انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

    الدكتور مقداد رحيم: مِن حيثُ لا ربيع

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 533
    تاريخ التسجيل : 14/09/2010

    الدكتور مقداد رحيم: مِن حيثُ لا ربيع Empty الدكتور مقداد رحيم: مِن حيثُ لا ربيع

    مُساهمة  Admin الأحد أكتوبر 24, 2010 11:59 pm

    دراسة في المجموعة الشعرية "خريف المآذن" للشاعر العراقي باسم فرات

    باسم فرات شاعر عراقي من كربلاء. هل يصلح هذا أن يكون تعريفاً به؟ نعم، فلهذا العراق إيغالٌ قديم في الحضارات وإيغال جديد في العذابات، ولهذه المدينة تاريخ من الأحزان لم يشأ الشاعر أن يكون في منأى عنه في شعره، كما أسهمت ظروفه الخاصة وظروف مدينته ووطنه في أن يكون منه في الصميم.
    ومَن يقرأ مجموعته الشعرية الأخيرة "خريف المآذن" يغرق في سلسلة من مآسيه وآلامه، تبدأ بطفولته الضائعة ولا تنتهي بموته أو انتحاره، فهو أسير الضياع طفلاً وأسيره شاباً، ولا يدري إلى أين المآل، وليس بشيءٍ من العبث أن يبدأ الشاعر مجموعته هذه بعبارة "أي حلمٍ يجفف طفولتي"، وينتهي بعبارة "فلا أجد مسرباً للحرية"، حتى إذا لم يقصد ذلك في وعيه، وبين العبارتين تتمدد آلام الشاعر التي تبدو أبديةً باسترخاءٍ تام، ولا أريد أن أعلِّـق على العنوان فهو واضح الدلالة من اختياره لفصل الخريف للمآذن.
    ويبدو أن الشاعر عَـلَّ كأساً مترعةً من المرارة بين فقدٍ لأبٍ كان في توقٍ للعيش في كنفه وهو بعدُ صغير جداً، وأسى على أمٍّ تحملتْ عبءَ الأب وما للأمومة من واجباتٍ يبدو أنها أنجزتها بامتياز، كما تشي بذلك قصائده، ومن هنا يتَّضح أول ملامح الضياع الذي لا آخر له:
    أمي آيات حنّاء يغالبها العشق
    فترمَّلتْ
    ........
    طفولتي التي سخَّمها الفقر واليُـتْمُ
    ها هي تمد لسانها ساخرةً مني
    بعدما سخَّمتْ حياتي الحروب والمنافي
    ....
    أنا لم أخبّئ طفولتي في قميصي
    لكنها سرقتني من الحرب
    ....
    ولذلك دارتْ مفردتا "أبي" و"أمّي" في مدار أغلب قصائده، وهو لا يخفي، بإرادته أو بدونها، الإشارةَ إلى رفض الحياة وعدّها ذنباً من الذنوب على أبيه وأمه تحمُّـلُهُ، فوجود أبيه كان خطأ من الأخطاء القابل للتناسل بدليل ولادته هو من صلبه، وهو خطأ لأنه موتٌ متواصل في حياة ابنه:
    أبي .. خطأ يتناسل
    .....
    أبي يا أبي أوَكلما توغَّلتَ في موتكَ
    أهلتَ الترابَ على أحلامي؟
    أما أمُّـهُ فوجودها خطأ واقترانها بأبيه خطأ من أجل خطإٍ آخر هو ولادته ووجوده في الحياة:
    أمي خطأ ينتظر خطأ من أجل خطأ
    ….
    ويدور ذكر الأم في سياقات سلبية وأحداث مأساوية غالباً، حيث يرسم صورتها هكذا: " أكتب تاريخ جنوبيين فوق عباءة أمي" و"أمي ترمم النجوم التي اختلطت بشعرها" و"عباءة أمي راية تلوح بلا أمل" و"أمي آيات حناء يغالبها العشق" و"زيَّـنتْ أمي وجهَ الخليفة ببصاقها" و" أمي لم تلتفتْ للشظايا" و"بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً" و"أمي تمسح بلورَ خديها"، و"منذ ثلاثين سنةً قمريةً تحتطب أمي انتظارها".
    وليس الأب بأقلَّ من ذلك إلا من حيث عدد المرات التي ورد فيها ذكره، فصورته فضلاً عما ذكرناه قبل قليل هي هكذا: "تحمل كتباً من الزعفران وتخفي أخريات من العقيق إلى سجن السندي حيث يرقد أبي" و"أبي الذي خاض مائة حرب منذ ميلاد الخطيئة البكر" و"يتضرعن (للحر) أن يمنحهن منديل أبي" و"أنَّ أبي أكثر القتلى بشاشةً".
    ودوران الشاعر حول أمه وأبيه هو استغراق في الطفولة، ونكوص قويٌّ إليها، وهو شيء لفَّ نفسيته بعذابات مُقيمة لا تنفكُّ تساوره باستمرار، وغَـلَّفتْ أفكارَه جميعاً بموفورٍ من الحزن وفيضٍ من الكآبة، حتى إنه اتخذ عباءة أمه رمزاً لتلك السوداوية التي تُحيط بأعماقه وتتغلغلُ في دواخله ومشاعره:
    وعباءة أمي راية تلوح بلا أمل
    .....
    بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
    ....
    بل هو يتوسَّع في هذا الرمز فيكون مجرد ذكر العباءة، وهي عباءة سوداء تتشح بها نساء العراق غالباً ونساءُ كربلاء مدينةِ الشاعر دائماً، هو إقرار للحزن والأسى والكآبة:
    بينما الوقت يطرز منفى لعباءات النخيل
    .....
    لم ألتفتْ لحقول عباءات غادرتْها السواقي
    ....
    سلاماً عباءات الدموع التي هي تاريخنا بلا شك
    ....
    ولا شكَّ في أن بيئة الشاعر التي عاش فيها وقضى أهم مراحل حياته بين جنباتِها، ذاتُ أثرٍ كبيرٍ في التزامِه ببعض الرموز الحضارية أو البيئية، أو تكراره لمفرداتٍ بِعينها دائماً، وربما في توشُّحِه بالحزن أيضاً، ومن ذلك مفردة "العباءة" هذه، ونضيف إليها ساحة الحرمين وباب القبلة وتل الزينبية وشارع العباس وباب السلالمة والحجر الكربلائي ونهر الحسينية ونهر العلقمي فضلاً عن كفَّي العباس والحر الرياحي، والعمائم، وهي من الرموز الدينية، واسم مدينته كربلاء، ولعل قصيدته "خريف المآذن..ربيع السواد..دمنا" هي أكثر القصائد تعبيراً عن عمق كربلائيته. وإذْ أقول "كربلائيته" فلا أصرف الذهن عن وطنيته، فوطنيته مبثوثة بوضوح بين ثنايا كلماته من أولها إلى آخرها، بل إنَّ وطنيته تختلط اختلاطاً عجيباً بأغراضه الأخرى التي يصعب أن نقتطعها بعيداً عن ذاته التي تبدو في ذوبان تام بالعراق وآلامه، فإذا قال:
    رسمتُ جدولاً وقلتُ: هذا نهر الحسينية
    ....
    ونهر الحسينية هو نهر كربلائي وملعب من ملاعب طفولته، قال أيضاً:
    كلما أستلقي يحاذيني الفرات
    ....
    كل ليلة تقيم حفلاً لدجلة في أقصى جنوب الجنوب.
    ....
    وتحت لساني نهران يهدران
    ....
    ويقصد بالنهرين دجلة والفرات اللذينِ يسمِّيهما الفراتين في موضع آخر، كما سنرى، ويتوحَّد والوطن في مواضعَ كثيرةٍ أخرى ويُصبحُ ضميرُ الوطن ضميرَه هو، وأخصُّ بالذكر قصيدته "جنوب مطلق"، ومنها قوله:
    لا جنوب ورائي لأصيح: هنا بلادي
    ولا جنوب أمامي لأتلمس لي منفذاً إليه
    أنا الجنوب المطلق.
    وهناك ثلاث مفردات تستحوذ على موقع الصدارة في التكرار من بين قاموسه اللغوي في هذه المجموعة وربما في سائر شعره، وهي مفردات ذات أهمية قصوى تقودنا إلى استكشاف نفسية الشاعر والتوغل في مكامنها أكثر، أولاها هي "التناسل"، فما هي حكاية الشاعر مع التناسل هذا؟، فالخطأ يتناسل، والخراب يتناسل، وهم يتناسلون، وأيامه تتناسل، والنرجس يتناسل، والأسواق تتناسل:
    أبي...خطأ يتناسل
    ....
    كفى تناسلاً (تناسلٌ) أيها الخراب
    ....
    ليتهم تناسلوا في راحتيك سهواً
    ....
    أيامي تتناسل سوداً
    ....
    النرجس يتناسل في يدي
    ....
    أسواق تتناسل
    ....
    وثانية المفردات تلك هي "الانكسار"، فهو يعلق الانكسار على الجدران أحياناً، وأحياناً يكون هو الانكسار ذاته مشعّاً، ويكون الانكسار أسى، ويكون هديراً، ويكون شيئاً من عدَّتِهِ، ويكون مرسوماً على شفتيه:
    أعلق على الجدران انكساراتي
    ....
    لا أجدني إلا انكساراً يشعُّ
    ....
    الأسى ذاته يفتح أزرار انكساراتنا مبتهجاً
    ....
    ولا تستكين إلا لعري نائحةٍ لهدير الانكسارات
    ....
    عدتي تاريخ طويل من الحروب والانكسارات
    ....
    على شفتي انكسارات
    ....
    أما ثالث تلك المفردات فهي "الصهيل"، فالشاعر يصهل، والخطيئة تصهل، والجمرتان تصهلان، والخراب يصهل، والمسافات تصهل، وصهيله هو يسيل، والصهيل يحفر بئراً، ثم جعلَ للسواتر صهيلاً:
    صهيلي يتكئ على صحراء فاض حدادها
    ....
    جمرتان تزفان الأفق وتصهلان عند الباب
    ....
    لأن صهيل الخطيئة ما عاد يهدي النساء إلى جحيمي
    ....
    الصهيل يحفر بئراً لإيوائي
    ....
    والخراب يصهل في كتفي
    ....
    كانت المسافات تصهل
    ....
    وصهيلي يسيل هو الآخر.
    ....
    شممنَ صهيل السواتر في زفيري
    ....
    وإذا كان لابد من التعليق على اكتساب هذه المفردات هذه الأهمية في ذهن الشاعر، خارج سياقاتها، فلا بدَّ من تحليلٍ نفسي عميق لشعره، ومنه نستطيع أن نحقق نتائج مرضية استناداً إلى صدق هذه النصوص ونصاعة دلالاتها، ولكنها مهمة ليست باليسيرة، ولكننا قد نتوفر على رسم بيانيٍّ بسيط لذلك، بالركون إلى هذا المثلث المفرداتي، فيكون التناسل دلالةً على دوام اسوداد حياته جملةً، كعباءة أمه، واندراجها في غاية من الحزن الذي لا آخر له، وأما الانكسار فهو النتيجة الحتمية لذلك التناسل الذي يعيشه بعمق، وأما الصهيل فيدلُّ على رغبة الشاعر في القيام من انكساره، وإصلاح حياته بشيء من أمل، ولكنَّ ما بقي مِن أفكاره ومفرداته ليس فيه ما يدل على هذا الأمل!.
    وأي أمل يكون مع تَـحقُّـق الموت؟، وأقول تحقق الموت لأنه يملأ إحساس الشاعر وتنغِّصُ مفرداتُـهُ ومعانيه وأدواتُـه على حياة جُمَلِه الشعرية وعباراته، انظروا معي إلى ما أسوقُـه دليلاً على ما أقول:
    أمام مراثي السكارى
    ....
    أكسّر عويل المساءات
    ....
    أرثيك يا جموح
    ....
    تابوت يصرخ خلفي لاهثاً
    ....
    عبثاً أمسح أكفان الأيام
    ....
    ترثيني فاجعتي
    ....
    أوَكلما توغلتَ في موتك...
    ....
    أطلق الرصاص على شاهدتي
    ....
    واريتُ الرياح فوقَ أجداثِ الآلهة
    ....
    الذينَ أوقدوا شمعتك آهلون بالنـزيف
    ....
    أعلِّـق عمري على رصاصة
    ....
    ختم الموتى خطواتي
    ....
    رماد أيامي
    ....
    يتأمل خاتمتي
    ....
    قتيل بالطفوف
    ....
    وإذ يقتل أبي ويحز رأسه
    ....
    وحين طافوا برأسه في المدن
    ....
    لكنهم تجرعوا البكاء عليه
    ....
    باكيات ناحبات
    ....
    ورقصوا للموت
    ....
    شهداؤك أيضاً
    ....
    أن أبي أكثر القتلى بشاشةً
    ....
    متى أشيِّعُ حزني
    ....
    في ثاكلة الليل
    ....
    فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
    ....
    أركض خلف موتي وجثتي تتبعني
    ....
    ولا تستكين لعري نائحة...
    ....
    مقبرة السنوات
    ....
    وأسمنوا كتف الموت
    ....
    هل نسيتُ أن أقول لك إن عدد قصائد هذه المجموعة هو اثنتا عشرة قصيدة فقط؟ فتأمَّلْ كيف وزَّع الشاعر الموت وأدواته عليها!. بل تأملْ معي كيف رغب الشاعر في الانتحار أو في الأقل: كيف فكَّر فيه:
    وأقول:
    يا لهاث الفراتين
    كي أستطيع مصافحة غربتي
    هل عليَّ أن أحرق جذوري؟
    وأرمي ثلاثين عاماً إلى البحر
    لتكون وليمة شهية للأسماك
    هل عليَّ أن أخلع قميصيَ المليء قسراً
    بالقذائف والوشايات والحصار
    لتعانقني سماء ليست لي
    وأقول:
    يا لهاث الفراتين
    في المدن القصية
    ثمة ما يدعو للتذكّر
    في الأقاصي التي أنهكها البحر
    أردم أحلامي
    لي من الحروب تذكارٌ
    ومن البلاد أقصى الجراح.
    ....

    ولنتأمَّلْ معاً كيف رثى نفسَـه في القصيدة التي عنونها بتاريخٍ هو تاريخ ولادته بالتأكيد:1.3.1967، وهو بهذا يؤكِّد نكوصه المتأصل في ذاته إلى العدم فيتساوى موتُـه وحياتُه، وتتداخل صورةُ ولادته بصورة موته:
    أنا باسم محمد...يا الله...أتعرفني؟!
    المخافر موشومة على جلدي
    وأمي لم تلتفت للشظايا
    حين مشطتْ صباي
    فأهالت الشمع والآس فوق صباحي
    بعباءتها التي تشبه أيامي تماماً
    كانت تكنس الطائرات
    لترسمني كما تشتهي
    ألأني كنت أحمل الوطن في جيب قميصي
    وتحت لساني نهران يهدران
    أركض خلف موتي وجـثَّتي تتبعني.
    ....

    ولكن هل أخَّرنا شيئاً كان علينا أن نخصَّه بالتقديم؟ نعم، ذلك هو الحرب وأدواتها وكيف استأثرتْ بتفكيره وسيطرتْ على مشاعره بأكثر مما للموت وأدواته، وأكثر مما للمفردات الأخرى، فقد توزَّعت على أكثر من ستين عبارة في مثل (ويهرول بين الأمطار وبين الشظايا/ وحيداً في ساحة العرضات/ يطلق النار على الريح/ المدجج بالأحلام والأسئلة/ مقبرة السنوات تتمدد فوق أسفلت ذاكرة مليئة بندوب الحروب/ لا أتنفس سوى الخراب/ جسدي أدمنته الشظايا/ فخرَّ أزيز المدافع من قميصي/ محتها الصواريخ/ هل أطلق الرصاص على شاهدتي/ مثل جيش أنهكته الهزائم/ كيف أرسلوك للحرب وأنت مصفد بالحب/ حين لم يجد عدواً/ رائحة الشظايا/ أجر هزائم متكررة/ أعلق عمري على رصاصة/ لألمَّ شظاياي/ منذ نزهة الحرب الأولى/ أعني حماقة الجنرال/ خشية أن تأكلهما الحرب/ الحروب التي تشتهيني دائماً/ والذي في شمالي ابتلعته السواتر/ وأن الحروب ما زالت تلاحقني وتغير أشكالها/والشظايا سعالي المزمن/ بساطيل الحرس مسخت ذاكرتي/ فاغتصبه الجنود/ أنصت للذين يأوون الحروب/ لكنها سرقتني من الحرب/ ذكريات مشت عليها الحروب/ أبي الذي خاض مائة حرب/ سلسبيل أغاني الذين لاذوا بعفتك من الحروب/ وشدوا القلوب على الدروع/ لي من الحرب تذكار/ براءة ثقبتها عفونة العسكر/ ومن البيت سرقتني الثكنات/ بعدما سخَّمتْ حياتي الحروب والمنافي/ فتزاحمها القذائف وصفارات الحصار/ أبادل الشظايا بالورود والقصائد/ ورعونة القصف/ وللحرب أيضاً أناشيدها/ وللحرب..قذائف تتوسدنا/ ها أنت أخطأتك المعارك/ عدتي تاريخ طويل من الحروب والانكسارات/ عرتني وحيداً في الأرض الحرام/ ليلي مشبع بتفاصيل الثكنات/ سر الليل/ ضابط الخفر/ فرق الإعدام/ بالقذائف والوشايات والحصار/ أمجاد حروب لغيري/ السرفات سحقت ذاكرتي/ المخافر موشومة على جلدي/ وأمي لم تلتفت للشظايا/ لا يقطعه سوى القصف/ بينما الحرب تتفاقم/ تطارد فلول الليل/ تاركاً رائحة القصف/وأوسمة الجنرال، كيف لي أن اترك نسياني يتشظَّى).
    وهكذا يكون الشاعر باسم فرات مسكوناً بالحرب، وتتجلَّى الحرب سبباً من أسباب السوداوية التي انطوتْ عليها نفسه، وباعثاً من بواعث أحزانه و آلامه، ومصدراً من مصادر مأساته، ورمزاً من رموز الموت، ومن يتغلغل في معاني شعره في هذه المجموعة لا يشك في أنه كان محارباً تمرَّس أنواع العتاد، مرت أنامله على مَقابض الأسلحة، وأطبقَ جفنَه على مختلف السواتر، وعانى من ويلات الحروب ما يصعب معهُ الوصف، حتى فَـرَّ منها إلى المنافي البعيدة، لِـيُـعاقرَ أحزانَـه هناك، على أنَّ الإحساس بفضاعة الحرب ووضاعتها وقذارتها وأذاها وثقلها على النفوس ساورَ كل أبناء جيله على هذه الشاكلة وإنْ لم يسهموا فيها مُقاتلين.
    وعلى الرغم من هذه الأجواء المظلمة التي تدور في فلكها مفرداتُـه وما تحمله من المعاني في السياقات المختلفة فإننا نجده ينثرُ الزهورَ بين السطور فنجد أنواعاً منها مثل الرازقي والنرجس والبنفسج والياسمين والورد والقداح والليلك والآس والنعناع والياسمين الهندي والريحان، فهل هي محاولة من الشاعر لتعطير تلك الأجواء والتخفيف من ظلاميتها؟.
    وعلى الشاعر أن ينتبه إلى قاموس مفرداته، فيحاول الابتعاد عن التكرار لئلاّ تفقد نصوصُه وهجَها، وإلى الجدة في معانيه فلا يلوكها حتى تبهتَ ويَـمَّحي أوارُها، فتفقد قيمتها، وعليه أن يبحث عن الجديد من التجارب ليجد الجديدَ من المعاني، وأن يبحث عن الجديد من المفردات التي تليق بتلك المعاني، وإذا كنَّا غَفرنا له التكرارَ في هذه المفردات لأثرها الإيجابي في تحليل نفسيته، فهل نغفر له في تكرار مفردات ومعانٍ أخرى ودورانها في أغلب قصائده مثل مفردة التجفيف وما ينفرط منها من صيغٍ لغوية في مثل قوله: "أي حلمٍ يجفف طفولتي" وبها يفتتح مجموعته هذه، وقوله "ليل يجفف عتمتهُ بضيائي" و"سنواتي المجففة كالزبيب" و"وجفف زيت طفولتي عند الباب" و"سلاماً مناديل الوداع التي جففها مطر الانتظار"، فإذا لم يكنْ لمثل هذا التكرار ما يبرره على نحو ما رأيناه بالنسبة للمفردات الأخرى فإنه يُعـَدُّ من مؤشرات الضعف في لغته.
    إن الشاعر باسم فرات ينطوي على نفسية سوداوية معقدة ترمي بظلالها على نصوصه الشعرية وتنحتُ مفرداتها بإمعانٍ، يساعدُه في ذلك ركودُ مشاعره وانحصارُها في همٍّ واحد لا شيء سواه يمزج بين ضياعَين: ضياع ذات الشاعر منذ الطفولة حتى تجاوزَ الثلاثينَ كما تشير إلى ذلك قصائدُه وتاريخُ ميلاده، وضياعِ وطنه الذي يتلمسُ له وجوداً وهمياً ويحشدُ له كلَّ الوسائل التي ترشدُه إليه ومن ذلك "البوصلة" التي يكررها أيضاً في شعره، حتى أصبح الضياعانِ ضياعاً واحداً جَسَّدتْـهُ حياتُهُ الموحشة التي بدأتْ بخريفٍ متساقطِ أوراقِ الشجرِ من حيثُ ولَّى زمنُ الربيع!.
    وإذْ طفنا حول مفرداته ودلالاتها وبعض أجوائه النفسية وتحليلها فإنَّ في هذه المجموعة مجالاً مهماً آخر ما زال بكراً يتعلقُ بأخيلته وقدرته على افتراع المعاني الشعرية وأسلوبه، لعلَّ له فرصة أخرى.
    ومما لابدَّ من الإشارة إليه هنا أنَّ باسم فرات لا يأبهُ بالإيقاع الشعري، ولا بموسيقى الكلمات، ويجعلُ هـمَّه منحصراً في البحث عن المعاني والأخيلة والصورة الشعرية مُـتَّكلاً على الحرية الفنية شبه المطلقة التي يوفرُها له ما يسمَّـى بالشعر المنثور وواحدتُهُ قصيدة النثر، وهذا جانب آخر يستحق التحليل والدراسة والتأمُّل.( صدى المهجر ) .

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 16, 2024 3:54 pm