نُشرت في جريدة طريق الشعب، وفي المثقف
نُشرت في جريدة الزوراء 4 نيسان 2018
عوّدنا الشاعر العراقي باسم فرات على تدوين أسفاره ورحلاته شعرًا ونثرًا على وفق اللحظة الإبداعية التي يعيشها، فإذا كانت الثيمة صاعقة وتنطوي كما الغيمة المدلهمة على عروق بارقة فلا مفرّ من الشعر الذي يروّض الانفعالات والمشاعر المتفجرة، أما إذا كانت الثيمة هادئة مثل نسْمة مُنعِشة فلا مندوحة من النثر الرقيق الذي يهزّ متلقيه، ويمنحه فرصة نادرة للنشوة والتحليق.
عاش باسم فرات حتى الآن في سبعة بلدان وهي الأردن، نيوزلندا، أستراليا، اليابان، لاوس، الإكوادور والسودان لكنه ظل يحمل فيها رتبة "مُسافرٌ مُقيم" ذلك لأنه يحمل العراق في قلبه أنّى حلّ أو ارتحل، وصار بإمكانه في السنوات العشر الأخيرة أن يعرّج على بغداد كي يتبغدد في شوارعها ويستعيد بعضًا من الذكريات الشبابية العصيّة على التواري والاندثار.
لابدّ للشاعر المبدع أن يرى ما لا يراه الآخرون وهذا هو سرّ فذاذته، فهو ليس رقمًا عابرًا، بل هو عين تسجِّل كل لحظة متوهجة تنطوي على بُعدٍ درامي ما يمكن أن يُفعِّله ويكون جزءًا حيويًا منه. ففي كل هذه البلدان السبعة مناجم لا تُحصى ولا تُعدّ من الأفكار والموضوعات الشعرية التي تستفز قريحة الشاعر وتدفعه للولوج إلى بيت القصيدة، والاستمتاع بفِنائها الرحب.
إذا كانت مجموعاته الست السابقات قد تماهت في تلك البلدان التي عاش وعمل فيها الشاعر مُستلهمًا منها موضوعاته الشعرية الجديرة بالقراءة والتأمل فإن مجموعة الشعرية الجديدة التي تحمل عنوان "مَحبَرة الرُعاة" الصادرة عن دار "المُصوّرات" بالخرطوم مضمَّخة برائحة النيلين الأبيض والأزرق، ففيها يفاجأ القارئ العربي بمدنٍ وجبالٍ وأنهار ربما لم يسمع بها من قبل مثل كرمه، وكوستي، وجبل البركل، والسوباط، والزرّاف، وبحر الغزال وما إلى ذلك من أنهار لا يعرفها جيدًا سوى المتلقي السوداني الذي يُفترَض أن يعرف بلده كما يعرف راحة يده.
تتأسس هذه المجموعة الشعرية على هاجس يعرفه المقرّبون جدًا من باسم فرات، فهو شاعر أولاً، ورحّالة ثانيًا، ولعل هذين الهاجسين يتداخلان مع بعضهما بعضًا ليشكِّلا كينونته الإنسانية ورؤاه الثقافية والفنية والاجتماعية. وربما يكون مُفتتح الديوان هو خير دليل لما نذهب إليه حيث يقول الشاعر أو "سليل الفراتين" الذي أصبح "زُولا" حينما انتقل إلى الخرطوم:"عُشبتي المحبّة / والرحيل نَايِي"(ص7)، ولا أحد يشكِّك لا في محبة الشاعر ولا في ارتحالاته المتواصلة فقد أصبح حقًا جوّاب المدن، وعابرًا للمفازات البعيدة.
لا يحب باسم فرات المدن الكبيرة المتأنقة، ولا يحبِّذ العيش فيها، فهو صديق الطبيعة، وعاشق من طراز رفيع للأنهار، والجبال، والغابات، والفيافي المفتوحة على مدّ البصر. تحتفي هذه القصيدة بخصلتين أُخريين حيث تؤكد الأولى أصالته، وصوته الخاص الذي لا تشوّشه نبرات أُخر وكأنه يريد القول بأنه "مِن نسيج وحده"، بينما تشير الثانية إلى شغفهِ بالأمكنة الهامشية التي لم يطأها أحدٌ من قبل. وعلى الرغم من أنّ هذه القصيدة هي وحدة متواشجة إلاّ أنني سأكتفي باقتباس المقطع الأول منها حيث يقول فيه:"لا أُجيد إتبّاعَ خُطُوَاتِ غيري / مهووسُ بالهامشيّ والمهملِ / نداءاتُ الأطرافِ تُغْريني / فأشعرُ بالمَللِ من مدنٍ / ببذلةٍ وبِرَبْطَة عُنُق"(ص.
وبما أنه يحب الطبيعة العذراء ويُمجِّدها فلا غرابة أن يكتب عن حنين الأشجار العالية في الطُرُقات إلى الغابات البعيدة. أشرنا سلفًا إلى أن الشاعر "مُسافرٌ مُقيم" لأن جذورة ضاربة في أرض العراق فمهما نأى واشتطّ به المزار فلابد أن يعود إلى رافديه ليأخذ زوّادته الجديدة للسنين القادمات، وإذا لم يعد إلى هناك فإنه يستدعي العراق إلى قصائده كما هو الحال في قصيدة "عُشبةٌ ونَاي" حيث تشرق الملحمة السومرية من جديد لتحتفي الفِيَّلة بكَلكَامش، وتذرف الدموع على أنكيدو لأنّ الآلهة استأثرت بالحياة الأبدية وتركت البشر نهبًا للموت الذي لن يفلت من أنشوطته الفظّة أي كائن حيّ مهما عمّر أو تقادمت عليه الأعوام.
تنطوي قصيدة "الخُرطوم" على هُوية هذه المجموعة الشعرية لجهة نكهتها المكانية التي لا تُصوِّر الباعة والعتّالين والسائقين حسب، وإنما لترصد مَشهدَين أساسيين لا يمكن أن يفلتا من العين الخبيرة للشاعر المبدع وهما أطفال الإشارات الضوئية، والنساء الحزينات التي يمكن أن يراهنَّ الشاعر في أي منطقة مهما كانت نائية، ومنزوية في هذا العالم. لنتأمل قوّة الشحنة الوجدانية الكامنة في الصورة الشعرية للأطفال الواقفين عند الإشارات الضوئية "حاملينَ سلالَ بؤسهم ليملأوها توسُّلاتٍ" وللقارئ أن يتخيّل طبيعة هذه الصورة المُؤثرة التي تمزّق نياط القلب ثم ينتقل فجأة إلى صورة شعرية مراوغة تحيل إلى باسقات النخيل إحالة صريحة لكنها يمكن أن تشير مجازًا إلى النساء الجميلات اللواتي "يمشطنَ النسيمَ الخجولَ بين أحضانِ النيل"(ص22).
لنعترف سلفًا بأن القصائد التي كُتبت في السودان هي أكثر غوصًا في الوقائع، والأحداث التاريخية، والأساطير من القصائد التي كُتبت في القاهرة أو في مصر عمومًا حيث نقرأ عن الملك السوداني طهارقا الذي وصلت جيوشه إلى مشارف فلسطين ثم انكفأت أمام الجيش العراقي (الآشوري) آنذاك. وفي قصيدة "جبل البركل" نصادف سجلات الملك رع الذي "خَسِرَ كُلَّ شيء لكنه رَبِحَ وَحْدَتَهُ"(ص31).
استعار الشاعر باسم فرات العديد من الكلمات من المحكية السودانية مثل "الزول"، و "الكَنداكة، والإنداية، والرحَّط" وغيرها من المفردات الدارجة وذوّبها في صوره الشعرية حتى غدت جزءًا لا يتجزأ من لُحمة النص وسَداته، بل وذهب أبعد من ذلك حينما لقّح بعض قصائدة بكلمات "ماوْريّة" مثل "المراي"، و "كيورا" و" آروها" وسواها من المفردات التي يستعملها السكّان الأصليون لنيوزلندا.
لا تقل القصائد التي كتبت عن مصر أو فيها أهمية عن سابقاتها في السودان، ونيوزلندا، والعراق لكن تبقى قصيدة "نهر النيل" هي الأكثر هيمنة على قصائد المجموعة برمتها وذلك لانطوائها على نبوءة مُخيفة نتمنى أن لا تتحقق وكأنّ الشاعر يتوقع حدوث كارثة العطش، أو شحّ الماء في النيل حيث يقول في مُستهَّل النص: "النيلُ على الأبواب / يسألُ عن شَرْبَة ماء"(ص58). وفي خاتمته المُوجِعة تكتمل الصورة المأساوية حينما يقول حانيًا: "سأصطحبُ النيل في نزهةٍ / وأروي ظَمأَه"(ص59).
تحتاج قصائد هذه المجموعة الشعرية إلى قراءة بروكسيمية ترصد العناصر المكانية، والمسافات بين الشخوص، والأبعاد الإقليمية لكل شخص على انفراد. فغالبًا ما يتناول النقاد الزمان بأشكاله المتعددة، ويعزفون عن دراسة علم المكان ربما لشحة المصادر المتعلقة بالجانب البروكسيمي الذي تخصص به الناقد الأميركي إدوار هال وبعض الكُتاب العرب مثل د. سميرة بن حبيلس، وسيزا قاسم، وأنطوان أبو زيد وغيرهم من النقاد والباحثين المتخصصين بعلم المكان.
تجدر الإشارة إلى أن باسم فرات قد أصدر سبع مجموعات شعرية تبدأ بـ" أشدُّ الهديل" وتنتهي بـ "مَحبرَة الرعاة"، إضافة إلى ثلاثة كتب في أدب الرحلات من بينها "الحُلُم البوليفاري: رحلة كولومبيا الكبرى"، وكتاب في السيرة الذاتية بعنوان "دموع الكتابة"، ومن المؤمّل أن يصدر كتابه الجديد تحت عنوان "العراق: مقالات في الثقافة والهُوية" إذ انكبّ فرات سنوات عديدة على قراءة الكتب والمصادر المتخصصة بتاريخ العراق وهُويته، وقد خرج بنتائج مهمة تنضاف إلى رصيده الفكري الذي يتجاور مع الشعر، والسيرة الذاتية، وأدب الرحلات الذي حصد فيه جائزتي "ابن بطوطة" في الإمارات، وجائزة "ناجي جواد الساعاتي" في العراق.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=590757