تتميز قصائد باسم فرات بالعذوبة والانسيابية الرقراقة، وفي هذا الديوان (بلوغ النهر) يتجول بنا الشاعر بعينيه الثاقبتين وحسّه المرهف فى أجواء تلفّها شعرية الأشياءالتي تنتشله من غربةٍ لاتنتهي.
باسم فرات يمتلك مهارة في توظيف اللغة ليشكّل بها الصورة المجسدة على امتداد النصوص التي اعتمدت على الاحتفاء بالأمكنة خاصة وأن قصائد هذا الديوان كتبت فى عدة بلدان آسيوية بحكم إقامة الشاعر، وكان يقيم فى لاوس وقتها وقد ساقته الذائقة الشعرية والخيال الخصب للتجوال في هذه البلدان التي لم يخرج منها خالي الوفاض، وإنما بذخيرةٍ شعريةٍ هي محصلة هذه القصائد التي كتبت في هيروشيما وفيتنام وكمبوديا وتايلاند ونيوزلندا واكثرها كُتِبَ في لاوس التي كانت المستقر.
أتجول في الديوان فأجد أن النهر قد أخذ متفاعلات نصية للإحتفاء بالأماكن التى تحتفظ بعراقتها وأصالتها، فالنهر هنا خصّه الشاعر بالذكر باعتباره مشتركا إنسانياً متحرراً، حتى وصل إلى حدّ التغنّي به. وقف الشاعر طويلاً أمام نهر (ميكون) وهو النهر الذي يقطع لاوس من الشمال إلى الجنوب تقريباً، يقول الشاعر في قصيدة (عن الغريب الذي صار واحداً منهم):
هأنذا . . . .
قدمٌ في ميكون وأخرى في الأمل
يرقدُ تاريخٌ في جُعبتي
أنصتُ للموجِ بينما الريحُ تقفلُ أبوابَها خجلى
في هذه القصائد ينبهر الشاعر طويلاً بالإنصات لموج الأنهار والتحاور معها كما نلاحظ ولعَهُ بحضارات جنوب الشرق الآسيوي التي شكّلَت صياغة هذا الديوان من خلال نوستالجيا حميمة للماضي العريق المتمثل في عادات الناس في الشوارع والأسواق والمباني والمعابد، وقد أمعن الشاعر التأمل كلما وقع بصره على تمثال بوذا الذى خصّه بمشاهد حافلة بالحيوية، فكثيراً مايقول (عينيه الماسيتين) أو (الذهبيتين) في صياغة توحي بالشخصنة لهذا التمثال. يقول في قصيدة "شروق أطول من التاريخ"،هذا النص الذي كتَبَه في شمال تايلاند :-
وأنتَ هنا مُحاطٌ بألفِ بوذا
ينهمرون برهبانِهم وتراتيلِهم
تتدفق المياه حولك
تربكُ زهوكَ
وكأن ثمة مشكلة تكمن مابينه وبين غيره فى هذا المقطع، المشكلة كبيرة لدرجة أن الشاعر يقتنع باكتفائه الذاتي رافضاً الحاجة للاجتماع الذي نصفه عادة بالإنساني، بينما يقول سارتر الآخرون هم الجحيم، والشعراء والمفكرون أصحاب حساسية زائدة تجاه الناس المختلفين عنهم فيؤثرون العزلة على المعاشرة باعتبارها تجرح الوجدان، ولكن كثيراً ما نجد أن هذه البنية قد تتفتح على احتمالات تأويلية شتى من جهة، مثلاً هناك رهبان ومن ناحية أخرى هناك إرباك وهناك استدعاء لأصوات الكائنات، ونلاحظ في هذا الديوان أن الأشياء هي الحقل الأمثل لكتابات الشاعر وهي تشمل العالم بأكمله لأن مخيلته قادرة على تقديمها شعرياً بوصفٍ سردي شديد الكثافة، نجده مثلاً يتأمل حصاناً مجنحاً أمام قلعة هيروشيما فيتخيله براقاً ينتظر من يمتطيه، وكأن هناك فارساً مجهولاً غاب عن هذا البراق أو ربما أن البراق مازال في انتظار النبي الذي يأتي بأحلام البشرية جميعها فيقول في قصيدته (البراق يصل إلى هيروشيما):-
أمامَ قلعةِ هيروشيما
وحيدًا
يقفُ البراقُ
دونَ نبيّ يمتطيهِ
حاملاً أحلامًا
فقدتْ صلاحيّتَها
.......................
بينما البراقُ منتظرٌ من يُواريه الترابَ بعيداً
نسيَ أن يحلمَ بنبيّ يمتطيه.
وقارىء الديوان يلحظ أن التأمل المسهب الدقيق عكس دهشة الشاعر لكل محفزات نصوصه
التي خرجت إلينا كأنها لوحة تشكيلية بديعة لم تترك شاردة ولا واردة إلا أحاطت بها.
عندما يقع بصره على الباعة الجائلين في الأسواق يصف حياءهم وحزنهم وملامح التعب على وجوههم يقول:-
ألم حياءهم وأحزانَهم فى سلال رحيلي
بينما الغاضرية تستفيق على امتداد حقول القصيدة.
والغاضرية مدينة الشاعر وهي من أسماء كربلاء. وهكذا أجدني في حالة من الجيشان الذي كسى تأملات الوصف على امتداد الديوان.
وفي هيروشيما بالذات تأمل باسم فرات طويلاً وتحسر. إنه الماضي الذي خلّفَ حاضراً مشوهاً ومستقبلاً غامضاً للبشرية جميعها، فكانت شعرية المشهد عنده لوحات تشكيلية دقيقة نقلها إلينا،أو مشاهد سينمائية كاملة التفاصيل تعامل معها الشاعر من جميع الزوايا الانسانية والحياتية التي تلف حياة البشر، بنثريته الجياشة بهذا الحكي الذي جعل لنصوصه فرادة خصته فكان لكل نص طرحه الجمالي الخاص به، خاصة أن الأمكنة لعبت دوراً فاعلاً، يقول الشاعر فى قصيدة الامبراطورالتي كتبها بعد أن زار مقبرة الامبراطور(خاي دينه) وأمام تمثاله بالذات في فيتنام:-
صرخات يتامى على الجدران
صارت تهطل من أردان قميصه
في السقوف مدن عانقها الخراب
وفتوحات تتسرب من الشقوق
........ .. .. ..
كلمات ترتجف في زنازينه
ضريحه وقد فاق الاهرامات بأبهته لم يعد مكانا للتبرك
فهوى مأوى جرذان ومبولة سكارى
اتأمله ساخراً
وبثمنٍ بخسٍ
أصفعه وأمضي.
وهكذا نجد قصائد باسم فرات تجاوزت الهم الذاتي إلى العام وما أعجبني هذه الرؤية البصرية في التكوين البنائي والشكلي فانعكست الانسيابية البصرية على فلسفته في الكتابة، يقول في قصيدة تقريظ باشو، وباشو هو مؤسس شعر الهايكو الياباني:-
ماتبحث عنه
لن تجده كاملاً
ماسطرته أنامل أمير الهايكو
من الوشايات عليك أن تغسل الهواء.
وأخيراً أقول إن مانبحث عنه لن نجده كاملاً، وهكذا الشاعر باسم فرات الذي تأمل الطبيعة جيداً فتجسدت لديه الرؤية التي لاتخمد أبداً.
باسم فرات يمتلك مهارة في توظيف اللغة ليشكّل بها الصورة المجسدة على امتداد النصوص التي اعتمدت على الاحتفاء بالأمكنة خاصة وأن قصائد هذا الديوان كتبت فى عدة بلدان آسيوية بحكم إقامة الشاعر، وكان يقيم فى لاوس وقتها وقد ساقته الذائقة الشعرية والخيال الخصب للتجوال في هذه البلدان التي لم يخرج منها خالي الوفاض، وإنما بذخيرةٍ شعريةٍ هي محصلة هذه القصائد التي كتبت في هيروشيما وفيتنام وكمبوديا وتايلاند ونيوزلندا واكثرها كُتِبَ في لاوس التي كانت المستقر.
أتجول في الديوان فأجد أن النهر قد أخذ متفاعلات نصية للإحتفاء بالأماكن التى تحتفظ بعراقتها وأصالتها، فالنهر هنا خصّه الشاعر بالذكر باعتباره مشتركا إنسانياً متحرراً، حتى وصل إلى حدّ التغنّي به. وقف الشاعر طويلاً أمام نهر (ميكون) وهو النهر الذي يقطع لاوس من الشمال إلى الجنوب تقريباً، يقول الشاعر في قصيدة (عن الغريب الذي صار واحداً منهم):
هأنذا . . . .
قدمٌ في ميكون وأخرى في الأمل
يرقدُ تاريخٌ في جُعبتي
أنصتُ للموجِ بينما الريحُ تقفلُ أبوابَها خجلى
في هذه القصائد ينبهر الشاعر طويلاً بالإنصات لموج الأنهار والتحاور معها كما نلاحظ ولعَهُ بحضارات جنوب الشرق الآسيوي التي شكّلَت صياغة هذا الديوان من خلال نوستالجيا حميمة للماضي العريق المتمثل في عادات الناس في الشوارع والأسواق والمباني والمعابد، وقد أمعن الشاعر التأمل كلما وقع بصره على تمثال بوذا الذى خصّه بمشاهد حافلة بالحيوية، فكثيراً مايقول (عينيه الماسيتين) أو (الذهبيتين) في صياغة توحي بالشخصنة لهذا التمثال. يقول في قصيدة "شروق أطول من التاريخ"،هذا النص الذي كتَبَه في شمال تايلاند :-
وأنتَ هنا مُحاطٌ بألفِ بوذا
ينهمرون برهبانِهم وتراتيلِهم
تتدفق المياه حولك
تربكُ زهوكَ
وكأن ثمة مشكلة تكمن مابينه وبين غيره فى هذا المقطع، المشكلة كبيرة لدرجة أن الشاعر يقتنع باكتفائه الذاتي رافضاً الحاجة للاجتماع الذي نصفه عادة بالإنساني، بينما يقول سارتر الآخرون هم الجحيم، والشعراء والمفكرون أصحاب حساسية زائدة تجاه الناس المختلفين عنهم فيؤثرون العزلة على المعاشرة باعتبارها تجرح الوجدان، ولكن كثيراً ما نجد أن هذه البنية قد تتفتح على احتمالات تأويلية شتى من جهة، مثلاً هناك رهبان ومن ناحية أخرى هناك إرباك وهناك استدعاء لأصوات الكائنات، ونلاحظ في هذا الديوان أن الأشياء هي الحقل الأمثل لكتابات الشاعر وهي تشمل العالم بأكمله لأن مخيلته قادرة على تقديمها شعرياً بوصفٍ سردي شديد الكثافة، نجده مثلاً يتأمل حصاناً مجنحاً أمام قلعة هيروشيما فيتخيله براقاً ينتظر من يمتطيه، وكأن هناك فارساً مجهولاً غاب عن هذا البراق أو ربما أن البراق مازال في انتظار النبي الذي يأتي بأحلام البشرية جميعها فيقول في قصيدته (البراق يصل إلى هيروشيما):-
أمامَ قلعةِ هيروشيما
وحيدًا
يقفُ البراقُ
دونَ نبيّ يمتطيهِ
حاملاً أحلامًا
فقدتْ صلاحيّتَها
.......................
بينما البراقُ منتظرٌ من يُواريه الترابَ بعيداً
نسيَ أن يحلمَ بنبيّ يمتطيه.
وقارىء الديوان يلحظ أن التأمل المسهب الدقيق عكس دهشة الشاعر لكل محفزات نصوصه
التي خرجت إلينا كأنها لوحة تشكيلية بديعة لم تترك شاردة ولا واردة إلا أحاطت بها.
عندما يقع بصره على الباعة الجائلين في الأسواق يصف حياءهم وحزنهم وملامح التعب على وجوههم يقول:-
ألم حياءهم وأحزانَهم فى سلال رحيلي
بينما الغاضرية تستفيق على امتداد حقول القصيدة.
والغاضرية مدينة الشاعر وهي من أسماء كربلاء. وهكذا أجدني في حالة من الجيشان الذي كسى تأملات الوصف على امتداد الديوان.
وفي هيروشيما بالذات تأمل باسم فرات طويلاً وتحسر. إنه الماضي الذي خلّفَ حاضراً مشوهاً ومستقبلاً غامضاً للبشرية جميعها، فكانت شعرية المشهد عنده لوحات تشكيلية دقيقة نقلها إلينا،أو مشاهد سينمائية كاملة التفاصيل تعامل معها الشاعر من جميع الزوايا الانسانية والحياتية التي تلف حياة البشر، بنثريته الجياشة بهذا الحكي الذي جعل لنصوصه فرادة خصته فكان لكل نص طرحه الجمالي الخاص به، خاصة أن الأمكنة لعبت دوراً فاعلاً، يقول الشاعر فى قصيدة الامبراطورالتي كتبها بعد أن زار مقبرة الامبراطور(خاي دينه) وأمام تمثاله بالذات في فيتنام:-
صرخات يتامى على الجدران
صارت تهطل من أردان قميصه
في السقوف مدن عانقها الخراب
وفتوحات تتسرب من الشقوق
........ .. .. ..
كلمات ترتجف في زنازينه
ضريحه وقد فاق الاهرامات بأبهته لم يعد مكانا للتبرك
فهوى مأوى جرذان ومبولة سكارى
اتأمله ساخراً
وبثمنٍ بخسٍ
أصفعه وأمضي.
وهكذا نجد قصائد باسم فرات تجاوزت الهم الذاتي إلى العام وما أعجبني هذه الرؤية البصرية في التكوين البنائي والشكلي فانعكست الانسيابية البصرية على فلسفته في الكتابة، يقول في قصيدة تقريظ باشو، وباشو هو مؤسس شعر الهايكو الياباني:-
ماتبحث عنه
لن تجده كاملاً
ماسطرته أنامل أمير الهايكو
من الوشايات عليك أن تغسل الهواء.
وأخيراً أقول إن مانبحث عنه لن نجده كاملاً، وهكذا الشاعر باسم فرات الذي تأمل الطبيعة جيداً فتجسدت لديه الرؤية التي لاتخمد أبداً.