قراءة تحليلية في قصيدة "جبل تَرَناكي" للشاعر باسم فرات
جبل تَرَناكي
يتيمًا أقفُ أمامَ البحرِ
يرمي بوجهي عويلَهُ وظلامَهُ
كل آنٍ
حتى تخثّرَ الدمُ على سفوحي
والخضرةُ انبثقت بصحبةِ الأزلِ
يتيمًا
أقفُ أمامَ البحرِ
نهاراتٌ تهطلُ
وكم من فصولٍ تتنـزّهُ
في جسدي
على جبيني
حقولُ القطنِ تتباهى
والطيورُ تلوذُ بي
بُعَيْـدَ كلِّ خسارةٍ لها مع الأمواجِ
تلتفّ حولَ عُنُقي الغيومُ
قلادةً للوقتِ
وشاهدةً على معاركَ مهجورةٍ
أمطاري خارجةٌ على القانونِ
وشلالاتي نزيفٌ يهدرُ
على كفيّ تستريحُ الغابات
وفي أسفلِ السرةِ
ما يُغري الوعولَ بأشياءَ لا يمكنُ
البوحُ بها
كلّما حاصرتني الرياحُ
أستنجدُ بهيبتي
فتطلّ شامخةً على الأفقِ
الأفقُ ذاتُه يتقرفصُ تحتي.
وَلنَغتن – نيوزلندا
شباط 2005
في البدء نقول إن الشاعر إختار العنصر الجامد من بين عناصر الطبيعة بل أكثرها جموداً ليكون محوراً لنصه الشعري، ولقد تمكن ان يجعل الجبل على المستوى الدلالي يُوحي بدلالات متنوعة أسست لتشكيل النص بمستواه الفني. ففي هذا النص يرسم لنا الشاعر صورةً بل صوراً متعددة لجبل تَرَناكي على وفق رؤيته الشعرية التي تأسست على تخيّل متنوع الاتجاهات تأتّى من إستعمال الشاعر لأساليب بلاغية متعددة أفضت إلى هذه التشكيلات الصورية. فهو مرة يستعمل التجسيد وأخرى التشخيص فيحيل الجبل بشراً يتوامَرُ على جسد إنساني بوجه وساقين وجبين وعنق وكفين ولسان جعله يصوّر نفسَهُ على وفق رؤية الشاعر، أو يمكننا القول إن لسانه إنما هو لسان الشاعر نفسه. فها هو الجبل يحكي حكايته فيبدأ قائلاً:
يتيماً أقفُ أمام البحر
وهنا أردتُ الوقوف عند لفظ اليتيم فأقول: أما كان بإمكان الشاعر أن يبدل لفظ اليتيم ب (الوحيد) فيقول: وحيداً أقف أمام البحر، أقول بإمكانه ذلك فهو مناسب على المستوى البنائي وعلى المستوى اللغوي ولكنه غير مناسب على المستوى العاطفي الذي أراد له الشاعر أن يكون فاعلاً في عملية تشكيله للنص. ذلك أن اليُتم يختلف عن الوَحْدِ على مستوى الدلالة فهو أوسع معنى وأكثر دلالة، فالوحد من معاني اليتم أي الانفراد ولكن الإضافة في اليتم تكمن في أن اليُتمَ يكون نتيجة للفقد أما الوحدة فهي ليست بالضرورة كذلك. وعلى هذا الأساس فاليُتم يشي برائحة الحزن التي أرادها الشاعر أن تسربلَ الجبلَ فضلاً عن الإنفراد. ومثلما أنْسَنَ الشاعرُ الجبلَ يؤنسِنُ الجبلُ البحرَ ليؤكد على المستوى المكاني المعاناة التي يسببها له البحر بتأثير قربهِ منهُ. وإذ يستمر الجبلُ بسرد حكايتهِ يؤكد كبرَ حجمهِ واتساعهِ وأهميتِهِ، إذ يقول: وكم من فصولٍ تَتَنَزّهُ على جسدي/ ففي جزء منه وبالتحديد في جبهته كما يقول تتباهى حقول القطن. أما عن الطيور فيقول: والطيور تلوذ بي بُعَيْدَ كلِّ خسارةٍ لها مع الأمواج/ فالطيور إذن تلجأ إليهِ ويكون ملاذها الآمن بعدَ أن تخسرَ مكانها في البحر عندما ترتفع أمواجه، وفي هذا تصوير حسي بصري يعقبه تصوير حسي بصري آخر، إذ يقول: تلتف حول عنقي الغيوم/ ثم يذهب إلى تشبيه هذه الغيوم بالقلادةِ وهو تشبيهٌ موفقٌ مؤسس على مستوى تجريدي حين يسند القلادة إلى الوقت فيقول: قلادةً للوقتِ/ وهنا إشراكٌ للمستوى الزماني في التشكيل الصوري، ذلك أن الغيوم المشبّهة بالقلادةِ على عُنقِ الجبل لا بدّ لها أن تزول بتغير المناخ. وفي القول: أمطاري خارجةٌ على القانون/ تتشكل صورةٌ حسيةٌ بصريةٌ متحركةٌ تؤكد غزارة المطر وتفاوت أوقاته وكمياته وتشي بتنوع منافي مستمر يجعل سقوط الأمطار على هذا الجبل خارجاً عما هو مألوف. أما في قوله: وشلالاتي نزيفٌ يهدر/ هنا وبأسلوب التشبيه المحذوفة أداته ليكونَ المشبّهُ أكثر قرباً من المشبهِ به، يشكّل الشاعر صورةً حسيةً مشتركةً بصريةً سمعيةً متحركة، فالشلالات نزيفٌ يهدر وليست هي النزيف وفي الجملة الفعلية (يهدرُ) وصفٌ صوتي حركي للذة الشلالات. إن هذا التشكيل يشي بحالةٍ من الحزن العميق الذي تتمدَّد جذوره عميقاً في ذات الشاعر.
في جزء آخر من جسم هذا الجبل الكبير تنبسط الغابات بأشجارها الوارفة إذ يقول: على كفيّ تستريح الغابات/ وهنا تأكيد لدلالة الاتساع أيضاً المؤسس على تصوير حسي لوني أسهمت الطبيعة بعنصرها النباتي في تشكيله، أما في أسفلِ سرّةِ هذا الجبل فهناك كما يقول: ما يُغري الوعول بأشياء لايمكن البوح بها/. هنا لا بدذ من التساؤل لماذا تختار الوعولُ هذا الجزء بالتحديد من جسد الجبل لتمارس فيه أشياء لايمكن البوح بها؟ ألأنّه تحت السرّة يكون مغرياً لها. وهل هذه إلاّ وعول بشرية، وهل الجسد إلاّ جسدٌ بشريٌّ.
في المقطع الأخير من النص يؤكد الجبل ذاتَهُ وشموخَه إذ يقول: كلما حاصرتني الرياح/ أستنجد بهيبتي/ فتطلّ شامخةً على الأفق/ الأفقُ ذاتُه يتقرفص تحتي/. إن اختيار الرياح لمحاصرة الجبل كان موفقاً وذلك لإظهار حالة التكافؤ أو التوازن في القوة والصلابةِ بينهما، فهو الجبل وهي الرياح وحين يشتدّ عصفُها وحصارها له فهو إنما يستعين بهيبتهِ عليها وليس بسواها. وهنا تأكيد للذات وإعلاءٌ لشأنها، وهيبته لاتخذله فتنتصر له وتعلو بعلوّهِ سامقة على الأفق الذي يتصاغر فيرمي بنفسه أمام هيبته وشموخه.
وأرى في الختام أن أقول: إن في أنسنة الشاعر لهذا الجبل وخلع هذه الصفات الإنسانية عليه ما يشير إلى أنّهُ إنسانٌ وليس جبلاً...