ويرتقي الشاعر "باسم فرات" سُلّم غربته المؤطر بضياع المكان وتفتت وجوده شظايا لا يكاد يجمعها لصنع خارطة تلم جسده حتى تتبعثر، لتضيع مرة أخرى، ابتداءً من عنوان مجموعته "خريف المآذن" وانتهاءً بآخر ما يشيخ منه أو يتكسر، يكون الشاعر قد ناهز جدله المؤسس على اليأس والحزن والإنكسار، فكيف تصير المآذن بلمعانها المداخل للقلوب زمناً سلبياً ينسلخ عن منظومة الشاعر المكانية. أو كيف يكون السواد سيلاً متربعاً على قمة الخسارة وخسرانه لأمكنة ألفها وشكلت لديه خبراته ومعارفه الأولى "ربيع السواد".
فمن مقاربة لونية ما بين خريف المآذن "لون حائل" حتى ربيع السواد بكل ظلامه وعتمته، مشكلاً بذلك لوحة الهم الوطني، لوحة الفجيعة المؤسسة للمكان على المستويين الواقعي، دم الحسين، والأفتراضي، دم الشاعر المستباح والموزع على العواصم تنتهكه وتستلبه:
مازالت الملائكة يطوفون بأزقتك
يشعلون البخور
ولدرء براءتك من هشيم صرخات خمبابا
يخضبون غبارك بالحناء
كربلائيلو: سيدة لا تشيخ أبداً.
ويهرب الشاعر من أمكنته محاولاً أن يسلخ كل ذرةٍ من ذراتها، لكن عبثاً ما يحاول، فالأماكن تشتد بأصواتها تداعياتها بصورة تشكل معجمه الشخصي:
كيف لي أن أطرد الأشجار
من رأسي
ولا تتبعني الزقزقة
كيف ليأن أعري أبي من الخلافة
ولا يفيض الفرات عليّ
كيف لي أن أقول أنثى ولا أعني كربلاء.
إذن يرتمي الشاعر مرة أخرى في شباك الأشتمال، أشتمال المدينة عليه روحاً وجسداً، تشكله أينما يكون تدور عليه شراعاً رحمياً تخرج أماً ملفعة بالعباءات البيضاء، وهي دالة معنوية تصل بنا إلى نفس المكان الكربلائي، حيث تتلفع الأمهات بالطهر والنقاء، لون الصلاة والتهجد والعبادة:
وأقول مدينة
ولا تشرئب أمي متشحة بكل
الليل بيضاء
تقطر الناي في فمي وتعيدني إلى أول الحكاية
أول الحكاية التي فيها أغتسل باليقين.
جزء من دراسة للشاعر الدكتور عمار المسعودي تناول فيها مجموعة من شعراء كربلاء، وقد نشرت في مجلة أبواب العدد الأول السنة الأولى 2008، التي أصدرها الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب في كربلاء، الصفحات 12 – 16.