حين تقوم اللّغة الشعرية على كشف مكامن الأبداع للعناصرالتي تحدد قيمتها عن طريق اللّغة ذاتها، فأنها تنهض مع حركتها المتنامية في تحريك البنى المعمول بها وفق مزايا فنية معينة، وحين تنطلق العبارة التي تقول بأن (الشعر هو تكامل اللغة)، تظهر أمامنا إمكانية ومهارة الشاعر في خلق ما يريد خلقه في البناء الشعري، ولعل اللغة الشعرية القائمة على الكشف والتنقيب.. تخلق تجربة تنتمي الى سياقات الحس الواقعي.. الحس المعبر عن دلالات فتحت نوافذ الواقع بكل ما يمكن الوصول إليه من فاعليات حسية مؤثرة..
من هذه المقدمة، ندخل المجموعة الشعرية (أنا ثانية ) للشاعر العراقي (باسم فرات) لكشف ما تخفيه مكامن اللغة الشعرية من هواجس وأحاسيس انطلقت من داخله لتحقق فاعليته تجاه الواقع، كما ان فعالية اللغة الشعرية تشتغل على قابلية الشاعر لتكريس مشروعه الشعري الشاخص، وتبين من خلال القواسم المشتركة التي تلم الصياغات الشعرية لتحقيق الفحوى العام لـ (قصدية المعنى الشعري)، لذلك سنتناول في اشتغالنا على تجربة الشاعر (فرات) في التحولات التالية:
1. التكثيف الشعري.
2. التوتر الشعري.
3. الجدلية الشعرية.
وهذه التشخيصات، ظهرت عند الشاعر ذاته لمنح الانعكاسات السايكولوجية وفق إمكانات مفتوحة، معتمداً على حقيقة اللّغة الشعرية التي تتمتع بكل مميزات التحول (المضموني) والمرونة الواضحة والفعالة، اذ استطاع (باسم فرات) تحويل نظام اللغة من علاقاتها التقليدية / الوظيفية، الى قراءات للواقع المفعم بالهواجس المؤثرة، حتى اننا عندما نقرأ نصوص المجموعة، تنتابنا أحاسيس وهاجة لمعرفة ما يدور في خلد الشاعر من رواسب الواقع، سنكشفها في النقاط التي أشرنا اليها..
1. التكثيف الشعري:
تظهر اشتغالات (باسم فرات) في (أنا ثانيةً) على إيقونة الجمل الشعرية المكثفة للخطاب الحياتي، معتمداً على ثنائية (التكثيف والاختزال) لإقامة علاقة شعرية مؤثرة داخل نصوصه، لذلك نلمس المسعى الواضح، لكشف المراحل التي مرّ بها والممتدة عبر الزمان والمكان، وهو يريد القول أيضاً ان لسلطة الشعر ما يمكن ان تظهر لتضىء دلالات عديدة ترمز الى المنحى المعبر للرغبة الجامحة في كتابة النصوص، فعامل اللّغة هو الوحيد الذي يمكن ان يأخذ فحواه داخل (قصدية) الشاعر، فكانت اللّذة الواضحة والمكونة لأرضيته، لتظهر بعض المرتكزات الطافحة على جسد النصوص.. المرتكزات هذه تسللت عبر علاقات شاخصة تتماهى مع ذات (باسم فرات) وتشكل خصوبة واضحة، وانطلاقاً من (الإهداء) الذي تقدم المجموعة، تنعكس التجربة الشعرية على دلالات تكثيفية مؤثرة:
أبي.. حزن عتيقٌ..
أمي.. كتاب الحزن..
حين فتحه أبي.. خرجت أنا.. (ص5) .
ومن مقومات الأخذ بنظر الاعتبار على إظهار مصوغات ترتكز بدقة على تحقيق حضور الرغبة التعبيرية في اختزان ما يصبو إليه النص الشعري هنا، فإن الوظيفة الفنية القائمة على تشفير المعنى المقصود داخل بنية النص، تتوضح بوصفها مهيمنة على الصياغة الشعرية ذاتها، بما تملي عليه ضوابط الكتابة وآلية البناء السليم، فثنائية (أبي.. أمي) كثفت شعرياً وأعطت دلالتها بـ (حزن عتيق.. كتاب الحزن)، وهذا ما يبرهن ان الشعر يقوم من خلال تكثيفه واختزاله على عبارات مصوغة بدقة، ولعلنا لو اطلعنا على بعض النصوص في المجموعة لوجدنا الفعل التناظري الملموس في البناء الشعري:
المساءات المليئة
بنفايات الحروب
تطرق بابي عمداً
استلُ من أفقي
أفقاً آخر.. وأرسم بالحسرات
ما يشتهي الطير من السماء (طين المحبة / ص20) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحلم.. ان تستيقظ
حيث لا حروب
تعكر مزاج الصباح
لا حنين.. مدمن على الألم (ليس أكثر من حلم / ص42) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللاّفتات السود..
تأريخنا
ندون صمتها..
من شفيف الهديل (تأريخنا / ص24) .
تطالعنا المقاطع هذه بآليات الكتابة الشعرية التي استحوذت عليها خيوط التكثيف الشعري، وهذه مسألة قامت على تحديد السياق العام الذي ينطوي على وحدات ساهمت في تعميق الاشتغال الشعري بوظائف متعددة، فالشاعر ما يزال يعمل على إعطاء الماضي قدسية الحضور، لتصييره كخطاب مؤثر في مرحلة مؤثرة، فالعبارات (نفايات الحروب.. أرسم بالحسرات.. لا حروب تعكر مزاج الصباح.. اللاّفتات السود..)، كلها عبارات انطوت على فعل تكثيفيّ شاخص، والعامل اللّغوي الذي استطاع أن يؤثث إطاره المشكل على وظائف دلالية، إنما تبين (انه) قائم على توضيحات تكثيفية هائمة على جسد النصوص..
2 ــ التوتر الشعري:
يؤخذ على الاشتغال في أطار (التوتر الشعري) في زاوية المظاهر التي تنطوي على الحس الانفعالي داخل النص.. وخاصة النص الذي يتمتع بمزايا حديثة، انه يعتمدعلى آلية البناء المتوتر (المشدود) التي تدخل مع خصائص تترابط وطبيعة العلاقة مع العناصر داخل بنية الجمل الشعرية المحبوكة، وهذا ما يعمق عنصر الدهشة لدى المتلقي في قراءة معمقة، لتظهر الخيوط الدلالية الأخرى التي تساعد على كشف محاور الشاعر المنطلق صوبها، كـ (محور الذات.. محور الأنا الشعرية.. محور الموضوع الشعرية) لتتداخل مع بعضها بعلاقات تتوافق وتنسجم وأيضاً تتنافر مع بعضها، مما يجعلنا على قناعة بأن فحواها يتكرس على (المد والجزر) .
كما تكمن الأبعاد التوترية على مسافة واضحة ونابعة من بنية النص الشعري، مع اختلاف الرؤية الدلالية، من هذه المقدمة تحيلنا المجموعة الشعرية (أنا ثانية ) للشاعر العراقي (باسم فرات) على معطيات متداخلة ومتجانسة لتشكل خصوصية مشفرة.. خصوصية ذات شهية مفتوحة ومعبرة عن التكوين الشعري للمحاور الموجودة أمامنا التي تنغرز بعمق الشاعر وفق تجليات التوتر الحاصلة داخل بنية النصوص الشعرية:
دع الجوائز لهم
دع المناصب لهم
دع الملابس الأنيقة جداً
تغطي كروشهم
دع لهم أحلامهم العرج
يتسلقون بها أوهامهم
دع لهم الحياة الكاذبة.. والشهرة الزائفة. (زهد /ص15)
تظهر هذه الانفعالات من خلال فعل الأمر (دع)، لتتبلور داخل مكونات النص الشعري شحنات ذات خطاب (سسيو سياسي) مبطن، اذ تتسع الفجوة التي قصدها الشاعر على ذاتية مكرسة لعناصر (مؤثثة) داخل النص – ان صح التعبير – فـ (الجوائز، المناصب، الملابس، الأحلام، الأوهام) تكشف من خلال (ذات الشاعر المتوترة) وهي صيغة ترتبط بخيوط سايكولوجية أيضاً، لأن فعل التوتر ينطلق من إنفعال نفسي..
كما أذكر ما كتبه الشاعر العراقي الكبير (سركون بولص) عن تجربة الشاعر (فرات) في مجموعته الشعرية الثالثة (أنا ثانيةً) قائلاً: (يطلع باسم فرات على القارىء بصوت تكاد لوعته أن تطغى على مراسيم الكتابة الشعرية، بمؤثرات لا حصر لها، تدلنا الى مواقع تلك اللوعة، عاطفة وتأريخاًَ، غناءً شجياً في بعض المقاطع، وبوحاً غير مكظوم وكأنه آت من أغوار سحيقة، في أحايين أخرى.) ..
في المقطع الشعري من قصيدة (هنا حماقات هناك.. هناك تبتخر هنا)، تشتغل عناصر التحول الشعري في علاقة تضادية مع الواقع، إذ نشعر أن هناك تواليات للـ (أنا الشعرية) التي تدخل كمعيار (تواتري) تتوالد فيه دلالات الماضي والحاضر عبر زمنية شكلت خطاباً مؤثراً في كافة الأبعاد، إذ يقول:
أنا المثقل بالتباريح
بلادي تطرق الباب كل ليلة
............................ااا
أنا الهارب الى نزقي من نرجسية الحروب
الموقن ان لا صبح بضغينة
وان الذبول يرتعش أمام الأصيل (ص41 ـ 42) .
والتوتر الشعري هنا، انطلق من تحولات بنائية عديدة.. تحولات على مستوى النظام الشعري من الداخل والنظام اللغوي الذي يسمح لنافذة (المجاز) ان تأخذ دورها في ذلك، مما جعل لـ (قصدية) المعنى عند الشاعر أن تكتسب طاقتها الانفعالية المتجسدة من خلال نافذة اللّغة الشعرية ذاتها، فـ (أنا المثقل بالتباريح) تتماهى مع (بلاده التي تطرق الباب كل ليلة)، وتتوازى مع (أنا الهارب الى نزقي من نرجسية الحروب)، ولعلنا نلمس عمق المسافة التي خلقت من (باسم فرات) نصه الشعري هذا أو نصوصه الأخرى علاقة متوترة من الخزين الذاكراتي للماضي الذي يعيشه في بلده (العراق) واللحظة التي يعكس فيها انفعالاته الشعرية في بلد مثل اليابان (البلد الذي يسكنه الشاعر الآن)، وهذا ما يهدف الى إقامة علاقة أزلية مع الماضي عبر النصوص هذه..
3. الجدلية الشعرية:
ربما يتعلق موضوعنا النقدي بتجربة (باسم فرات) في مجموعته هذه على العناصر البنائية التي تحدثنا عنها بوصفها تعد من أساسيات المكون الشعري أو الإبداعي بشكل عام، لكن أن ندخل تجربة الشاعر في (جدلية) شعرية أمر يحتاج الى طرح وكشف محسوب، لأهمية هذا المجال، وأعتقد ان العنصر الأساس الذي يتضمن آليات التجربة الشعرية في (أنا ثانية ) يتكرس على الجانب (المثيولوجي)، وينهض بأيقونات التأريخ بجدلية قائمة على فهم الواقع الأسطوري (بغيبياته)، إنما ينطوي على ما هو جدلي عبر الزمن، وقد جاءت النصوص في المجموعة (على قلتها) لتبرهن على إعطاء العمق الشعري وظائف حياتية مستوحاة من حركة الحياة بما يعطي لها وللحياة ممارسة الفعل الدلالي للأشياء على الرغم من الوضوح البارز لعدم اعطاء الشاعر نصوصه الفسحة الكافية لهذا الجانب. فالمكونات التي انطلق منها، مكونات جدلية واضحة، انطلقت من الفعل التوازني عبر الزمن المفتوح:
وتحلم فيما تحلم
ان تطوي البحار.. تحت ابطيك
لتشم ثرى بابل
وتقبل ألواح الأجداد (ليس أكثر من حلم / ص22ـ23) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمهات الثكالى
تلفعن بتراتيل النواح السومري
بينما الطائرات.. تترصد معابد أور
لأسر الآلهة.. (تأريخنا) (ص24) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
يا هذا.. يا سومري
أسد التراب..
سرق منك ما كدّست
على وسادتك من أمجاد (أنا ثانية / ص31) .
حين ركز الشاعر في جدليته الشعرية في (المقاطع التي أمامنا تحديداً) على حركة التحولات المضمونية، فإنها فتحت نوافذ الرؤيا الناهضة مع آلية الجملة الشعرية في كل نص، فجميع العناصر التي طرحت بصيغة شعرية لكشف فحوى النص، إنما قامت بتجليات متواشجة، تشتغل على مؤشرات كلية للنص الواحد أو للنصوص كافة، وتعمل على كشف معنى جديد يعطي شكلاً آخرَ للتناول الشعري، (أي عندما يدخل للقراءة الشعرية مع العمق الأسطوري)، وقد أحال (باسم فرات) لنفسه كلماته الشعرية بـ (المجازي) ـ كما ذكرنا ـ كـ (ان تطوي البحار تحت إبطيك.. الطائرات تترصد معابد أور.. لأسر الآلهة) .. لكن ما يوحي بالاشتغال الجدلي مع هذا التوظيف للبعد الأسطوري، وجود علاقة تداخل تتجسد بوصفها شفرات بارزة لذلك، فـ (لتشم ثرى بابل.. ألواح الأجداد.. النواح السومري.. يا هذا يا سومري)، كشفت حركة التداخل بمهارة الصياغة الشعرية المكثفة، ونحن على ثقة عالية بأن الشاعر يمكن ان يصوغ الشىء الكثير في هذا المجال لو ركز عليه..
من هذه المقدمة، ندخل المجموعة الشعرية (أنا ثانية ) للشاعر العراقي (باسم فرات) لكشف ما تخفيه مكامن اللغة الشعرية من هواجس وأحاسيس انطلقت من داخله لتحقق فاعليته تجاه الواقع، كما ان فعالية اللغة الشعرية تشتغل على قابلية الشاعر لتكريس مشروعه الشعري الشاخص، وتبين من خلال القواسم المشتركة التي تلم الصياغات الشعرية لتحقيق الفحوى العام لـ (قصدية المعنى الشعري)، لذلك سنتناول في اشتغالنا على تجربة الشاعر (فرات) في التحولات التالية:
1. التكثيف الشعري.
2. التوتر الشعري.
3. الجدلية الشعرية.
وهذه التشخيصات، ظهرت عند الشاعر ذاته لمنح الانعكاسات السايكولوجية وفق إمكانات مفتوحة، معتمداً على حقيقة اللّغة الشعرية التي تتمتع بكل مميزات التحول (المضموني) والمرونة الواضحة والفعالة، اذ استطاع (باسم فرات) تحويل نظام اللغة من علاقاتها التقليدية / الوظيفية، الى قراءات للواقع المفعم بالهواجس المؤثرة، حتى اننا عندما نقرأ نصوص المجموعة، تنتابنا أحاسيس وهاجة لمعرفة ما يدور في خلد الشاعر من رواسب الواقع، سنكشفها في النقاط التي أشرنا اليها..
1. التكثيف الشعري:
تظهر اشتغالات (باسم فرات) في (أنا ثانيةً) على إيقونة الجمل الشعرية المكثفة للخطاب الحياتي، معتمداً على ثنائية (التكثيف والاختزال) لإقامة علاقة شعرية مؤثرة داخل نصوصه، لذلك نلمس المسعى الواضح، لكشف المراحل التي مرّ بها والممتدة عبر الزمان والمكان، وهو يريد القول أيضاً ان لسلطة الشعر ما يمكن ان تظهر لتضىء دلالات عديدة ترمز الى المنحى المعبر للرغبة الجامحة في كتابة النصوص، فعامل اللّغة هو الوحيد الذي يمكن ان يأخذ فحواه داخل (قصدية) الشاعر، فكانت اللّذة الواضحة والمكونة لأرضيته، لتظهر بعض المرتكزات الطافحة على جسد النصوص.. المرتكزات هذه تسللت عبر علاقات شاخصة تتماهى مع ذات (باسم فرات) وتشكل خصوبة واضحة، وانطلاقاً من (الإهداء) الذي تقدم المجموعة، تنعكس التجربة الشعرية على دلالات تكثيفية مؤثرة:
أبي.. حزن عتيقٌ..
أمي.. كتاب الحزن..
حين فتحه أبي.. خرجت أنا.. (ص5) .
ومن مقومات الأخذ بنظر الاعتبار على إظهار مصوغات ترتكز بدقة على تحقيق حضور الرغبة التعبيرية في اختزان ما يصبو إليه النص الشعري هنا، فإن الوظيفة الفنية القائمة على تشفير المعنى المقصود داخل بنية النص، تتوضح بوصفها مهيمنة على الصياغة الشعرية ذاتها، بما تملي عليه ضوابط الكتابة وآلية البناء السليم، فثنائية (أبي.. أمي) كثفت شعرياً وأعطت دلالتها بـ (حزن عتيق.. كتاب الحزن)، وهذا ما يبرهن ان الشعر يقوم من خلال تكثيفه واختزاله على عبارات مصوغة بدقة، ولعلنا لو اطلعنا على بعض النصوص في المجموعة لوجدنا الفعل التناظري الملموس في البناء الشعري:
المساءات المليئة
بنفايات الحروب
تطرق بابي عمداً
استلُ من أفقي
أفقاً آخر.. وأرسم بالحسرات
ما يشتهي الطير من السماء (طين المحبة / ص20) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تحلم.. ان تستيقظ
حيث لا حروب
تعكر مزاج الصباح
لا حنين.. مدمن على الألم (ليس أكثر من حلم / ص42) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللاّفتات السود..
تأريخنا
ندون صمتها..
من شفيف الهديل (تأريخنا / ص24) .
تطالعنا المقاطع هذه بآليات الكتابة الشعرية التي استحوذت عليها خيوط التكثيف الشعري، وهذه مسألة قامت على تحديد السياق العام الذي ينطوي على وحدات ساهمت في تعميق الاشتغال الشعري بوظائف متعددة، فالشاعر ما يزال يعمل على إعطاء الماضي قدسية الحضور، لتصييره كخطاب مؤثر في مرحلة مؤثرة، فالعبارات (نفايات الحروب.. أرسم بالحسرات.. لا حروب تعكر مزاج الصباح.. اللاّفتات السود..)، كلها عبارات انطوت على فعل تكثيفيّ شاخص، والعامل اللّغوي الذي استطاع أن يؤثث إطاره المشكل على وظائف دلالية، إنما تبين (انه) قائم على توضيحات تكثيفية هائمة على جسد النصوص..
2 ــ التوتر الشعري:
يؤخذ على الاشتغال في أطار (التوتر الشعري) في زاوية المظاهر التي تنطوي على الحس الانفعالي داخل النص.. وخاصة النص الذي يتمتع بمزايا حديثة، انه يعتمدعلى آلية البناء المتوتر (المشدود) التي تدخل مع خصائص تترابط وطبيعة العلاقة مع العناصر داخل بنية الجمل الشعرية المحبوكة، وهذا ما يعمق عنصر الدهشة لدى المتلقي في قراءة معمقة، لتظهر الخيوط الدلالية الأخرى التي تساعد على كشف محاور الشاعر المنطلق صوبها، كـ (محور الذات.. محور الأنا الشعرية.. محور الموضوع الشعرية) لتتداخل مع بعضها بعلاقات تتوافق وتنسجم وأيضاً تتنافر مع بعضها، مما يجعلنا على قناعة بأن فحواها يتكرس على (المد والجزر) .
كما تكمن الأبعاد التوترية على مسافة واضحة ونابعة من بنية النص الشعري، مع اختلاف الرؤية الدلالية، من هذه المقدمة تحيلنا المجموعة الشعرية (أنا ثانية ) للشاعر العراقي (باسم فرات) على معطيات متداخلة ومتجانسة لتشكل خصوصية مشفرة.. خصوصية ذات شهية مفتوحة ومعبرة عن التكوين الشعري للمحاور الموجودة أمامنا التي تنغرز بعمق الشاعر وفق تجليات التوتر الحاصلة داخل بنية النصوص الشعرية:
دع الجوائز لهم
دع المناصب لهم
دع الملابس الأنيقة جداً
تغطي كروشهم
دع لهم أحلامهم العرج
يتسلقون بها أوهامهم
دع لهم الحياة الكاذبة.. والشهرة الزائفة. (زهد /ص15)
تظهر هذه الانفعالات من خلال فعل الأمر (دع)، لتتبلور داخل مكونات النص الشعري شحنات ذات خطاب (سسيو سياسي) مبطن، اذ تتسع الفجوة التي قصدها الشاعر على ذاتية مكرسة لعناصر (مؤثثة) داخل النص – ان صح التعبير – فـ (الجوائز، المناصب، الملابس، الأحلام، الأوهام) تكشف من خلال (ذات الشاعر المتوترة) وهي صيغة ترتبط بخيوط سايكولوجية أيضاً، لأن فعل التوتر ينطلق من إنفعال نفسي..
كما أذكر ما كتبه الشاعر العراقي الكبير (سركون بولص) عن تجربة الشاعر (فرات) في مجموعته الشعرية الثالثة (أنا ثانيةً) قائلاً: (يطلع باسم فرات على القارىء بصوت تكاد لوعته أن تطغى على مراسيم الكتابة الشعرية، بمؤثرات لا حصر لها، تدلنا الى مواقع تلك اللوعة، عاطفة وتأريخاًَ، غناءً شجياً في بعض المقاطع، وبوحاً غير مكظوم وكأنه آت من أغوار سحيقة، في أحايين أخرى.) ..
في المقطع الشعري من قصيدة (هنا حماقات هناك.. هناك تبتخر هنا)، تشتغل عناصر التحول الشعري في علاقة تضادية مع الواقع، إذ نشعر أن هناك تواليات للـ (أنا الشعرية) التي تدخل كمعيار (تواتري) تتوالد فيه دلالات الماضي والحاضر عبر زمنية شكلت خطاباً مؤثراً في كافة الأبعاد، إذ يقول:
أنا المثقل بالتباريح
بلادي تطرق الباب كل ليلة
............................ااا
أنا الهارب الى نزقي من نرجسية الحروب
الموقن ان لا صبح بضغينة
وان الذبول يرتعش أمام الأصيل (ص41 ـ 42) .
والتوتر الشعري هنا، انطلق من تحولات بنائية عديدة.. تحولات على مستوى النظام الشعري من الداخل والنظام اللغوي الذي يسمح لنافذة (المجاز) ان تأخذ دورها في ذلك، مما جعل لـ (قصدية) المعنى عند الشاعر أن تكتسب طاقتها الانفعالية المتجسدة من خلال نافذة اللّغة الشعرية ذاتها، فـ (أنا المثقل بالتباريح) تتماهى مع (بلاده التي تطرق الباب كل ليلة)، وتتوازى مع (أنا الهارب الى نزقي من نرجسية الحروب)، ولعلنا نلمس عمق المسافة التي خلقت من (باسم فرات) نصه الشعري هذا أو نصوصه الأخرى علاقة متوترة من الخزين الذاكراتي للماضي الذي يعيشه في بلده (العراق) واللحظة التي يعكس فيها انفعالاته الشعرية في بلد مثل اليابان (البلد الذي يسكنه الشاعر الآن)، وهذا ما يهدف الى إقامة علاقة أزلية مع الماضي عبر النصوص هذه..
3. الجدلية الشعرية:
ربما يتعلق موضوعنا النقدي بتجربة (باسم فرات) في مجموعته هذه على العناصر البنائية التي تحدثنا عنها بوصفها تعد من أساسيات المكون الشعري أو الإبداعي بشكل عام، لكن أن ندخل تجربة الشاعر في (جدلية) شعرية أمر يحتاج الى طرح وكشف محسوب، لأهمية هذا المجال، وأعتقد ان العنصر الأساس الذي يتضمن آليات التجربة الشعرية في (أنا ثانية ) يتكرس على الجانب (المثيولوجي)، وينهض بأيقونات التأريخ بجدلية قائمة على فهم الواقع الأسطوري (بغيبياته)، إنما ينطوي على ما هو جدلي عبر الزمن، وقد جاءت النصوص في المجموعة (على قلتها) لتبرهن على إعطاء العمق الشعري وظائف حياتية مستوحاة من حركة الحياة بما يعطي لها وللحياة ممارسة الفعل الدلالي للأشياء على الرغم من الوضوح البارز لعدم اعطاء الشاعر نصوصه الفسحة الكافية لهذا الجانب. فالمكونات التي انطلق منها، مكونات جدلية واضحة، انطلقت من الفعل التوازني عبر الزمن المفتوح:
وتحلم فيما تحلم
ان تطوي البحار.. تحت ابطيك
لتشم ثرى بابل
وتقبل ألواح الأجداد (ليس أكثر من حلم / ص22ـ23) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأمهات الثكالى
تلفعن بتراتيل النواح السومري
بينما الطائرات.. تترصد معابد أور
لأسر الآلهة.. (تأريخنا) (ص24) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
يا هذا.. يا سومري
أسد التراب..
سرق منك ما كدّست
على وسادتك من أمجاد (أنا ثانية / ص31) .
حين ركز الشاعر في جدليته الشعرية في (المقاطع التي أمامنا تحديداً) على حركة التحولات المضمونية، فإنها فتحت نوافذ الرؤيا الناهضة مع آلية الجملة الشعرية في كل نص، فجميع العناصر التي طرحت بصيغة شعرية لكشف فحوى النص، إنما قامت بتجليات متواشجة، تشتغل على مؤشرات كلية للنص الواحد أو للنصوص كافة، وتعمل على كشف معنى جديد يعطي شكلاً آخرَ للتناول الشعري، (أي عندما يدخل للقراءة الشعرية مع العمق الأسطوري)، وقد أحال (باسم فرات) لنفسه كلماته الشعرية بـ (المجازي) ـ كما ذكرنا ـ كـ (ان تطوي البحار تحت إبطيك.. الطائرات تترصد معابد أور.. لأسر الآلهة) .. لكن ما يوحي بالاشتغال الجدلي مع هذا التوظيف للبعد الأسطوري، وجود علاقة تداخل تتجسد بوصفها شفرات بارزة لذلك، فـ (لتشم ثرى بابل.. ألواح الأجداد.. النواح السومري.. يا هذا يا سومري)، كشفت حركة التداخل بمهارة الصياغة الشعرية المكثفة، ونحن على ثقة عالية بأن الشاعر يمكن ان يصوغ الشىء الكثير في هذا المجال لو ركز عليه..