تعيش الثقافة العربية مرحلة الانكسار، ولا أقول الهزيمة لأن ثمة فارقًا بينهما، والانكسار هو انكسار الذات العربية نفسها، بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967 ميلادية، وهذا الانكسار يتجلى في تفشي الأنظمة الدكتاتورية- الريعية، فالاقتصاد الريعي كفيل بخلق عبودية المواطن إلى الحكومة، وهذا يؤدي بدوره إلى تضخم الأنا عند الحاكم، فتكون النتيجة أنظمة دكتاتورية وطبقة موظفين شللية، وتفشي الارتجال، مع ضياع الخطط العلمية الكفيلة بإنتاج برامج ترتقي بالمجتمع عامة.
هذا الانكسار يتجلى بوضوح بضياع البوصلة، فالنخب العربية منقسمة إلى فئتين، كلاهما تقودهما العواطف، ولا مكان للعمل الجماعي الـمُحكم علميًّا والمستند على تجارب شعوب عديدة، وعلى خلق روح التوازن بين التراث والحداثة؛ بين الاعتزاز بالـهُويّة وأساسها اللغة العربية والتراث، وبين تمثل قِيَم الحداثة وحقوق الإنسان، ومعايير بناء دولة وطنية فيها لغة واحدة رسمية تجمع الأمة، والفخر والاعتناء بل ودعم اللغات المحلية الأخرى بوصفها روافد مهمة وحيوية في نهر الثقافة العربية.
إن صفة الارتجال والمشاريع المبنية على عواطف، اتصفت بها النخب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حتى تسببت بضياع المجتمع العربي، وانكساره الحاد، فأصبح الاهتمام باللغات الأخرى لا سيما الإنجليزية أكبر بكثير من الاهتمام باللغة العربية، متجاهلين حقيقة متفق عليها عالميًّا، هي أن إجادة لغة أو لغات أخرى، مع جهل باللغة الوطنية الأولى، دليل فقر في الوعي واغتراب الذات العربية التائهة وسط أمواج صراعات السلطة وخيانة نخبها.
تتفق النخب العربية قاطبة باستهانتها بالتاريخ والدين والسياسة، فسهولة الفُتيا عند كل "مثقف" عربي مهما كان اختصاصه بل تجاوزه على ذوي الاختصاص لأمر شائع، ألقى بظلاله مع ثورة التواصل الاجتماعي على شرائح المجتمع جميعها، فأصبح سيل المعلومات رخيصًا وليس مجانيًّا، لا قيمة له بل في كثير منه محشو بالكذب والتلفيق والتزوير والإساءات، وقد اشترك حتى حملة شهادات عليا في تضليل الرأي العام.
لقد تحول المجتمع العربي ما بين مرضى بانبهار بكل ما هو غربي، وهؤلاء في الغالب الأعم لا يأخذون من الغرب إلاّ قشوره، فيطنبون في استعمال مفردات إنجليزية وفرنسية في أحاديثهم وفي كتاباتهم، لكنهم عشائريون بامتياز فيما يخص أعماق الحداثة، فما أن تحين فرصة ليظهروا ذواتهم الحقيقية حتى يفعلوا، فهم طائفيون، مناطقيون، متعصبون للهويات الضيقة أو للهوية التي يؤمنون بها، يحذفون من المشهد ما لا يناسبهم، متجاهلين عن عمد أن الحداثة وعي الذات، واستلهام الماضي بل ونقده وتفكيكه من أجل مستقبل أفضل، لا في شتمه والتبرُّؤ منه، والإيمان بحقوق الإنسان تعني أولاً الآخر المختلف، ورفض هضم حقوق المرأة في كل شيء ابتداءً من احترام اختياراتها ومستقبلها وليس انتهاءً بمساواتها التامة بالرجل.
وفئة أخرى ترفض الحداثة رفضًا كاملاً وتُحمّل الغرب المسؤولية عن جلّ مشاكل مجتمعات الشرق، وتتحدث عن ماضٍ ناصع لا شائبة فيه، ماض كان مثاليًّا، تريد استعادته وتعميم أنموذجه على الحاضر، فهو الحل الأمثل بالنسبة لها، في تجاهل عجيب لواقعنا المختلف كليًّا عن الماضي، يلعنون الغرب وهم أسرى نماذجه الاستهلاكية، وأعداء لقيم الحريات الفردية بكل أشكالها، يتخذون الانتخابات وسيلة للوصول إلى السلطة ومن ثم يتخذون التدابير لاستنساخ تجربة الأنظمة التي سبقتهم في الطغيان.
يعيش المجتمع العربي اليوم أزمة هوية، ونكوص نحو الطائفية، لم يسلم منها العلماني والأكثر تماهيًا مع "الحضارة الغربية" حدّ الانبهار بها والانسلاخ من هويته متباهيًا بتابعيته لهذه الحضارة، فهو لا همّ له إلاّ الإساءة إلى الإسلام واللغة العربية، فهما بحسب زعمه أساس الشرور، وتحميلهما الموبقات كلها، مسوّغين الأمر بأنه نقد ذاتي، وأن أوربا لم تخرج من عصور ظلامها نحو عصور النور والتقدم إلاّ بنقد تاريخها ونقد سلوكيات الكنيسة، لكنهم يتجاهلون أن الأوربيين لم يسيئوا قط للغاتهم واحتفظوا بجوهر المسيحية، ولم يتبرأوا من تاريخهم أبدًا، بل لا وجود لأمة تُسيءُ لنفسها ولتاريخها وتطمس أي إيجابية فيه وتنكر على نفسها أية إسهامة في الحضارة الإنسانية، وإن وجدت فينسبونها زورًا وتلفيقًا لغير العرب زاعمين بأن هؤلاء أجبروا على دخول الإسلام؛ لكن هؤلاء جميعهم ما أن تَمسّ مذهبهم بسلبية حتى يتباروا بالهجوم عليك.
إن الحفاظ على اللغة العربية والاعتزاز بها واجب بلا أدنى شكّ، بل محاولة دراسة ظواهر العزوف عنها والتباهي بحشو الكلام والأحاديث بكلمات أجنبية، ومحاولة إيجاد السبل لمعالجتها لكن ليس بالتحريم والتجريم والمنع؛ أقول إن الحفاظ على لغتنا لا يمنع تبني نظمًا غربية في بناء مؤسسات دولة ومجتمع مدني حديثة بعيدًا عن سطوة الاستبداد الديني والسياسي، ومعالجة القضايا كافة عبر هذه المؤسسات وليس عبر الفتاوى والقرارات الارتجالية.
خرافة التخلف، خرافة بحدّ ذاتها، فلا وجود لجينات تخلف عند أية مجموعة بشرية مطلقًا، وليس العرب مختلفين عن غيرهم، إنما ما يمرون به حالة انكسار تفاقمت لا سيما بعد سقوط المشروع القومي العربي وتحول "الثوريين القوميين العرب" بعد استيلائهم على السلطة إلى مستبدين وضحايا لبريقها وعبيد لها، لكن لا يعني هذا أن التطور التقني وثورة الاختراعات والاتصالات، نمت وترعرعت خارج نطاق نمو الحياة المدنية، وما مدونة حقوق الإنسان إلاّ نتيجة حتمية للتطور المتزامن لهما معًا أي التطور المدني - الحداثوي والتطور التقني، فهما يسيران متوازيان بسرعة واحدة.
إن الزعم بتخلف الغرب مدنيًّا (حضاريًّا) وتطوره تقنيًّا، يناقض الواقع وسُنن التطور العمراني، وهذا الكلام لا ينفي سلبيات المجتمع الغربي الكثيرة ومنها ماديته المفرطة، ولا يسيء لإيجابيات المجتمع العربي أو ينكرها مثلما يفعل دعاة التغريب، بل إن الدكتاتوريات العربية، وهيمنة المؤسسة الدينية، وهيمنة النخبة "المثقفة" في رفض ما لا يتفق وطروحاتها، حتى إن أكثر الأحزاب العربية "ثقافة" وهو الحزب الشيوعي مازال يرفض رفضًا قاطعًا أية محاولات نقد لرجالاته ومسيرته.
نحن مجتمع ما زالت المروءة والكرم والتكافل وحميمية العلاقات الأسرية والاجتماعية فينا قوية، ونملك لغة تُعَدّ بحق من أهم لغات العالم وأغزرها وأعمقها دلالة، وتاريخنا الأقل عنفًا ودموية وإلغاءً وإقصاءً مقارنة بجرائم الشرق والغرب قاطبة، لكننا اليوم نعيش التردّي بأبشع صوره، والانكسار بقسوته، وضياع البوصلة حتى تغشتنا ضلالات الرمال وتهويمات المخدرين بأسوأ ما أُبتُدِعَ في العقائد، وهذه لا يمكن أن ينقذها الارتماء بأحضان الغرب تمامًا ولا أحضان التراث نيامًا.
إنما الإيمان أن في تراثنا الكثير من الإيجابيات والكثير من السلبيات، وأن في الحضارة الغربية ما ينفعنا لا سيما نُظمها المعرفية وقوة النقد والمراجعة، وليس حفظ كلمات لغاتها ومقولات مفكريها وتلويث أحاديثنا اليومية بها، نعم فجعل أحاديثنا وكتاباتنا تتضمن مفردات أعجمية يمكن بكل سهولة استبدالها بمفردات عربية أكثر دلالة وأعمق، هو تسطيح للثقافة والانفتاح المعرفي؛ وهؤلاء جميعًا ما أن تنتقد طائفتهم أو تبدي رأيًا لا يحبذونه عن مدنهم أو أوطانهم أو عقائدهم أو نتاجاتهم حتى ترى ردة فعلهم عشائرية تغرف من أسوأ ما في البداوة والتطرف والتحزب.
إن التفريق بين الموقف العقائدي والموقف الثقافي، هو التفريق بين أصوليين يفرضون قراءتهم للدين وما عداها كفر وضلال، وبين موقف ثقافي يرى في الدين جزءًا من التراث الذي هو هُوية الأمة، وبحسب جلال أمين فإن المتشددين والإرهابيين لا ينظرون للدين بوصفه منتجًا ثقافيًّا وإنما عقائد ومسلمات، بينما ثقافيًّا يمكننا النظر إلى الدين بوصفه جزءًا من التركيبة النفسية للشخص وهذا ما يجب الحفاظ عليه.
لكن المشكلة أن الذين يرفضون النظر إلى الدين والتراث بعامة ثقافيًّا ليسوا المتشددين والأصوليين بل حتى دعاة الحداثة والليبراليين والتقدميين واليسار والمتغربين فضلاً عمن خلفياتهم غير عربية وعبر الحركات اليسارية وغيرها استغلوا منافذ النشر ليحاربوا العروبة والإسلام. إذ إن الجميع يتفق تمامًا مع المتشددين والإرهابيين في رفض التعامل مع العروبة والإسلام ثقافيًّا، والنظر إليهما عقائديًّا، المتشددون والإرهابيون نظرتهم المعروفة المبنية على إلغاء وتكفير أي قراءة أخرى، والنخب المضادة لهم برفضهم القاطع للدين والعروبة ثقافيًّا.
لقد انقسمت النخب العربية إلى مَن يرى الغرب إمامًا يجب أن يُتّبع، وتطرفت طائفة منهم فراحت تدعو لرفض التراث كله، بل واللغة العربية التي يراها عاجزة - وهو مخطئ تمامًا - عن اللحاق بركب العصر ومتطلباته، وهؤلاء أصيبوا بلوثة الإساءة للغة العربية والإسلام، وأن الأخيرين سبب بلائنا وتخلفنا ولن تقوم لنا قائمة حتى نتخلص منهما ونعود إلى جذورنا التي سبقت الإسلام و "الغزو" العربي الصحراوي بحسب زعمهم.
حتى وصل الأمر بحملة شهادات عليا بإطلاق تصريحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لا تمت للحقيقة بصلة وتدعو للاستغراب، مثلاً إشاعة مفاهيم منافية للواقع وللتاريخ وما دونته المصادر القريبة، إذ إن هؤلاء ينفون نفيًا قاطعًا أي وجود عربي خارج شبه الجزيرة العربية التي يجهلون حدودها الشمالية، وهذه الحدود حددها المؤرخ الروماني بليني الأكبر (ت 79 ميلادية) في كتابه الجغرافية الطبيعية، حتى العمق التركي اليوم.
مثلما ينفون هكذا بلا أدنى شعور بالمسؤولية العلمية والأخلاقية وجود أي مثقف عربي، فهم يُشيعون أن المفكرين والمؤرخين والباحثين واللغويين والمتفلسفين والمناطقة والعلماء والفقهاء كلهم ليسوا عربًا وأُجبروا على الإسلام، هكذا وكأن لم يكن محمد بن الحسن الشيباني أوّل مَن كتب في اقتصاد السوق، ولم يكن الفراهيدي صاحب أول معجم عرفته تاريخ اللغات في العالم، ولم يكن الكندي فيلسوفًا، والقائمة لا يمكن حصرها إذ تحتاج إلى مجلدات.
وأخيرًا
وأخيرًا إن نفي التخلف عن العرب محاولة مهمة لتَجَنّب "الشعور بالعار" بحسب المفكر جلال أمين، هذا الشعور الذي راح يشيعه مثقفون وأنصاف مثقفين بل وطارئين على الثقافة على حد سواء كما أوضحت أعلاه، يجعلنا نفقد الأمل في مستقبل مشرق لنا، حيث دولة المؤسسات والمجتمع المدني الحق المؤمن بمدونة حقوق الإنسان وبالكفاءة وليس المحسوبية والحريات الشخصية وأن شعارًا مثل "أموت ويحيا الوطن" يجب أن يُستبدل بشعار "أعيش ليحيا الوطن".
مسك العصا من الوسط فيما يذهب له المحافظون والمتغرّبون، أي خلق توازن في النظر إلى التراث وفي الانفتاح الحضاري - المدني ليس على الغرب فقط بل على الثقافات الأخرى قاطبة، والإيمان أن المستقبل يجب أن نكون أبناءً بررة له بوعينا، لا نأتيه ونحن أسرى الماضي أو أسرى الشعور بالدونية أمام الغرب.
مجلة الجديد باسم فرات [نُشر في 01/02/2018، العدد: 37، ص(60)]
http://aljadeedmagazine.com/?id=2448
هذا الانكسار يتجلى بوضوح بضياع البوصلة، فالنخب العربية منقسمة إلى فئتين، كلاهما تقودهما العواطف، ولا مكان للعمل الجماعي الـمُحكم علميًّا والمستند على تجارب شعوب عديدة، وعلى خلق روح التوازن بين التراث والحداثة؛ بين الاعتزاز بالـهُويّة وأساسها اللغة العربية والتراث، وبين تمثل قِيَم الحداثة وحقوق الإنسان، ومعايير بناء دولة وطنية فيها لغة واحدة رسمية تجمع الأمة، والفخر والاعتناء بل ودعم اللغات المحلية الأخرى بوصفها روافد مهمة وحيوية في نهر الثقافة العربية.
إن صفة الارتجال والمشاريع المبنية على عواطف، اتصفت بها النخب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، حتى تسببت بضياع المجتمع العربي، وانكساره الحاد، فأصبح الاهتمام باللغات الأخرى لا سيما الإنجليزية أكبر بكثير من الاهتمام باللغة العربية، متجاهلين حقيقة متفق عليها عالميًّا، هي أن إجادة لغة أو لغات أخرى، مع جهل باللغة الوطنية الأولى، دليل فقر في الوعي واغتراب الذات العربية التائهة وسط أمواج صراعات السلطة وخيانة نخبها.
تتفق النخب العربية قاطبة باستهانتها بالتاريخ والدين والسياسة، فسهولة الفُتيا عند كل "مثقف" عربي مهما كان اختصاصه بل تجاوزه على ذوي الاختصاص لأمر شائع، ألقى بظلاله مع ثورة التواصل الاجتماعي على شرائح المجتمع جميعها، فأصبح سيل المعلومات رخيصًا وليس مجانيًّا، لا قيمة له بل في كثير منه محشو بالكذب والتلفيق والتزوير والإساءات، وقد اشترك حتى حملة شهادات عليا في تضليل الرأي العام.
لقد تحول المجتمع العربي ما بين مرضى بانبهار بكل ما هو غربي، وهؤلاء في الغالب الأعم لا يأخذون من الغرب إلاّ قشوره، فيطنبون في استعمال مفردات إنجليزية وفرنسية في أحاديثهم وفي كتاباتهم، لكنهم عشائريون بامتياز فيما يخص أعماق الحداثة، فما أن تحين فرصة ليظهروا ذواتهم الحقيقية حتى يفعلوا، فهم طائفيون، مناطقيون، متعصبون للهويات الضيقة أو للهوية التي يؤمنون بها، يحذفون من المشهد ما لا يناسبهم، متجاهلين عن عمد أن الحداثة وعي الذات، واستلهام الماضي بل ونقده وتفكيكه من أجل مستقبل أفضل، لا في شتمه والتبرُّؤ منه، والإيمان بحقوق الإنسان تعني أولاً الآخر المختلف، ورفض هضم حقوق المرأة في كل شيء ابتداءً من احترام اختياراتها ومستقبلها وليس انتهاءً بمساواتها التامة بالرجل.
وفئة أخرى ترفض الحداثة رفضًا كاملاً وتُحمّل الغرب المسؤولية عن جلّ مشاكل مجتمعات الشرق، وتتحدث عن ماضٍ ناصع لا شائبة فيه، ماض كان مثاليًّا، تريد استعادته وتعميم أنموذجه على الحاضر، فهو الحل الأمثل بالنسبة لها، في تجاهل عجيب لواقعنا المختلف كليًّا عن الماضي، يلعنون الغرب وهم أسرى نماذجه الاستهلاكية، وأعداء لقيم الحريات الفردية بكل أشكالها، يتخذون الانتخابات وسيلة للوصول إلى السلطة ومن ثم يتخذون التدابير لاستنساخ تجربة الأنظمة التي سبقتهم في الطغيان.
يعيش المجتمع العربي اليوم أزمة هوية، ونكوص نحو الطائفية، لم يسلم منها العلماني والأكثر تماهيًا مع "الحضارة الغربية" حدّ الانبهار بها والانسلاخ من هويته متباهيًا بتابعيته لهذه الحضارة، فهو لا همّ له إلاّ الإساءة إلى الإسلام واللغة العربية، فهما بحسب زعمه أساس الشرور، وتحميلهما الموبقات كلها، مسوّغين الأمر بأنه نقد ذاتي، وأن أوربا لم تخرج من عصور ظلامها نحو عصور النور والتقدم إلاّ بنقد تاريخها ونقد سلوكيات الكنيسة، لكنهم يتجاهلون أن الأوربيين لم يسيئوا قط للغاتهم واحتفظوا بجوهر المسيحية، ولم يتبرأوا من تاريخهم أبدًا، بل لا وجود لأمة تُسيءُ لنفسها ولتاريخها وتطمس أي إيجابية فيه وتنكر على نفسها أية إسهامة في الحضارة الإنسانية، وإن وجدت فينسبونها زورًا وتلفيقًا لغير العرب زاعمين بأن هؤلاء أجبروا على دخول الإسلام؛ لكن هؤلاء جميعهم ما أن تَمسّ مذهبهم بسلبية حتى يتباروا بالهجوم عليك.
إن الحفاظ على اللغة العربية والاعتزاز بها واجب بلا أدنى شكّ، بل محاولة دراسة ظواهر العزوف عنها والتباهي بحشو الكلام والأحاديث بكلمات أجنبية، ومحاولة إيجاد السبل لمعالجتها لكن ليس بالتحريم والتجريم والمنع؛ أقول إن الحفاظ على لغتنا لا يمنع تبني نظمًا غربية في بناء مؤسسات دولة ومجتمع مدني حديثة بعيدًا عن سطوة الاستبداد الديني والسياسي، ومعالجة القضايا كافة عبر هذه المؤسسات وليس عبر الفتاوى والقرارات الارتجالية.
خرافة التخلف، خرافة بحدّ ذاتها، فلا وجود لجينات تخلف عند أية مجموعة بشرية مطلقًا، وليس العرب مختلفين عن غيرهم، إنما ما يمرون به حالة انكسار تفاقمت لا سيما بعد سقوط المشروع القومي العربي وتحول "الثوريين القوميين العرب" بعد استيلائهم على السلطة إلى مستبدين وضحايا لبريقها وعبيد لها، لكن لا يعني هذا أن التطور التقني وثورة الاختراعات والاتصالات، نمت وترعرعت خارج نطاق نمو الحياة المدنية، وما مدونة حقوق الإنسان إلاّ نتيجة حتمية للتطور المتزامن لهما معًا أي التطور المدني - الحداثوي والتطور التقني، فهما يسيران متوازيان بسرعة واحدة.
إن الزعم بتخلف الغرب مدنيًّا (حضاريًّا) وتطوره تقنيًّا، يناقض الواقع وسُنن التطور العمراني، وهذا الكلام لا ينفي سلبيات المجتمع الغربي الكثيرة ومنها ماديته المفرطة، ولا يسيء لإيجابيات المجتمع العربي أو ينكرها مثلما يفعل دعاة التغريب، بل إن الدكتاتوريات العربية، وهيمنة المؤسسة الدينية، وهيمنة النخبة "المثقفة" في رفض ما لا يتفق وطروحاتها، حتى إن أكثر الأحزاب العربية "ثقافة" وهو الحزب الشيوعي مازال يرفض رفضًا قاطعًا أية محاولات نقد لرجالاته ومسيرته.
نحن مجتمع ما زالت المروءة والكرم والتكافل وحميمية العلاقات الأسرية والاجتماعية فينا قوية، ونملك لغة تُعَدّ بحق من أهم لغات العالم وأغزرها وأعمقها دلالة، وتاريخنا الأقل عنفًا ودموية وإلغاءً وإقصاءً مقارنة بجرائم الشرق والغرب قاطبة، لكننا اليوم نعيش التردّي بأبشع صوره، والانكسار بقسوته، وضياع البوصلة حتى تغشتنا ضلالات الرمال وتهويمات المخدرين بأسوأ ما أُبتُدِعَ في العقائد، وهذه لا يمكن أن ينقذها الارتماء بأحضان الغرب تمامًا ولا أحضان التراث نيامًا.
إنما الإيمان أن في تراثنا الكثير من الإيجابيات والكثير من السلبيات، وأن في الحضارة الغربية ما ينفعنا لا سيما نُظمها المعرفية وقوة النقد والمراجعة، وليس حفظ كلمات لغاتها ومقولات مفكريها وتلويث أحاديثنا اليومية بها، نعم فجعل أحاديثنا وكتاباتنا تتضمن مفردات أعجمية يمكن بكل سهولة استبدالها بمفردات عربية أكثر دلالة وأعمق، هو تسطيح للثقافة والانفتاح المعرفي؛ وهؤلاء جميعًا ما أن تنتقد طائفتهم أو تبدي رأيًا لا يحبذونه عن مدنهم أو أوطانهم أو عقائدهم أو نتاجاتهم حتى ترى ردة فعلهم عشائرية تغرف من أسوأ ما في البداوة والتطرف والتحزب.
إن التفريق بين الموقف العقائدي والموقف الثقافي، هو التفريق بين أصوليين يفرضون قراءتهم للدين وما عداها كفر وضلال، وبين موقف ثقافي يرى في الدين جزءًا من التراث الذي هو هُوية الأمة، وبحسب جلال أمين فإن المتشددين والإرهابيين لا ينظرون للدين بوصفه منتجًا ثقافيًّا وإنما عقائد ومسلمات، بينما ثقافيًّا يمكننا النظر إلى الدين بوصفه جزءًا من التركيبة النفسية للشخص وهذا ما يجب الحفاظ عليه.
لكن المشكلة أن الذين يرفضون النظر إلى الدين والتراث بعامة ثقافيًّا ليسوا المتشددين والأصوليين بل حتى دعاة الحداثة والليبراليين والتقدميين واليسار والمتغربين فضلاً عمن خلفياتهم غير عربية وعبر الحركات اليسارية وغيرها استغلوا منافذ النشر ليحاربوا العروبة والإسلام. إذ إن الجميع يتفق تمامًا مع المتشددين والإرهابيين في رفض التعامل مع العروبة والإسلام ثقافيًّا، والنظر إليهما عقائديًّا، المتشددون والإرهابيون نظرتهم المعروفة المبنية على إلغاء وتكفير أي قراءة أخرى، والنخب المضادة لهم برفضهم القاطع للدين والعروبة ثقافيًّا.
لقد انقسمت النخب العربية إلى مَن يرى الغرب إمامًا يجب أن يُتّبع، وتطرفت طائفة منهم فراحت تدعو لرفض التراث كله، بل واللغة العربية التي يراها عاجزة - وهو مخطئ تمامًا - عن اللحاق بركب العصر ومتطلباته، وهؤلاء أصيبوا بلوثة الإساءة للغة العربية والإسلام، وأن الأخيرين سبب بلائنا وتخلفنا ولن تقوم لنا قائمة حتى نتخلص منهما ونعود إلى جذورنا التي سبقت الإسلام و "الغزو" العربي الصحراوي بحسب زعمهم.
حتى وصل الأمر بحملة شهادات عليا بإطلاق تصريحات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام لا تمت للحقيقة بصلة وتدعو للاستغراب، مثلاً إشاعة مفاهيم منافية للواقع وللتاريخ وما دونته المصادر القريبة، إذ إن هؤلاء ينفون نفيًا قاطعًا أي وجود عربي خارج شبه الجزيرة العربية التي يجهلون حدودها الشمالية، وهذه الحدود حددها المؤرخ الروماني بليني الأكبر (ت 79 ميلادية) في كتابه الجغرافية الطبيعية، حتى العمق التركي اليوم.
مثلما ينفون هكذا بلا أدنى شعور بالمسؤولية العلمية والأخلاقية وجود أي مثقف عربي، فهم يُشيعون أن المفكرين والمؤرخين والباحثين واللغويين والمتفلسفين والمناطقة والعلماء والفقهاء كلهم ليسوا عربًا وأُجبروا على الإسلام، هكذا وكأن لم يكن محمد بن الحسن الشيباني أوّل مَن كتب في اقتصاد السوق، ولم يكن الفراهيدي صاحب أول معجم عرفته تاريخ اللغات في العالم، ولم يكن الكندي فيلسوفًا، والقائمة لا يمكن حصرها إذ تحتاج إلى مجلدات.
وأخيرًا
وأخيرًا إن نفي التخلف عن العرب محاولة مهمة لتَجَنّب "الشعور بالعار" بحسب المفكر جلال أمين، هذا الشعور الذي راح يشيعه مثقفون وأنصاف مثقفين بل وطارئين على الثقافة على حد سواء كما أوضحت أعلاه، يجعلنا نفقد الأمل في مستقبل مشرق لنا، حيث دولة المؤسسات والمجتمع المدني الحق المؤمن بمدونة حقوق الإنسان وبالكفاءة وليس المحسوبية والحريات الشخصية وأن شعارًا مثل "أموت ويحيا الوطن" يجب أن يُستبدل بشعار "أعيش ليحيا الوطن".
مسك العصا من الوسط فيما يذهب له المحافظون والمتغرّبون، أي خلق توازن في النظر إلى التراث وفي الانفتاح الحضاري - المدني ليس على الغرب فقط بل على الثقافات الأخرى قاطبة، والإيمان أن المستقبل يجب أن نكون أبناءً بررة له بوعينا، لا نأتيه ونحن أسرى الماضي أو أسرى الشعور بالدونية أمام الغرب.
مجلة الجديد باسم فرات [نُشر في 01/02/2018، العدد: 37، ص(60)]
http://aljadeedmagazine.com/?id=2448