الاتجاه النصّي وعلاقته بالمعانى
في نصوص الشاعر العراقي باسم فرات
تتجه النصوص عادة محمولة بلغات عديدة ومنها اللغة الوصفية واللغة الإبلاغية واللغة الرمزية والسريالية.. إلخ. ومن خلال هذه اللغات لايتوقف النصّ في دائرة المحدود طالما أنّ المعاني تدور بفلك واضح أو غامض حول الذات؛ وتتغير الذات حسب ذلك الفلك وحسب نوايا الشاعر عادة واتجاهاته في النصّ الشعري الحديث، فاتجاهات النصّ مع تعددها تأخذ على عاتقها العلاقات النصية، وهي المخاتلات الفنية وكيفية حياكة نصّ شعري من طراز خاص، أي تبدو وتؤثر أسلوبية الشاعر في النصّ والنصية، مما تحمل النصوص سمة التفاعل بين المعاني وعلاقات الذات مع الحواس والخطوات التي ترسمها نحو الخيال وفعل المتخيل فننقاد إلى ماهو مابعد الخيالي وذلك لقوّة عناصر منظومة الدهشة لتدخلنا إلى الحسّ الجمالي كمؤسسة جمالية لها مؤثراتها في الثقل الشعري للنصّ..
يتجه النصّ الشعري إلى التفاعل بوصفه مركب وصفي كي يتجه إلى اتجاهين؛ فهو في الاتجاه الأول ممارسة نصية ذات علاقات داخلية وخارجية؛ وفي الاتجاه الثاني نصّ له تفاعلاته مع المعاني والتي تتعلق به كنظام من الإحالة بحكم التركيبات الدلالية التي يتألف منها النص، ويظهر على مساحة واسعة من التفاعل؛ فالتركيبات التي يعتمدها هي بنى لغوية وأخرى دلالية، لذلك تسقط اللغة الوصفية وتحل محلها اللغة الإبلاغية، وهذا المسلك لايجرنا كون النصّ خال تماما من لغة وصفية، وإنما تضعف هذه اللغة وتندمج مع التعابير والتأويلات التي يعتمدها الباث كإجراءات نصية في النصّ الشعري الحديث..
نتجه إلى بعض نصوص الشاعر العراقي باسم فرات، وهو يقودنا من خلال العنونة وعلاقتها مع جسد النصّ، يصبح لدينا المفهوم الأول، مفهوم العنونة والذي نعتبره مفسرا أوليا للنصّ الشعري واتجاهاته وعلاقاته الدلالية مع الجسد..
ساحة الطيران تسير إلى الله بلا أجنحة
قنّاصون على ظهورهم ظلام
وفي صدورهم أقبية التاريخ
يمتطون ثعابين تنفث زبد الكتب
الكتب التي لاترتوي من الدم
من قصيدة : مقطع من ساحة الطيران
من خلال قصيدة الشاعر العراقي باسم فرات؛ نلاحظ بأن النصّ لديه جملة من الإحالة وتتوفر به بعض العلاقات والروابط التركيبية ومنها الزمانية والمكانية واللغوية، لتؤدي قدرتها النصية وعلاقتها مع المعاني التي اشتغلت عليها الذات العاملة كعالم أختارته ضمن عدة عوالم تعوم حولها..
ساحة الطيران تسير إلى الله بلا أجنحة + قنّاصون على ظهورهم ظلام + وفي صدورهم أقبية التاريخ + يمتطون ثعابين تنفث زبد الكتب + الكتب التي لاترتوي من الدم
اعتمد الشاعر على حالة التشبيه في جملته الأولى والتي نعتبرها أول جملة تركيبة تقودنا إلى المعاني كمطلع من مطالع النصّ المعتمد؛ فالمشبّه، كان ساحة الطيران ( وهي إحدى ساحات بغداد الرئيسية) بينما المشبه به، فهو ذلك الطائر الذي يبحث عن فضاء واسع لكي يستعمره؛ وحجة الشاعر هنا، هو بعد المسافة مابين الأرض ( ولفظ الجلالة الله )، إذن لدينا مسافة تقديرية من خلال البصرية وهو يرفع رأسه ليرى ذلك الفضاء الواسع والمرور من خلاله، بينما تركن في الأرض ساحة الطيران.. لو تقصينا الأمر واختصرناه فسوف نتوقف عند حالات استدلالية اعتمدها الشاعر، دون أن يسقط في التفاصيل، بل اعتمد اللغة الوصفية والتي اندمجت مع اللغة الإبلاغية، ليبلغنا الباث عن حالات رواد الساحة الحاليين:
ساحة الطيران = قنّاصون على ظهورهم ظلام .. القناصون من رواد الساحة، وبما أن الساحة تتجه إلى ( الله ) فهنا قد اعتمد الرمزية ليبلغنا عن وضعية القناصين واتجاهاتهم الآنية، وهم من فصيلة السلطة الحاكمة في بلاد مابين سيفين..
بحث الشاعر باسم فرات من خلال القول الشعري الاستعاري عن البنية التشبيهية – الاستبدالية؛ لذلك شبه آلات القنص بالظلام، فبدلا من أن يحملهم أدوات القنص، حملهم الظلام والذي رمز إلى العتمة وما تكتمه من خلايا ضارة بالآخرين.. فالرموز التي وظفها الشاعر من خلال القول الشعري، رموز معللة، اعتمدت أسباب تواجدها وتوظيفها في الجمل الشعرية الدالة..
تعال أحدّثك عن الآذان التي تغطي المدينة
عن قاع دجلة ينحب على ألف ليلة وليلة
وعن الجرار التي ملأت بغداد
بعد أن هشّم قناص ذراعي كهرمانة
رعويون ما عرفوا المرايا والتبغدد
رايات أوهامهم تغطي الطرقات
في المقاهي لحاهم تمسح الأغاني
لتترك ظلها قبورا تحكم البلاد
من قصيدة : مقطع من ساحة الطيران
عندما حدد الشاعر باسم فرات العنونة كـ ( مقطع من ساحة التحرير ) إذن هناك عدة مقاطع اعتمدها في رحلته الشعرية والتي تؤدي مسالكها إلى الساحة البغدادية المتواجدة في العاصمة بغداد، ولكنه اختار هذا المقطع من مجموعته الشعرية ( فأس تطعن الصباح ).. حيث ترك الشاعر أثرا دلاليا مترددا لايمكننا أن نتوقف معه بنقطة معينة، وخصوصا أنه من الرحالة والمتنقلين من دولة إلى أخرى وشاهد وزار وتعرّف على عوالم عديدة من حضارات العالم التي لها أثرها الفعلي على نصوصه الشعرية..
عندما انتهينا من البعد المكاني، أدخلنا الشاعر إلى بعد مكان آخر، وهكذا شكلت أبعاده المكانية وهي تحوي كائنات الشاعر والممكنات الدائرة حوله، فيدخل إلى منطقة الفلاش باك ليتذكر بعض العوالم البغدادية ومنها الكهرمانة ونهر دجلة وحكايات ألف ليلة وليلة وعلاقتها بليالي بغداد الحمراء..
تعال أحدّثك عن الآذان التي تغطي المدينة + عن قاع دجلة ينتحب على ألف ليلة وليلة + وعن الجرار التي ملأت بغداد + بعد أن هشّم قناص ذراعي كهرمانة + رعويون ما عرفوا المرايا والتبغدد + رايات أوهامهم تغطي الطرقات + في المقاهي لحاهم تمسح الأغاني + لتترك ظلها قبورا تحكم البلاد
يوجه الشاعر دعوة إلى المخاطِب الداخلي والمخاطَب الخارجي، فالنصّ يساوي لنا القول الشعري، بينما القول الشعري يساوي معنى المتكلم في النصّ، لذلك يصبح النصّ منطوقا لدلالية القول بوجهيه المتقدم والمتأخر، لو دخلنا أكثر بما قدمه الشاعر فهناك علاقة بين علم اللغة الوظيفي وعلم اللغة التركيبي، فعلاقة الأفعال بالزمنية وعلاقة بعض المفردات بأماكن الشاعر، تؤديان إلى حركة فعلية ضمن أفعال الحركة الانتقالية.. إذن النصّ الفراتي لدى الشاعر باسم فرات يستقرّ في تبيان مشهد الرؤية والذي يسوقه من خلال دعائم علائقية إلى مشهد الرؤيا لكي يكون متجانسا أكثر مع المتلقي..
تعال أحدّثك عن الآذان التي تغطي المدينة = إذن هناك عدة عوامل للحديث عن الآذان التي تغطي المدينة " بغداد " ومن هذه العوامل رؤية الشاعر وتسخير تجربته الحسية، فيكون للمحسوس علاقة مع المشهد البغدادي، فيحوّل تلك المشاهد بفعل الخيال إلى شطور امتدادية تحوي المعاني وتعكسها إلى المتلقي.. حالات الاستدراك والاستعارة من خلال البنى التشبيهية هي التي ساقت النصّ الفراتي نحو مساحة من المفاهيم الرؤيوية.. مع كلّ صورة استعارية تمثّل نصّا (وعن الجرار التي ملأت بغداد + بعد أن هشّم قناص ذراعي كهرمانة )، يقودنا الشاعر باسم فرات إلى تلك الساحة " ساحة كهرمانة ( ) " التي تنتصب في بغداد مع مجموعة من الجرار وتتوسطها كهرمانة وهي تحمل جرة يتدفق الماء منها.. وتهشيم ذراع كهرمانة يعني سقوط الجرة من بين يديها..
عندما نميل إلى النصّ فنحن في مساحة البنية الكبرى، حيث أنّ النص الشعري يقودنا إلى عدة بنى صغيرة، ولم نتوقف هنا، فالنصّ التام قد يتأسس من بنى كبيرة أيضا، فالعملية التي ننقاد إليها، عملية التعدد النصي للوصول إلى تلك العوالم التي تنتمي إليها النصوص، فلا نهاية للنصّ الشعري، وهو يتقبل الإضافات والإضافات النصية كما ورد معنا مع شعراء مختلفين.. نذهب مع بعض البنى الدلالية في القصيدة الفراتية للشاعر العراقي باسم فرات، وهو يُدخلنا بمساحة من الخيال ليرصد الأضواء الدالة على البنى النصية الصغيرة..
لم أعش بكنف أبوين
لهذا لم أعرف طعم صفعات الأب
الأب الذي سرقته رصاصة من الحياة
إنّها الحياة نفسها التي استدارت لي
لتشبعني صفعات وتترك في جبين الروح كدماتها .
لم أزرع ألعابا في طفولتي
لأحصد ذكريات
بعد أن أصحو مثل الجميع
فأكتشف أنّ قطار الأيام
سرق طفولتنا
من قصيدة : طفولة مسروقة – باسم فرات
كمنظور خارجي للنصّ، أعتبره صورة طبيعية، انتمى إليها الشاعر من خلال مرجعيته الخلفية وهو في منطقة الفلاش باك، حيث التذكر والاستذكار، ومن خلالهما بنى مدلوله في النصّ، ومثل هذه التصاوير قد تمرّ على الكثير من الناس، لذلك وضعها الطبيعي وارد جدا، ولكن تشخيص الشاعر لهذا الحدث الشعري، تشخيص منفرد لحالته المعيشية التي مرّ بها.. مما حضر الماضي الآن، ولكن مازال الحاضر مع مؤثراته على النصّ هو الذي يقودنا إلى مرحلته الآنية..
لم أعش بكنف أبوين + لهذا لم أعرف طعم صفعات الأب + الأب الذي سرقته رصاصة من الحياة + إنّها الحياة نفسها التي استدارت لي + لتشبعني صفعات وتترك في جبين الروح كدماتها . + لم أزرع ألعابا في طفولتي + لأحصد ذكريات + بعد أن أصحو مثل الجميع + فأكتشف أنّ قطار الأيام + سرق طفولتنا
لو أخذنا مفردة أب، فمثل هذه المفردات لاتدلّ على شيء، بل دلت على كائن كان متواجدا، وطالما دلالة المفردة بالماضي، فالدال يكون في الحاضر وذلك بسبب التواجد الآني للجملة التي وظفها الشاعر، ومن خلال المعاني التي أدت إلى دلالات توضيحية، امتدت تلك المعاني على بعضها، فالأثر الفعال لكلّ جملة في منطقة الفلاش باك، له حركته الآنية، وهذا يعني أننا في زمن ماضي، والمدلول في نفس الزمنية لأنه أشار إلى حالة غير متواجدة في وقتنا الراهن..
إنّ المفردات التي وظفها الشاعر باسم فرات لاتتمتع بمعاني منفردة، بل تمتعت بوظائف، فالمفردات مثلا : الأب، رصاصة، حياة، صفعات وكدمات، كلها مفردات واضحة للمتلقي، ولكن في حالة تركيبها تؤدي وظيفة من خلال الجملة المركبة.. وفي نفس الوقت وظف الشاعر بعض الأفعال التي قادت الحدث الشعري من خلال حركتها: الفعل " أعش " ، عاش ويعيش، أي هناك استمرارية في الحركة وهناك انتقالات من خلال المعيشة، فالذي عاش قبل عشرين سنة ليس كمن عاش الآن، ومن خلال هذه الحركة الانتقالية تؤدي إلى تنشيط النصّ، وتحركه كفعل له نشاطه وعدم استقراره بزاوية معينة، وكذلك الفعلان : سرق واستدار، وهما فعلان ماضيان فاندمجا في الوضع الآني من خلال الأفعال الحركية المضارعة والمستقبلية الواضحة في الجمل الشعرية..
طفولة مسروقة
لم أعش بكنف أبوين
لهذا لم أعرف طعم صفعات الأب
الأب الذي سرقته رصاصة من الحياة
إنّها الحياة نفسها التي استدارت لي
لتشبعني صفعات وتترك في جبين الروح كدماتها .
لم أزرع ألعابا في طفولتي
لأحصد ذكريات
بعد أن أصحو مثل الجميع
فأكتشف أنّ قطار الأيام
سرق طفولتنا
مقطع من ساحة الطيران
ساحة الطيران تسير إلى الله بلا أجنحة
قنّاصون على ظهورهم ظلام
وفي صدورهم أقبية التاريخ
يمتطون ثعابين تنفث زبد الكتب
الكتب التي لاترتوي من الدم
تعال أحدّثك عن الآذان التي تغطي المدينة
عن قاع دجلة ينتحب على ألف ليلة وليلة
وعن الجرار التي ملأت بغداد
بعد أن هشّم قناص ذراعي كهرمانة
رعويون ما عرفوا المرايا والتبغدد
رايات أوهامهم تغطي الطرقات
في المقاهي لحاهم تمسح الأغاني
لتترك ظلها قبورا تحكم البلاد