يقول الشاعر باسم فرات: ((لا أكتب الشعر إنما تكتبني القصيدة وما أدوّنه هو حياتي ومغامراتي، فأنا لا أجيد الجلوس حتى لو لم يكن ثمة سفر، فأخرج وأتسكع في مناطق أحاول أن تكون جديدة، مثلاً ركوب الحافلة والذهاب إلى منطقة لم أذهب لها سابقًا وأتجول في أسواقها وحاراتها وأراقب الباعة والكسبة والفقراء والمشردين والسكارى، أتأمل عمارة بيوتها وبيوت العبادة فيها حدائقها وإلخ. السفر والتنقل بين عوالم مختلفة (كربلاء، بغداد، تكريت، عمّان، مدن عديدة من زي الجديدة (نيوزلندا) هيروشيما ومدن أخرى في اليابان، جنوب شرق آسيا حيث زيارة عشرات المدن ومئات البلدات والقرى والاحتكاك بمئات الاثنيات، الأكوادور والخ. التركيز على قراءة كتب الفكر وحفريات التاريخ والأديان والميثولوجيا. ربما كل هذا منحني اختلافًا عن الآخرين، ولكن هل هذا الاختلاف لصالحي أم ضدي فهو ما يقرره القرّاء)).
ديوان باسم فرات المعنون (بلوغ النهر) إصدار الحضارة للنشر- ط1- 2012، ضم ثلاثًا وثلاثين قصيدة، تقع بين قصيدة قصيرة جدًّا، على شكل ومضة شعرية (حياة "بيتين"، قربة "أربع أبيات")، وقصيدة طويلة (تلاميذ هندوري، قلعة هيروشيما، هيروشيما ومدن أخرى)، وهذه القصائد تحمل تجربة الشاعر في السفر والترحال فتنوعت زياراته بين هيروشيما، ولاوس، وتايلاند، كمبوديا، ونيوزلندا. إنه البحث عمّا هو مدهش وغريب في حياة الإنسان.
لقصيدة النثر العربية ضوابط ومحددات لا يمكن أن تكون هي نفسها في قصيدة النثر الأوربية التي قرأنا نماذج منها مترجمة، إن كان ذلك من حيث الشكل أو المضمون. ومن ضمن اشتراطات كتابتها عند باسم فرات- أنموذج لما يكتب من قصيدة النثر- هو تأكيد دور الهامش في القصيدة، كما نراه في هذه المجموعة (بلوغ النهر) لجلّ قصائد المجموعة، فأي قصيدة لا يمكن أن نقرأها أونتلقاها تلقيًا ثقافيًّا- أدبيًّا- اجتماعيًّا بمتعة وإحساس عالٍ، ما لم نتبعها بقراءة هوامشها، تلك التقنيات الأسلوبية التي تأتي بأشكال عدة، منها أن يكون الشاعر مدركًا لما سَتؤوّل إليه الهوامش التي تكون إضافة نوعية لا كمية للقصيدة فتضيئها. هذا واحد من أهم خصائص قصيدة النثر عند باسم فرات، وهذه الهوامش أو الإضاءات لم تأت لما في القصيدة من غموض أو تغريب أو صعوبة في التلقي، وإنما أتت لما فيها من مناطق تزداد وضوحًا بها فوق وضوحها المتلقى، إنها سد للفجوة التي سيحس بها المتلقي، وبهذا يصبح متن القصيدة وهامشها واحدًا في إكمال المعنى المراد من القصيدة. قصائد الديوان جلّها تنتهي بهوامش لا يمكن أن نغض الطرف عنها، ولا يمكننا أن نفهم ونتقبل القصيدة بدونها، وإن الهوامش هذه هي قراءة ثانية للنص مع المتن، إنها عند المتلقي نصٌّ آخرُ موازٍ للنص الشعري، وبارتباطهما يصل المعنى.
ففي قصيدة (الهَنَمي في هيروشيما) تأتي هذه الهوامش لكي تغني القصيدة والمتلقي أكثر لو لم توجد. فعندما يقول : "ساداكو تغزل طائر الحياة والوساوس تهز أحلامها بالدموع". ساداكو اسم ياباني يمر مرّ الكلام في القصيدة، إلاّ أن الشاعر لا يريده هكذا، فهو يضيف إلى القصيدة ما يمنحها طاقة لانثيالات في ذهن المتلقي، فيكتب في هامش عن ساداكو ((1943- 1955 الفتاة اليابانية التي أصيبت بسرطان الدم نتيجة سقوط القنبلة الذرية. راحت تصنع من الأوراق الملونة طائر الغرنوق، امتثالاً للمعتقد الشعبي الياباني الذي يرى أن طائر الغرنوق يعيش ألف عام، والمريض الذي يصنع ألف طائر سوف يشفى من مرضه، ولكنها بعد أن صنعت 644 طائرًا توفيت، فراح اليابانيون ودعاة السلام يصنعون ما تبقى من الألف، وأصبحت هذه الطفلة رمزًا للأمل والإصرار على الحياة وعنوانًا للأطفال ضحايا حماقات وأوهام الزعماء)). كذلك لو قرأنا هوامش قصيدته (المستقبل وهو يقفل راجعًا) لما أضيء الطريق أمام المتلقي في قبول ما تقوله القصيدة تلك، فهو يكتب أربعة هوامش بين هامش تعريف بسفينة، وهامش تعريف بديانة، وهوامش تعرف بمدينة، وأخرى بالخمرة والشاي اللذين يشربهما اليابانيون: فالسفينة ياماتو هي: ياماتو قبر يتنفس الهواء، والشنتو هي ديانة يابانية: الأمنيات المكتوبة على ورق أبيض معقودة على شبابيك معابد الشنتو والشاي الأخضر ومشروب الساكَ: طعم الشاي الأخضر وقد تكدَّسَ في الشفاه، قِرَبَ الساك في لياليهم وهي تتآكل، ومدينة كوره: في ميناء كوره قفل المستقبل راجعًا فامتلأت هذه القصيدة بالعويل. هذه الهوامش قد أضاءت لنا القصيدة، والقصائد الأخرى التي تضيئها تلك الهوامش كثيرة في المجموعة هذه. إذا قلنا إن الشعر يصنع الأسطورة، والأسطورة تصنع الشعر، فإنه بهذا القول يمكن قراءة قصيدة (البراقُ يصل إلى هيروشيما). يصنع الشاعر أسطورة تتناص مع أسطورة البراق، إذ قلعة هيروشيما تكون البداية لرحلة البراق إلا أنه لم يرحل، لأن هيروشيما خالية، مدمرة، لا نبي فيها، البراق هذا: حاملاً أحلامًا فقدت صلاحيّتها يجري النهر تحته نزقًا ينبض بالجنون كثيرون مَرّوا من أمامه يرتّقون انشغالاتهم. لأن المأساة أوقفت الزمن بها، فباتت ميتة، أحلامها قديمة فقدت صلاحيتها، وأن بقاء البراق هو الفجيعة في هيروشيما، فالذين يمرون به لا يعبئون له، والطير قد بنى عشّه على رأسِه، ولا هو يغري السائحين، إنه الفجيعة بعينها. هيروشيما التي ضربت بالقنبلة النووية عام 1945 لا زالت مدَمّاة، فالشعر بنى أسطورته بالتناص مع واقع هيروشيما والبراق الذي ركبه النبيّ في الإسراء والمعراج.
وفي قصيدة (الساموراي) يتحدث الشاعر عن ساموراي لا وجود له، إنه إعادة لأسطورة الساموراي وبعثها من جديد إلاّ أنها لم تبعث. إنه المأساة والفجيعة لساموراي كان يملأ الدنيا ويشغلها، أما الآن فهو عبارة عن لعبة في المتحف يلتقط معها الأطفال صورهم التذكارية، إنها مأساة زمن البطولة التي مرّ باليابان، وكيف أنها سقطت متهاوية في الحرب العالمية الثانية، مأساة اليابانيين. يعتمر خوذته يمتشق سيفه الذي يكاد أن ينافسه على قوامه، هذا الساموراي أصبح: فيه رائحة التاريخ وبقايا غباره فكان: خصصوا له ركنًا في المتحف. بانتظار مهرجان جديد.
وفي قصيدة (الإمبراطور) تتحدث القصيدة عن مجد الإمبراطور لو كان حيًّا، أما غير ذلك فهو: الإمبراطور الذي تهتز الجبال من لائِهِ وتحت بسطاله ترتجف أسودٌ وتنانينُ ها هو داخل مربع يسوره شريط أصفر لا يتخطاه ضريحه وقد فاق الأهرامات بأبهته لم يعد مكانًا للتبرك فهو مأوى جرذان ومبولة سكارى، ملابسه تذكّر بقطيع الحمر الوحشية وعصاه التي طالما ابتلعت ثعابين وأعداء، كُثيب نملٍ غدت، أتأمله ساخرًا وبثمن بخس أصفعه وأمضي، هذه بقايا إمبراطور كان في يوم ما (إمبراطورًا)، فماذا فعلت به الأيام، أي نكسة أدت به إلى هذا الوضع؟.
في قصيدة (تلاميذ هُندوري) تنشأ أسطورة هذا السوق الذي بُني على أنقاض الشارع الرئيسيّ لهيروشيما قبل فاجعتها، من خلال ما يقدّمه السوق، تنثال الذكريات عن أسواق عربية تشبهه: هندوري يتمدّدُ في رحم المدينةِ، في ورق الهدايا يبيع التاريخ يعرض الفلسفة على رفوف السؤال، والذكرياتُ مُباحَةٌ للجميع. هذا السوق يروي أحداث ما حدث، المأساة التي أحدثتها أمريكا باليابان. عادةً.. وفي غفلةٍ من المارّةِ، ينفثُ إله النور أوسمته على المستطرقين، الأمطار تسترخي فوقه حدّ النعاس المزمن، كبير آلهة هيروشيما اتخذَهُ صباحه السرمدي، قنديل محبين هو وبابُ مرادٍ للتائهين، عتبات البيوت تتبرك بغباره. للطبيعة دور كبير في حياة الإنسان، والشاعر خاصة عندما يصور الشاعر طقوس (الهَنَمي) الطقوس الطبيعية، الفرح، السرور في مجتمع قدم آلاف الضحايا في هيروشيما وناغازاكي.. والفتاة سادوكا التي تصنع طائراتها الورقية في هذا الفرح لكي يمد عمرها الذي سيفنى بسبب السرطان الذي جلبته القنبلة الذرية.
في احتفالات الهَنَمي عليك أن تحتفي بالفرح وتطرد أحزانك بعيدًا، لأن الأحزان تقف لك بالمرصاد: تستفيق الذكرى بعد أن تَخلّتْ عن الألم، الستائر تفتح النوافذ على السؤال، والغريب يزيح المجهول إلى الماضي باحثًا في أحلامه عن مرآة، هكذا تطارده أحلام الماضي، فيما هو يحتفل بالطبيعة، الأحلام الآتية من الماضي لم تنفك تطارد أبناء هيروشيما.
إن قراءة ديوان باسم فرات تمنحنا متعة ومعرفة، المتعة والمعرفة تتأتى من كون قصائدة تنسج بنيانها بانفرادية بعيدة عن أسلوب قصيدة النثر المعتادة، وأيضًا هذا الترحال والسفر وتقديم عوالم جديدة تئنّ في مأساتها الوجودية والتاريخية.
جريدة طريق الشعب، العدد (1) السنة 79، الخميس 1 آب 2013، الصفحة الثقافية (الصفحة السادسة)