ينتمي الشاعر باسم فرات إلى جيل التسعينات من القرن الماضي، وهو جيل الحروب، والكوارث، والفجائع الكبيرة التي أفضَتْ إلى هزّاتٍ، عنيفةٍ، متتالية قوّضت الكثير من القيم والتقاليد الإجتماعية، ونسفتْ العديد من المفاهيم الثقافية التي كانت ترتكن إليها الأجيال السابقة. وكان أبرز ممثلي جيل التسعينات يؤكدون بأن الواقع العراقي غِبَّ حرب الخليج الثانية، أو حتى قبلها بعقدين من الزمان، كان واقعاً سوريالياً. فالمبدع في الفنون القولية لا يحتاج إلى " لغة مجنَّحة " كي يرتقي إلى تجليات هذا الواقع " الإكزوتيكي " الغريب. ولا يحتاج أيضاً إلى مخيلة سوريالية لكي تلتقط إفرازاته، أو تصوِّر معطياته العجائبية. وكل الذي يحتاجه هو القدرة على الرصد والإلتقاط، وآلية مرهفة للتعاطي مع تداعيات هذا الواقع من دون إهمال العناصر الجمالية والفنية في كتابة النص الإبداعي. وبالرغم من قصور الحركة النقدية العراقية في متابعة المنجز الشعري التسعيني إلا أن هناك أسماءً شعرية إستطاعت أن تفرض حضورها القوي، وتُشيع أجواءها ومناخاتها الشعرية، وتؤسس لرؤى وتيارات جديدة تحتفي بخطابها الإبداعي بعيداً عن هيمنة الخطابات الأخرى. والمشهد الشعري التسعيني مثل غيره من المشاهد السابقة حافل بأسماء وتجارب شعرية غزيرة نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر،أحمد سعداوي ، أحمد الشيخ علي، أحمد ناهم، أحمد عبد الحسين، أحمد هاشم، إحسان السماوي، آزاد صبحي، بشّار عبد الله، بلقيس حميد حسن، باسم فرات، بختيار علي، جمال جاسم أمين، جمال الحلاق، حسن بلاسم، حسن الصحن، حسن السلمان، حسن جوان، حسين علي يونس، حسن رحيم الخرساني، حميد حداد، حاتم عبد الهادي، حسن النصار، خالد كاكي، دلسوز حمه، رعد زامل، سليمان جوني، سلام دوّاي، سلمان داوود محمد، شعلان شريف، صفاء ذياب، صلاح حيثاني، طالب السوداني، طارق حربي، عارف الساعدي، عباس خضر، عباس فاضل عبد، عباس اليوسفي، علي سعدون، عبد الخالق كيطان، عبد الرحمن الماجدي، عبد الهادي سعدون، علي مزهر، عقيل منقوش، علاوي كاظم كشيّش، عبد الأمير جرص، علي شايع، عقيل أبو غريب، غريب إسكندر، فارس حرام، فينوس فائق، فيفيان صليوة، فاطمة الحيدري، فرج الحطاب، فلاح الصوفي ، قيس ياسين، كاظم النصار، كوسار كمال، ﻜﮊال أحمد، ﮔولالة نوري، ﻜﮊال إبراهيم خدر، محمد الأمين، محسن السرّاج، معتز رشدي، ماجد كاظم موجد، ماجد الحسن، مازن المعموري، ماجد عدام، محمد غازي الأخرس، محمد الحمراني، ميديا رؤوف ﺒﻴﮔرد، نجاة عبد الله، نجاة جبار، نادية جبار، ناجي رحيم، موفق السواد، هيثم الزبيدي، وفاء عبد الرزاق. . إلخ، وعذراً للأسماء التي غابت عن ذاكرتي سهواً، أو نتيجة لعدم المتابعة، أو ربما لقصور مني سأتداركه لاحقاً. أردت من هذه المقدمة أن أضع القاريء الكريم في قلب المشهد الشعري التسعيني، وبين رموزه الأساسيين لكي أتعاطى مع تجربة الشاعر باسم فرات التي تستحق الكثير من الرصد، والدراسة، والتحليل لما تنطوي عليه من مقوّمات فكرية، وفنية، وجمالية.
• آلية البوح والإسترسال في " أشدُّ الهديل "
تتكيء تجربة الشاعر باسم فرات على ذاكرةٍ فرديةٍ مشحونةٍ بطابع " أنوي " في ديوانه الأول " أشدُّ الهديل " حيثُ تتجسم الذات عبر صورٍ مرآوية تعكس الهم الفردي الذي ينطلق من رؤية فلسفية، عميقة، تحاول أن تستنطق كينونته الداخلية الغامضة لكي تقدّم تفسيرات أولية للأسئلة العصية التي تؤرق ذاته الشعرية. إن مَنْ يكتشف حساسية الشاعر باسم فرات بالجمال، وردود أفعاله إزاء الجمال الفيزيقي للمرأة، حصراً لا تمثيلاً، ويتوقف عند ذائقته الحسيّة يعرف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء وجده، وهيامه، وولعه الصوفي بالجمال. هذا الولع الذي يتجاوز الحدود الطبيعية، ليستقر في الأفق العجائبي الذي يدور في فلك الفنتازيا. إن " الأنا " الشعرية لأي شاعر هي " أنا " متضخمة من دون شك، ولهذا فإن الشعراء المبدعين تحديداً، وغير الموهومين الذين يتحركون خارج الفضاءات السائدة يعتقدون أنهم قادرون على إعادة التوازن لهذا العالم القلق، أو صياغته من جديد. الشاعر يتطلع إلى العالم الخارجي من خلال النظّارة الملوّنة التي يضعها على عينيه الحالمتين. والشاعر، كما يذهب البعض، يرى ما لا يراه الآخرون، بل أنه الشخص الوحيد الذي يُسمَح له بكسر القواعد اللغوية بحجة الضرورة الشعرية، وأكثر من ذلك فإن الشعراء هم محطمّوا الضوابط الإجتماعية بإمتياز. من هنا يتوجب علينا ألا نستغرب حينما يستهل الشاعر باسم فرات ديوانه الأول بقصيدة تحمل عنوان " رمادكِ يا أناي تعويذة " فإذا كان رماد الأنا تعويذة فما بالنا بنار أناه في لحظات تأججها، وتوهجها، وإندلاع ألسنة نيرانها في أويقات التجلي؟ الذات أو الأنا الشعرية هي ذات خالقة، محتفية بنفسها، لأنها تستطيع أن تخلق ما يعجز عنه الآخرون. وأنا الشاعر لا تكتفي بالدوران في فلك أناها حتى وإن كان هذه الأنا مُحاطة بهالة كبيرة تخطف الأبصار، فيقين الشهرة لا يخالطة شك التجاهل والإهمال. " مُقدسة نزواتي / ومبجلة هذه الحماقات وهي تُنسَبُ لي / دعي البحر يغرقُ في رؤاي / دعي الصحراء تتيهُ بين راحتيَّ / وأنتِ مهما تفعلينَ فإنَّ جمالكِ / عائدٌ إلى شغفي. " . في قصيدة " إنتحار " تتخفى المرأة التي " ينتحر " من أجلها الشاعر بقناع الضمائر المختلفة، فتارة تلوذ بالضمير الغائب المؤنث ( هي )، ( تتشققُ السماوات من صمتها الوثني ) وحيناً تتمترس خلف الضمير المُخاطب ( أنتِ ) حتى وإن جاء مُستتراً، ( والملائكة إبتهلوا لذبول الأسى بين عينيكِ ) هذا الإنتقال من ضمير إلى آخر يأتي إستجابة لفعل البوح، والكتابة الآلية، والإنثيال العفوي الذي يتجاوز الحدود العقلانية في أثناء كتابة النص الشعري الذي يخضع لفعل المخيلة المجنحة التي تستجيب للشطحات، والومضات، والإلتماعات، والتجليات التي لا تصطف في خانة المنظومة العقلية الصارمة التي تتعامل بمنطق الأشياء الواقعية، لذلك فإن بنية النص الشعري في قصائد باسم فرات الأولى تبدو غائبة، إن صح التعبير، أو أنها بنية هلامية إن شئنا الدقة، وهي تتوزع في إتجاهات شتّى غالباً ما تأخذ شكل أسئلةٍ مُحيّرة تبحث عن إجابات مُطمئنة، بينما كان يتوجب على الشاعر أن ( يبوئر ) بنية نصه الشعري، ولا يضيع في متاهات الشطح، والوجد المقصود لذاته من أجل التعبير عن حالات شغفه الذاتي بالمحبوبة الحسناء التي لا يعرف لماذا سقط في فخ حبها الجميل." – ربما آخر العائدين أنا من متاهات غاباتها الرعوية / أرعى إنتحاري / وهو يلوذ بنزف السؤال الجليل / لماذا أحبُّكِ؟ " كان يمكن لهذه القصيدة أن تنتهي بهذا السؤال الجليل على حد وصفه، ولكنه إسترسل بصورة شعرية أخّاذة لم تستطع رغم جمالها أن تنقذ النص من ورطته، فهل هو يحبها لأن أصابع روحه باتت تلهو بشلاّل شعرها المنساب؟ ( لاحظ براعة التشبيه، والتشخيص، والأنسنة في أن يصبح للروح أصابع تلهو بشعر المحبوبة التي أخذته بمرضاته إلى ضفة الإنتحار. )، وإذا كانت واحدة من الصورة الشعرية المعبّرة ( وأنتِ مهما تفعلين فإن جمالكِ عائد إلى شغفي ) في قصيدة ( رمادكِ يا أناي تعويذة ) تذكرنا بمقولة هارون الرشيد وهو يخاطب الغيمة التي تسوقها الرياح ( إذهبي أنّى شئتِ فإن خراجك عائد لي ) فإن هناك صوراً شعرية هي رجع صدى لمناخات نزار قباني، وأجوائه الشعرية التي يتحدث فيها عن الهواجس والمشاعر والقلق والجنون، وبالذات حينما يتساءل: ( ماذا أعطيكِ أجيبيني قلقي إيماني غثياني؟ ) لكن باسم فرات يتجاوز هذه المنطقة الشعرية، ويتمركز في مثابة المبالغة المستحبة، والغلو في الوصف أو الإغراق فيه. وبالذات حينما يقول: ( سبّحتُ بإسمكِ على عدد ذرات الرمل / على عدد قطرات الماء / على عدد نبضات القلوب / فلم تقبلي تسبيحي. ) وكلنا يعرف أن هذا التسبيح مستحيل على الصعيد الواقعي، ولكنه قابل للتصديق على الصعيد الحلمي أو الإفتراضي الذي تستعين به المخيلة الشعرية لتعبِّر عن لواعجها، وتوحدها، وإندغامها بجسد المحبوب، وتماهيها بروحه اللائبة. في هذا النص الشعري المعنوَّن " درس فاتر في آخر الحب " ثمة صورة شعرية صادمة في جماليتها أظن أن أغلب أقرانه الشعراء يحسدونه عليها، وأنا أستطيع أن أقول بحيادية تامة إنني أغبطه عليها لأُمجِّد قوة إلتقاطه، وأبجّل شاعريته. ( وغيّرتُ منابع الأنهار، إذ جعلتها تنبع من أناملكِ، وتصبُّ في أناملكِ ) كان على الشاعر أن يوغل في هذه الأجواء الخاصة، ولا يدعها تفلت من بين يديه، لينتقل إلى ما هو عام ( أخبرتك أن آلهة سومر وأوروك وأريدو وبابل ونينوى وآشور وأثينا وروما / يودَّون الركوع لكِ وتقديم القرابين لجلالكِ / فرفضتِ. ) في فضاء هذا النص ثمة توظيف لتجليات المفردة الدينية التي تتمرد على سياقها التاريخي، لكن الشاعر ينجح في إلباس هذه المفردات لبوساً أدبياً مع المحافظة على أجوائها وطقوسها التي غالباً ما تأخذ منحىً ميثيولوجياً مؤسطراً. ( ونسيتِ أن لي في العشق آيات كثيرة منها / تساقط النجوم من بين أصابعكِ / وإندلاق أيامي في طريقك / وجعل جمهور الملائكة يحفّون بكِ / ويلتقطون كلماتكِ، ليجعلوا منها مزامير / تمنح الوجود ألقاً، ويستحمون يصوتكِ. ) لابد من الإشارة إلى أن الشاعر باسم فرات إستطاع أن يطوّع المفردة الدينية، ويُدجّن فضاءها لصالح النص الشعري الحديث. فهو لا يذهب إلى الطقوس القديمة، وإنما يؤسطرها ويستدعيها إلى مخيلة القاريء بعد أن يشذبها من الزوائد والتورمات التي لا تمّت إلى العملية الإبداعية بصلة. وأكثر من ذلك فإنه يوظف ( الدعاء ) الديني بعد أن يصهره في متن النص الشعري بحيث يغدو جزءاً لا يتجزأ من سياق النص ( البوحي ) وليس ( البنيوي ) هذه المعضلة التي نلمسها في نصوصه الشعرية الأولى، والتي غالباً ما تفضي إلى التعثر في إيجاد نهايات موفقة لنصوصه الشعرية التي تميل إلى الإسترسال أكثر من ميلها إلى التقشف والإقتصاد. ثمة قصائد كثيرة تدوزنها النهايات المُتقنة، أو المقفلة التي لا تقبل الحذف أو الإضافة، بحيث يخالطنا الإحساس أن هذا النص وُلِدَ مُكتمِلاً، ولا يحتاج إلى رتوش أو لمسات نهائية. كان يمكن لهذا النص أن ينتهي عندما ( تتفجر الأنهار من أناملها ) وهي ضربة فنية تهز المتلقي، وتفتح مخيلته على صورة شعرية جديدة، مُدهشة لا تنتمِ، في الأقل، إلى سياق الصور الشعرية المُستهلَكة التي فقدت حرارتها وبريقها في آنٍ معاً. في قصيدَتَي " أيام ناحلة " و " مصاهرة الأشجار " يتخطى باسم فرات هذه المشكلة، إذ تتجلى قدرته في رسم نهايات موفقة لقصائده. في قصيدة " أيام ناحلة " يُنهي نصه الشعري بسؤال حائر، كما في قصيدة " إنتحار " لكنه هنا يردف هذا التساؤل بإجابة معقولة " أنتِ النساء توحدْنَ في امرأة . . . عاصفة. " الأمر الذي يعزز وحدة القصيدة، ويشد بنيتها الداخلية، ويقدّم عذراً مقبولاً لإسترساله في الحديث عن هذه المرأة التي أحبها بعمق، وتعلق بها حد الجنون من خلال الأبيات السبعة والستين التي سبقت هذه التساؤل أو مهدّت له. في " مصاهرة الأشجار " تتضح خبرته، ليس في رسم النهايات، وإنما في صياغة الجملة الإستهلالية التي تقدح في مخيلة القاريء أو السامع شرارة من التوهج الداخلي الذي يضيء عتمة الروح، ويفتح أمام البصر والبصيرة منجماً من الصور الشعرية أخّاذة الجمال. أي أن الشاعر يستدرج متلقيه إلى الفضاء الشعري، ويزّجه فيه بسرعة فائقة تعتمد على مقياس الدهشة والإنبهار الكامنين في قوة الصورة الأولى التي تتناسل إلى صورٍ متتالية لا تقل دهشة عن سابقاتها. يقول باسم فرات في " مصاهرة الأشجار " / مطر نائم في قميصكِ / قمر يتهجاكِ / الخريف مرَّ سريعاً بين أصابعكِ / تاركاً خفقاتي تركع بين شفتيكِ. ". ولو تمعَّنا في هذا النص جيداً لأكتشفنا أنه لا يخلو من بعد إيروسي، وصور حسيّة جميلة هيمنت على النص برمته، وحرمته من السياحة في آفاق ذهنية، وروحية كان يمكن لها أن تثري النص بما هو جديد، وخارج عن المألوف، والمُستنفد. " شتاؤكِ دافيء / ونهدكِ اللازوردي / يقشعر أمام صهيل لساني / كذلك سُرتك حين تتكيء إرتعاشاتي عليها. " إن النص الشعري الذي يكتبه باسم فرات هو ليس نصاً شعرياً خالصاً، وإنما يمكن توصيفه بالنص " المهجّن " الذي تتلاقح فيه الصور الشعرية ذات المنحى الديني، بالصور الشعرية ذات المنحى الإيروسي. ففي هذه القصيدة يقول: " من فرط هذياناتي / إصطف لكِ الملائكة ساجدين. ". والتهجين لا يقتصر على حدود التلاقح بين الصور الحسية ذات البعد الإيروسي الصارخ، والصور ذات المرجعية الدينية، وإنما يتعداه إلى حدود التلاقح بين الأجناس الأدبية الأخرى كالقص، والسينما، والفوتوغراف. ولكون الشاعر باسم فرات مصوراً فوتوغرافياً محترفاً نرى دور العدسة واضحاً في تصوير الكثير من المشاهد البصرية النادرة التي تسعى فعلاً إلى تجسيد الحركة الأفقية للزمن المحكوم بالتقدم إلى أمام. تنتهي قصيدة " مصاهرة الأشجار " نهاية موفقة فيها الكثير من عناصر القوة والنجاح. " وأنا حملتُ حبك صلبانا أطوف به / هلا دققتِ مسماركِ / كي أستريح. " وسر هذا النجاح هو النَفَس القصصي الذي يتصاعد وقعه الدرامي كلما إندفعت حركة النص إلى أمام، وإزداد تعجيله وتسارعه، ليصل في نهاية الأمر إلى عملية الصلب " والمَسْمرة " وما تختزنه هذه الواقعة من صور فجائعية مستقرة في الذاكرة الجمعية للناس. وتتضح خبرة الشاعر باسم فرات في قصيدة " أشدُّ الهديل " التي أخذت المجموعة عنوانها، وتلفعت بين دفتيه حينما يعتمد الشاعر على بنية اللازمة التوكيدية، أو آلية التكرار " لستُ إلهاً / لأحبكِ كما يجب. " التي نقرأها في مستهل القصيدة وفي نهايتها. في قصيدة " الجنوبي " و " مقامات " ثمة شكل آخر من القصائد القصار التي تعتمد في بينتها على الطابع البرقي الوامض الذي يفاجئ القاريء بالدهشة، أو باللحظة التنويرية غير المتوقعة التي تهز المتلقي، وتبهره، أو تقذفه إلى العالم الحلمي المتخيل. " لأنكِ فتحتِ قميصكِ / تناثرت النجوم / في البحر. " إن هذا الشكل الشعري يقترب كثيراً من القصص القصيرة المركزة، والمكثفة، التي تنحت الصورة الشعرية نحتاً كما المثّال الذي يضرب أزميلة بدقة، وروية، وأناة ليحفر صوره الشعرية في حجر الكلمات المطواعة، والقادرة على إستنطاق الدهشة، والإعجاب، وتحيقيق المتعة الفنية.
• تجيليات الفن التقليلي في " خريف المآذن "
رغم أن الفارق الزمني ليس كبيراً بين نشر المجموعة الشعرية الأولى " أشدُّ الهديل " والمجموعة الثانية " خريف المآذن " إلا أن تجربة الشاعر باسم فرات، وأدواته الشعرية، ورؤيته الفنية في كتابة القصيدة قد تطورت كثيراً، وبدأ يمسك بزمام النص الشعري ليقول فيه أشياء محددة لا تخضع لهاجس الإنثيالات الشعرية التي لا يضبطها ضابط. وقد أصبحت قصيدته في الديوان الثاني أكثر تشذيباً، فلا مكان للأشياء الفائضة عن الحاجة إبداعياً. فهو أشبه بالفنان " التقليلي " الذي يزيح كل التكوينات الطفيلية، ويتخلص من كل الألوان الزائدة التي لا تنتمي إلى صلب العملية الفنية. وهذه الخبرة لم تأتِ إعتباطاً، وإنما جاءت نتيجة المتابعة، والمراس، والإستغراق في الجو الشعري الذي يحتاج إلى طقوس ومناخات متفردة. صحيح أن القصيدة اليوم لا تأتي، بقدر أو بآخر، إلى الشاعر، وإنما يتوجب على الشاعر أن يذهب إلى القصيدة بنفسه في هذا العصر الأوتوماتيكي المتسارع، فليست هناك فسحة كبيرة للتأمل كما هو الحال قبل قرن من الزمان. لهذا أصبحت قصيدة اليوم مختلفة، بشكل أو بآخر، عن القصيدة التي كانت تُكتب قبل ستين عاماً على وجه التحديد. لقد إنتبه باسم فرات منذ عشر سنوات تقريباً، أي منذ مغادرته العراق إلى الأردن، إلى أهمية " القصيدة المعرفية " التي تعتمد على إحالات، وإشارات، ومراجع، ومصادر، وأصول لتغذية النص الشعري. بمعنى أن فسحة التأمل تأتي بعد إستحضاره لهذه الإحالات التي توّلد لدى الشاعر إيماضات رمزية، وأسطورية، وميثيولوجية، وتاريخية. ولو تمعنا في الديوان الأول " أشد الهديل " فلا نجد هناك إلا إشارات عابرة لم يتقصدها الشاعر، وإنما جاءت عفو الخاطر ضمن السياقات الطبيعية للنص الشعري، بينما نراه في الديوان الثاني " خريف المآذن " مسكوناً بهاجس التأسيس لإحالات معرفية تكشف عن وعيه العميق بالتاريخ، وعلم الإجتماع، والثقافة الشعبية، وجغرافية المكان الكربلائي تحديداً، وما ينطوي عليه من أبعاد تراثية، وأسطورية، ودينية إستطاع أن يوظفها ببراعة عالية، لأنه إستنطق مكنونها العميق، وأفاد من جوهرها النابض الذي يظل حياً، وقابلاً للإستمرار إذا ما أحسن الشاعر الإمساك بالجذوة المتأججة، وليس الإنكباب على رمادها البارد. إن العشر سنوات الأخيرة من تجربة الشاعر باسم فرات تُعد بحق إنعطافة معرفية في حياته الثقافية، فرغم كل الكتب والمصادر التي قرأها في الداخل، على أهميتها وتنوعها، لكنها لم تكن ترقى إلى مستوى الكتب النفيسة التي كانت مُتاحة في الخارج، الأمر الذي أتاح له فسحة جديدة من التأمل، والإحساس بالحرية، والإنطلاق، وموت الشرطي الذي كان قابعاً في رأسه. إن مجرد الخروج من العراق في حقبة النظام الديكتاتوري يوفر للمبدع العراقي الإنتصار على " فكرة " السيّاف "، وقبرها في تلك الفضاءات الملعونة التي قيّدت تفكيرنا، وحريتنا لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن المُضاع. فلو لم يغادر باسم فرات لما إستطاع أن يكتب قصائد " خريف المآذن " في الداخل، أو ينشرها، في الأقل. في هذه القصيدة التي أخذت عنوان المجموعة الشعرية " خريف المآذن . . ربيع السواد دمنا! " ثمة إحدى عشرة إحالة تجسد معرفته العميقة، والدالة بالتاريخ والجغرافية الكربلائيين، وأن بعض هذه الإحالات غير معروفة لغير العراقيين، أو تحتاج إلى تأويل في الهامش، ومن بين هذه الإحالات التي وُظِّفت بشكل جيد بحيث أصبحت من نسيج النص الداخلي، ومن تلافيف بنيته العميقة، أو من لحمة النص وسداته هي " خِمبابا، كربائيلو، الحلاّج، ساحةُ الحرمين، باب القبلة، تلُّ الزينبِّية، شارعُ العباس، بابُ السلالمة، سِدرة المُنتهى، كفّا العبّاس، الحجرُ الكربلائي. " لابد من الإشارة إلى أن هذه التضمينات لم تأتِ جزافاً، وإنما لكل إسم دلالة عميقة يبتغي الشاعر أن يفجّر من خلالها دلالات أوسع تفضي إلى تقديم الواقعة بشكل شعري، ملحمي، مؤسطر. فإسم خمبابا لابد أن يستحضر في ذهن القارئ ملحمة كلكامش، ويذكّرنا بأنكيدو، وعشتار، وعشبة الخلود التي ضمّنها في قصيدة " اللافتات " في ديوانه الأول " أشدُّ الهديل " / قلتُ لك: إن العشبة كذبة يا كلكامش / والسفر خطأك المتكرر / لماذا تمضي إذن؟. هذا ليس تأويلاً شعرياً حسب، وإنما هو تأويل فلسفي، وإستنطاق للحكمة الكامنة بين تضاعيف هذه االصور الشعرية العميقة، المرهفة، الدالة التي تتجاوز غايتها الشعرية لتقف عند حافة التأويل الفلسفي الذي ينسف الصورة المتخيلة التي رسمتها الذاكرة الفردية لصانع الملحمة ومبدعها، ويقوّض ما بَنَتْهُ الذاكرة الشعبية من صور عميقة أضفتها على متن الملحمة التي إستقرت حقاً في الذاكرة الجمعية للناس مثلُها مَثُل القرآن، وألف ليلة وليلة، وغيرها من الكتب التي كسرت الأطر المحلية، وأصبحت جزءاً من الذاكرة الكونية. إن إسم " الحلاّج " لوحده يفجّر في ذاكرة القارئ العربي، في الأقل، صورة السيّاف الذي يدحرج الرأس المستقرة على الرقبة في ضربة خاطفة تقشعر لها الأبدان. كما تولّد في ذاكرتنا صورة الصوت الآخر، المقموع، والمُصادَر، والمقصي الذي يدفع رأسه ثمناً غالياً لحقه في الإختلاف، أو لأن يقول ما يريد من دون قسر أو إكراه. أما الأسماء الأخرى المتعلقة بالأماكن الكربلائية التي يحمل أغلبها طابعاً مقدساً لدى العراقيين " الشيعة " فقد جاءت منسابة، ومندغمة، ومتماهية في سياق النص، الأمر الذي أنقذها من السقوط في خانق " الفخ الطائفي " الذي تورط فيه بعض شعراء جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ولم ينجُ منه إلا البعض من الشعراء الذين ينظرون إلى العالم نظرة عميقة، متفتحة، لا تخضع إلى الأدلجة الدينية. وهذه القلة القليلة من شعراء الثمانينات والتسعينات هي الوحيدة التي فلتت من الثنائية المقيتة المنحصرة بين تفخيم الذات أو جَلْدها، فلا التعالي، والتفاخر، والغرور ينفع النص الإبداعي، ولا جلْد الذات، ولعن الظلام، والتقوقع المُوحش الذي يسد أغلب المنافذ المضيئة للنص الشعري الذي يعتمد على وقائع دينية تمجّد الخراب الديني، وتنوح عليه، ولا تحاول الخروج من شرنقته، تفيده أيضاً. وأعني بتمجيد الخراب الديني التشبث الأعمى بالقشور الخارجية للواقعة الدينية، وعدم التعاطي مع النسغ الداخلي الذي يسري في عروقها. في قصيدة " عواء إبن آوى " هناك ست إحالات مُنتقاة وهي " نهر الحسينية، ، والطف، ونهر العلقمي ، وسجن السندي ، والحر، والمقام. " إستطاع أن يشد من خلالها بنية النص الداخلية، ويفتح محاور القصيدة على فضاءات جديدة تفضي بنا إلى واقعة الطف الشهيرة، وتذكّرنا بقوة بالحُر، أحد أبطالها الأساسيين، كما تقودنا إلى مقامات " كف العباس " هذا فضلاً عن التجليات الكامنة في إحالات الشاعر إلى " نهر الحسينية " الذي وصفه في الهامش " بأنه نهر يتبختر على جسد مدينة كربلاء " أو كما جاء في متن النص " حين يمر نهر الحسينية مصلوباً فوق ريح الشماليين " وكلا التوصيفين الموفقين يدوران في فلك الصورة الفنتازية التي تنتشل مخيلة القارئ من وهدة إستغراقها في الجو الواقعي، لتقذفها في أتون التوهج الحلمي الذي تتسع دوائره وهالاته السحرية الخاطفة للأبصار كلما مضينا في قراءة القصيدة، وإندفعنا بها إلى أمام. المخيلة الشعبية تمارس فنتازيتها أحياناً. فنهر " العلقمي " الذي كان يجري في كربلاء حسب إحالة الشاعر في الهامش، قد " غيّر مجراه إحتجاجاً على مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. " وحتى لو لم يغيّر النهر مجراه واقعياً فإن الذاكرة الشعبية مُرَشحّة لأن تصدّق مثل هذا الإحتمال العجائبي بسبب المكانة الدينية شبه المقدسة التي يحتلها آل البيت في نفوس أغلب المسلمين العراقيين، الأمر الذي يرجّح إمكانية حصول هذا الإحتمال. إن توظيف " واقعة الطف " لوحدها قادرة على تثوير النص، وإستدعاء معطيات نجاحه من خلال البنية الدرامية الكامنة فيها. وبالرغم من عمق هذه المأساة الكربلائية التي هزّت الوجدان البشري آنذاك، وما تزال تفعل فعلها المؤثر في الناس، إلا أن المخيلة الشعبية قد أضفت لمساتها، و" رتّشت " هذا المشهد الفجائعي بقوة إلى الدرجة التي أصبح فيها جزءاً معجوناً بالمزاج النفسي للشخصية العراقية الشيعية. القصيدة الأخيرة التي أود أن اتوقف عندها في هذا اليوان هي قصيدة " 1-3-1967 " ومتن هذا النص برمته يوحي بأن الشاعر يكتب هنا سيرته الذاتية شعرياً. وقد وُفق في هذا النص الشعري كثيراً لأنه إلتجأ إلى لغة مكثفة، حادة، شديدة التركيز إستطاع من خلالها أن يختصر حياته المريرة في واحد وأربعين بيتاً شعرياً مكتظاً بالصور الشعرية الواخزة المعبّرة التي إستنطقت الإلم في أقصى درجات عنفه. فحتى " النهر الذي دخل المدينة متنكراً بهيأة صبيٍّ إغتصبه الجنود! " كما ورد في البيت الأخير لقصيدة " عناق لا يقطعه سوى القصف " وهي نهاية موفقة جداً، تؤكد بما يقطع الشك باليقين، بأن باسم فرات قد بات يتلاعب بنصه الشعري مثلما يشاء، ويقوده إلى برازخ الفتنة، والدهشة، واللذة، وليس العكس.
• آلية البوح والإسترسال في " أشدُّ الهديل "
تتكيء تجربة الشاعر باسم فرات على ذاكرةٍ فرديةٍ مشحونةٍ بطابع " أنوي " في ديوانه الأول " أشدُّ الهديل " حيثُ تتجسم الذات عبر صورٍ مرآوية تعكس الهم الفردي الذي ينطلق من رؤية فلسفية، عميقة، تحاول أن تستنطق كينونته الداخلية الغامضة لكي تقدّم تفسيرات أولية للأسئلة العصية التي تؤرق ذاته الشعرية. إن مَنْ يكتشف حساسية الشاعر باسم فرات بالجمال، وردود أفعاله إزاء الجمال الفيزيقي للمرأة، حصراً لا تمثيلاً، ويتوقف عند ذائقته الحسيّة يعرف الأسباب الحقيقية الكامنة وراء وجده، وهيامه، وولعه الصوفي بالجمال. هذا الولع الذي يتجاوز الحدود الطبيعية، ليستقر في الأفق العجائبي الذي يدور في فلك الفنتازيا. إن " الأنا " الشعرية لأي شاعر هي " أنا " متضخمة من دون شك، ولهذا فإن الشعراء المبدعين تحديداً، وغير الموهومين الذين يتحركون خارج الفضاءات السائدة يعتقدون أنهم قادرون على إعادة التوازن لهذا العالم القلق، أو صياغته من جديد. الشاعر يتطلع إلى العالم الخارجي من خلال النظّارة الملوّنة التي يضعها على عينيه الحالمتين. والشاعر، كما يذهب البعض، يرى ما لا يراه الآخرون، بل أنه الشخص الوحيد الذي يُسمَح له بكسر القواعد اللغوية بحجة الضرورة الشعرية، وأكثر من ذلك فإن الشعراء هم محطمّوا الضوابط الإجتماعية بإمتياز. من هنا يتوجب علينا ألا نستغرب حينما يستهل الشاعر باسم فرات ديوانه الأول بقصيدة تحمل عنوان " رمادكِ يا أناي تعويذة " فإذا كان رماد الأنا تعويذة فما بالنا بنار أناه في لحظات تأججها، وتوهجها، وإندلاع ألسنة نيرانها في أويقات التجلي؟ الذات أو الأنا الشعرية هي ذات خالقة، محتفية بنفسها، لأنها تستطيع أن تخلق ما يعجز عنه الآخرون. وأنا الشاعر لا تكتفي بالدوران في فلك أناها حتى وإن كان هذه الأنا مُحاطة بهالة كبيرة تخطف الأبصار، فيقين الشهرة لا يخالطة شك التجاهل والإهمال. " مُقدسة نزواتي / ومبجلة هذه الحماقات وهي تُنسَبُ لي / دعي البحر يغرقُ في رؤاي / دعي الصحراء تتيهُ بين راحتيَّ / وأنتِ مهما تفعلينَ فإنَّ جمالكِ / عائدٌ إلى شغفي. " . في قصيدة " إنتحار " تتخفى المرأة التي " ينتحر " من أجلها الشاعر بقناع الضمائر المختلفة، فتارة تلوذ بالضمير الغائب المؤنث ( هي )، ( تتشققُ السماوات من صمتها الوثني ) وحيناً تتمترس خلف الضمير المُخاطب ( أنتِ ) حتى وإن جاء مُستتراً، ( والملائكة إبتهلوا لذبول الأسى بين عينيكِ ) هذا الإنتقال من ضمير إلى آخر يأتي إستجابة لفعل البوح، والكتابة الآلية، والإنثيال العفوي الذي يتجاوز الحدود العقلانية في أثناء كتابة النص الشعري الذي يخضع لفعل المخيلة المجنحة التي تستجيب للشطحات، والومضات، والإلتماعات، والتجليات التي لا تصطف في خانة المنظومة العقلية الصارمة التي تتعامل بمنطق الأشياء الواقعية، لذلك فإن بنية النص الشعري في قصائد باسم فرات الأولى تبدو غائبة، إن صح التعبير، أو أنها بنية هلامية إن شئنا الدقة، وهي تتوزع في إتجاهات شتّى غالباً ما تأخذ شكل أسئلةٍ مُحيّرة تبحث عن إجابات مُطمئنة، بينما كان يتوجب على الشاعر أن ( يبوئر ) بنية نصه الشعري، ولا يضيع في متاهات الشطح، والوجد المقصود لذاته من أجل التعبير عن حالات شغفه الذاتي بالمحبوبة الحسناء التي لا يعرف لماذا سقط في فخ حبها الجميل." – ربما آخر العائدين أنا من متاهات غاباتها الرعوية / أرعى إنتحاري / وهو يلوذ بنزف السؤال الجليل / لماذا أحبُّكِ؟ " كان يمكن لهذه القصيدة أن تنتهي بهذا السؤال الجليل على حد وصفه، ولكنه إسترسل بصورة شعرية أخّاذة لم تستطع رغم جمالها أن تنقذ النص من ورطته، فهل هو يحبها لأن أصابع روحه باتت تلهو بشلاّل شعرها المنساب؟ ( لاحظ براعة التشبيه، والتشخيص، والأنسنة في أن يصبح للروح أصابع تلهو بشعر المحبوبة التي أخذته بمرضاته إلى ضفة الإنتحار. )، وإذا كانت واحدة من الصورة الشعرية المعبّرة ( وأنتِ مهما تفعلين فإن جمالكِ عائد إلى شغفي ) في قصيدة ( رمادكِ يا أناي تعويذة ) تذكرنا بمقولة هارون الرشيد وهو يخاطب الغيمة التي تسوقها الرياح ( إذهبي أنّى شئتِ فإن خراجك عائد لي ) فإن هناك صوراً شعرية هي رجع صدى لمناخات نزار قباني، وأجوائه الشعرية التي يتحدث فيها عن الهواجس والمشاعر والقلق والجنون، وبالذات حينما يتساءل: ( ماذا أعطيكِ أجيبيني قلقي إيماني غثياني؟ ) لكن باسم فرات يتجاوز هذه المنطقة الشعرية، ويتمركز في مثابة المبالغة المستحبة، والغلو في الوصف أو الإغراق فيه. وبالذات حينما يقول: ( سبّحتُ بإسمكِ على عدد ذرات الرمل / على عدد قطرات الماء / على عدد نبضات القلوب / فلم تقبلي تسبيحي. ) وكلنا يعرف أن هذا التسبيح مستحيل على الصعيد الواقعي، ولكنه قابل للتصديق على الصعيد الحلمي أو الإفتراضي الذي تستعين به المخيلة الشعرية لتعبِّر عن لواعجها، وتوحدها، وإندغامها بجسد المحبوب، وتماهيها بروحه اللائبة. في هذا النص الشعري المعنوَّن " درس فاتر في آخر الحب " ثمة صورة شعرية صادمة في جماليتها أظن أن أغلب أقرانه الشعراء يحسدونه عليها، وأنا أستطيع أن أقول بحيادية تامة إنني أغبطه عليها لأُمجِّد قوة إلتقاطه، وأبجّل شاعريته. ( وغيّرتُ منابع الأنهار، إذ جعلتها تنبع من أناملكِ، وتصبُّ في أناملكِ ) كان على الشاعر أن يوغل في هذه الأجواء الخاصة، ولا يدعها تفلت من بين يديه، لينتقل إلى ما هو عام ( أخبرتك أن آلهة سومر وأوروك وأريدو وبابل ونينوى وآشور وأثينا وروما / يودَّون الركوع لكِ وتقديم القرابين لجلالكِ / فرفضتِ. ) في فضاء هذا النص ثمة توظيف لتجليات المفردة الدينية التي تتمرد على سياقها التاريخي، لكن الشاعر ينجح في إلباس هذه المفردات لبوساً أدبياً مع المحافظة على أجوائها وطقوسها التي غالباً ما تأخذ منحىً ميثيولوجياً مؤسطراً. ( ونسيتِ أن لي في العشق آيات كثيرة منها / تساقط النجوم من بين أصابعكِ / وإندلاق أيامي في طريقك / وجعل جمهور الملائكة يحفّون بكِ / ويلتقطون كلماتكِ، ليجعلوا منها مزامير / تمنح الوجود ألقاً، ويستحمون يصوتكِ. ) لابد من الإشارة إلى أن الشاعر باسم فرات إستطاع أن يطوّع المفردة الدينية، ويُدجّن فضاءها لصالح النص الشعري الحديث. فهو لا يذهب إلى الطقوس القديمة، وإنما يؤسطرها ويستدعيها إلى مخيلة القاريء بعد أن يشذبها من الزوائد والتورمات التي لا تمّت إلى العملية الإبداعية بصلة. وأكثر من ذلك فإنه يوظف ( الدعاء ) الديني بعد أن يصهره في متن النص الشعري بحيث يغدو جزءاً لا يتجزأ من سياق النص ( البوحي ) وليس ( البنيوي ) هذه المعضلة التي نلمسها في نصوصه الشعرية الأولى، والتي غالباً ما تفضي إلى التعثر في إيجاد نهايات موفقة لنصوصه الشعرية التي تميل إلى الإسترسال أكثر من ميلها إلى التقشف والإقتصاد. ثمة قصائد كثيرة تدوزنها النهايات المُتقنة، أو المقفلة التي لا تقبل الحذف أو الإضافة، بحيث يخالطنا الإحساس أن هذا النص وُلِدَ مُكتمِلاً، ولا يحتاج إلى رتوش أو لمسات نهائية. كان يمكن لهذا النص أن ينتهي عندما ( تتفجر الأنهار من أناملها ) وهي ضربة فنية تهز المتلقي، وتفتح مخيلته على صورة شعرية جديدة، مُدهشة لا تنتمِ، في الأقل، إلى سياق الصور الشعرية المُستهلَكة التي فقدت حرارتها وبريقها في آنٍ معاً. في قصيدَتَي " أيام ناحلة " و " مصاهرة الأشجار " يتخطى باسم فرات هذه المشكلة، إذ تتجلى قدرته في رسم نهايات موفقة لقصائده. في قصيدة " أيام ناحلة " يُنهي نصه الشعري بسؤال حائر، كما في قصيدة " إنتحار " لكنه هنا يردف هذا التساؤل بإجابة معقولة " أنتِ النساء توحدْنَ في امرأة . . . عاصفة. " الأمر الذي يعزز وحدة القصيدة، ويشد بنيتها الداخلية، ويقدّم عذراً مقبولاً لإسترساله في الحديث عن هذه المرأة التي أحبها بعمق، وتعلق بها حد الجنون من خلال الأبيات السبعة والستين التي سبقت هذه التساؤل أو مهدّت له. في " مصاهرة الأشجار " تتضح خبرته، ليس في رسم النهايات، وإنما في صياغة الجملة الإستهلالية التي تقدح في مخيلة القاريء أو السامع شرارة من التوهج الداخلي الذي يضيء عتمة الروح، ويفتح أمام البصر والبصيرة منجماً من الصور الشعرية أخّاذة الجمال. أي أن الشاعر يستدرج متلقيه إلى الفضاء الشعري، ويزّجه فيه بسرعة فائقة تعتمد على مقياس الدهشة والإنبهار الكامنين في قوة الصورة الأولى التي تتناسل إلى صورٍ متتالية لا تقل دهشة عن سابقاتها. يقول باسم فرات في " مصاهرة الأشجار " / مطر نائم في قميصكِ / قمر يتهجاكِ / الخريف مرَّ سريعاً بين أصابعكِ / تاركاً خفقاتي تركع بين شفتيكِ. ". ولو تمعَّنا في هذا النص جيداً لأكتشفنا أنه لا يخلو من بعد إيروسي، وصور حسيّة جميلة هيمنت على النص برمته، وحرمته من السياحة في آفاق ذهنية، وروحية كان يمكن لها أن تثري النص بما هو جديد، وخارج عن المألوف، والمُستنفد. " شتاؤكِ دافيء / ونهدكِ اللازوردي / يقشعر أمام صهيل لساني / كذلك سُرتك حين تتكيء إرتعاشاتي عليها. " إن النص الشعري الذي يكتبه باسم فرات هو ليس نصاً شعرياً خالصاً، وإنما يمكن توصيفه بالنص " المهجّن " الذي تتلاقح فيه الصور الشعرية ذات المنحى الديني، بالصور الشعرية ذات المنحى الإيروسي. ففي هذه القصيدة يقول: " من فرط هذياناتي / إصطف لكِ الملائكة ساجدين. ". والتهجين لا يقتصر على حدود التلاقح بين الصور الحسية ذات البعد الإيروسي الصارخ، والصور ذات المرجعية الدينية، وإنما يتعداه إلى حدود التلاقح بين الأجناس الأدبية الأخرى كالقص، والسينما، والفوتوغراف. ولكون الشاعر باسم فرات مصوراً فوتوغرافياً محترفاً نرى دور العدسة واضحاً في تصوير الكثير من المشاهد البصرية النادرة التي تسعى فعلاً إلى تجسيد الحركة الأفقية للزمن المحكوم بالتقدم إلى أمام. تنتهي قصيدة " مصاهرة الأشجار " نهاية موفقة فيها الكثير من عناصر القوة والنجاح. " وأنا حملتُ حبك صلبانا أطوف به / هلا دققتِ مسماركِ / كي أستريح. " وسر هذا النجاح هو النَفَس القصصي الذي يتصاعد وقعه الدرامي كلما إندفعت حركة النص إلى أمام، وإزداد تعجيله وتسارعه، ليصل في نهاية الأمر إلى عملية الصلب " والمَسْمرة " وما تختزنه هذه الواقعة من صور فجائعية مستقرة في الذاكرة الجمعية للناس. وتتضح خبرة الشاعر باسم فرات في قصيدة " أشدُّ الهديل " التي أخذت المجموعة عنوانها، وتلفعت بين دفتيه حينما يعتمد الشاعر على بنية اللازمة التوكيدية، أو آلية التكرار " لستُ إلهاً / لأحبكِ كما يجب. " التي نقرأها في مستهل القصيدة وفي نهايتها. في قصيدة " الجنوبي " و " مقامات " ثمة شكل آخر من القصائد القصار التي تعتمد في بينتها على الطابع البرقي الوامض الذي يفاجئ القاريء بالدهشة، أو باللحظة التنويرية غير المتوقعة التي تهز المتلقي، وتبهره، أو تقذفه إلى العالم الحلمي المتخيل. " لأنكِ فتحتِ قميصكِ / تناثرت النجوم / في البحر. " إن هذا الشكل الشعري يقترب كثيراً من القصص القصيرة المركزة، والمكثفة، التي تنحت الصورة الشعرية نحتاً كما المثّال الذي يضرب أزميلة بدقة، وروية، وأناة ليحفر صوره الشعرية في حجر الكلمات المطواعة، والقادرة على إستنطاق الدهشة، والإعجاب، وتحيقيق المتعة الفنية.
• تجيليات الفن التقليلي في " خريف المآذن "
رغم أن الفارق الزمني ليس كبيراً بين نشر المجموعة الشعرية الأولى " أشدُّ الهديل " والمجموعة الثانية " خريف المآذن " إلا أن تجربة الشاعر باسم فرات، وأدواته الشعرية، ورؤيته الفنية في كتابة القصيدة قد تطورت كثيراً، وبدأ يمسك بزمام النص الشعري ليقول فيه أشياء محددة لا تخضع لهاجس الإنثيالات الشعرية التي لا يضبطها ضابط. وقد أصبحت قصيدته في الديوان الثاني أكثر تشذيباً، فلا مكان للأشياء الفائضة عن الحاجة إبداعياً. فهو أشبه بالفنان " التقليلي " الذي يزيح كل التكوينات الطفيلية، ويتخلص من كل الألوان الزائدة التي لا تنتمي إلى صلب العملية الفنية. وهذه الخبرة لم تأتِ إعتباطاً، وإنما جاءت نتيجة المتابعة، والمراس، والإستغراق في الجو الشعري الذي يحتاج إلى طقوس ومناخات متفردة. صحيح أن القصيدة اليوم لا تأتي، بقدر أو بآخر، إلى الشاعر، وإنما يتوجب على الشاعر أن يذهب إلى القصيدة بنفسه في هذا العصر الأوتوماتيكي المتسارع، فليست هناك فسحة كبيرة للتأمل كما هو الحال قبل قرن من الزمان. لهذا أصبحت قصيدة اليوم مختلفة، بشكل أو بآخر، عن القصيدة التي كانت تُكتب قبل ستين عاماً على وجه التحديد. لقد إنتبه باسم فرات منذ عشر سنوات تقريباً، أي منذ مغادرته العراق إلى الأردن، إلى أهمية " القصيدة المعرفية " التي تعتمد على إحالات، وإشارات، ومراجع، ومصادر، وأصول لتغذية النص الشعري. بمعنى أن فسحة التأمل تأتي بعد إستحضاره لهذه الإحالات التي توّلد لدى الشاعر إيماضات رمزية، وأسطورية، وميثيولوجية، وتاريخية. ولو تمعنا في الديوان الأول " أشد الهديل " فلا نجد هناك إلا إشارات عابرة لم يتقصدها الشاعر، وإنما جاءت عفو الخاطر ضمن السياقات الطبيعية للنص الشعري، بينما نراه في الديوان الثاني " خريف المآذن " مسكوناً بهاجس التأسيس لإحالات معرفية تكشف عن وعيه العميق بالتاريخ، وعلم الإجتماع، والثقافة الشعبية، وجغرافية المكان الكربلائي تحديداً، وما ينطوي عليه من أبعاد تراثية، وأسطورية، ودينية إستطاع أن يوظفها ببراعة عالية، لأنه إستنطق مكنونها العميق، وأفاد من جوهرها النابض الذي يظل حياً، وقابلاً للإستمرار إذا ما أحسن الشاعر الإمساك بالجذوة المتأججة، وليس الإنكباب على رمادها البارد. إن العشر سنوات الأخيرة من تجربة الشاعر باسم فرات تُعد بحق إنعطافة معرفية في حياته الثقافية، فرغم كل الكتب والمصادر التي قرأها في الداخل، على أهميتها وتنوعها، لكنها لم تكن ترقى إلى مستوى الكتب النفيسة التي كانت مُتاحة في الخارج، الأمر الذي أتاح له فسحة جديدة من التأمل، والإحساس بالحرية، والإنطلاق، وموت الشرطي الذي كان قابعاً في رأسه. إن مجرد الخروج من العراق في حقبة النظام الديكتاتوري يوفر للمبدع العراقي الإنتصار على " فكرة " السيّاف "، وقبرها في تلك الفضاءات الملعونة التي قيّدت تفكيرنا، وحريتنا لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن المُضاع. فلو لم يغادر باسم فرات لما إستطاع أن يكتب قصائد " خريف المآذن " في الداخل، أو ينشرها، في الأقل. في هذه القصيدة التي أخذت عنوان المجموعة الشعرية " خريف المآذن . . ربيع السواد دمنا! " ثمة إحدى عشرة إحالة تجسد معرفته العميقة، والدالة بالتاريخ والجغرافية الكربلائيين، وأن بعض هذه الإحالات غير معروفة لغير العراقيين، أو تحتاج إلى تأويل في الهامش، ومن بين هذه الإحالات التي وُظِّفت بشكل جيد بحيث أصبحت من نسيج النص الداخلي، ومن تلافيف بنيته العميقة، أو من لحمة النص وسداته هي " خِمبابا، كربائيلو، الحلاّج، ساحةُ الحرمين، باب القبلة، تلُّ الزينبِّية، شارعُ العباس، بابُ السلالمة، سِدرة المُنتهى، كفّا العبّاس، الحجرُ الكربلائي. " لابد من الإشارة إلى أن هذه التضمينات لم تأتِ جزافاً، وإنما لكل إسم دلالة عميقة يبتغي الشاعر أن يفجّر من خلالها دلالات أوسع تفضي إلى تقديم الواقعة بشكل شعري، ملحمي، مؤسطر. فإسم خمبابا لابد أن يستحضر في ذهن القارئ ملحمة كلكامش، ويذكّرنا بأنكيدو، وعشتار، وعشبة الخلود التي ضمّنها في قصيدة " اللافتات " في ديوانه الأول " أشدُّ الهديل " / قلتُ لك: إن العشبة كذبة يا كلكامش / والسفر خطأك المتكرر / لماذا تمضي إذن؟. هذا ليس تأويلاً شعرياً حسب، وإنما هو تأويل فلسفي، وإستنطاق للحكمة الكامنة بين تضاعيف هذه االصور الشعرية العميقة، المرهفة، الدالة التي تتجاوز غايتها الشعرية لتقف عند حافة التأويل الفلسفي الذي ينسف الصورة المتخيلة التي رسمتها الذاكرة الفردية لصانع الملحمة ومبدعها، ويقوّض ما بَنَتْهُ الذاكرة الشعبية من صور عميقة أضفتها على متن الملحمة التي إستقرت حقاً في الذاكرة الجمعية للناس مثلُها مَثُل القرآن، وألف ليلة وليلة، وغيرها من الكتب التي كسرت الأطر المحلية، وأصبحت جزءاً من الذاكرة الكونية. إن إسم " الحلاّج " لوحده يفجّر في ذاكرة القارئ العربي، في الأقل، صورة السيّاف الذي يدحرج الرأس المستقرة على الرقبة في ضربة خاطفة تقشعر لها الأبدان. كما تولّد في ذاكرتنا صورة الصوت الآخر، المقموع، والمُصادَر، والمقصي الذي يدفع رأسه ثمناً غالياً لحقه في الإختلاف، أو لأن يقول ما يريد من دون قسر أو إكراه. أما الأسماء الأخرى المتعلقة بالأماكن الكربلائية التي يحمل أغلبها طابعاً مقدساً لدى العراقيين " الشيعة " فقد جاءت منسابة، ومندغمة، ومتماهية في سياق النص، الأمر الذي أنقذها من السقوط في خانق " الفخ الطائفي " الذي تورط فيه بعض شعراء جيل الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، ولم ينجُ منه إلا البعض من الشعراء الذين ينظرون إلى العالم نظرة عميقة، متفتحة، لا تخضع إلى الأدلجة الدينية. وهذه القلة القليلة من شعراء الثمانينات والتسعينات هي الوحيدة التي فلتت من الثنائية المقيتة المنحصرة بين تفخيم الذات أو جَلْدها، فلا التعالي، والتفاخر، والغرور ينفع النص الإبداعي، ولا جلْد الذات، ولعن الظلام، والتقوقع المُوحش الذي يسد أغلب المنافذ المضيئة للنص الشعري الذي يعتمد على وقائع دينية تمجّد الخراب الديني، وتنوح عليه، ولا تحاول الخروج من شرنقته، تفيده أيضاً. وأعني بتمجيد الخراب الديني التشبث الأعمى بالقشور الخارجية للواقعة الدينية، وعدم التعاطي مع النسغ الداخلي الذي يسري في عروقها. في قصيدة " عواء إبن آوى " هناك ست إحالات مُنتقاة وهي " نهر الحسينية، ، والطف، ونهر العلقمي ، وسجن السندي ، والحر، والمقام. " إستطاع أن يشد من خلالها بنية النص الداخلية، ويفتح محاور القصيدة على فضاءات جديدة تفضي بنا إلى واقعة الطف الشهيرة، وتذكّرنا بقوة بالحُر، أحد أبطالها الأساسيين، كما تقودنا إلى مقامات " كف العباس " هذا فضلاً عن التجليات الكامنة في إحالات الشاعر إلى " نهر الحسينية " الذي وصفه في الهامش " بأنه نهر يتبختر على جسد مدينة كربلاء " أو كما جاء في متن النص " حين يمر نهر الحسينية مصلوباً فوق ريح الشماليين " وكلا التوصيفين الموفقين يدوران في فلك الصورة الفنتازية التي تنتشل مخيلة القارئ من وهدة إستغراقها في الجو الواقعي، لتقذفها في أتون التوهج الحلمي الذي تتسع دوائره وهالاته السحرية الخاطفة للأبصار كلما مضينا في قراءة القصيدة، وإندفعنا بها إلى أمام. المخيلة الشعبية تمارس فنتازيتها أحياناً. فنهر " العلقمي " الذي كان يجري في كربلاء حسب إحالة الشاعر في الهامش، قد " غيّر مجراه إحتجاجاً على مقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. " وحتى لو لم يغيّر النهر مجراه واقعياً فإن الذاكرة الشعبية مُرَشحّة لأن تصدّق مثل هذا الإحتمال العجائبي بسبب المكانة الدينية شبه المقدسة التي يحتلها آل البيت في نفوس أغلب المسلمين العراقيين، الأمر الذي يرجّح إمكانية حصول هذا الإحتمال. إن توظيف " واقعة الطف " لوحدها قادرة على تثوير النص، وإستدعاء معطيات نجاحه من خلال البنية الدرامية الكامنة فيها. وبالرغم من عمق هذه المأساة الكربلائية التي هزّت الوجدان البشري آنذاك، وما تزال تفعل فعلها المؤثر في الناس، إلا أن المخيلة الشعبية قد أضفت لمساتها، و" رتّشت " هذا المشهد الفجائعي بقوة إلى الدرجة التي أصبح فيها جزءاً معجوناً بالمزاج النفسي للشخصية العراقية الشيعية. القصيدة الأخيرة التي أود أن اتوقف عندها في هذا اليوان هي قصيدة " 1-3-1967 " ومتن هذا النص برمته يوحي بأن الشاعر يكتب هنا سيرته الذاتية شعرياً. وقد وُفق في هذا النص الشعري كثيراً لأنه إلتجأ إلى لغة مكثفة، حادة، شديدة التركيز إستطاع من خلالها أن يختصر حياته المريرة في واحد وأربعين بيتاً شعرياً مكتظاً بالصور الشعرية الواخزة المعبّرة التي إستنطقت الإلم في أقصى درجات عنفه. فحتى " النهر الذي دخل المدينة متنكراً بهيأة صبيٍّ إغتصبه الجنود! " كما ورد في البيت الأخير لقصيدة " عناق لا يقطعه سوى القصف " وهي نهاية موفقة جداً، تؤكد بما يقطع الشك باليقين، بأن باسم فرات قد بات يتلاعب بنصه الشعري مثلما يشاء، ويقوده إلى برازخ الفتنة، والدهشة، واللذة، وليس العكس.