لا قيامة للمكان إلا في اللغة, فالمكان غريب, موحش إلى أن تنطقه. لم يكن وقوف الشاعر على الطلل إلا لتبديد الغربة والوحشة التي أصابته بعدما هجره ناسه وبذات المقام, فالمهاجر يصبح طللاً إلى أن يقف في مكان هجرته ويبدأ المكان الجديد بالوقوف على طلل الشاعر, فتتبدد غربته ويتأنسن مكانه ليقول:” أحتمي بالمطر من البلل/ وبالمناداة من ضجيج الهدوء/ أنصت للقلوب وهي تتغامز: انظروا للغريب لقد صار واحدا منا”.
” بلوغ النهر” عتبة مناصية لديوان الشاعر باسم فرات بها يمنع الجزم بالجزم. بين بلوغ هو احتلام وبلوغ هو وصول وانتهاء, يستقرئ وطناً بوطن بين العراق وبلاد أقصى شرق أسيا يكتب هذا الأقصى باللغة العربية يدجن الغربة, يقيم وطناً سابقاً بوطن عابر” وفي أخريات النهار/ كان زنبيلي* مليئا بالمحبة والذكريات” الزنبيل كلمة شفاهية عراقية أصلها الزبيل: الوعاء أو الجراب.
اللغة كالبصمة كالروح وكما لا يحتمل الجسد روحين رغم الحلول الذي يقصر أو يطول ورغم الحميمية الكبيرة التي كتب بها باسم أمكنته الجديدة حتى أتقن مكره, فلا تقول إلا إنه ابن تلك البلاد كان العراق كلحظة المدد يفاجئ باسم حتى وهو في وَلنغتون- نيوزيلندا :” ميسوبوتاميا: هناك…/ حيث زرع أسلافي الحكمة/ وحصدوا الألم/ بنوا للآلهة عروشا/ وزينوها بأمانيهم /عمدوا الماء بشهوتهم/ والطين جعلوا منه قرطاسا ومأوى/ أسلافي وقد / اتخذوا من غضب النهر تقويما لأيامهم/ليعلنوا بدء التاريخ”.
كل مدينة حياة جديدة:
سندبادية مخاتلة يرومها باسم, من ناحية تتبدى الرغبة بالعودة بدءاً باللغة والعراق الذي يتخايل بالغيوم التي تلقي بمائها وظلّها عليه ومن ناحية أخرى رغبة عميقة بالتجذر في بلاد السفر؛ حتى تكاد تقول: إنه ابن تلك المدن التي يجوبها ” هي مدن تعبرنا ونعبرها/ لتترك وشمها فينا/ مدن / نطوف فيها كالمجاذيب نعلق ذكرياتنا فيها”.
شعر السفر:
ينتقي الشاعر قصائده بعناية من أعوام عديدة, يصبغ بها رؤيا الديوان وهو بذلك ينجز حيازة للمكان من وضع اليد والتقادم, فالبلاد والمدن والمعالم والأسواق صارت جزءاً منه لم تعد صورة تذكارية التقطها, دخل في صميم تفاصيلها تنفسها وتلمس هواءها وخطا بين ناسها وألقى السلام على جيرانه” سبادي*: أمرّ على قرويين/ أكواخهم تنبت البسمة والدهشة على وجوه العابرين/ ألمّ حياءهم وأحزانهم في سلال رحيلي/ بينما الغاضرية* تستفيق على امتداد حقول القصيدة/ أهدهدها على نغم المونغ/ مستسلما للضباب/ وهو ينفث أحزانه خلال أنفاسي” ( سبادي تعني سلام / الغاضرية, أحد أسماء كربلاء مدينة الشاعر).
لكل مكان, قصيدة/ هوية/ روح ولقد كثرتْ الأماكن والشاعر ابن السفر, فلا تربكه جهات الهواء, فلكل جهة قلوعها وبذلك يضيف باسم لبنة جديدة إنْ صحتْ التسمية لشعر السفر, حيث القصيدة هي وشم لا يزول عن المكان ,فمن نهر ميكون إلى بوذا الذي لا يمل من الرحال بين ضفتيه وهو أمير الدارما وجبل فوجي وزهرة الكرز” الساكورا” في احتفالات ” الهنمي” في اليابان وهايكو باشو وساداكو البنت التي أصيب بالسرطان نتيجة إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما, فراحت تصنع مجسمات من الورق لطائر الغرنوق إذ تقول الأسطورة: إن من يصنع ألفاً من المجسمات يشفى من مرضه لكن الفتاة ماتت قبل أن تتم العدد, فراح اليابانيون ودعاة السلام يتمون العدد ومن وقتها صارت رمزا للسلام؛ يكتب باسم فرات قصائده بعفوية وتدفق وحميمية ترطب قسوة الغربة وتنجزه كشجرة منغروف جذوره في ماء الترحال لكن حنينها الأبدي لماء الرافدين” كنت معي/ تتجولين على مساحة قلب وقصيدة/ أبحت لنفسك ما لم تبحه اللغة للشاعر/ رأيتك تقطرين الفرات في مخيلة ميكون/ وتحت ظلالك يمتد الليطاني” ومن قصيدة متحف السلام في هيروشيما نقتطف” حين تدخل.. عليك أن تحذر الارتطام بالأنين/ أو أن تحرك دمعة طفلة بارتباكك”.
لغة نهرية تتجدد مع كل قصيدة:
لغة باسم كحقيبة الترحال, خفيفة كزهرة كرز مفرحة كشراب الساكي, عميقة كطعنة سيف الساموراي ولكنها مسالمة كساداكو ومتأملة كأميرة الدارما ” القمر/…./ ويمنى لحظاته/ البدينات جدا/ بالحلوى وراحة البال”
بلوغ النهر ديوان للشاعر باسم فرات صادر عن الحضارة للنشر 2012
جريدة الثورة / صفحة كتب
http://basemsoliaman.wordpress.com/2012/04/18/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%B2%D8%A9-%D8%B5%D8%AD%D9%8A%D8%AD%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%AF%D9%8A/