"أنا صناعة نفسي لم يصنعني أحد" "هذا تلميذي وأنا صنعته" جملتان تتكرران في وسطنا الثقافي والشعري بخاصة، الأولى فيها مصداقية نوعًا ما مع غرور واضح لصاحبها، فالمبدع لا يصنعه أحد وإنما يصنع نفسه عبر موهبته التي يسقيها قراءة وتجربة وتطويرًا، لكن لو دققنا النظر جيدًا، فلا نجد شاعرًا لم يفد من مقترحات أصدقائه.
ما من مبدع إلاّ وله أصدقاء، يعرض نصوصه عليهم ويعرضون نصوصهم عليه، هذا التبادل منتشر في الوسط الأدبي في كل مكان، لا سيما في البدايات، وهو أحد روافد تشكّل الوعي، مثلما حضور النشاطات الثقافية تُسهم في معرفة تجارب الآخرين عن قرب، وربّ مقالة عابرة في جريدة نقرأها، فتحفز وعينا أو شيئًا منه، مثلما تحفّز قراءة الشعر الشاعر.
لا ريب أن هذه روافد مهمة للمبدع، ولا أظن أحدنا ينكر أهميتها التي تُشكّل مع القراءات المستمرة والمتنوعة، روافد تصقل التجربة وتُشذّبها، فتخرج نصوصنا أكثر حرفة مما كتبناه قبلها؛ نكرانها تمامًا يُعدّ غرورًا وجحدًا لكل مَن سبقنا تجربة بل وزامننا، لكنها في مجموعها لا يمكن أن تصنع مبدعًا من شخص ليس في الأساسِ مُبدعًا.
أما المقولة الثانية "هذا تلميذي وأنا صنعته" فيكررها عادة شعراء وأدباء أقلّ موهبة وجدية ومثابرة ممن يزعمون بأنهم "تلاميذهم"، ولو لم يكن "التلميذ" موهوبًا ومثابرًا لما رأيتَ شخصًا يتجرأ ويزعم هذا الزعم الباطل، فكيف لشاعر أن يصنع شاعرًا، وكيف لروائي أن يصنع روائيًّا؛ وإلى آخر قائمة الإبداع في مجالات الفنون والآداب والمعرفة؟! لكنها إحدى ضرائب النجاح والتفوق والمثابرة، لا بدّ وأن يدفعها المبدع.
يتسامى المبدع كلما تطورت تجربته الإبداعية، فانشغاله بمشروعه الإبداعي، يُنَزّهه من الوقوع في مطبات صراعات الأستاذية ومهاترات الوسط الثقافي، لأنه يعلم أن هذه المهاترات فخّ سيقوده خارج العملية الإبداعية، ويصبح الحفاظ على توازن المبدع أشبه بالمستحيل؛ فلا عجب لو رأينا المبدع المثابر خاصة، ينأى بنفسه عن كل ما يخدش مشروعه الإبداعي.
الأستاذية الحقة؛ بقدر ما هي غير موجودة؛ فهي بقوة شرطها الوجودي موجودة؛ كيف؟ إن المبدع يتعلم من الجميع، ينصت للطبيعة ولعالمه الخاص والعام، لمجتمعه مثلما ينصت لإبداعات الآخرين، عبر كتبهم ومقالاتهم وحواراتهم ومنجزهم الكتابي ككل، يتعلم من الفلاح والعامل والشحاذ والأطفال ولا أستثني حالة إنسانية، مثلما يتعلم من الحيوان والنبات، كل شيء في هذا العالم، محفّز إبداعي، ودرس في المعرفة والإبداع. فالمبدع تلميذ الجميع، بشرًا وغير بَشَرٍ، تلميذٌ بشرطِهِ الوجودي الإبداعي، لكن ما كان يحدث هذا لو لم يكن موهوبًا ومثابرًا، ومُتَلَقِّيًا جيدًا، أي قارئًا محترفًا، يهضم ما يقرأ بوعي حاد، وينتج لنا إبداعًا نتابعه ونقرأه، أو على الأقل نقرّ به، حتى أن ناكر هذا الإبداع يمنح الدليل القاطع على غيرته وحسده للمبدع.
إذًا، لا أسمح لنفسي أن أقول: بأنني صنعت نفسي من العدم ولا فضل لأحد عليّ مطلقًا؛ فهذا كلام تردده الأنا المتضخمة التي لو سيطرت على المبدع تكون سببًا رئيسًا لموته الإبداعي، مثلما أنظر بإشفاق لمن يردد واثقًا: "هذا تلميذي وأنا صنعته"، فهذا كلام يدخل ضمن الاستحواذ؛ أي إلغاء المؤثرات الكثيرة التي كَوَّنَت المبدع، مثلما همشت- حد الإقصاء- جهود سنوات طويلة قضاها المبدع بين الكتب والإنصات إلى الحياة، والتنقل بين بلدان وثقافات كثيرة إن كان جغرافيًّا ومعرفيًّا أو معرفيًّا فقط، وكانت الأسباب التي صقلت موهبته وكونت شخصيته الإبداعية والثقافية.
#باسم_فرات
[نُشر في 2017/05/21، العدد: 10639، ص(15)]
http://www.alarab.co.uk/…/%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D…