ، والراحل ــ وأقولها للتاريخ ــ قد حيّاني أكثر من مرة على موسوعية قراءاتي لتاريخ عراقنا ونبشي المستمر في هذا التاريخ.
    شخصياً أعجب ممن يتباهى بقراءاته الموسوعية لثقافات أخرى وهو يجهل تاريخ العراق الثقافي خصوصاً، أو ممن يرى أن الأمر لا يعنيهم أو يعتقدون أن قراءة التاريخ تتسبب بإلغاء وطرد الشعر، وهؤلاء بالنسبة لي وإن لم يعوا فقد اشتركوا بالخراب الذي يعانيه عراقنا ولو بنسب ضئيلة جداً، فلولا الجهل وأعني جهل الطبقة العارفة (الأنتلجنسيا) بتاريخ العراق لما تجرأ البعض على التمادي بالإساءة للعراق من خلال القول، إن العراق وطن إصطنعه الإنكليز أو من خلال التشكيك بعراقية وسامية نينوى الكبرى ونوهدرا وأربيل وكركوك وبعقوبا وتكريت.. إلخ وتنوعها.
    والفقيد كان يكرر دائماً في حديثِهِ عن هؤلاء، إنهم لو كانوا ينتمون فعلا للعراق لفخروا به ولكنهم لا ينتمون، ويؤرقهم أن كل متاحف الدنيا تشهد على إصالة العراق وتنوعِهِ وثرائه وحقيقته ولأنهم نزحوا الى مدننا حديثاً، فهم يشيعون هكذا دعايات تنتقص من العراق واللغة العربية وتراث العراقيين المكتوب بعقول ووعي أبناء الرافدين، ولكن بلسان عربي لهم الفخر أنهم من قَعّده وقننه وأغناه، (أكثر من سبعين بالمئة من التراث المكتوب بالعربية خصوصا في القرون الاسلامية الخمسة الاولى، كتب بأنامل عراقية أو ممن تعلم وتتلمذ في العراق) .
    سركون كان من المؤمنين بأن الشعر معرفة ووعي وتأمل وتجارب لا نهائية، إنه سلسلة طويلة من المجاهدات حسب التعبير الصوفي، وهنا إحدى نقاط إلتقائنا أيضاً.

    س55: هناك من يقول أن اللغة العربية ليست لقيطة أو وريثة للغات العراق القديمة، والسبب أن اللغة العربية بصيغتها المقدسة"القرآن" أو من الشعر ا لجاهلي لم تكن تأثرت بلغة العراقيين .. وإنما كانت وريثة لغة اليمن وقريش حيث نشأت الأقوام العربية وارتحلت بعدها الى العراق؟ وإن اطلاق صفة العربية قومياً على الناطقين أو المتثقفين بها يشكل إجحافا عرقياً وإنسانياً لبقية الأقوام؟

    من الأخطاء القاتلة التي خلفها في ثقافتنا المستشرقون والمبشرون (وعائلة سركون بولص من ضحايا الاخيرين) القول بأن الناطقين بالعربية نزحوا للعراق مع الجيش الإسلامي، وكأن لا وجود للعرب في العراق إطلاقاً، رغم أن الناطقين بالعربية هم نتاج تزاوج وإختلاط جميع الاقوام التي سكنت أو مرت بمنطقة الهلال الخصيب، ورغم كل الشواهد التي أمامنا والتي تصرخ فينا، من أول احتكاك بين العرب والاشوريين في القرن التاسع قبل الميلاد وجلب أعداد منهم الى شمال العراق ومن ثم الاحتكاك الثاني وهو مشاركة العرب مشاركة فاعلة مع الجيش البابلي الكلداني في حرب إسقاط نينوى للابد عام 612 ق.م، وما أعقبَ هذه المشاركة من توغل عربيّ في جنوب العراق على امتداد الفرات وفي منطقة الجزيرة وتعاظم أمر العرب في بابل والأنبار مما اضطر الملك نبوخذنصر الى بناء حصن (حير أو حيرة باللغة الآرامية وأصلها أكدي) ووضع زعماء وتجار العرب فيه، ثم بعد إحتلال الفرس لبابل تزايدت اعداد العرب في العراق، مثلما تزايدت في بلاد الشام وبعد موت الاسكندر وحسب العلامة طه باقر، ارتحلتْ قبيلتا جشعم وقضاعة من موطنهما في السماوة (أرجو الانتباه للمكان) الى شمال العراق قرب الموصل وتأسيسهم مع الآراميين هناك مملكة الحضر عام 200 ق.ب، ولغاية عام 100 بعد الميلاد وملكها "سنطرق" غني عن التعريف حيث وجدت كتابة تقول: سنطرق ملك عربو أي ملك العرب، وبعد ذلك بفترة وجيزة قيام مملكة الحيرة التي كانت تمتد بسلطانها الى مضارب تغلب في الموصل والى البحرين جنوباً، مثلما تضاعف التبادل التجاري والمعرفي بعد ذلك، وحيث كانت الحضر سميت المنطقة في أدبيات اللغة الآرامية ببيث عربايا (منطقة أو أقليم أو أرض العرب) وهي تشمل الموصل كلها، أقول كانت الحضر تصَدّر الى قريش الأصنام وذلك قبل ولادة نبي الإسلام بقرون، وحين أراد قصي بن كلاب الكتابة وهو أمر بديهي اذ تحولت في عهده مكة من قرية صغيرة الى مدينة تجارية واعدة وكل المؤشرات كانت تؤكد أن تجارتها سوف تكون عالمية، وبما أن المنطق والواقع والتاريخ لا تقبل بغير الحقيقة القائلة أن المدينة والكتابة صنوان لا يفترقان، لذا نرى أن الزعيم الجديد لمكة قد استعار الخط الحيري (العراقي) في كتابته لتدوين معاملاته ومعاملات قومه وكل ما تحتاجه مدينة صاعدة لتتبوأ مركزاً عظيماً في المنطقة بأسرها، كما أن الأُسر الثرية في مكة والطائف ويثرب وغيرها كانت ترسل أولادها للدراسة أما في العراق أوبلاد الشام، وفي ذات الوقت كان لديها إستثمار تجاري في أراضي الموصل الزراعية، ولا ننسَ انطلاق موجات التبشير للديانات السماوية الثلاث التي سبقت الإسلام (اليهودية والمسيحية والمندائية) من منطقة الهلال الخصيب الموطن الأصلي للغتين الاكدية والآرامية، الى الجنوب حتى اليمن، فكانت المدن والقرى والقصبات في شبه الجزيرة العربية تعجّ بهؤلاء المبشرين وبالتجار أيضاً، وهم طبقة مثقفة لاشكّ أضفت الكثير من ثقافتها ليس على أتباعها فقط، وإنما على العوائل المكية واليثربية والطائفية واليمامية وغيرها، وحققت إنتصاراتٍ مباشرة وغير مباشرة، مباشرة مثل تهويد الأُسرة المَلَكَية في اليمن وهو ما يعني إنتشار اليهودية في صفوف الشعب، فالناس على دين ملوكهم، وسيطرة يهودية على إقتصاديات يثرب وإنتشار المسيحية في حواضر عربية على أطراف الجزيرة العربية مثلما حدث في الموصل والحيرة والأنبار وقطرايا (قطر) وعُمان، إضافة الى الكثير من المدن والقصبات العربية في بلاد الشام، وليس بخافٍ على أحدٍ صراع المسيحية واليهودية في اليمن نفسها والنتائج الجيدة التي حققتها الأولى مما دعا السلطة هناك للتفنن في تعذيب ومطاردة المسيحيين، وانتصارات غير مباشرة هو انتقال الكثير من ثقافات منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل الى أعماق شبه الجزيرة العربية من خلال التجارة والدراسة والتبشير والمساهمة في الحروب (دعم طرف على حساب آخر، كما وضحنا أعلاه أو الإستعانة بطرف ضد اخر كما في اليمن حيث الاستعانة بالفرس ضد الأحباش) وإستناداً الى "المقدس الاسلامي" الذي يقول إن إبراهيم بنى الكعبة والى بعض الوثائق التاريخية التي تذكر أن عدداً من البابليين بعد سقوط بابل هاجروا الى تيماء ومنها الى مكة وغيرها، وهو ما يردده بطريقة مقاربة المأثور عن الأمام علي بن أبي طالب وإبن عباس، من أنهما نبط من كوثى، ولا ننسى ما ذهب إليه العلامة إبن خلدون من أن العراقيين حين حصل الطوفان العظيم في بلادهم نزحوا الى الحجاز واليمن وغيرها من أقاليم شبه الجزيرة العربية الجنوبية، كل ما ذكرت آنفاً يؤكد الإختلاط والتزاوج الذي حصل بين اللغة العربية وبقية لغات المنطقة التي سبقتها في الكتابة، وبما أن المكتوب يؤثر في الشفاهي وليس العكس، وإن النقاء لغوياً وعرقياً وثقافياً، وَهْم لا يتلبس سوى الشوفينيين، وإسطورة ممجوجة يرفضها كل ذي لُبّ سليم.

    س56: عذرا لديّ تعليق عن المكتوب والشفاهي وأثرهما على تطور اللغة، إذ يميز علماء اللغة في اللسانيات الحديثة بين اللغة والكلام ويرون أن الكلام الشفاهي هو الذي يثري اللغة، وهو السبيل المهم في تطور اللغات وموت بعضها ... ما تعليقك؟

    هذا التمييز المقصود منه اللغة الحضارية، أي اللغة المكتوبة، فكلام اللغة الحضارية الشفاهي فيها يثري المكتوب، أي كلام المدن والريف، أما ما عَنيته أنا فهو اللغة الشفاهية البدوية، إن كانت صحراوية أو جبلية، فالبدوية لا يمكن مقارنتها بلغة الأنهار السهلية والسواحل، وهنا يجب عدم غبن اللغة العربية تماماً، فهي ليست صحراوية فقط وإنما متنوعة، ولقد أفاض جورج طرابيشي في نقده لمشروع محمد عابد الجابري"نقد العقل العربي"، وعليه أدعو من يريد التوسع فيما أعتقد به الى مراجعة كتابه "إشكاليات العقل العربي"، نعم من يقول ببداوة اللغة العربية فهو خاطئ مثلما من يقول بأن القرآن وحده مرجعيتها الأولى والاخيرة، وإن مرجعية القرآن لغة قريش، ومرجعية لغة قريش هي اليمن والصحراء فقط.
    إن حديثي ينصبّ على تأثر اللغة العربية باللغات التي سبقتها في حقبة كانت اللغة العربية شفاهية أي قبل الإسلام بقرون، أو في القرنين اللذين سبقا الإسلام، حين دونت اللغة العربية مما شكّلَ من هذه اللغات مرجعية ممتازة للعربية، وبقيت العربية تنهل من لغات شتى حتى وقتنا الحاضر، ولكنها بكل تأكيد أعطت الكثير للغات كثيرة، بما فيها لغات نهلت منها سابقاً، فالسريانية والمندائية والعبرية وغيرها قد دبّ الهزال فيها في الوقت الذي إرتفعت قيمة العربية كلغة حضارية تسيدت المنطقة وما جاورها من مناطق لدرجة أن تأثيرها إمتدّ للغات كثيرة، ولا ننسَ أن عشرين بالمئة من اللغة الاسبانية وهي أساس للكثير من اللغات الأوربية، هو عربيّ، وإستناداً الى المفردات الهائلة في اللغة العربية التي يعود جذرها الى إحدى اللغات السابقة لها، كما أرجو عدم إغفال مجلس ملوك الحيرة الذي كان يعجّ بالشعراء والخطباء والنسّابة، وصلات خمسة من شعراء المعلقات على الأقلّ بالعراق، إذ كانوا من رواد مجلس ملوك الحيرة وكشاعر فبيت قيل في هجاء تغلب، حين ألهتهُم عن المجد معلقة قالها عمرو بن كلثوم، رابطاً إياها بموطن تغلب، وهو الموصل وبعد ذلك بفترة زمنية ليست بالطويلة خروج إبنة الموصل سجاح المسيحية معلنة نبوتها بحركة لم تنل ــ ويا للأسف ــ الدراسة والتمحيص لمعرفة الأسباب، فالتاريخ يكتبه المنتصرون عادة.
    لغة قريش في حقيقتها تحوي من المفردات الأكدية والآرامية (العبرية والسريانية والمندائية) ما يصعب حصره، ولقد تبحر العلامة عبدالله العلايلي في هذا المضمار كما كان الراحل العزيز سركون بولص يؤكد دائماً، وشخصياً لم أملّ يوماً من سؤال كل ناطق متبحر بالسريانية وباللغات القديمة وبالتاريخ اللغوي والحضاري للهلال الخصيب والمنطقة عن تأثر العربية باللغات التي سبقتها، وإلا كيف تفسر أن تتطابق أسماء أجزاء الوجه وغيرها من جسم الإنسان في اللغتين العربية والسريانية. كما يفاخر فقهاء اللغة السريانية بأن لغتهم لها تأثيرها الكبير والمهيمن على اللغة العربية بينما يُقلل فقهاء اللغة العربية هذا التأثير ويعدون إدعاءات السريان من باب المبالغة، وشخصياً أرى كلا الطرفين على حق، لسبب بسيط، وهو إن اللغتين نهلتا من منبع ثر واحد، ألا وهو اللغة الأكدية أمّ جميع اللغات السامية حسبما يرى البعض وأنا منهم.
    أؤكد مرة أخرى أن العربية لم ترتحل للعراق من اليمن ومن القرآن، وهذا فخ ما بعده فخ، إستغله كل فريق لِيَتّهمَ غالبية العراقيين بعدم الإصالة، ومن المفارقات أن وصل الأمر بالبعض ممن لايملك تاريخاً مكتوباً يعود لقرنين ولا ميراثاً ولا أثراً واحداً في العراق، أن راح يزوّر التاريخ وأصبح هو الحكم والضحية وعلى الجميع أن يوافقه في الأمر.
    فاللغة العربية ليست وريثة اليمن وإنما وريثة لغة قريش التي هي وريثة كل لغات وثقافات المنطقة والقرآن ورث من قريش هذا الميراث الغزير والثريّ، والقبائل العربية لم ترتحل للعراق مع الإسلام، وإنما هي في العراق منذ الازل، إذ إن نهر الفرات هو الحدود الشمالية الشرقية لشبه الجزيرة العربية، وهذا يعني أن أكثر من خمسين بالمئة من مساحة العراق تدخل ضمن منطقة أو أقليم شبه الجزيرة العربية، أزلياً، أما حسب المؤرخين والبلدانيين الإغريق فإن حدود المنطقة العربية من نهر دجلة شرقاً الى نهر النيل غرباً، حسبما يورد العلامة جواد علي في مفصله الشهير، ولا جدال أن الجميع متفق على علمانية وأعلمية وعلمية وحيادية علامتنا الراحل فخر العراق والعراقيين جواد علي، وهو ما يثبت أن أكثر من سبعين بالمئة من مساحة العراق جزء من المنطقة العربية قبل أن توجد قريش بقرون، وإن إرتحال القبائل العربية الى أعماق العراق كان يقابله انسياح قبائل أخرى من جبال زاغروس والهضبة الإيرانية والهضبة الأرمينية والأناضول ومن أعالي دجلة والفرات غرباً، ولكن العراق بقي محافظاًعلى "أكديتهِ" (أقترح الأكدية بديلاً مصطلح السامية المثير للجدل) ولقد إنصهرت في بوتقته جميع الأقوام التي نزحت إليه، إلا في المناطق الجبلية الوعرة بقيت هناك بقع ذهبية تُزَيّن جيده، كما تزين القلادة جيد الفتاة.
    ومن المعروف إن بعض المستشرقين ألفوا الكتب عن تأثير الآرامية السريانية على القرآن ويكفي أن نذكر عناوين كتبهم لنرى مدى تأثير لغات العراقيين القدماء على العربية فهذا آرثر جِفري يعنون كتابه بالمفردات الأجنبية في القرآن، وكريستوف لكسنبرغ "قراءة سريانية ــ آرامية للقرآن"، أما ألفونس مِنْكـَنا فَعَنوَنَ كتابه بـ"التأثير السرياني في أسلوب القرآن" عدا العدد الهائل من البحوث والدراسات والفقرات المبثوثة في طيات الكتب، والتي تثبت أن تأثير العراق وكل منطقة الهلال الخصيب ليس على اللغة العربية فقط بل الأنساق المعرفية لمكة خصوصاً واضحة تماماً، وكل ما كتب عن تأثيرات عراقية على الأنساق المعرفية اليهودية، ينطبق على الأنساق المعرفية التي خرجت من الحجاز أيضاً، بما في ذلك اللغة.
    أما صفة القومية، فجميع القوميين ينهلون من مستنقع شوفيني عنصري أحادي عدائي واحد، عرباً كانوا أم غير عرب، وإذا كان الناطقون بالعربية خليطاً من جميع الأقوام التي سكنت العراق وإن سيطرة العربية كلغة ثقافية أولى للغالبية العظمى من سكان العراق منذ القرن الثامن الميلادي على الأقل، وأفول لغات أخرى كانت منتشرة في العراق (السريانية والمندائية والعبرية، وبدرجة أقل اليونانية والفارسية) في وقت بزوغ نجم العربية مما مكنها من هضم هذه اللغات، وذلك ما كان يؤمن به الشاعر سركون بولص، وردده على مسامعي بل وذكره في أحد حواراته بالإنكليزية، مما جعله يشعر وهو المؤمن بإنتمائه لكل العراق من أن كتابته بالعربية تعني أنه يكتب بكل لغات المنطقة بما في ذلك السنسكريتية، فهذا لايمنح الحق في إطلاق تسمية العرب عليهم، مثلما لايمنح الحق بإطلاق تسميات أخرى شوفينية كما يطلق على من يسكن في أرضه التاريخية لمجرد أن الاغلبية قاموا بقتله وترويعه خلال القرنين الأخيرين فتحول الى أقلية، والنازحون الجدد ممن يدينون بدين الدولة وعلى مذهبها تحولوا الى أغلبية .
    نعم إن المشاريع القومية كلها مرفوضة، وصدقاً كان الراحل الكبير يرفضها تماماً، وذلك أحد أسباب علاقتنا القوية، إن كلينا كان يرفض هذه المشاريع ومصطلحاتها، ولاسيما ما أرتكبه ويرتكبه البدو (بدو الصحارى وبدو الجبال) في أقليم آشور وبيث عربايا.

    س57: المعروف إن سركون هاجر من العراق مبكراً، وقد إزداد نضوجاً وتطوراً هناك، ولم يشر أحد إلى أدب الداخل وأدب الخارج حينها، ما رأيك بهذه الثنائية التي علا دويّها من قبل أجهزة النظام السابق الإعلامية والثقافية، وما يثار اليوم أيضاً بهذا الخصوص، وهل كان لسركون رأي بها؟

    الإبداع لا وطن له إلا الإبداع ذاته، والراحل كان يرفض بل يسخر من مثل هذه التصنيفات الساذجة، وأرى أن كل مبدع يسخر من تقسيمات مماثلة، وشخصياً تناولت الأمر في حوارات سابقة معي، ولكني هنا أنقل رأيه كما سمعته منه عبر الهاتف، نعم يتحدث بحسّه اللاذع بخصوص هذه الإشاعة التي أشاعها وتشبث بها من لا إبداع له، فالمبدع الحقيقي لايمكن أن يرتضيها لنفسه.
    سركون ليس وحده من هاجر مبكراً، على الأقل قبل إطلاق هذه الثنائية المضحكة، بسنوات طويلة، بل أغلب جماعة كركوك ومئات الأسماء العراقية المبدعة، أثْروا وما زالوا يثرون الثقافتين العراقية والمكتوبة بالعربية، كما إن العراق يبقى الرحم ويخطئ من يتصور أن المواهب الخلاقة نفدت من العراق فالأدب العراقي هو عراقي إن كان يكتب في بغداد أو في سان فرانسيسكو أو باريس أو ولنغتن أو هيروشيما أو في أي مكان آخر.

    س58: يقول سركون: " إنك شاعر مراثٍ من الدرجة الاولى، وأنت أقرب الى شعراء سومر الأوائل .."، هل تعتقد إن كتابة المراثي هي ميزة شعرية للشاعر الحداثوي؟ ولماذا لم تكتب مرثية سركون لحد الان؟

    نعم أنا سليلُ الفراتين ، بمعنى إني سليل ووارث ميراث المنطقة، والمراثي التي أكتبها تختلف عما هو متعارف عليه في الشعر العربي، إنها تجارب وتأملات ووعي شاعر يفهم أن الحداثة مشروع فردي بقدر ما هي مشروع جماعي، وأن الشعر وهو مشروع فردي بامتياز، غاية الغايات، والمراثي التي أشار إليها سركون بولص هي مراثٍ لوطن أراه أمامي، وكلٌ يمسكُ بمعوله لتهديمه والقضاء عليه، لست ممن يقفون على الأطلال بل أحاول أن أكون رائياً قدر المستطاع ولن أخفي تأثري بقراءاتي للميراث العراقي القديم إبداعياً رغم سعةِ قراءاتي لتاريخ العراق الإسلامي والحديث.
    ثم هل تجد أن كتابة المرثية سهلة ؟!
    فأنا لست ممن يجيدون كتابة مراثي المناسبات، أولئك الذين ما أن قرأوا خبراً في وسائل الإعلام عن موت أديب ما، أو شخصية مرموقة، حتى إنهالت كتاباتهم تملأ الصفحات، ولايهم إن كانوا قد أهملوا أو أنكروا إبداع الميت في حياته، كما حدث مع أسد آشور، وكأني بهم يحتفون بموته قائلين: "ها لقد تخلصنا منه".
    أنت تعرف كم إستغرق هذا الحوار، وكم كان حرصنا على الإحتفاء بسركون بطريقة مختلفة، ولأني فعلا كنت أعاني أثناء الكتابة عموماً، فكيف إذا كانت عن سركون بولص، الذي تهادى الدمع سريعاً وحاراً حتى عنقي ما أن قرأت خبر رحيله المفجع، وهذا لم يحدث لي مع أي أديب اخر رغم إحترامي وتقديري لأدباء رحلوا عنا، وهم في أوج عطائهم.

    س59: بحكم تواصلك مع سركون حتى اللحظات الأخيرة من رحلته الأرضية، هل كانت لديه نيّة إخراج مجموعات شعرية جديدة أو إصدار أعماله الكاملة، وهل تعتقد أن الراحل يميل الى مثل هذه التوجهات كبقية الشعراء؟

    نعم كانت لديه النية لأخراج مجموعات جديدة ومنها مجموعة تضم بداياته، حيث طالما حدثني عن الصندوق المليء بالقصائد الذي جلبه أهله معهم من العراق، وإنه كان يأمل أن يختار عدداً من هذه القصائد ونشرها في كتاب مستقل لتعبر عن بداياته.
    أما عن أعماله الكاملة، فكان يؤجل الموضوع رغم إلحاحِ ناشره وهو الشاعر خالد المعالي كما كان يقول، فسركون كان يأمل إصدار أكثر من مجموعة قبل إصدار الأعمال الكاملة له، ولا أدري هل كان حدس الشاعر خالد المعالي عالياً حين ألحّ على موضوعة إصدار الأعمال الكاملة.
    وهنا أتمنى على ذوي الفقيد وكل أصحابه أن يسلموا أعمال سركون إبداعاً وترجمة ، الى الناشر خالد المعالي لثقة الراحل الكبير به، فلطالما أخبرني عن صدق وأمانة ونزاهة المعالي وهو جدّ مرتاح معه وغير ذلك من الإطراء والمديح بحق هذا الشاعر والناشر، والتي أثُبتها للتاريخ ولم أخبر بها خالداً أو غيره من قبل.
    كما آمل أن يساهم إتحاد الأدباء العراقيين ووزارة الثقافة وغيرها من المؤسسات العراقية، بالدعم المالي والمعنوي لدار الجمل لإخراج تراث فقيدنا الراحل بطبعة أنيقة تليق براهب الشعر أسد آشور.

    س60: رغم ما ذكره سركون من رأي بعملك الشعري في كلمة غلاف مجموعتك "أنا ثانية " هل تذكر ما أسرّ به لك من آراء وملاحظات شخصية حول مشروعك الشعري، وأرجو أن تتركْ تعففك قليلا في ذكرها، لنجعلها مسك ختام احتفائنا بالراحل الكبير؟

    لا أحبذ الخوض في هذا الأمر لسببين، الأول إن الرجل قد رحل عن دنيانا والذي سأقوله لا دليل لي عليه ويحق لكل شخص أن يكذبني، فلماذا أضع نفسي في موقف حرج كهذا. وثانياً، طالما عتبتُ على من يتبجح بأن" الشاعر الفلاني قال عني كذا"، أو "إن ديواني لم يفارق منضدة الشاعر الكبير"، أو"إن كل من يدخل الى مكتب الشاعر العظيم يجده يقرأ في ديواني ويقول لهم نحن نتعلم الشعر من هؤلاء"، أو من ذهب بعيداً حد تخيل أنه حامل لواء الحداثة العراقية على أكتافه ...وإلخ. مما يجعلني أشعر بالإحراج أمام ملكوت الشعر.
    ماقاله سركون عني، هو كلام لا دليل عملي لي على إثباته بإستثناء كلمة الغلاف التي زينت ديواني الثالث "أنا ثانية "، ولا أريد التعكز عليه، لست بحاجة الى قارئ يريد أن يعرف رأي سركون بولص في تجربة باسم فرات الشعرية لكي يحكم على ضوئها، أنا أبحث عن قارئ محترف يحمل وعياً شعرياً عالياً، ولا تؤثر فيه الإجتماعيات، وآراء الاخرين، فيصوغ رأيه بناءً على قراءته الإيجابية لتجربتي الشعرية، قارئ هو مبدعٌ يمنحُ النصَ ألقاً حين يقرأه، فالشعر غاية الغايات، ومريدوه نخبة النخبة.
    لاأجد حرجاً في ذكر رأيه الإيجابي بتجربتَيْ زعيم النصار وعبد العظيم فنجان، على ضوء ما قرأ لهما، ولكني أتحفظ على رأيه بتجربتي الشعرية.

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 16, 2024 7:15 pm