من الشعراء من يقرأك قبل أن تقرأه، فإذا كتب لك القدر أن تلتقي معه على صفحات روحه وقد نقش عليها حروفه تتماهى معه !
باسم فرات شاعر كان قد قرأني !
ديوانه (أنا ثانية) وجدت فيه روحي تطوف على كل جسده اللاهوتي الحزين، هناك تنفست هواء عدمي الذي طالما كنت أفتش عنه في كون استعار اسما لا يستحقه، ذلك هو إسم (الوجود) .
الحزن سيد القصيد !
مفتاح الديوان، وسر دمائه التي راحت تجتاح أهواء الباحثين عن نهاية ضد بدايتها، وبداية ضد نهايتها... إنها رحلة الرفض...
شاعر مشاكس... يشاكس الفرح بالحزن... الوجود بالعدم...الحضور بالغيب... والأمل باليأس... والنهار بالليل... والكون بالفساد !
يقول:
أبي
حزن عميق
أمي
كتاب الحزن
حين فتحه أبي
خرجتُ
أنا
تلك هي البداية، ولكن تستمر لتبقى بداية سرمدية، لا نهاية لها، ترتزق من فؤاده شحنة التسلق إلى سقف وهمي معلق في سماء الأحلام الطفولية... لا تصله... فتبقى بداية... تنازع نفسها بالخلاص من هذا البلاء المبرم، ولكن تبقى بداية... بداية تعشق البقاء وتتمنى الخلاص في الوقت نفسه، تتمزق من داخلها، تمور بغضب مهيب شامخ، يجول في رحب الوجود ليهزأ من كل تجلياته !
الحزن هنا ليس صدفة عابرة، ولا تاريخا يتسكع على كلمات تهرب بعيدا من قلم كسيح، بل هي صميم القدر، تمارس حظها من الوجود كتاريخ لم يخلق بعد... وإذا كان له لحظة من زمن فتلد لحظة أخرى مترعة بسابقتها من زحمة الوجد، ومن تراكم الهم، ومن توافد البلاء، ومن ترافد آنات الوجع !
تلك هي البداية...
أن يخلص شاعر لبداية مشكلة، براعة حياة، وخزين قدرة على مواصلة أمر تجتاحه عوائق النفي، فليس هناك بداية تبقى محافظة على قدرها، فكيف بها وهي بداية تتصاعد من داخلها، متأزمة من هويتها، تتغذى على فتاتها!
يقول: ــ
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
فلا أجد مسربا للحرية.
أليست هي البداية؟
أليست هي الحروف الاولى؟
كانت البداية (هيولى) التجربة، تجربة واحدة، ولكنّها مادة كل التجارب التي ستمر به، قرأته التجربة، هضمته، تمثلته، أخرجته شعرا...
شعرا من جنسها...
كانت الصورة الشعرية أكبر بكثير من حافزها، يهبها من روحه ما يُحْزٍن الكلمة التي لا تجد لها موطنا في تضاعيف سطوره، فالكلمة كائن شبقي يفتش عمّن يزرع في داخله شهقة الحب، ونار الوصال، وسرمد اللوعة الحارقة، ونشوة الفرح النزق...
لم يكن شاعرا يحلق حول صورة من خلق أوهامه، فيحسب نفسه شاعرا، موهما ذاته بورم، لأنه عاش على حافّة الأشياء، بل شاعر غاص في عميق ما يرى، وعميق ما يسمع، وعميق ما يلمس، وعميق ما يشم، فكان شعره صورة مستلة من واقع حي، ولكنه يتجاوز الواقع الحي إلى (ميتا واقع)، وهناك يدلي بما هو أكبر من القصيدة...
ذلك هو أنا وهو وأنت، ممن قال لهم القدر، إنتم ضحايا إلى الأبد!
كان يحكينا !
خرج من تجربته كي يحكينا، كي يترجمنا، نحن ضحايا القدر، الذين قال لهم الزمن، لا حظَّ لكم من آناتي الأنانية، بل أنتم على هامش إمضائي، رغم علمي سوف تصرخون (لا) !
هل هو صادق ما يقول؟
لنقرا:
دع الجوائز لهم
دع المناصب لهم
دع الملابس الأنيقة جدا
تغطي كروشهم
دع لهم أحلامهم العرج
يتسلقون الحياة الكاذبة
والشهوة الزائفة
دع لهم كل شي
ودعنا
نستظل
تحت
شجرة
الشعر
الوارفة
هل حقا ما يقول أم هي مؤامرة حزن يواسي جراحه بجراحه؟
لست أدري
ولكن أدري إنه يحكينا، يترجمنا، وذلك يكفي، فإنك تشعر بأنه قرأك قبل أن تقرأه، وبأنه كتبك بحروفه قبل أن تلتقي به على صفحات روحه الساخنة
يقول:
يتيماً
أقف أمام البحر
يرمي بوجهي عويله وظلامه
كل آن
حتى تخثر الدم على سفوحي
والخضرة انبثقت بصحبة الأزل
يتيماً
أقف أمام البحر
هذا البحر عندما يهدأ يتحول إلى أغنية، أغنية خالدة، تنشده كلمات الشعر في كل مكان وفي كل زمان، ولكن حتى هدوئه هذا، الهدوء المترع بمتعة الشمس وهي تسافح جسدها، حتى هذا الهدوء ينسل بعيد، يوهم أنه غضب، يقنع صاحبنا إنه غضب، ألم، وجع، أنين، ملاذ للهاربين من قدر أكثر نزفا !
في كل آن يعوي..!
يعوي بوجهي فقط...
ينسبط غضبه بكل خضوع بين يدي الذين أخلصوا لغرائزهم الاولى، وسرقوا الحقيقة باسم الحقيقة، فكان ضدها يملك نصاب التاريخ !!
تتسرّى الأوجاع على جسده بكل حرية، تجد لذتها من أنين هذا الجسد، تجد فرحتها في التواءته من عطش الوجود الذي يحلم به ولا يأتي، ولن يأتي...
يقول:
أشير للرياح
أن تطوف ببابي
وجعي بالهمهمات أطرّزه
أرتق هزائمي بالمسرّات
فتشمئز المسرّات هاربة
عويلها يلطخ الجدران والأسرة
أحيي مواسم آلامي
وآذن لحماقاتي.
..............
............
...........
على مشارف الخسارات
يشعل بالسؤال وحدته
تندلق الحسرات
من أصابعي
يندلق الخراب
فأتكئ عليه
ألم أقل أن البداية لم تنسل غير نفسها، ولكن نفسها التي لا تتورم بهذا النسل، وإنما تصير العالم كله...
يكتسب (الفعل) في آهات نزفه الشعري حساسية الرفد المتسارع، يرفد نفسه بما يعزز موقعه من الجسد الشعري الجميل...
يقول:
المساءات المليئة
بنفايات الحروب
تطرق بابي عمدا
إذن هناك طرق مفروض عليه، شي ما يطرق روحه، ليس له اختيار، ولكن هذا (الفعل) هل هو في طريقه إلى الخلود كنهاية لمسار الهم، هم القصيدة؟
يتابع:
أستلّ من أفقي
أُفقا آخر
وهل يتواصل هم القصيدة أم يقف عند هذه اللحظة لتسجل نهايتها وفجاعتها؟
يستمر:
وأرسم بالحسرات
ما يشتهي الطير من السماء
وهل هذه نهاية المطاف؟ هل تقف مسيرة (الفعل) عند هذه النقطة؟ أليست هناك ولادة فعلية جديدة؟ الفعل واقعا والفعل لغة...؟
يلحّ:
أدون طين المحبة
حذرا
والتدوين هو آخر المطاف، ولكن النزيف الهائل لم يعرف الهدوء، لابد أن يواصل تدفق الدم بحرارة الكون كله، من دون أن يتراجع..
فها هو يضيف:
أن ترصدني طعنات
منْ مسحتُ
عن إزارهم الخوف..
وآويت أحزانهم...
هنا جاءت النهاية لتفصح عن (فعل) عدمي مثير
فـ (رموني) بوشايتهم.
هذه السلسة من (الأفعال) المتواصلة (أطرق، أستل، أرسم، أدّون، ترصدني، أويت، رموني) تتجاذبها روح واحدة، ولكن حركتها دراماتكية ملاحقة الانفاس، فالطرق يولد التفتت، ولكن الاستلال يؤكد حالة وجودية سابقة تتمتع بحيوية الحضور والدفق، يرسم بالحسرات ما يشتهي الطير كي يمارس حريته في السماء، فهل ذاك تعويض عن المساءات المليئة بنفايا الحروب؟! التدوين تصعيد حي للرسم، فنحن بالرسم نمارس لونا من ألوان التدوين، فجاءت ملحمة الطين لتكون ملحمة التدوين، فهو لا يدون كلمات، بل طينا، فمن الطين تولد الحياة، وكما للوعي موضوعه كذلك للمحبة موضوعها..
ذلك هم أصحاب الطعنة المتوقّعة...
وكان الطوفان
فرموني بوشاياتهم..
باسم فرات شاعر كان قد قرأني !
ديوانه (أنا ثانية) وجدت فيه روحي تطوف على كل جسده اللاهوتي الحزين، هناك تنفست هواء عدمي الذي طالما كنت أفتش عنه في كون استعار اسما لا يستحقه، ذلك هو إسم (الوجود) .
الحزن سيد القصيد !
مفتاح الديوان، وسر دمائه التي راحت تجتاح أهواء الباحثين عن نهاية ضد بدايتها، وبداية ضد نهايتها... إنها رحلة الرفض...
شاعر مشاكس... يشاكس الفرح بالحزن... الوجود بالعدم...الحضور بالغيب... والأمل باليأس... والنهار بالليل... والكون بالفساد !
يقول:
أبي
حزن عميق
أمي
كتاب الحزن
حين فتحه أبي
خرجتُ
أنا
تلك هي البداية، ولكن تستمر لتبقى بداية سرمدية، لا نهاية لها، ترتزق من فؤاده شحنة التسلق إلى سقف وهمي معلق في سماء الأحلام الطفولية... لا تصله... فتبقى بداية... تنازع نفسها بالخلاص من هذا البلاء المبرم، ولكن تبقى بداية... بداية تعشق البقاء وتتمنى الخلاص في الوقت نفسه، تتمزق من داخلها، تمور بغضب مهيب شامخ، يجول في رحب الوجود ليهزأ من كل تجلياته !
الحزن هنا ليس صدفة عابرة، ولا تاريخا يتسكع على كلمات تهرب بعيدا من قلم كسيح، بل هي صميم القدر، تمارس حظها من الوجود كتاريخ لم يخلق بعد... وإذا كان له لحظة من زمن فتلد لحظة أخرى مترعة بسابقتها من زحمة الوجد، ومن تراكم الهم، ومن توافد البلاء، ومن ترافد آنات الوجع !
تلك هي البداية...
أن يخلص شاعر لبداية مشكلة، براعة حياة، وخزين قدرة على مواصلة أمر تجتاحه عوائق النفي، فليس هناك بداية تبقى محافظة على قدرها، فكيف بها وهي بداية تتصاعد من داخلها، متأزمة من هويتها، تتغذى على فتاتها!
يقول: ــ
لكن القصيدة تتهيكل
من أعطى المدينة هذا الفم
لتبتلع القصائد والحقول
فلا أجد مسربا للحرية.
أليست هي البداية؟
أليست هي الحروف الاولى؟
كانت البداية (هيولى) التجربة، تجربة واحدة، ولكنّها مادة كل التجارب التي ستمر به، قرأته التجربة، هضمته، تمثلته، أخرجته شعرا...
شعرا من جنسها...
كانت الصورة الشعرية أكبر بكثير من حافزها، يهبها من روحه ما يُحْزٍن الكلمة التي لا تجد لها موطنا في تضاعيف سطوره، فالكلمة كائن شبقي يفتش عمّن يزرع في داخله شهقة الحب، ونار الوصال، وسرمد اللوعة الحارقة، ونشوة الفرح النزق...
لم يكن شاعرا يحلق حول صورة من خلق أوهامه، فيحسب نفسه شاعرا، موهما ذاته بورم، لأنه عاش على حافّة الأشياء، بل شاعر غاص في عميق ما يرى، وعميق ما يسمع، وعميق ما يلمس، وعميق ما يشم، فكان شعره صورة مستلة من واقع حي، ولكنه يتجاوز الواقع الحي إلى (ميتا واقع)، وهناك يدلي بما هو أكبر من القصيدة...
ذلك هو أنا وهو وأنت، ممن قال لهم القدر، إنتم ضحايا إلى الأبد!
كان يحكينا !
خرج من تجربته كي يحكينا، كي يترجمنا، نحن ضحايا القدر، الذين قال لهم الزمن، لا حظَّ لكم من آناتي الأنانية، بل أنتم على هامش إمضائي، رغم علمي سوف تصرخون (لا) !
هل هو صادق ما يقول؟
لنقرا:
دع الجوائز لهم
دع المناصب لهم
دع الملابس الأنيقة جدا
تغطي كروشهم
دع لهم أحلامهم العرج
يتسلقون الحياة الكاذبة
والشهوة الزائفة
دع لهم كل شي
ودعنا
نستظل
تحت
شجرة
الشعر
الوارفة
هل حقا ما يقول أم هي مؤامرة حزن يواسي جراحه بجراحه؟
لست أدري
ولكن أدري إنه يحكينا، يترجمنا، وذلك يكفي، فإنك تشعر بأنه قرأك قبل أن تقرأه، وبأنه كتبك بحروفه قبل أن تلتقي به على صفحات روحه الساخنة
يقول:
يتيماً
أقف أمام البحر
يرمي بوجهي عويله وظلامه
كل آن
حتى تخثر الدم على سفوحي
والخضرة انبثقت بصحبة الأزل
يتيماً
أقف أمام البحر
هذا البحر عندما يهدأ يتحول إلى أغنية، أغنية خالدة، تنشده كلمات الشعر في كل مكان وفي كل زمان، ولكن حتى هدوئه هذا، الهدوء المترع بمتعة الشمس وهي تسافح جسدها، حتى هذا الهدوء ينسل بعيد، يوهم أنه غضب، يقنع صاحبنا إنه غضب، ألم، وجع، أنين، ملاذ للهاربين من قدر أكثر نزفا !
في كل آن يعوي..!
يعوي بوجهي فقط...
ينسبط غضبه بكل خضوع بين يدي الذين أخلصوا لغرائزهم الاولى، وسرقوا الحقيقة باسم الحقيقة، فكان ضدها يملك نصاب التاريخ !!
تتسرّى الأوجاع على جسده بكل حرية، تجد لذتها من أنين هذا الجسد، تجد فرحتها في التواءته من عطش الوجود الذي يحلم به ولا يأتي، ولن يأتي...
يقول:
أشير للرياح
أن تطوف ببابي
وجعي بالهمهمات أطرّزه
أرتق هزائمي بالمسرّات
فتشمئز المسرّات هاربة
عويلها يلطخ الجدران والأسرة
أحيي مواسم آلامي
وآذن لحماقاتي.
..............
............
...........
على مشارف الخسارات
يشعل بالسؤال وحدته
تندلق الحسرات
من أصابعي
يندلق الخراب
فأتكئ عليه
ألم أقل أن البداية لم تنسل غير نفسها، ولكن نفسها التي لا تتورم بهذا النسل، وإنما تصير العالم كله...
يكتسب (الفعل) في آهات نزفه الشعري حساسية الرفد المتسارع، يرفد نفسه بما يعزز موقعه من الجسد الشعري الجميل...
يقول:
المساءات المليئة
بنفايات الحروب
تطرق بابي عمدا
إذن هناك طرق مفروض عليه، شي ما يطرق روحه، ليس له اختيار، ولكن هذا (الفعل) هل هو في طريقه إلى الخلود كنهاية لمسار الهم، هم القصيدة؟
يتابع:
أستلّ من أفقي
أُفقا آخر
وهل يتواصل هم القصيدة أم يقف عند هذه اللحظة لتسجل نهايتها وفجاعتها؟
يستمر:
وأرسم بالحسرات
ما يشتهي الطير من السماء
وهل هذه نهاية المطاف؟ هل تقف مسيرة (الفعل) عند هذه النقطة؟ أليست هناك ولادة فعلية جديدة؟ الفعل واقعا والفعل لغة...؟
يلحّ:
أدون طين المحبة
حذرا
والتدوين هو آخر المطاف، ولكن النزيف الهائل لم يعرف الهدوء، لابد أن يواصل تدفق الدم بحرارة الكون كله، من دون أن يتراجع..
فها هو يضيف:
أن ترصدني طعنات
منْ مسحتُ
عن إزارهم الخوف..
وآويت أحزانهم...
هنا جاءت النهاية لتفصح عن (فعل) عدمي مثير
فـ (رموني) بوشايتهم.
هذه السلسة من (الأفعال) المتواصلة (أطرق، أستل، أرسم، أدّون، ترصدني، أويت، رموني) تتجاذبها روح واحدة، ولكن حركتها دراماتكية ملاحقة الانفاس، فالطرق يولد التفتت، ولكن الاستلال يؤكد حالة وجودية سابقة تتمتع بحيوية الحضور والدفق، يرسم بالحسرات ما يشتهي الطير كي يمارس حريته في السماء، فهل ذاك تعويض عن المساءات المليئة بنفايا الحروب؟! التدوين تصعيد حي للرسم، فنحن بالرسم نمارس لونا من ألوان التدوين، فجاءت ملحمة الطين لتكون ملحمة التدوين، فهو لا يدون كلمات، بل طينا، فمن الطين تولد الحياة، وكما للوعي موضوعه كذلك للمحبة موضوعها..
ذلك هم أصحاب الطعنة المتوقّعة...
وكان الطوفان
فرموني بوشاياتهم..