شريف رزق: شِعريَّة التَّكثيف
في ديوان"أشهقُ بأسلافي وأبتسِم"، لباسِم فرات
على الرَّغم منْ تعدُّدِ تجلِّيَّاتِ الشِّعريَّةِ في المشهدِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ، وتعدُّدِ آليَّاتِ إنتاجِ الشِّعريَّةِ، فإنَّنا يُمكننا - إجْمالاً - أنْ نرصُدَ تيَّارينِ رئيسينِ يُهيمنانِ على مُجْملِ آليَّاتِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ الرَّاهنةِ؛ الأوَّلِ يُركِّزُ على شِعريَّةِ اللغةِ، والثَّاني يُركِّزُ على شِعريَّةِ التَّفاصيلِ اليوميَّةِ والشَّخصيَّةِ المَعِيشَةِ؛ في الأوَّلِ يتمثَّلُ النَّصُّ عالَمًا منْ اللغةِ، ويجنحُ إلى التشكُّلاتِ المَجازيَّةِ المُشعَّةِ بالدَّلالاتِ، وكثيرًا ما بدَتْ أجْوَاء سِرياليَّةٌ في آفاقِ النَّصِّ، وفي الثَّاني يتجسَّدُ النَّصُّ مَشهدًا بصريًّا سرديًا تتجسَّدُ فيه سرديَّاتٌ من الحياةِ اليوميَّةِ المَعيشَةِ، في أداءٍ يتخفَّفُ من هيمنةِ التَّشكيلاتِ اللغويَّةِ على إنتاجِ شِعريَّةِ الخِطابِ، وثمَّةَ شعريَّةٌ تجمعُ بينَ هاتينِ الشِّعريَّتينِ المَرْكزيَّتينِ، في الشِّعريَّةِ الأُولى تتبدَّى تجاربُ منها تجربَةُ مجلَّة شِعر اللبنانيَّةِ وتجربة سليم بركات، وفي الثَّانية تتبدَّى شِعريَّةُ مُنذر مِصْري ووديع سَعادة، وفي الشِّعريَّة الجامعةِ بينَ الشِّعريَّتينِ تتبدَّى تجربةُ سعدي يوسف وأمجد ناصر، وإلى مشهدِ الشِّعريَّةِ الأُولى ينتمي الكثيرُ من شِعر باسِم فرات، ومنه ديوانُه: "أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ".
ثمَّةَ تشديدٌ واضحٌ على شِعريَّةِ اللغةِ، يتبدَّى من العتبةِ الأُولى للنَّصِّ: عنوانه، وتتبدَّى التَّشكيلات اللغويَّةُ والمَجَازيَّةُ بكثافةٍ في نسيجِ النَّصِّ، ويتَّسِم الأداءُ اللغويُّ بالتَكثيفِ اللغويِّ الواضِحِ، وبتكثيفِ البنيَةِ المَجَازيَّةِ؛ عَبْرَ التَّوسُّعِ في إنتاجِ صورٍ استعاريَّةٍ طازجةٍ، وبتكثيفِ البناءِ الشِّعريِّ، وبتكثيفِ الحالةِ الشِّعريَّةِ؛ فالتكثيفُ سِمَةٌ أساسيَّةٌ في شتى البنى النَّصيِّةِ.
ومنْ تشكُّلاتِ اللغةِ يصوغُ تشكلاتِ شِعريَّةِ خِطابِهِ، وهو يُشِيرُ إلى عملِهِ اللغويِّ في نصِّهِ: "طين الأيَّام"؛ الَّذي جاءَ على هذا النَّحوِ:
"سَأَجْمَعُ الكَلِماتِ القَديمَةَ
تلكَ التي عَتَّقَها الفَقْدُ
أُجَلِّلُها بالسَّوادِ
وَأَضَعُ عَليها آسًا وزُهورًا
أُعَطِّرُها بماءِ الوَرْدِ
ثُمَّ أُغَلّفُها بِالنَّهْرِ
لَعَلَّ مَوجَةً نَزِقَةً تَحْمِلُها
حَيْثُ مُحِبّونَ تَوَارَوْا بَعيدًا تحتَ شَجَرَةِ السِّدْرِ
يُطْفِئونَ نارًا وَقودُها طينُ أيّامي."(1)
وتتبدَّى بنيَةُ التَّكثيفِ الشِّعريِّ، منذُ البدايةِ، في المُفتتحِ عبْرَ بنيَةِ الاسْتعارَةِ:
"أنتِ سَفينَةُ النجاةِ
بأُنوثَتِكِ تَحرُسينَ أيَّامي."(2)
ويتحقَّقُ تكثيفُ البنيَةِ المَجَازيَّةِ للنَّصِّ، عَبْرَ توالي عناقيدِ الصُّورِ الجُزئيَّةِ، كمَا في قولِهِ:
"الْمَزارُ الْمُبْتَلُّ بِأَنينِ الأَرامِل
حَيثُ طُفولَتي تُسابِقُ اللَّهْوَ،
والجنائزُ تَمُرُّ،
نَشِيجٌ يَخْتَرِقُ بَراءَتي،
أَراهُ يَطوفُ في الإيوانِ والرَّدَهاتِ،
لِيُعانِقَ التُّرابَ،
بُكاءٌ مَكْتومٌ لكنَّهُ شامِخٌ، أُحَيِّيهِ بِانْتِباهَةِ طِفْل
تَضَرُّعاتٌ عَلى جُدْرانِهِ تَزيدُني خُشوعًا
رأيتُ شَهَقاتِها
تَتَمَلْمَلُ في بِـئْرِ الكَوابيسِ،
وَفي نَظَراتِها أُمَّهاتٌ غَسَلْنَ العُمْرَ بِالنُّواح."(3)
وأحيانًا تتَّخذُ البنيَةُ المَجَازيَّةُ للنَّصِّ شكلَ المَجَازِ الكُلِّيِّ، عَبْرَ بنيَةِ السَّردِ، في أداءٍ لغويٍّ مُكثَّفٍ، كمَا في قولِهِ:
"ثَـلاثـونَ سَـنَةً
قَضَيْتُها وأنا أحْفِرُ نَفَقًا
في الجَبَلِ الذي كانَ حائلاً بينَنا
لأصِلَ إليكِ
حاصَرَتْني انهِياراتٌ
والنبعُ الذي تخَلَّى عنِّي
كان يُخفي اسْمَكِ
في الكُهوفِ،
ويَرتَشِفُ حُروفَهُ
غادَرَني الأصدِقاءُ
وبَقِيتُ وَحيدًا
أَشُقُّ الصَّخْرَ."(4)
وكمَا في قولِهِ:
"أَمُرُّ بِذِكْرَياتِنا،
أَرى صَوتَكِ يَحْفِرُ عَميقًا في رِئَتي
سَأَلْتُكِ، بَرَّرْتِ الأَمْرَ بِأَنَّ أُقْحُوانًا غَفَا عَلى أَنامِلِكِ
كُنْتِ تَرمينَ خَفَقاتي بِنَهْرِ المَدينَةِ
وَعَلى ضِفَّتَيْهِ تَزْرعينَ لَهْفَتي
هكَذا ازْدَانَتِ المَدينَةُ بِالحَدائِقِ قُلْتِ لي
لم تَلْتَفِتي
بَيْنَما كانتِ الأَساطيرُ تَتَطاوَلُ
وَحينَ كادَتِ المدينَةُ أَنْ تَخْتَنِق
تَذَكَّرْتِ أَنَّ أَنفاسي
تَحْتَ قاعِ نَهْرِها
عَطْشَى إلى عِناقِكِ."(5)
وبالإضَافَةِ إلى حضورِ البنيَةِ السَّرديَّةِ تتجلَّى البنيَةُ الغنائيَّةُ:
"سَأَحْذِفُ مِنْ تَقويمي
تِلْكَ السَّنَواتِ التي لَمْ تَكُنْ
يَدُكِ فيها دَليلاً يَقودُني
إلى أَيْنَ ..
سَوْفَ أَحْذِفُ الْمُنْعَرَجاتِ الكَثيرَةَ
التي كانت بَيْنَنا
وَأُعَلِّقُ في الأَزِقَّةِ أَسماءَ أسلافي،
غَيْرَ مَعْنِيٍّ بِالْمَسافاتِ،
مازالتْ يَدُكِ دَليلي.
الذي يُبَرْهِنُ أَنَّ الْمُدُنَ المُنْدَثِرَةَ
تَصْحو حينَ نَمُرُّ فيها،
وَأَنَّ الخَرائِطَ وَشْمٌ يُغريني بِعِناقِك."(6)
ويتبدَّى التَّكثيفُ أيضًا في بناءِ النَّصِّ في نسيجٍ شِعريٍّ شديدِ الاختزالِ والتَّكثيفِ، كمَا في قولِهِ:
"المآذِنُ التي تُحيطُ بِظِلِّكِ،
لا تَصْدَحُ بِذِكْرِ اللهِ
إلاّ انْبِهارًا بِكِ."(7)
وكمَا في قولِهِ:
"أبي
قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ
هكَذا
رَدَّدْتُ وَأَنا أُحاوِلُ بِلا جَدوى
أَنْ أُزيحَكِ مِنْ مُخَيّلَتي."(
وقد يُبْنَى النَّصُّ من سِلسلَةٍ منْ المَقاطِعِ الشِّعريَّةِ المُكثَّفةِ، المُتنامية في شكلِ متواليةٍ شعريَّةٍ، كمَا في نصِّهِ: حُمَّى الفقد؛ الَّذي جاءَ على هذا النَّحوِ:
"عِندَ البابِ خَلَعْتُ الشِّتاءَ
فَأُصِبْتُ بِحُمّى الفَقْدِ
صَوتُكِ هُوَ ذِكرياتي الوَحيدَةُ
أَتَدَفَّأُ عَلَيْها في غُرْبَتي
حينَ أُغْلِقُ جَوّالي
أَرَى ضِحْكَتَكِ قَدْ سَبَقَتْني لِلسَّرير
كانَ الفَلاسِفَةُ يَتَجادَلونَ
هَل تَطابُقُ لَوْنَيْ شَعْرِكِ وَعَيْنَيْكِ
يَعودُ لِهُيامي بِكِ
أَمْ لِتِلْكَ الأَسْرارِ الكامِنَةِ في اسْمِك."(9)
إنَّ التَّكثيفَ خاصِيةٌ شِعريَّةٌ خالِصَةٌ، تمنحُ النُّصوصَ؛ الَّتي تكتنزُ بهَا طوابَعَ ودرجَاتٍ شِعريَّةٍ شتَّى، ويكشِفُ خِطابُ باسِم فرات في: أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ، عن وَعْيٍ واضِحٍ بأدْوَارِ التَّكثيفِ في إنْتاجِ شِعريَّةِ الخِطابِ، وكانَ منْ أبرَزِ أشْكالِ التَّكثيفِ حضورًا تكثيفُ الأداءِ اللغويِّ، وتكثيفُ البنيَةِ المَجَازيَّةِ، وتكثيفُ البناءِ الشِّعريِّ، وتكثيفُ الحَالةِ الشِّعريَّةِ، وهو مَا عزَّزَ منْ شِعريَّةِ نبرتِهِ، ومَنَحَ خِطابَهُ الشِّعريَّ سخاءً نصِّيًا.
الهوامش:
(1) باسِم فرات - أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ - الحضارة للنَّشر- القاهرة - 2014 - ص: 16.
(2) السَّابق - ص: 5.
(3) السَّابق - ص: 6.
(4) السَّابق - ص: 8.
(5) السَّابق - ص: 19.
(6) السَّابق - ص: 10.
(7) السَّابق - ص: 29.
( السَّابق - ص: 13.
(9) السَّابق - ص:26.
في ديوان"أشهقُ بأسلافي وأبتسِم"، لباسِم فرات
على الرَّغم منْ تعدُّدِ تجلِّيَّاتِ الشِّعريَّةِ في المشهدِ الشِّعريِّ الرَّاهنِ، وتعدُّدِ آليَّاتِ إنتاجِ الشِّعريَّةِ، فإنَّنا يُمكننا - إجْمالاً - أنْ نرصُدَ تيَّارينِ رئيسينِ يُهيمنانِ على مُجْملِ آليَّاتِ الشِّعريَّةِ العربيَّةِ الرَّاهنةِ؛ الأوَّلِ يُركِّزُ على شِعريَّةِ اللغةِ، والثَّاني يُركِّزُ على شِعريَّةِ التَّفاصيلِ اليوميَّةِ والشَّخصيَّةِ المَعِيشَةِ؛ في الأوَّلِ يتمثَّلُ النَّصُّ عالَمًا منْ اللغةِ، ويجنحُ إلى التشكُّلاتِ المَجازيَّةِ المُشعَّةِ بالدَّلالاتِ، وكثيرًا ما بدَتْ أجْوَاء سِرياليَّةٌ في آفاقِ النَّصِّ، وفي الثَّاني يتجسَّدُ النَّصُّ مَشهدًا بصريًّا سرديًا تتجسَّدُ فيه سرديَّاتٌ من الحياةِ اليوميَّةِ المَعيشَةِ، في أداءٍ يتخفَّفُ من هيمنةِ التَّشكيلاتِ اللغويَّةِ على إنتاجِ شِعريَّةِ الخِطابِ، وثمَّةَ شعريَّةٌ تجمعُ بينَ هاتينِ الشِّعريَّتينِ المَرْكزيَّتينِ، في الشِّعريَّةِ الأُولى تتبدَّى تجاربُ منها تجربَةُ مجلَّة شِعر اللبنانيَّةِ وتجربة سليم بركات، وفي الثَّانية تتبدَّى شِعريَّةُ مُنذر مِصْري ووديع سَعادة، وفي الشِّعريَّة الجامعةِ بينَ الشِّعريَّتينِ تتبدَّى تجربةُ سعدي يوسف وأمجد ناصر، وإلى مشهدِ الشِّعريَّةِ الأُولى ينتمي الكثيرُ من شِعر باسِم فرات، ومنه ديوانُه: "أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ".
ثمَّةَ تشديدٌ واضحٌ على شِعريَّةِ اللغةِ، يتبدَّى من العتبةِ الأُولى للنَّصِّ: عنوانه، وتتبدَّى التَّشكيلات اللغويَّةُ والمَجَازيَّةُ بكثافةٍ في نسيجِ النَّصِّ، ويتَّسِم الأداءُ اللغويُّ بالتَكثيفِ اللغويِّ الواضِحِ، وبتكثيفِ البنيَةِ المَجَازيَّةِ؛ عَبْرَ التَّوسُّعِ في إنتاجِ صورٍ استعاريَّةٍ طازجةٍ، وبتكثيفِ البناءِ الشِّعريِّ، وبتكثيفِ الحالةِ الشِّعريَّةِ؛ فالتكثيفُ سِمَةٌ أساسيَّةٌ في شتى البنى النَّصيِّةِ.
ومنْ تشكُّلاتِ اللغةِ يصوغُ تشكلاتِ شِعريَّةِ خِطابِهِ، وهو يُشِيرُ إلى عملِهِ اللغويِّ في نصِّهِ: "طين الأيَّام"؛ الَّذي جاءَ على هذا النَّحوِ:
"سَأَجْمَعُ الكَلِماتِ القَديمَةَ
تلكَ التي عَتَّقَها الفَقْدُ
أُجَلِّلُها بالسَّوادِ
وَأَضَعُ عَليها آسًا وزُهورًا
أُعَطِّرُها بماءِ الوَرْدِ
ثُمَّ أُغَلّفُها بِالنَّهْرِ
لَعَلَّ مَوجَةً نَزِقَةً تَحْمِلُها
حَيْثُ مُحِبّونَ تَوَارَوْا بَعيدًا تحتَ شَجَرَةِ السِّدْرِ
يُطْفِئونَ نارًا وَقودُها طينُ أيّامي."(1)
وتتبدَّى بنيَةُ التَّكثيفِ الشِّعريِّ، منذُ البدايةِ، في المُفتتحِ عبْرَ بنيَةِ الاسْتعارَةِ:
"أنتِ سَفينَةُ النجاةِ
بأُنوثَتِكِ تَحرُسينَ أيَّامي."(2)
ويتحقَّقُ تكثيفُ البنيَةِ المَجَازيَّةِ للنَّصِّ، عَبْرَ توالي عناقيدِ الصُّورِ الجُزئيَّةِ، كمَا في قولِهِ:
"الْمَزارُ الْمُبْتَلُّ بِأَنينِ الأَرامِل
حَيثُ طُفولَتي تُسابِقُ اللَّهْوَ،
والجنائزُ تَمُرُّ،
نَشِيجٌ يَخْتَرِقُ بَراءَتي،
أَراهُ يَطوفُ في الإيوانِ والرَّدَهاتِ،
لِيُعانِقَ التُّرابَ،
بُكاءٌ مَكْتومٌ لكنَّهُ شامِخٌ، أُحَيِّيهِ بِانْتِباهَةِ طِفْل
تَضَرُّعاتٌ عَلى جُدْرانِهِ تَزيدُني خُشوعًا
رأيتُ شَهَقاتِها
تَتَمَلْمَلُ في بِـئْرِ الكَوابيسِ،
وَفي نَظَراتِها أُمَّهاتٌ غَسَلْنَ العُمْرَ بِالنُّواح."(3)
وأحيانًا تتَّخذُ البنيَةُ المَجَازيَّةُ للنَّصِّ شكلَ المَجَازِ الكُلِّيِّ، عَبْرَ بنيَةِ السَّردِ، في أداءٍ لغويٍّ مُكثَّفٍ، كمَا في قولِهِ:
"ثَـلاثـونَ سَـنَةً
قَضَيْتُها وأنا أحْفِرُ نَفَقًا
في الجَبَلِ الذي كانَ حائلاً بينَنا
لأصِلَ إليكِ
حاصَرَتْني انهِياراتٌ
والنبعُ الذي تخَلَّى عنِّي
كان يُخفي اسْمَكِ
في الكُهوفِ،
ويَرتَشِفُ حُروفَهُ
غادَرَني الأصدِقاءُ
وبَقِيتُ وَحيدًا
أَشُقُّ الصَّخْرَ."(4)
وكمَا في قولِهِ:
"أَمُرُّ بِذِكْرَياتِنا،
أَرى صَوتَكِ يَحْفِرُ عَميقًا في رِئَتي
سَأَلْتُكِ، بَرَّرْتِ الأَمْرَ بِأَنَّ أُقْحُوانًا غَفَا عَلى أَنامِلِكِ
كُنْتِ تَرمينَ خَفَقاتي بِنَهْرِ المَدينَةِ
وَعَلى ضِفَّتَيْهِ تَزْرعينَ لَهْفَتي
هكَذا ازْدَانَتِ المَدينَةُ بِالحَدائِقِ قُلْتِ لي
لم تَلْتَفِتي
بَيْنَما كانتِ الأَساطيرُ تَتَطاوَلُ
وَحينَ كادَتِ المدينَةُ أَنْ تَخْتَنِق
تَذَكَّرْتِ أَنَّ أَنفاسي
تَحْتَ قاعِ نَهْرِها
عَطْشَى إلى عِناقِكِ."(5)
وبالإضَافَةِ إلى حضورِ البنيَةِ السَّرديَّةِ تتجلَّى البنيَةُ الغنائيَّةُ:
"سَأَحْذِفُ مِنْ تَقويمي
تِلْكَ السَّنَواتِ التي لَمْ تَكُنْ
يَدُكِ فيها دَليلاً يَقودُني
إلى أَيْنَ ..
سَوْفَ أَحْذِفُ الْمُنْعَرَجاتِ الكَثيرَةَ
التي كانت بَيْنَنا
وَأُعَلِّقُ في الأَزِقَّةِ أَسماءَ أسلافي،
غَيْرَ مَعْنِيٍّ بِالْمَسافاتِ،
مازالتْ يَدُكِ دَليلي.
الذي يُبَرْهِنُ أَنَّ الْمُدُنَ المُنْدَثِرَةَ
تَصْحو حينَ نَمُرُّ فيها،
وَأَنَّ الخَرائِطَ وَشْمٌ يُغريني بِعِناقِك."(6)
ويتبدَّى التَّكثيفُ أيضًا في بناءِ النَّصِّ في نسيجٍ شِعريٍّ شديدِ الاختزالِ والتَّكثيفِ، كمَا في قولِهِ:
"المآذِنُ التي تُحيطُ بِظِلِّكِ،
لا تَصْدَحُ بِذِكْرِ اللهِ
إلاّ انْبِهارًا بِكِ."(7)
وكمَا في قولِهِ:
"أبي
قَتَلَتْهُ امْرَأَةٌ
هكَذا
رَدَّدْتُ وَأَنا أُحاوِلُ بِلا جَدوى
أَنْ أُزيحَكِ مِنْ مُخَيّلَتي."(
وقد يُبْنَى النَّصُّ من سِلسلَةٍ منْ المَقاطِعِ الشِّعريَّةِ المُكثَّفةِ، المُتنامية في شكلِ متواليةٍ شعريَّةٍ، كمَا في نصِّهِ: حُمَّى الفقد؛ الَّذي جاءَ على هذا النَّحوِ:
"عِندَ البابِ خَلَعْتُ الشِّتاءَ
فَأُصِبْتُ بِحُمّى الفَقْدِ
صَوتُكِ هُوَ ذِكرياتي الوَحيدَةُ
أَتَدَفَّأُ عَلَيْها في غُرْبَتي
حينَ أُغْلِقُ جَوّالي
أَرَى ضِحْكَتَكِ قَدْ سَبَقَتْني لِلسَّرير
كانَ الفَلاسِفَةُ يَتَجادَلونَ
هَل تَطابُقُ لَوْنَيْ شَعْرِكِ وَعَيْنَيْكِ
يَعودُ لِهُيامي بِكِ
أَمْ لِتِلْكَ الأَسْرارِ الكامِنَةِ في اسْمِك."(9)
إنَّ التَّكثيفَ خاصِيةٌ شِعريَّةٌ خالِصَةٌ، تمنحُ النُّصوصَ؛ الَّتي تكتنزُ بهَا طوابَعَ ودرجَاتٍ شِعريَّةٍ شتَّى، ويكشِفُ خِطابُ باسِم فرات في: أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ، عن وَعْيٍ واضِحٍ بأدْوَارِ التَّكثيفِ في إنْتاجِ شِعريَّةِ الخِطابِ، وكانَ منْ أبرَزِ أشْكالِ التَّكثيفِ حضورًا تكثيفُ الأداءِ اللغويِّ، وتكثيفُ البنيَةِ المَجَازيَّةِ، وتكثيفُ البناءِ الشِّعريِّ، وتكثيفُ الحَالةِ الشِّعريَّةِ، وهو مَا عزَّزَ منْ شِعريَّةِ نبرتِهِ، ومَنَحَ خِطابَهُ الشِّعريَّ سخاءً نصِّيًا.
الهوامش:
(1) باسِم فرات - أشهقُ بأسلافي وأبتسِمُ - الحضارة للنَّشر- القاهرة - 2014 - ص: 16.
(2) السَّابق - ص: 5.
(3) السَّابق - ص: 6.
(4) السَّابق - ص: 8.
(5) السَّابق - ص: 19.
(6) السَّابق - ص: 10.
(7) السَّابق - ص: 29.
( السَّابق - ص: 13.
(9) السَّابق - ص:26.